تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 211 ـ 225
(211)
    فسمع ذلك أبو ذرّ ، فحكى ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله ، فبعث إليهم وأحضرهم ، وأعرض عليهم مقالهم ، فأنكروا وحلفوا ، فأنزل سبحانه تعالى : ( يحلفونَ باللهِ ما قالوا ) (1) الآية.
    فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء ، الخبر.
    وفي رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه السلام : أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال : نزل عليَّ جبرائيل وأخبرني أنّه يؤتى يوم القيامة بقوم إمامهم ضبّ ، فانظروا ألا تكونوا اولئك ، فأنزل سبحانه : ( يومَ ندعوا كلَّ اُناسٍ بإمامهم ) (2). (3)
    وروى شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه في أماليه عن أحمد [ بن محمد ] (4) بن نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال : حدّثني ابي ، عن أبيه أنّ يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض ، إنّ لله سبحانه في الفردوس قصراً لبنة من فضّة ، ولبنة من ذهب ، فيه مائة ألف خيمة من ياقوتة حمراء (5) ، ومائة ألف خيمة من ياقوتة خضراء ، ترابه المسك والعنبر ، فيه أربعة أنهار : نهر من خمر ، ونهر من ماء ، ونهر من لبن ، ونهر من عسل ، حواليه أشجار جميع الفواكه ، عليها (6) طيور أبدانها من لؤلؤ ، وأجنحتها من ياقوت ، تصوّت بأنواع الأصوات ، إذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبّحون الله
1 ـ سورة التوبة : 74.
2 ـ سورة الإسراء : 71.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 41 ، عنه البحار : 37 / 163 ، وتفسير البرهان : 2 / 147 ح 7 ، وعوالم العلوم : 15 / 3 / 163 ح 240 « حديث الغدير ».
4 ـ من المناقب.
5 ـ في المناقب : فيه مائة ألف قبّة حمراء.
6 ـ في المناقب : عليه.


(212)
ويقدّسونه ويهلّلونه ، فتطاير تلك الطيور فتقع في ذلك الماء ، وتتمرّغ على ذلك المسك والعنبر ، فإذا اجتمعت الملائكة طارت فتنفض ذلك عليهم ، وانّهم في ذلك [ اليوم ] (1) ليتهادون نثار فاطمة عليها السلام ، فإذا كان آخر اليوم نودوا : انصرفوا إلى مراتبكم فقد امنتم من الخطر والزلل إلى قابل في هذا اليوم تكرمة لمحمد وعليّ ، الخبر. (2)
    وفي سنة أحد وعشرين وتسعمائة زرت مشهده الشريف صلوات الله عليه وكان الله سبحانه قد ألقى على لساني خطبة جليلة ، وكلمات فصيحة في فضله صلوات الله عليه وذمّ أعدائه ، وأوردت في أثنائها خطبة النبي صلّى الله عليه وآله يوم الغدير (3) ، والخطبة التي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الّتي أوردها شيخنا أبو جعفر الطوسي في مصباحه الكبير (4) ، وضممتها ألفاظاً رائقة ،
1 ـ من المناقب.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 42 ، عنه البحار : 37 / 163 ، وكشف المهم : 174 ح 21 ، وعوالم العلوم : 15 / 3 / 152 ح 233 وص 221 ح 304 « حديث الغدير ».
    وأورده في فرحة الغريّ : 106 ، عنه البحار : 97 / 118 ح 9.
    وفي إقبال الأعمال : 468 ، عنه كشف المهم : 72 ح 20.
    وأورد صدره في مصباح المتهجّد : 737.
    وانّ حديث الغدير ممّا تواتر نقله وروايته عند علماء الفريقين ، حيث رواه عن النبي صلّى الله عليه وآله نحو مائة وعشرين من الصحابة.
    ولقد أجاد يراع العلامة الحجة السيد عبد العزيز الطباطبائي قدس سره في إحصاء تدوين الكتب التي اُفردت في التأليف حول واقعة الغدير منذ القرن الثاني وحتى يومنا هذا.
    ويمكنك أيضاً مراجعة تخريجات الحديث في مصادر أهمّها : مناظرة الشيخ والد البهائي مع أحد علماء العامّة في حلب : 49 ، صحيفة الامام الرضا عليه السلام : 172 ـ 224 ح 109.
3 ـ انظر مثلاً : الاحتجاج للطبرسي : 58 ، عنه عوالم العلوم : 15 / 3 / 178 « حديث الغدير ».
4 ـ مصباح المتهجّد : 752.


(213)
واستعارات شائقة ، يطرب لها المؤمن التقيّ ، ويصدر عنها المنافق الشقيّ ، فخطبت بها في ذلك اليوم الشريف في مشهده صلوات الله عليه تجاه ضريحه في جمع لا يحصى كثرة ، وأحببت إيرادها في هذا المجموع لتكون تذكرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    الحمد لله الذي ثبّت بكلمة التوفيق قواعد عقائدنا ، وأثبت في صحائف التصديق دلائل معارفنا ، وذلّل لقلوبنا سلوك مشارع الايمان في مواردنا ومصادرنا ، وسهّل لنفوسنا حزونة شرائع العرفان بقدم صدقنا واستقامتنا ، وخاطبنا ببيان عنايته :
    ( أجيبوا داعَي اللهِ ) (1) فأجبنا ، ونادانا بلسان سيد بريّته : ( أن آمنوا بربّكم فآمنّا ) (2) ، وأمرنا بالتمسّك بعروة خليفته في خليقته فقلنا : ربّنا ( سمعنا وأطعنا ) (3) لمّا سلك الناس مسالك المهالك ، وارتكبوا متن الضلالة فلم يحصلوا من طائل على ذلك ، ورأوا شرار الضلالة وظنّوا سراباً ، وشاهدوا علم الجهالة فحسبوه صواباً ، سلكنا سبيل نبيّنا وعترته ، واستقمنا على طريقه وليّنا وذرّيّته ، الّذي زيّن الله كتابه بذكر مناقبه ، وأوضح في تنزيله عن شرف مراتبه ، بدلالة إشارة ( إنّما وليّكمُ ) (4) ، وآية عبارة ( إنّما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنكُم الرجسَ أهلَ
1 ـ سورة الأحقاف : 31.
2 ـ سورة آل عمران : 193.
3 ـ سورة البقرة : 285 ، سورة النساء : 46 ، سورة المائدة : 7 ، سورة النور : 51.
4 ـ سورة المائدة : 55.


(214)
البيتِ ويطهّركم ) (1).
    ولمّا علم الله صدق نبيّه ، وإخلاص طويّته ، ليس له ثان في الخلق ، ولم يثنه ثان عن التوجّه إلى الحق ، مصباح الظلام إذا العيون هجعت ، المتهجّد القوّام إذا الجنوب اضطجعت ، المستأنس بالحق إذا الليل سجا ، المستوحش من الخلق إذا الغسق دجا ، له مع الله حالات ومقامات ، وتقلبه في صحائف الاخلاص سمات وعلامات ، لا يقصد بتهجّده إلا مولاه ، ولا يرجو بتعبّده إلا إيّاه ، لولا جِدُّه لما قام للاسلام عمود ، ولولا علمه لما عرف العابد من المعبود ، اصطفاه سبحانه لنفسه ، وأيّده بروح قدسه ، وأوجب له عرض الولاية على جِنّه وإنسه ، وساوى بينه وبين الرسول في علمه وحلمه ، وطمّه ورمّه ، وجدّه ورسمه ، وفضله وحقّه.
    وجعل له في قلوب المؤمنين ودّاً ، وأمر نبيّه أن يورده من غدير الشرف في غدير صدراً وورداً ، وأن يثبت له في الأعناق إلى يوم التلاق عقداً وعهداً ، وأن يرفع له بالرئاسة العامّة في الآفاق على الاطلاق شرفاً ومجداً.
    فقام صلّى الله عليه وآله صادعاً بأمر الله ، منفّذاً لحكم الله ، خاطباً في الغدير على منبر الكرامة ، مخاطباً للجمّ الغفير بفرض الامامة ، مبيّناً أمر وصيّه ووليّ عهده ، مظهراً شرف صفيّه وأخصّ الخلق من بعده ، راغباً معاطياً طال ما شمخت تعزّزاً وكبراً ، قاهراً أسى كم أظهرت لوليّ أمرها عقداً وعذراً ، قاطعاً أسباب اُولي النفاق بمبين وعظه ، قامعاً هامات الشقاق بمتين لفظه.
    ما أظهر صلّى الله عليه وآله شرفه وميثاقه في الخطبة إلا بعد أن أعلى الله في الملكوت الأعلى شأنه وخطبه ، وأمر الصافّين الحافّين بالقيام على قدم
1 ـ سورة الأحزاب : 33.

(215)
الخدمة لاستماع النصّ الجليّ على الامام العظيم ، الذي زيّن الله كتابه بذكر أسمائه بقوله : ( إنّهُ في اُمّ الكتابِ لدينا لعليٌّ حكيمٌ ) (1).
    صاحب الكرامات السامية ، والمقامات العالية ، وجه الله الذي يتوجّه به إليه ، وسبيله الّذي بسلوكه يفوز السالكون فيه يوم العرض عليه ، ويده الباسطة في بلاده ، وعينه الباصرة في عباده ، وحبيبه حقّاً فمن فرط فيه فقد فرط في حبيب الله ، ولسانه صدقاً فمن ردّ عليه فقد ردّ على الله ، لما شرب بالكأس الرويّة من شراب ( يحبّهم ويحبّونهُ ) (2) ، وفاز بالدرجة العليّة من مقامات ( لَعَلِمهُ الذين يستنبطونهُ ) (3) ، قابل بوجه باطنه أنوار تجلّيات قيّوم الملكوت ، وظهرت بانعكاس مرآة كمال عرفانه أسرار صاحب العزّة والجبروت ، فصار قلبه مشكاة النور الإلهي من حضيرة جلاله ونفسه ، منبع السر الخفيّ من فيضان كماله.
    جلّ أن يدرك وصفه بيان واصف ، أو يوصف قدره بنان راصف ، نقطة دائرة الموجودات فعليه مدارها ، وصفوة خلاصة الكائنات فهو قيّمها ومختارها ، من نحو منطقة يعرف الحقّ فما زيد وعمر ؟ وإلى مصباح علمه يعشق الخلق فما خالد وبكر ؟
    من اعتقد أنّ الحقّ بميزان غير علومه يعرف فالوبال والنكال له وفيه ، ومن زعمّ أنّ الربّ بمنطق غير بيانه يوصف فالتراب بل الكثكث (4) بفيه ، كلّيّ العلم وجزئيّه به يعرف ، وفضل العدل وجنسه برسمه وحده معرّف.
1 ـ سورة الزخرف : 4.
2 ـ سورة المائدة : 54.
3 ـ سورة النساء : 83.
4 ـ الكثكث : دُقاق التراب ، وفُتات الحجارة ؛ وقيل : التراب مع الحجر. « لسان العرب : 2 / 179 ـ كثث ـ ».


(216)
    لا شرف إلا لمن شرف باقتفاء آثاره ، ولا سؤدد إلا لمن استضاء بلوامع أنواره ، ولا عُرف إلا لمن تمسّك بأسبابه ، ولا عَرَف إلا لمن تمسّك بترابه ، فلك النجاة في بحار الضلالة ، وعلم الهداة في أقطار الجهالة ، من التجأ إلى كنف عصمته نجا ، ومن غوى عن طرق طريقته هوى ، لا يحبّه الا من علت همّته ، وغلت قيمته ، فطابت أرومته ، وارتفعت جرثومته.
    فيا أيها العارفون بفضله ، المتمسّكون بحبله ، السالكون سبيله ، التابعون دليله ، أبشروا بروح وريحان (1) ، ومغفرة ورضوان ، وجنّات لكم فيها نعيم مقيم ، خالوين فيها أبداً إنّ الله عنده أجر عظيم (2) ، قلتم ربّنا ثمّ استقمتم ، وسلكتم سبيل نبيّكم ووليّكم وتبتم ، فأنتم خلاصة الله في خلقه ، القائمون بوظائف عزائمه وحقّه ، فهنّأكم الله في هذا اليوم الرحمة ، وأتمّ عليكم النعمة ، وجعلكم خير اُمّة ، وسلك بكم سبيل سيد الأئمّة ، الذي ضربه الله مثلاً في محكم تنزيله ، وشدّ به عضد نبيّه ورسوله ، وهزم بعزمه الأحزاب ، وقصم بسيفه الأصلاب ، وجعل حبّه فارقاً بين الكفر والإيمان ، واتّباعه وسلة إلى الفوز بنعيم الجنان.
    فانشروا في هذا اليوم أعلام الإسلام بنشر فضله ، وابشروا إذ سلكتم منهاج سبيله واستمسكتم بحبله ، وأظهروا آثار النعمة فهو يوم الزينة للمخلصين من أتباعه ، واشكروا حسن صنيع ربّكم إذ جعلكم من خاصّته وأشياعه ، وارعوا أسماعكم إلى ما أورد الرسول من شرفه في خطبته ، واستضيئوا بلوامع أنواره واستسنّوا بسنّته.
    فقد روي أنّه صلى الله عليه وآله لمّا أتمّ مناسك حجّه ، وفرغ من شعائر
1 ـ إقتباس من الآية : 89 من سورة الواقعة.
2 ـ إقتباس من الآية : 21 و 22 من سورة التوبة.


(217)
عجّه وثجّه (1) ، ناداه الله بلسان التشريف مبيّناً فضله من لدنه ومكانته : ( يا أيها الرسولُ بلّغ ما اُنزلَ إليكَ من ربّكَ وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالتهُ ). (2)
    فأراد صلّى الله عليه وآله تأخير بلاغها إلى دار هجرته ، ومستقرّ دعوته ، ظنّاً منه أنّها فريضة موسعة ، وأنّ الأمر فيه مندوحة وسعة ، وفَرَقاً من فرق الضالّين المضلّين ، الزالّين المزلّين ، أن يكذّبوا بالكتاب وحججه وبيّناته ، وأن يتّهموا الرسول فيما اُنزل عليه في وصيّه بمحاباته.
    فعاتبه سبحانه على ترك الاولى مهدّداً ، ووعده العصمة على من لجّ في الباطل واعتدى ، وشرّف الله غدير خمّ بما أنزل فيه من الرحمة ، وأتمّ من النعمة.
    فقام صلّى الله عليه وآله فيه خاطباً على منبر الكرامة ، موضحاً فضل درجة الامامة ، هذا والجليل سبحانه يسدّده ، وروح القدس عن يمينه يمجّده ، وميكائيل عن يساره يعضده ، وجبرئيل معظم شانه وخطبه ، وحملة العرش مادّة أعناقها لاستماع الخطبة ، والروحانيّون وقوف على قدم الخدمة ، والكروبيّون صفوف لتلقّي نفحات الرحمة ، والحور العين من القصور على الأرائك ينظرون ، والولدان المخلّدون لنثار السرور منتظرون ، آخذاً بعضد من كان في المباهلة معاضده ومساعده ، وفي المصاولة عضده وساعده.
    سيفه القاطع ، ونوره الساطع ، وصدّيقه الصادق ، ولسانه الناطق ، أخوه وابن عمّه ، والخصّيص به كابن اُمّه ، ليث الشرى (3) ، غيث الورى ، أسد الله
1 ـ في الحديث : أفضل الحجّ العجّ والثجّ ، العجّ : رفع الصوت بالتلبية ، والثجّ صَبُّ الدم ، وسَيَلان دماء الهديِ ، يعني الذبح. « لسان العرب : 2 / 318 ـ عجج ـ ».
2 ـ سورة المائدة : 67.
3 ـ الشرى : موضع تُنسب إليه الاُسد. « لسان العرب : 14 / 431 ـ شري ـ ».


(218)
المحراب (1) ، حليف المسجد والمحراب ، قاصم العُداة ، وقاسم العِدات ، في المعركة ليث ، وفي المخمصة (2) غيث ، طريقه أبلج ، ونهجه أوضح منهج ، بابه عند سدّ الأبواب مفتوح ، وصدره لتلقّي نفحات الرحمن مشروح.
    كم عنيد بصارمه شدخ ؟ وكم صنديد ببطشه دوّخ ؟ وكم ريح للشرك أركد ؟ وكم نار للظلم أخمد ؟ وكم صنم جعله جذاذاً ؟ وكم وثن تركه أفلاذاً ؟ قسيم الجنّة والنار ، وسيّد المهاجرين والأنصار ، وحياة المجديين لدى الاغوار ، ونكال الظالمين يوم البوار ، جعله الله للمصطفى ختناً ونفساً ، وله الزهراء سكناً وعرساً ، ورفع له فوق عرش المجد عرشاً ، وخلقه أشدّ خلقة قوّة وإيماناً وبطشاً.
    كم أسد بثعلب رمحه قنص ؟ وكم صنديد حذراً من حسامه كعَ وقعص ؟ أعلم من على وجه الأرض ، بالكتاب والسنّة والفرض ، الإيمان بحبّه منوط ، والكفر ببغضه مسوط (3) ، أفصح من لفظ ، وأنصح من وعظ ، وأتقى من سجد لله وركع ، وأخشى من خشي الرحمن بالغيب وخضع ، حلل الإمامة ربّنا على هامة مجده أفرغ ، ولبوس الزعامة نبيّنا على قدّ قامته فصّل وأسبغ ، وله بالرئاسة العامّة فضّل وشرّف ، ولأسماع أوليائه بذكر مناقبه لَذّذ وشَنّفَ ، شهد الله له بالاخلاص وصدق ، لما انّه بخاتمه في ركوعه تصدّق.
    الزاهد السالك ، العابد الناسك ، العالم العامل ، الوليّ الكامل ، صراط الله المستقيم ، ونهجه القويم ، وأمينه المأمون ، وخازن سرّه المخزون ، النجم في منزله هوى ، والرسول في نصبه علماً للمسلمين ما ضلّ وما غوى ولا ينطق عن
1 ـ المِحراب : شديد الحرب ، شُجاع. « لسان العرب : 1 / 303 ـ حرب ـ ».
2 ـ المخمَصة : الجوع ، المجاعة.
3 ـ مَسوطٌ : أي ممزوجٌ ومخلوطٌ. « لسان العرب : 7 / 326 ـ سوط ـ ».


(219)
الهوى (1) ، المرجع في علم التوحيد إليه ، والمعوّل في معرفة الكتاب والسنّة عليه ، أجلّ العالمين جلالاً ، وأفصحهم مقالاً.
    الامام الزكيّ القدسيّ الربّانيّ الإلهيّ ، أمير المؤمنين أبو الحسن عليّ الجليل العليّ ، حامداً لله حمداً يليق بجلال عظمته ، شاكراً لأنعمه شكراً يحسن بتمام نعمته ، موضحاً دين الحقّ في خطبته ، شارحاً قول الصدق في كلمته ، قائلاً : معاشر الناس ، ألست أولى منكم بأنفسكم ؟
    قالوا : بلى ، يا رسول الله.
    قال : فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، ومن كنت نبيّه فعليّ إمامه ووليّه.
    أيها الناس ، إنّ الله آخى بيني وبين عليّ ، وزوّجه ابنتي من فوق عرشه ، وأشهد على ذلك مقرّبي ملائكته ، فعليّ منّي وأنا من علي ، محبّه محبّي ، ومبغضه مبغضي ، وهو وليّ الخلق من بعدي.
    معاشر الناس ، إنّ هذا اليوم وهو يوم غدير خمّ من أفضل أعياد اُمّتي ، وهو اليوم الذي أمرني الله فيه بنصب عليّ أخي علماً لاُمّتي ، يبيّن لهم ما اختلفوا فيه من سنّتي ، وهو أمير المؤمنين ، ويعسوب المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين.
    أيها الناس ، من أحبّ عليّاً أحببته ، ومن أبغض عليّاً أبغضته ، ومن وصل عليّاً وصلته ، ومن قطع عليّاً قطعته ، ومن والى عليّاً واليته ، ومن عادى عليّاً عاديته.
    أيها الناس ، أنا مدينة الحكمة وعليّ بابها ، لا تؤتى المدينة إلا من قبل الباب ، وكذب من يزعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً.
1 ـ إشارة إلى الآيات : 1 ـ 3 من سورة النجم.

(220)
    أيها الناس ، والذي بعثني بالرسالة ، وانتجبني للنبوّة ، ما أقمت عليّاً علماً في الأرض حتى نوّه الله بذكره في السماء ، وفرض ولايته على سائر ملائكته.
ثم قلت عقيبها :
    يا لها من خطبة نشر فيها صلّى الله عليه وآله لواء الايمان ، وظهر منها رواء الإحسان ، وخفق علما لحقّ في الملكوت الأعلى ، وبرق بارق العدل في أقطار الدنيا ، فالملائكة المقرّبون مشغولون بتكرارها لاستظهارها ، والولدان المخلّدون مأمورون بإظهارها وإشهارها ، يحيي موات القلوب مزن سحابها ، وينشي نشوات السرور في النفوس رحيق شرابها ، وتنعش قلب المؤمن التقيّ بلذّة خطابها ، وتتعس جدّ المنافق الشقيّ بشدّة عتابها.
    يا لها من خطبة الحقّ منبرها ، والصدق مخبرها ، والنبوّة أصلها ، والإمامة نسلها ، والنبيّ موردها ومصدرها ، والوصيّ موردها ومصدرها ، العهود فيها مؤكّدة ، والعقود مشدّدة ، والإيمان بامتثال نواهيها وأوامرها منوط ، والكفر بمخالفة بواطنها وظواهرها مَسُوط ، بلبل دوح فصاحتها يطرب أسماع القلوب بشهيّ نغمته ، وسربال جمال بلاغتها يروق أبصار البصائر بوشيّ صنعته.
    دقّت لها كؤوس الحبور في الملكوت الأعلى ، واُديرت كؤوس السرور في جنّة المأوى ، وتلقّت الملائكة المقرّبون بالبشرى أهل التحقيق على مراكب التوفيق ، وطافت الولدان المخلّدون على أهل التصديق من الرحيق المختوم بأكواب وأباريق ، وفتح رضوان باب الرضوان بأمر المهيمن السلام ، وقال لأهل الولاية من المؤمنين : ( ادخلوها بسلامٍ ) (1) ، ومشى بين أيديهم قائماً بشرائط
1 ـ سورة الحجر : 46 ، سورة ق : 34.

(221)
الخدمة ، وأجلسهم على أرائك التعظيم مجرياً عليهم من الاكرام عادته ورسمه ، ( يَطوفُ عليهم وِلدانٌ ُمخلّدونَ بأكوابٍ وأباريقَ وكأسٍ من مَعينٍٍ لا يُصدّعونَ عنها ولا يُنزفونَ وفاكهةٍ ممّا يَتخيّرونَ ولحمِ طيرٍ ممّا يَشتهونَ ) (1).
    فابشروا ـ معار المؤمنين العارفين ـ بفضل هذا اليوم الشريف ، والعيد المنيف ، الّذي أقام الله فيه عليّاً أمير المؤمنين علماً للمسلمين ، وأمركم باتّباع نيّر دليله في محكم تنزيله ، فقال عزّ من قائل : ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوهُ ولا تتّبعُوا السبلَ فتفرّقَ بكم عن سبيلهِ ) (2).
    والله لقد نظرتم حيث نظر الله ، وواليتم من والى الله ، وعاديتم من عادى الله ، أنتم الشعار والدثار ، والأبرار الأطهار ، طهرت ولادتكم ، وخلصت طينتكم ، فما المؤمنون إلا أنتم ، ولا المخلصون إلا منكم ، اختاركم الله لدينه ، واصطفاكم على غيبه ، فما خُلقت الجنّة إلا لكم ، ولا برّزت الجحيم إلا لعدوّكم.
    أنتم في النار تطلبون فلا توجدون ، ومن الكوثر تردون ولا تصدّون ، فلا يحزنكم إقبال الدنيا على غيركم ، واجتماع أهلها على إهانتكم وتأخيركم ، فإنّما هم ذئاب ضارية ، بل كلاب عاوية ، فلا تمدّوا أعينكم إلى ما متّعوا به من زينتها ، وفتنوا فيه من زهرتها ، من الثياب الموشّاة والمراكب المغشّاة ، والخيل المسوّمة ، والنعم المطهّمة ، والحلل المزرّرة ، والعمائم المقوّرة ، والرقاب الغليظة ، والأقفاء العريضة ، والعثانين (3) المصفّفة ، واللحى المغفّلة ، والدور المزخرفة ، والقصور المشرفة ، والأموال المكنوزة ، والأمتعة المحروزة ، والمنازل العامرة ،
1 ـ سورة الواقعة : 17 ـ 21.
2 ـ سورة الأنعام : 153.
3 ـ العُثُنون من اللحية : ما نبت على الذَقَن وتحته سِفلاً ؛ وقيل : اللحية كلّها ؛ وقيل : عُثنون اللحية : طرفها. « لسان العرب : 13 / 276 ـ عثن ـ ».


(222)
والجنان الغامرة ، فإنّ ذلك متاع قليل ، وجناب وبيل ، مرجعه إلى زوال ، وتملّكه إلى انتقال.
    وعن قليل يسفر الصباح ، ويحيعل الداعي إلى الفلاح ، ويحمَد المؤمن التقيّ غِبّ السُّرى (1) ، وينجلي عن المنافق الشقيّ غيابات الكرى (2) ، ويرى أنّ ما كان فيه من النعيم الزائد ، والزبرج الجائد ، إلا (3) كسرابٍ بقيعةٍ (4) ، أو حلم يقتضيها سويعة ، ويتجلّى الجليل لحسابه ، وتتهيّأ ملائكة العذاب لأخذه وعقابه ، ويرى سيّده عتيق الأوّل ، وابن صهاك الزنيم الأرذل ، في الدرك الأسفل ، والعذاب الأطول ، مصفّدين مقرّنين ، يستغيثان فلا يغاثان ، ويناديان فلا يجابان ، كلّما سدّت عليهما سبل المسالك استغاثا بخازن النار : يا مالك يا مالك ، نضجت منّا الجلود ، يا مالك أثقلتنا القيود.
    إذا أراد الله أن يحلّ بأهل النار أليم عذابه ، ووخيم عقابه ، أمر ملائكة العذاب بفتح كوّة من سجنهما ، فيتأذّى أهل النار من ريحهما ونتنهما ، شرابهما حميم ، وعذابهما مقيم ، وأشياعهما من حولهما في السلاسل يسحبون ، وبالمقامع يضربون ، وفي النار يسجرون ، وفي العذاب محضرون ، يقولون : ( ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمونَ ) (5) ، فيجابون : ( اخسئوا فيها ولا تكلّمونَ إنّهُ كانَ فريقٌ من عبادي يقولونَ ربّنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خيرُ الراحمينَ فاتّخذتموهم سخريّاً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكونَ إنّي جزيتهم
1 ـ غِبّ الأمر ومغبّته : عاقبته وآخره. السُّري : سير الليل بعامّته.
2 ـ غَيابة كل شيء : عقره ، الكَرى : النوم.
3 ـ كذا في الأصل ، ولو كانت العبارة هكذا : « لم يكن إلا » أو « ليس إلا » لكانت أصح.
    والزبرج : الوشي ، الذهب ، وكل شيء حسن. والجائد : الكثير ، الغزير.
4 ـ إقتباس من الآية : 39 من سورة النور.
5 ـ سورة المؤمنون : 107.


(223)
اليومَ بما صبروا أنّهم همُ الفائزونَ ) (1).
    يطلع الله عليهما فيلعن ، والملائكة تؤمّن ، والنبيّ يعنّف ، والوصيّ يؤفّف ، والزهراء تتظلّم ، والجحيم تتضرّم ، والزبانية تقمع ، والنار تسفع (2) ، هذا جزاء من وسم غير إبله ، وخالف الله ورسوله بقوله وعمله ، ومنع الزهراء تراثها (3) من والدها سيّد المرسلين ، وآذى الله ورسوله وآذى إمام المسلمين وسيّد الوصيّين.
    كلّ ذلك وأنتم على الأرائك تنظرون ، ومن الكفّار تضحكون ، ومن زيارة سادتكم لا تحجبون ، ( يسقَون من رحيقٍ مختومٍ ختامهُ مسكٌ وفي ذلكَ فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقرّبون ) (4) إذا نظرتم إلى نبيّكم ووليّكم على الحوض للمؤمن يوردون ، وللمنافق يطردون قلتم : ( الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللهُ ) فيجابون : ( أن تلكمُ الجنّةُ أورثتموها بما كنتم تعملونَ ) (5).
    فاحمدوا ربّكم على هذه النعمة التي أهّلكم بها ، وجعلكم من أهلها ، واقتدوا في هذا اليوم بسنّه وليّكم ووسيلتكم إلى أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ، فقد روي أنّه صلوات الله عليه خطب في هذا اليوم الكريم ، والعيد العظيم ، فقال ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه ، وذكر النبي وصلّى عليه ـ : أيها الناس ، هذا يوم
1 ـ سورة المؤمنون : 108 ـ 111.
2 ـ سَفَعَتهُ النارُ والشمسُ : لَفَحته لَفحاً يسيراً فغيّرت لون بشرته وسوّدته. « لسان العرب : 8 / 157 ـ سفع ـ ».
3 ـ الوِرثُ والإرثُ والتراثُ والميراث : ما وُرٍثَ. « لسان العرب : 2 / 200 ـ ورث ـ ».
4 ـ سورة المطفّفين : 25 ـ 28.
5 ـ سورة الأعراف : 43.


(224)
عظيم الشأن ، فيه وقع الفرج ، وعلت (1) الدرج ، ووضحت الحجج ، وهو يوم الايضاح ، ويوم الافصاح ، ويوم الكشف عن المقام الصراح ، ويوم كمال الدين ، ويوم العهد المعهود ، ويوم الشاهد والمشهود ، ويوم بيان (2) العقود عن النفاق والجحود ، ويوم البيان عن حقائق الايمان ، ويوم البرهان ، ويم دحر الشيطان.
    هذا يوم الفصل الذي كنتم توعدون (3) ، ويوم الملأ الأعلى إذ يختصمون ، ويوم النبأ العظيم الّذي أنتم عنه معرضون (4) ، ويوم الارشاد ، ويوم محنة العباد ، ويوم الدليل على الروّاد (5) ، ويوم إبداء خفايا الصدور ، ومضمرات الاُمور ، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص ، هذا يوم شيث ، هذا يوم إدريس ، هذا يوم هود ، هذا يوم يوشع ، هذا يوم شمعون [ هذا يوم الأمن المأمون ] (6) ، هذا يوم إبراز المصون من المكنون ، هذا يوم إبلاء السرائر.
    فلم يزل صلوات الله عليه يقول : هذا يوم ، هذا يوم ، ثم قال : فراقبوا الله عزّ وجل واتّقوه ، واسمعوا له وأطيعوه ، واحذروا المكر ولا تخادعوه ، وفتّشوا ضمائركم ولا تواربوه ، وتقرّبوا إلى الله بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه ، ولا تمسّكوا بعصم الكوافر ، ولا يجنح (7) بكم الغيّ فتضلّوا عن سواء السبيل باتّباع اولئك الذين ضلّوا وأضلّوا ، قال الله سبحانه عن طائفة ذكرهم بالذمّ في كتابه فقال سبحانه : ( وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء الذين استكبروا إنّا
1 ـ في المتهجّد : ورفعت ، وفي المناقب : ورفع الدرج ، وصحّت الحجج.
2 ـ في المتهجّد والمناقب : تبيان.
3 ـ كذا في المتهجّد والمناقب ، وفي الأصل : كنتم به تكذبون.
4 ـ في المتهجّد والمناقب : ويوم الملأ الأعلى الذي أنتم عنه معرضون.
5 ـ في المناقب : الذوّاد.
6 ـ من المتهجّد.
7 ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : فيجمع.


(225)
كنّا لكم تبعاً فهل أنتم مغنونَ عنّا نصيباً من النارِ ). (1)
    وقال سبحانه : ( ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا آتهم ضعفينِ من العذابِ والعنهم لعناً كبيراً ). (2)
    أتدرون ما الاستكبار ؟ هو ترك الطاعة لمن اُمروا بطاعته ، والترفّع عمّن ندبوا إلى متابعته ، والقرآن ينطق من هذا عن كثير إن تدبّره متدبّر وعظه وزجره.
    واعلموا ـ عباد الله ـ أنّ الله سبحانه يقول في محكم كتابه : ( إنّ اللهَ يحبُّ الّذين يقاتلونَ في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوصٌ ) (3) أتدرون ما سبيل الله ؟ ومن سبيل الله ؟ وما صراط الله ؟ ومن صراط الله ؟
    أنا صراط الله الذي نصبني (4) للاتّباع بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله ، وأنا سبيل الله الذي من لم يسلكه بطاعة الله [ فيه ] (5) هويَ به في النار ، وأنا حجّة الله على الأبرار والفجّار ، [ ونور الأنوار ] (6) ، وأنا قسيم الجنّة والنار ، فتيقّضوا من رقدة الغافلين (7) ، [ وبادروا بالعمل قبل حلول الأجل ، وسابقوا إلى مغفرة من ربّكم ] (8) قبل أن يُضرب بالسور بباطن الرحمة وظاهر العذاب ، فتدعون فلا يسمع دعاؤكم ، وتصيحون فلا يُحفل بصيحتكم ، وأن (9) تستغيثوا
1 ـ سورة غافر : 47. وفي الأصل والمتهجّد تصحيف ، حيث فيهما صدر الآية المذكورة يليه ذيل الآية 21 من سورة إبراهيم : ( فهل أنتم مغنونَ عنّا من عذابِ الله من شيء قالوا لو هدانا اللهُ لهديناكم ).
2 ـ سورة الأحزاب : 67 و 68. وفي المتهجّد تقدّمت هاتان الآيتان على الآية السابقة.
3 ـ سورة الصف : 4.
4 ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : تصدى. وهذه الجملة جاءت في المتهجّد بعد قوله : هوي به إلى النار.
5 و 6 و 8 ـ من المتهجّد.
7 ـ في المتهجّد : فانتبهوا عن رقدة الغفلة.
9 ـ في المتهجّد : فتنادون فلا يسمع نداؤكم ، وتضجّون فلا يُحفل بضجيجكم ، وقبل أن.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس