تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 226 ـ 240
(226)
فلا (1) تغاثوا ، بادروا بالطاعات قبل فوات الأوقات ، فكأن قد جاءكم هادم اللذّات ، ولات حين مناصٍ (2) ، ولا محيص تخليص.
    عودوا رحمكم الله بعد انقضاء مجمعكم بالتوسعة على عيالكم ، والبرّ بإخوانكم ، والشكر لله عزّ وجلّ على ما منحكم ، واجتمعوا يجمع الله شملكم ، وتبارّوا يصل الله اُلفتكم ، وتهانوا نعمة الله كما هنّأكم بالثواب (3) على أضعاف الأعياد قبله وبعده إلا في مثله ، والبرّ فيه يثمر المال ، ويزيد في العمر ، والتعطّف فيه يقتضي رحمة الله وعطفه.
    فافرحوا وفرّحوا إخوانكم باللباس الحسن ، والمأكل الهنيء ، والرائحة الطيّبة ، وهنّؤا إخوانكم وعيالاتكم بالفضل من برّكم ، وما (4) تناله القدرة من استطاعتكم ، وأظهروا البشر والحبور فيما بينكم ، والسرور في ملاقاتكم ، والحمد لله على ما منحكم ، وعودوا بالمزيد من الخير على أهل التأميل لكم ، وصلوا بكم ضعفاءكم بالفضل من أقواتكم (5) ، وما تناله القدرة من استطاعتكم ، وعلى حسب طاقتكم ، فالدرهم فيه بمائة ألف درهم ، والمزيد من الله عزّ وجلّ ما لادرك له ، وصوم هذا اليوم ممّا ندب الله تعالى إليه ، وجعل الثواب الجزيل كفالة عنه ، حتى لو أنّ عبداً من العبيد تعبّد به بالتشبيه من ابتداء الدنيا إلى انتهائها ، صائماً نهارها ، قائماً ليلها ، إذا أخلص المخلص في صيامه لتقاصرت إليه أيّام الدنيا [ عن كفاية ، ومن أسعف أخاه مبتدأ وبرّه راغباً له كأجر من صام هذا اليوم
1 ـ كذا في المتهجّد ، وفي الأصل : لن.
2 ـ في المتهجّد : فلا مناصَ نجاءٍ.
3 ـ في المتهجّد : وتهادوا نعم الله كما منّاكم بالثواب فيه.
4 ـ في المتهجّد : وهيّؤا لإخوانكم وعيالكم من فضله بالجهد من جودكم وبما.
5 ـ في المتهجّد : وساووا بكم ضعفاءكم في مآكلكم.


(227)
وقام ليلته ] (1) ، ومن فطّر مؤمناً في ليلته كان كمن فطّر فئاماً وفئاماً.
    فلم يزل صلوات الله عليه يعدّ بيده الشريفة حتى عدّ عشراً.
    فنهض ناهض وقال : يا أمير المؤمنين ، وما الفئام ؟
    قال : مائة ألف نبيّ وصدّيق وشهيد ، فما ظنّكم بمن تكفّل عدداً من المؤمنين ؟ فأنا الضامن له على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر ، وإن مات في يومه أو في ليلته أو فيما بعده إلى مثله [ من غير ارتكاب كبيرة ] (2) فأجره على الله تعالى ، ومن استدان لإخوانه فأسعفهم فأنا الضامن له على الله ، إن بقّاه أدّاه ، وإن مات قبل تأديته تحمّله عنه ، وإذا تلاقيتم فتصافحوا بالتسليم ، [ وتهانوا النعمة في هذا اليوم ] (3) ، وليعلم بذلك الشاهد الغائب والحاضر البائن ، وليعد القويّ على الضعيف ، والغني على الفقير ، بذلك أمرني رسول الله عن الله. (4)
    وفي الحديث انّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يخبر عن وفاته بمدّة ويقول : قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، وكان المنافقون يقولون : لئن مات محمد ليخرب دينه ، فلمّا كان موقف الغدير قالوا : بطل كيدنا ، فنزلت : ( اليومَ يئسَ الذينَ كفروا من دينكم ) (5). (6)
1 و 2 ـ من المتهجّد.
3 ـ من المتهجّد وفيه : « وليبلّغ » بدل « وليعلم ».
4 ـ مصباح المتهجّد : 755 ـ 758 ـ وليس فيه : « عن الله » ـ ، عنه مناقب ابن شهراشوب : 3 / 43.
    وأورده في إقبال الأعمال : 462 ـ 464 ، عنه كشف المهمّ : 62 ـ 65.
    وأخرجه في البحار : 37 / 164 ، وعوالم العلوم : 15 / 3 / 118 ح 159 وص 209 ح 290 « حديث الغدير » عن مناقب ابن شهراشوب.
5 ـ سورة المائدة : 3.
6 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 40 ، عنه البحار : 37 / 163.


(228)
    وكان الجمع الكبير والجمّ الغفير في الغدير حين أخذ البشير النذير بيد صنوه نور الله المبين ، وسببه المتين ، وإمام المتّقين ، وأمير المؤمنين ، أكثرهم ممّن الإلحاد دينه ، والنفاق قرينه ، قد استحوذ الشيطان على قلبه ، واستولى على لبّه ، فأعطى بلسانه ما ليس في فؤاده ، وظهر على صفحات وجهه ما أضمر من إلحاده ، وأسرّ غدراً ، وأخفى مكراً ، ونصب لنبيّه الغوائل ، وجادل في أمر الغدير بالباطل ، وأرصد بابه لتنفر ناقته ، وعاقد على إنزال المنون بساحته ، واستئصال شأفته.
    وأطلع الله نبيّه على ما دبّروا ، ووقاه سيّئات ما مكروا ، ولمّا أشرقت دار الهجرة بنور مقدمه ، وشرفت أرجاؤها بموطئ قدمه ، وقد أكمل صلّى الله عليه وآله الدين بنصب وصيّه علماً لاُمّته ، وعمّم النعمة بجعله حافظاً لشريعته ، ونشر أعلام الإيمان بنشر مناقبه ، وأعلى كلمة الاسلام بإعلاء مراتبه ، وجلا أحكام الشريعة النبويّة في مدامس الاشتهار ، وحلّى جيد الملّة الحنيفيّة بنفائس الافتخار (1) ، ودارت رحى العدل على قطبها ، وأشرقت الأرض بنور بّها ، دعاه
1 ـ في « ح » : نظم هذا المضمون علي بن حمّاد رحمه الله وقال :
آخى الصـحابة أشكـالاً فـأفرده قال النبيّ لنفسي قد ذخـرتـك ما أنا أخوك الذي ترضى وأنت أخي تشدّ أزري وتـرعى سنّتي وعلى ما عشتُ أنت وزيـري ... وإذا وانت تغسّلـني عـند الـوفاة فما وأنت وارث علمي والأمـين على وسوف تبدي لـك الأعداء مانقموا واستعمل الحلم عنهم وانتظر ... ألـقى إليـه رسـول الله سائر ما علماً بما كان ومـا قد يـكون وما فقال لم يا رســول اللـه تفردني في الأرض لي من أخ إلاّك يشبهني ولا تـزال تواسـينـي وتسعفنـي كلّ الأمور تواتيـني وتعـضدنـي قضيتُ نحبي تـوالـيني وتـخلفني يحلّ لغيرك عند الـغسل ينظـرني جميع أمري مـن سـرّ ومـن علن من الضغـائن والأحـقاد والإحـن وبالإله عليــهـم فاستـعن تـعن ألقى إليـه مـن الرحمن ذي الـمنن يقول في لقـن أوحـى إلـى لــقن

(229)
الله إلى جواره مختاراً ، وناداه بلسان قضائه جهاراً : يا من أطلعته على سرّي المصون ، وغيبي المكنون ، ( إنّكَ ميّتٌ وإنّهم ميّتونَ ) (1).
    ولمّا انقضى أجله الجليل ، وألمّت به الأسقام مؤذنة بوشك الرحيل ، انصدعت لتوجّعه قلوب المؤمنين ، وهمعت تألّمه عيون المسلمين.
    وكان بدؤ مرضه صلّى الله عليه وآله يوم السبت أو يوم الأحد من صفر.
    ولمّا اشتدّ مرضه قام صلّى الله عليه وآله آخذاً بيد عليّ عليه السلام ، وتبعه جماعة من أصحابه ، وتوجّه إلى البقيع ، فقال : السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع
وبعد دفـن رسول الله كم ظهرت آل النبـيّ إليـكم كـلّ مكـرمة سفن النجـاة الـتي قـد فاز ... قد جاد أجـداثكـم جـود به ... أنا ابن حمّـاد الـعبدي فضـّلني لا عذّب الله اُمّـي انـّها شـربت وكان لـي والـد يهوى أبا حسن يا نفس إنّ شـبابي كان يغدرني كم من أخ لك علّلـتيه ثـمّ قضى وأنت عمّا قلـيل تلحـقـين بـه وسوف تلقين بعد الموت ما كسبت لولا اتّكالي عـلى عفـو الإله إذاً وليس لي عـمل أرجو الـنجاة به له معـاجــز قد دقّت عـلى ... تـتــرى علـى رغـم من ... لله مـا حـلّ فـي هاتيـكم السفن وصار ربــعـكم صـوب ... ربــّي بما خـصـّني فيكم و ... حـبّ الوصيّ وأسقتنيـه في اللبن فصرت من ذي وذا أهوى أباحسن في اللهو والشيب فيه الـيوم يعذلني نحب الحياة وأدرجتيه فـي الكـفن فأكثري الزاد للترحـال واحتـجن يداك من سيّء يا نفـس أو حـسن لكاد ذنـبي بما أسـلفت يـؤنسني إلاّ مــوالاة مـولاي أبي حسـن
    أقول : وعلي بن حمّاد هو : أبو الحسن علي بن حمّاد بن عُبيد الله بن حمّاد العدويّ العبدي البصري ، من معاصري الشيخ الصدوق والنجاشي. « انظر : الغدير : 4 / 153 ، أدب الطف ، 2 / 161 ـ 198 ».
1 ـ سورة الزمر : 30.


(230)
آخرها أوّلها ، إنّ جبرئيل كان يعرض عليَّ القرآن كلّ سنة مرّة ، وهذه السنة عرضه عليّ مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي.
    فقام إليه عمّار بن ياسر وقال : بأبي أنت واُمي يا رسول الله ، إذا كان ذلك من يغسلك منّا ؟
    قال : ذاك عليّ بن أبي طالب ، إنّه لا يهمّ بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة على ذلك.
    قال : فمن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك ؟
    قال : مه رحمك الله ، ثم قال لأمير المؤمنين عليه السلام : يا عليّ ، إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وانق غسلي ، وكفّنّي في طمريّ اللذين اُصلّي فيهما أو في بياض مصر وبرد يمانيّ ، ولا تغال في كفني ، واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري ، فأوّل من يصلّي عليّ الجليل جلّ جلاله من فوق عرشه ، ثمّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل ، ثم الحافّون بالعرش ، ثم أهل سماء فسماء ، ثمّ جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون ، يؤمون إيماء ، ويسلّمون تسليماً ، لا تؤذوني بصوت نادب ولا برنّة.
    ثم قال لعمّه العبّاس : يا عبّاس ، يا عمّ رسول الله ، تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني.
    فقال العباس : يا رسول الله ، عمّك شيخ كبير ، ذو عيال كثير ، وأنت تباري الريح سمحاً وكرماً ، وعليك وعد لا ينهض به عمّك.
    فأقبل على عليّ عليه السلام ، فقال : تقبل وصيّتي ، وتنجز عدتي ، وتقضي ديني ؟


(231)
    فقال : نعم ، يا رسول الله.
    فقال : ادن منّي ، فدنا منه ، فضمّه اليه ونزع خاتمه من يده ، فقال : خذ هذا فضعه في يدك ، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لامته ، فدفع ذلك إليه ، والتمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس الدرع ، ورويّ أن جبرئيل أتاه بها من السماء ، فجيء بها إليه ، فدفعها إلى عليّ وقال : اقبض هذا في حياتي ، ودفع إليه بغلته ، وقال : امض على اسم الله إلى منزلك.
    ثم اُغمي على رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وحضر وقت الصلاة ، وأذّن بلال ، ونادى : الصلاة يا رسول الله.
    ففتح صلّى الله عليه وآله عينيه وقال : ادعوا لي حبيبي ، فجعل يُعرَض عليه رجل فرجل وهو يُعرِض عنه ، إلى أن حضر أمير المؤمنين فتهلّل وَجْهُهُ ، ثم قال : يا بلال ، هلمّ عليَّ بالناس ، فأجمع الناس.
    فخرج صلّى الله عليه وآله متوكّئاً على أمير المؤمنين بيده اليمنى ، وعلى الفضل بن العبّاس باليد الاُخرى ، متعصّباً بعمامته ، متوكّئاً على قوسه ، فصلّى بالناس جالساً ، وقد كانت عائشة قد أرسلت إلى أبيها أن يصلّي بالناس ، فنحّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وصلّى.
    ثمّ قام وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنّه قد حان منّي خفوق من بين أظهركم ، فأيّ نبيّ كنت لكم ؟ ألم اُجاهد بين أظهركم ، ألم تكسر رباعيتي ؟ ألم يعفّر جبيني ؟ ألم تسل الدماء على حرّ وجهي حتى لثقت (1) لحيتي ؟ ألم اُكابد الشدّة والجهد مع جهّال قومي ؟ ألم أربط حجر المجاعة على بطني ؟
1 ـ لثقت : ابتلّت.

(232)
    قالوا : بلى ، يا رسول الله ، لقد كنت صابراً ، وعن المنكر ناهياً ، فجزاك الله عنّا أفضل الجزاء.
    قال : وأنتم جزالك الله ربّي ثم قال : إنّ ربّي سبحانه أقسم الا يجوزه ظلم ظالم ، فناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قِبَل محمد مظلمة فليقم وليقتصّ ، فإنّ القصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء ؟
    فقام إليه رجل ـ من أقصى القوم ـ يقال له سوادة بن قيس فقال : فداك أبي واُمّي ، إنّك ـ يا رسول الله ـ لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق ، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فلا أدري أعمداً أم خطأ ؟
    فقال صلّى الله عليه وآله : معاذ الله أن أكون تعمّدت ، ثم قال : يا بلال ، قم إلى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق ، فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة : معاشر الناس ، من الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة ؟ فطرق بلال الباب على فاطمة عليها السلام وهو يقول : يا فاطمة ، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق ، فصاحت فاطمة وهي تقول : وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا اليوم يومه ؟!
    فقال : أما علمتِ أنّ أباك قد صعد المنبر وهو يودّع الناس ويعطي القصاص من نفسه ؟ فصاحت فاطمة وهي تقول : واغمّاه لغمّك يا أبتاه ، من للفقراء والمساكين وابن السبيل بعدك يا رسول الله ، يا حبيب الله ، وحبيب القلوب ؟ ثمّ ناولت بلالاً القضيب ، فجاء به وناوله رسول الله صلّى الله عليه وآله.


(233)
    فقال رسول الله : أين الشيخ ؟
    فقال : ها أنذا يا رسول الله ، بأبي أنت واُمّي.
    قال : قم فاقتصّ حتى ترضى.
    فقال الشيخ : اكشف لي عن بطنك يا رسول الله ، فكشف صلّى الله عليه وآله عن بطنه ، فقال الشيخ : أتأذن لي ـ يا رسول الله ـ أن أضع فمي على بطنك ؟ فأذن له ، فقال : أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا سوادة ، أتعفو أم تقتصّ ؟
    قال : بل أعفو ، يا رسول الله.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك.
    ثم نزل رسول الله صلّى الله عليه وآله ودخل منزل اُمّ سلمة وهو يقول : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب.
    فقالت اُمّ سلمة : يا رسول الله ، ما لي أراك مغموماً متغيّر اللون ؟
    فقال صلى الله عليه وآله : نعيت غليّ نفسي ، فسلام لك منّي في الدنيا فلا تسمعين صوت محمد بعد هذا أبداً.
    فقالت اُمّ سلمة : واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمد.
    ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ادع لي حبيبة نفسي وقرّة عيني فاطمة ، فجاءت فاطمة وهي تقول : نفسي لنفسك الفداء ، ووجهي لوجهك الوقاء ، يا أبتاه ، ألا تكلّمني كلمةً ، فإنّي أراك مفارق الدنيا ، وارى عساكر الموت تغشاك ؟


(234)
    فقال : يا بنيّة ، إنّي مفارقك ، فسلام عليك منّي.
    قالت : يا أبتاه ، فأين الملتقى يوم القيامة ؟
    قال : عند الحساب.
    قالت : فإن لم ألقك عند الحساب ؟
    قال : عند الشفاعة لاُمّتي.
    قالت : فإن لم ألقك عند الشفاعة لاُمّتك.
    قال : عند الصراط ، جبرئيل عن يميني ، وميكائيل عن يساري ، والملائكة من خلفي وقدّامي ينادون : ربّ سلّم اُمّة محمد من النار ، ويسّر عليهم الحساب.
    قالت فاطمة عليها السلام : فأين والدتي خديجة ؟
    قال : في قصر له أربعة أبواب إلى الجنّة.
    وعن ابن عبّاس قال : اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
    فقال عمر : إنّ النبي قد اشتدّ به الوجع وهو يهجر ، عندكم القرآن حسبنا كتاب الله (1) ، فاختلف الناس حينئذٍ بينهم ، فمنهم من يقول : القول ما قال عمر ،
1 ـ انظر : صحيح مسلم : 3 / 1259 ح 22 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 55 ، وج 6 / 51 ، الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 29 ، المسند للحميدي : 1 / 241 ح 526 ، طبقات ابن سعد : 2 / 36 و 37 ، مسند أحمد بن حنبل : 293 و 355 ، صحيح البخاري : 1 / 39 ، وج 4 / 85 و 121 ، المعجم الكبير للطبراني : 11 / 445 ح 12261 ، شرح السنّة للبغوي : 11 / 180 ح 2755 ، الكامل في التاريخ : 2 / 320.
    وأخرجه في البحار : 22 / 468 عن إعلام الورى : 141 ، إرشاد المفيد : 89. وفي ص 472 ح 21 عن مناقب ابن شهراشوب : 1 / 235. وفي ص 474 عن أمالي المفيد : 36 ح 3. وفي ص 498 ح 44 عن كتاب سُليم بن قيس : 210.


(235)
فلمّا كثر اللغط (1) عند رسول الله صلى الله عليه وآله قال : قوموا ، فكان ابن عبّاس يقول : الرزيّة كلّ الرزيّة ما خلا بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
    ثمّ اُغمي على رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلمّا أفاق قال : انطلقوا بي إلى فاطمة ، فجيء به حتى وضع رأسه في حجرها ، فإذا الحسن والحسين عليهما السلام يبكيان ويصيحان ويضطربان ، وهما يقولان : أنفسنا لنفسك الفداء ، ووجوهنا لوجهك الوقاء.
    فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، من هاذان ؟
    فقال : ابناك الحسن والحسين ، فعانقهما وقبّلهما ، وكان الحسن أشدّ بكاءً من الحسين.
    فقال أمير المؤمنين : كفّ يا حسن ، فقد شققت على رسول الله ، ونزل ملك الموت ، فقال : السلام عليك ، يا رسول الله.
    فقال : وعليك السلام ، يا ملك الموت ، لي إليك حاجة ، ألاّ تقبض روحي حتى يأتي جبرئيل أخي.
    فخرج ملك الموت وهو يقول : وامحمداه ، فاستقبله جبرئيل في الهواء ، وقال : يا ملك الموت ، قبضت روح محمد صلى الله عليه وآله ؟
    قال : سألني الا أقبضه حتى يلقاك فيسلّم عليك وتسلّم عليه.
    فقال جبرئيل : يا ملك الموت ، أما ترى أبواب السماء قد فتحت لروح محمد ؟ أما ترى الحور العين قد تزيّنت لمحمد ؟
1 ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : اللفظ.

(236)
    ثم نزل جبرئيل عليه السلام فقال : السلام عليك ، يا أبا القاسم.
    فقال : وعليك السلام ادن منّي يا جبرئيل ، فدنا منه ، فنزل ملك الموت ، فقال له جبرئيل : يا ملك الموت ، احفظ وصيّة الله في روح محمد صلى الله عليه وآله ، وكان جبرئيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وملك الموت آخذ بروحه صلى الله عليه وآله ، وجبرئيل يقول : يا محمد ( إنّكَ ميّتٌ وإنّهم ميّتونَ ) (1) ( كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ) (2). (3)
    مسند ابي يعلى وفضائل أحمد (4) : عن اُمّ سلمة في خبر : والذي تحلف اُمّ سلمة به انّه كان آخر عهد برسول الله صلّى الله عليه وآله عليّ عليه السلام ، وكان رسول الله قد بعثه في حاجة غداة قبض ، وكان يقول : جاء عليّ ـ ثلاث مرّات ـ قالت : فجاء عليّ قبل طلوع الشمس ، فخرجنا من البيت لمّا علمنا انّه له إليه حاجة ، فانكبّ عليه علي ، فكان آخر الناس به عهداً ، وجعل يسارّه ويناجيه. (5)
    ومن طريق أهل البيت عليهم السلام أنّ عائشة دعت أباها فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ودعت حفصة أباها فأعرض عنه ، ودعت اُمّ
1 ـ سورة الزمر : 30.
2 ـ سورة آل عمران : 185 ، سورة الأنبياء : 35 ، سورة العنكبوت : 57.
3 ـ أمالي الصدوق : 505 ح 6 ، عنه البحار : 22 / 507 ح 9.
    وأورد قطعات منه في مناقب ابن شهراشوب : 1 / 234 ـ 235 ، عنه البحار : 22 / 472. وانظر : الأحاديث الغيبيّة : 1 / 38 ح 12.
4 ـ مسند أبي يعلى الموصلي : 12 / 364 ح 6934 ، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 2 / 286 ح 1171.
5 ـ مناقب ابن شهراشوب : 1 / 236.


(237)
سلمة عليّاً عليه السلام فناجاه طويلاً (1). حتى إذا اشتدّ كربه ، وارتفع أنينه ، وعرق لهول الموت جبينه نادى لشدّة السياق : وا كرباه.
    فنادت فاطمة : وا كرباه لكربك يا أبتاه.
    فأجابها مسكّناً لحرقتها بين القوم : لا كرب على أبيك بعد اليوم. (2)
    ثمّ سالت نفسه الشريفة صلّى الله عليه وآله مختاراً ، فسالت لها العيون من شؤونها مدراراً ، وانقطع بموته الوحي والتنزيل ، وامتنع من الأرض جبرئيل ، وأظلمت المدينة بعد نورها وضيائها ، وارتفع الضجيج من قصورها وأرحابها. (3)
    وروي أنه صلّى الله عليه وآله لمّا دنا منه الأجل المحتوم جذب عليّاً إليه ، وغشّاه بثوبه الذي عليه ، ووضع فاه على فيه ، وجعل يناجيه.
    فلمّا حضره الموت وقضى صلّى الله عليه وآله استلّ أمير المؤمنين عليه السلام من تحت الثوب ، وتركه على رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ فقيل لأمير المؤمنين : ما الذي ناجاك به رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
    فقال : علّمني ألف باب من العلم ، ينتج كلّ باب إلى ألف باب (4) ، وأوصاني بما أنا به قائم إن شاء الله.
    ومن طريق أهل البيت عليهم السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله جذب عليّاً تحت ثوبه ، وجعل يناجيه ، فلمّا حضره الموت قال : يا عليّ ، ضع
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 1 / 236 ـ 237 ، عنه البحار : 22 / 521 ح 29.
2 ـ كشف الغمّة : 1 / 16 ، عنه البحار : 22 / 531.
3 ـ أرحاب : جمع رحبة ، وهي الصحراء.
4 ـ في المناقب : فُتح لي من كلّ باب ألف باب.


(238)
رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر الله ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ، وامسح بها وجهك ، ثمّ وجّهني إلى القبلة ، وتولّ أمر ، وصلّ عليّ أوّل الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله سبحانه.
    فأخذ عليّ برأسه ، ووضعه في حجره ، فاُغمي عليه ، فبكت فاطمة ، فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فأسرّ إليها شيئاً فضحكت وتهلّل وجهها.
    فسئلت عن ذلك ، فقالت : أعلمني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به.
    ثمّ قضى صلّى الله عليه وآله ويد أمير المؤمنين تحت حنكه ، ففاضت نفسه صلّى الله عليه وآله ، فرفعها أمير المؤمنين إلى وجهه فمسحه بها ، ثمّ مدّ عليه إزاره ، واستقبل بالنظر في أمره. (1)
    وممّا قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه في نهج البلاغة في هذا المعنى : وقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله أنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعةً قطّ ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنكص (2) فيها الأبطال ، وتتأخّر الأقدام ، نجدةً (3) أكرمني الله بها.
    ولقد قُبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وإنّ رأسه لعلى صدري ، وقد سالت نفسه في كفّي ، فأمررتها على وجهي ، ولقد ولّيت غسله صلّى الله عليه وآله والملائكة أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ؛ ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة (4) منهم ، يصلّون عليه حتى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّاً وميّتاً ؟ فانفذوا على بصائركم ، ولتصدق نيّاتكم في جهاد
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 1 / 237 ، عنه البحار : 22 / 521 ـ 522.
2 ـ تنكص : تتراجع.
3 ـ النجدة : الشجاعة.
4 ـ الهينمة : الكلام الخفيّ لا يفهم.


(239)
عدوّكم ، فو الّذي لا إله إلا هو إنّي لعلى جادّة الحق ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل ، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ! (1)
    عن أبي جعفر الباقر عليه السلام (2) قال : قال الناس : كيف كانت الصلاة
1 ـ نهج البلاغة : 311 خطبة رقم 197 ، عنه البحار : 22 / 540 ح 49 من قوله « ولقد قبض ».
2 ـ في « ح » : عن أبي جعفر عليه السلام قال : لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله بات آل محمد عليهم السلام بأطول ليلة حتى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ، ولا أرض تقلّهم ، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وتر الأقربين والأبعدين في الله.
    فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه ، فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، إنّ في الله عزاء من كل مصيبة ، ونجاة من كلّ هلكة ، ودركاً لما فات : ( كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور ) ، [ آل عمران : 185 ] ، إنّ الله اختاركم وفضّكلم وطهّركم وجعلكم أهل بيت نبيّه ، واستودعكم علمه ، وأورثكم كتابه ، وجعلكم تابوت علمه وعصا عزّه ، وضرب لكم مثلاً من نوره ، وعصمكم من الزلل ، ,آمنكم من الفتن ، فتعزّوا بعزاء الله ، فإنّ الله لم ينزع منكم رحمته ، ولن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمّت النعمة ، واجتمعت الفرقة ، وائتلفت الكلمة ، وأنتم أولياؤه ، فمن تولّاكم فاز ، ومن ظلم حقّكم زهق ، مودّتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ، ثمّ الله على نصركم إذا يشاء قدير ، فاصبروا لعواقب الامور ، فإنّها إلى الله تصير ، قد قبلكم الله من نبيّه وديعة ، واستودعكم أولياء المؤمنين في الأرض ، فمن أدّى أمانته أتاه الله صدقه ، وأنتم الأمانة المستودعة ، ولكم المودّة الواجبة ، والطاعة المفروضة ، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أكمل لكم الدين ، وبيّن لكم سبيل المخرج ، فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه ، والله من وراء حوائجكم ، وأستودعكم الله ، والسلام عليكم.
    فسألت أبا جعفر عليه السلام ممّن أتاهم للتعزية.
    قال : من الله تعالى شأنه.
    نقل من كتاب اُصول الكافي للكليني رحمه الله [ ج 1 ص 445 ح 19 ، عنه البحار : 22 / 537 ح 39 ].


(240)
عليه ؟ فقال علي عليه السلام : [ إنّ ] (1) رسول الله صلّى الله عليه وآله إمام حيّاً وميّتاً فدخل عليه عشرة عشرة ، فصلّوا عليه يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء ، حتى صلّى عليه الأقرباء والخواصّ ، ولم يحضر أهل السقيفة ، وكان عليّ عليه السلام أنفذ لهم بريدة ، وإنّما تمّت بيعتهم بعد دفنه صلّى الله عليه وآله.
    وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : إنّما اُنزلت هذه الآية في الصلاة عليَّ بعد قبض الله لي : ( إنَّ اللهَ وملائكتهُ يصلّونَ على النبيِّ ) (2) الآية.
    وسئل الباقر عليه السلام : كيف كانت الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟
    فقال : لمّا غسّله أمير المؤمنين عليه السلام وكفّنه وسجّاه أدخل عليه عشرة عشرة فداروا حوله ، ثمّ وقف أمير المؤمنين في وسطهم فقال : ( إنَّ الله وملائكتهُ يصلّونَ على النبي ) الآية ، فيقول القوم مثل ما يقول حتى صلّى عليه أهل المدينة والعوالي ، واختلفوا أين يدفن ؟ فقال بعضهم : في البقيع ، وقال آخرون : في صحن المسجد.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الله لم يقبض نبيّه إلا في أطهر بقاع الأرض ، فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض فيه ، فاتّفقت الجماعة على قوله ، ودفن في حجرته.
    ونزل في قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله أمير المؤمنين
1 ـ من المناقب.
2 ـ سورة الأحزاب : 56.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس