تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 376 ـ 390
(376)
يا ابن من أسرى به الله إلى حضرته يا سميّ الفاتح الخاتم يا نـور الهدى يا أمان المـلك الجبـّار في عـالمه كم غياب عـن عليل عظمت علّته لو تزره عائداً لو في الكرى أحييته لم يزل منك جمال في سويداء قلبه مستمرّ عهده مـن عالـم الذرّ إلى نوره مذتمّ منكم صار لا يخشى بكم مذ خلا عمّا سواكم قلـبه صار له نحوكم منطقه كالدرّ فـي ترصيعه وبه أظهر دين الـحقّ مـن بعـثته يا منار الحائر التـائـه فـي حيرته يا أمين المصطفى المختـار في اُمّته كم حجاب من مشوق مات من غصّته وبثثت الـروح بعد الـموت في جثّته وخيال فـي سواد الطـرف من مقلته أن يوافيكم غـداً بالصدق في رجعته زخرفاً من باطـل يوديه فـي ظلمته ذكـركـم دأباً به يأنس في خـلوته ببديع يطـرب الأسمـاع من دقّـته


(377)
ببيان مـن معـان صـرفهـا في مدحكم قسماً بالـله ثـمّ المصـطـفى أكرم من انّ لـي صدق يقـين بـولاكـم لا أرى يا مليكاً جــعـل اللـه له فـي ملـكه لو نهيت الشمس عن إشراقها ما أشرقت كلّما فكّرت فـي جرمـي ومـا أسلفته قال لي حسن يقيـني لك حـصن مانع حجّة الـوقـت ولـيّ الـله في عالمه بحر علم طود حلـم لا يضاهـى مجده غائب عن مقلتي لـكن بقـلبي حاضر يزدريه الجاهل الهالك فـي شبهته أرسل الله وبالأطهار من عتـرتـه غيره ينقذ للإنسـان فـي لعـنـته بسطة منها مدار الخلق في قبـضته ومنعت الـفلـك الدوّار عن دورته من كبير موبق أسعـفت مـن تبعته ذلك المولى الذي بالـغت في مدحته ساطع البرهان والظاهر فـي حجّته كنز جود لا يسامى في عـلا رفعته لم يزل فيه خيال مـن سـنا بهجته


يا مديد العمر صل صبا تقضّى عمره يا إلهي إن تقضّى أجلي من قبل أن فامح عنّي موبقات ليس تحصى كثرة في انتظار واشفِهِ بالوصل من عـلّته تقض لي بالسعد في دنياي من رؤيته واجعلنّي يوم حشر الخلق فـي زمرته
    أقول : إنّ هذه الجملة المعترضة التي قرّرتها ، والأبيات المسطّرة التي ذكرتها ، ليست من ملازمات المجلس المذكور ، ولا من غصون المقصد المذكور ، لكن لما صبّت الصبابة شآبيبها على قلبي ، وأضرمت الكآبة لهيبها في لبّي ، وذلك لما ألقى الله على لسان الحائد عن الحقّ ، ونطق به الجاحد من الصدق ، وشهد بما هو حجّة عليه في الدنيا والاُخرى ، فصار ومن انتمى إليه نحري الله أحقّ وأحرى ، أوحى جناني إلى لساني ، وألقى بياني على بناني ، هذه الكلمات المحلّاة بترصيعي وتسجيعي ، والأبيات المستمعة بمعاني بياني وبديعي ، فصارت كالعقد في صدر الخريدة ، أو العهد في صدر الجريدة.
    ولنرجع إلى تمام المجلس الموعود ، والله المستعان على كلّ جبّار كنود.
    الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام : كان إبراهيم بن هاشم المخزومي والياً على المدينة ، وكان يجمعنا كلّ يوم جمعة قريباً من المنبر ويشتم عليّاً عليه السلام ، فلصقت بالمنبر فأغفيت ، وفرأيت القبر قد انفرج فخرج منه رجل عليه ثياب بيض ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، ألا يحزنك ما يقول هذا ؟
    قلت : بلى ، والله.


(379)
    قال : افتح عينيك انظر ما يصنع الله به ، وإذا هو قد ذكر عليّاً فرمي به من فوق المنبر فمات. (1)
    عثمان بن عفّان السجستاني : [ إنّ محمد بن عبّاد ] (2) قال : كان في جواري رجل صالح ، فرأى النبي صلّى الله عليه وآله في منامه على شفير الحوض والحسن والحسين يسقيان الاُمّة ، فاستسقيت فأبيا عليَّ ، فأتيت النبي صلّى الله عليه وآله أسأله ، فقال : لا تسقوه ، فإنّ في جوارك رجل يلعن عليّاً فلم تنهه ، ثم ناولني سكّيناً ، وقال : اذهب فاذبحه.
    قال : فخرجت فذبحته ودفعت السكّين إليه ، فقال : يا حسين ، اسقه ، فسقاني ، فأخذت الكأس بيدي ولا أدري أشربت أم لا ، فانتبهت فإذا بولولة ويقولون : فلان ذبح على فراشه ، وأخذ الشرطة الجيران ، فقمت إلى الأمير ، فقلت : أصلحك الله أنا فعلت به هذا والقوم براء ، وقصصت عليه الرؤيا ، فقال : اذهب جزاك الله خيراً. (3)
    عبد الله بن السائب وكثير بن الصلت ، قالا : جمع زياد بن أبيه أشراف الكوفة في مسجد الرحبة ليحملهم على سبّ أمير المؤمنين عليه السلام والبراءة منه ، فأغفيت فإذا أنا بشخص طويل العنق ، أهدل أهدب (4) ، قد سدّ ما بين السماء والأرض ، فقلت له : من أنت ؟
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 345 ، عنه البحار ، 39 / 320 ، ومدينة المعاجز : 2 / 285 ح 554.
2 ـ من المناقب.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 345 ، عنه البحار : 39 / 320.
    وأخرجه في مدينة المعاجز : 2 / 286 ح 555 عن مناقب ابن شهراشوب والثاقب في المناقب : 239 ح 203.
4 ـ الأهدل : المسترخي الشفة السفلى الغليظها. والأهدب : طويل شعر الأجفان.


(380)
    قال : أنا النقّاد ذو الرقبة طاعون بعثت إلى زياد ، فانتبهت فزعاً فسمعت الواعية ، وأنشأت أقول :
قد جشم الناس أمراً ضاق ذرعهـم يدعو على ناصر الإسلام حين يرى ما كان منتـهـياً عـمّا أراد بـه (2) فأسط الـشقّ مـنه ضـربة عجباً بحملهم (1) حين أدّاهم إلى الرحبة له على المشركين الطول والغلبة حـتى تـناوله النقّاد ذو الرقبة كما تناول ظلماً صاحب الرحبة (3) (4)
    ولمّا أتم الله سبحانه به دينه ، وأثبت في صحائف الاخلاص يقينه ، قاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله ، وشدّ أركان الإيمان بواضح دليله ، ومهّد سبيل الإسلام براسخ علمه ، وبيّن طريق الأحكام بصائب حكمه ، وأبطل شبهة أهل البغي بظاهر حجّة أدلّته ، وأدحض حجّة اولي الغيّ بصائب حكمته ، وأحيا سنّة أخيه الصادق الأمين في قوله : لتقاتلنّ بعدي الناكثين والقاسطين
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : يحمله.
2 ـ في الأمالي : بنا.
3 ـ المراد من « صاحب الرحبة » أمير المؤمنين عليه السلام.
4 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 345 ، عنه البحار : 39 / 321.
    ورواه في أمالي الطوسي : 1 / 238 ( مختصراً ) ، عنه البحار : 39 / 314 ح 10.
    وفي ج 2 / 232 ، عنه البحار : 42 / 6 ح 6.
    وأخرجه في مدينة المعاجز : 2 / 262 ح 542 ، عن الأمالي ـ الرواية الثانية ـ والمناقب.


(381)
والمارقين. (1)
    روى الحسن وقتادة أنّ الله أكرم نبيّه صلّى الله عليه وآله بأن لم يره تلك النقمة ، ولم ير في اُمّته إلا ما قرّت به عينه ، وكان بعده صلّى الله عليه وآله نقمة شديدة.
    وقد روي أنّه صلّى الله عليه وآله اُري ما تلقى اُمّته من بعده ، فما زال منقبضاً ولم ينبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى.
    وروى جابر بن عبد الله الأنصاري [ قال ] (2) : إنّي لأدناهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجّة الوداع بمنى حين (3) قال : لألفينّكم ترجعون بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنّني في الكتيبة التي تقاتلكم (4) ، ثمّ التفت إلى خلفه فقال : أو عليّ أو عليّ ـ ثلاث مرّات ـ فرأينا انّ جبرئيل غمزه (5) ، فأنزل الله على أثر ذلك ( فإمّا نذهبنّ بك فإنّا منهم منتقمونَ ) (6) بعليّ بن أبي طالب عليه السلام. (7)
1 ـ حديث مشهور روي من طريق الخاصّة والعامّة. انظر الأحاديث الغيبيّة : 1 / 72 ـ 80 ح 35 ـ 38 ففيه جملة وافرة من المصادر.
2 ـ من المجمع.
3 ـ في المجمع : حتى.
4 ـ في المجمع : تضاربكم.
5 ـ انظر في هذا المعنى : أمالي المفيد : 112 ح 4 ، عنه البحار : 32 / 304 ح 268.
    وأمالي الطوسي : 2 / 75 ، عنه إثبات الهداة : 1 / 309 ح 239.
    ومناقب ابن شهراشوب : 3 / 219.
    وتأويل الآيات : 2 / 559 ح 18 ، عنه البحار : 32 / 313 ح 279 ، والبرهان : 4 / 144 ح 4.
6 ـ سورة الزخرف : 41.
7 ـ مجمع البيان : 5 / 49 ، عنه البحار : 9 / 150 ، وج 32 / 290 ح 242 وما قبله ، وج 36 / 23 ذ ح 6.

(382)
    وقال الشافعي كلاماً معناه : إنّما علم الناس قتال أهل البغي من عليّ عليه السلام. (1)
    وقال محمد بن الحسن الفقيه : لولا عليّ بن أبي طالب ما علمنا حكم أهل البغي ، ولمحمد بن الحسن كتاب يشتمل على ثلاثمائة مسألة في قتال أهل البغي بناها على فعله صلوات الله عليه ، والأصل في قتال أهل البغي قوله سبحانه : ( وإن طائفتانِ من المؤمنينَ اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي ... ) (2) فإذا بغت طائفة من أهل الإسلام على اُخرى وقلنا بوجوب قتالهم للأمر ، فقتال الطائفة الخارجة على إمام الحقّ أولى ، وقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام الناكثين والقاسطين والمارقين وهم أهل البصرة وعائشة وطلحة والزبير وعبد الله بن الزبير وغيرهم وهم الناكثون الّذين نكثوا بيعته ، وقاتل أهل الشام معاوية ومن تابعه وهم القاسطون أي الحائرون ؛ وقيل : أهل النهروان وهم الخوارج ، وهؤلاء جميعهم عندنا كفّار محكوم بكفرهم ، لأنّ الإمامة عندنا من شرائط الإيمان كما انّ التوحيد والعدل والنبوّة من أركانه وشروطه ولا يستحق الثواب الدائم إلا به ، ولقول النبي صلّى الله عليه وآله : « يا عليّ ، حربك حربي ، وسلمك سلمي » (3) وهذا الحديث لم يختلف أحد من أهل الاسلام فيه ، وقد رواه أهل الخلاف في صحاحهم. (4)
1 ـ كنز العرفان للمقداد السيوري : 386.
    ونقل عن أبي حنيفة قوله : لولا سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في اهل البغي ما كنّا نعرف أحكامهم. « شرح الأصول الخمسة : 141 ».
2 ـ سورة الحجرات : 9.
3 ـ الإفصاح : 128 ، تلخيص الشافي : 2 / 134 ـ 135 ، مناقب ابن المغازلي : 50 ، مناقب ابن شهراشوب : 3 / 217 ، مناقب الخوارزمي : 129 ، شرح المقاصد : 5 / 308 ، لسان الميزان : 2 / 483.
4 ـ رووه بهذا اللفظ : يا عليّ ، أنا حرب لمن حاربك ، وسلم لمن سالمك.


(383)
    وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ما سمع واعيتنا أهل البيت أحد فلم يجيبنا إلا أكبّه الله على منخريه في النار (1). (2)
    وكانت عائشة لمّا اجتمع الناس لقتل عثمان من أعظم المحرّضين عليه ، كانت تقول : اقتلوا نعثلاً (3) ، قتل الله نعثلاً. وكانت تقول : هذا قميص رسول الله لم يبل وقد بليت سنّته ، وتركته في الفتنة ومضت إلى مكّة ، وكانت تؤلّب عليه وتقول : لا يصلح للخلافة إلا ذو الاصبع ـ يعني طلحة ـ. (4)
    ولمّا سمعت بقتله أقبلت من مكّة قاصدة المدينة ، وفي كلّ منزل تثني على طلحة وترجو أن يكون الأمر له ، فلمّا وصلت إلى مكان في طريق مكّة يقال له « سرف » وسمعت ببيعة علي عليه السلام قالت : ردّوني ، وانصرفت راجعة إلى مكّة تنتظر الأمر ، وجعلت تؤلّب على علي عليه السلام ، وكاتبت طلحة والزبير وعبد الله بن عامر بن كريز ، فلحقوا بها بعد أن طلبوا من أمير
    انظر : مسند أحمد : 2 / 442 ، سنن ابن ماجة : 1 / 52 ، سنن الترمذي : 5 / 656 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 149 ، تاريخ بغداد : 7 / 137 ، مناقب ابن المغازلي : 64 ، أسد الغابة : 3 / 11 ، ذخائر العقبى : 25 ، الإحسان : 9 / 61 ، مجمع الزوائد : 9 / 169.
1 ـ قال المجلسي رحمه الله : لعل المراد أنّ مع سماع الواعية وترك النصرة العذاب أشدّ ، وإلّا فالظاهر وجوب نصرتهم على أيّ حال.
2 ـ روى الصدوق في الأمالي : 118 ح 6 قول الحسين عليه السلام : فوالّذي نفس الحسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلا أكبّه الله لوجهه في جهنّم. عنه البحار : 44 / 256 ح 4 ، ومدينة المعاجز : 2 / 171 ح 473 ، وعوالم العلوم : 17 / 147 ح 3.
3 ـ قال ابنا الأثير في النهاية : 5 / 80 : النَعثَل : الشيخ الأحمق. ومنه حديث عائشة : « اقتلوا نعثلاً ، قتل الله نعثلاً » تعني عثمان.
    وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط : 4 / 59 : النَعثَل : الذَكَر من الضباع ، والشيخ الأحمق ، ويهودي كان بالمدينة ، ورجل لِحيانيّ كان يُشبّه به عثمان.
4 ـ انظر : كشف الغمّة : 1 / 238 ـ 239 ، ونهج الحقّ وكشف الصدق : 368 ـ 369.


(384)
المؤمنين عليه السلام الاذن في المضيّ إلى مكّة.
    فقال لهم : ما تريدون بمضيّكم إلى مكّة ، وليس موسم حجّ ؟
    فقالوا : نريد العمرة.
    فقال عليه السلام : والله ما تريدون إلا الغدرة ، ثمّ أذن لهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق ، فأدركوا عائشة بمكّة ، وعزموا على قتال أمير المؤمنين ، ونكثوا بيعته ، وأرادوا عبدالله بن عمر على البيعة ، فقال : تريدون أن تلقوني في مخالب عليّ وأنيابه ، لا حاجة لي بذلك.
    ثمّ أدركهم يعلى بن منية من اليمن (1) وأقرضهم ستّين ألف دينار ، وأرسلت عائشة إلى اُمّ سلمة تلتمس منها الخروج معها فأبت ، وأمّا حفصة فأجابت ، وصوّبت رأيها ، ثمّ خرجت عائشة في النفر الأوّل عامدة إلى البصرة لكثرة ما بها من أهل النفاق وشيعة بني اُميّة ، حتى إذا كانت بالحوأب وهو ماء على طريق البصرة من مكّة ، صاحت كلابه عليها ، فقالت : ما هذا الماء ؟
    فقيل : اسمه الحوأب.
    فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وكانت قد سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لنسائه : أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبّ (2) تنبحها كلاب الحوأب ؟ (3)
1 ـ في البحار : قادماً من اليمن.
2 ـ جَمَلٌ أدَبٌّ : كثير الوَبَر. « المحيط في اللغة : 9 / 267 ـ دب ـ ».
3 ـ انظر : المصنّف لعبد الرزّاق : 11 / 365 ح 20753 ، المعيار والموازنة : 28 ، الفتن لنعيم بن حمّاد : 1 / 83 ح 188 وص 84 ح 189 ، المصنّف لابن أبي شيبة : 15 / 259 ـ 260 ح 19617 ، مسند إسحاق بن راهويه : 3 / 891 ـ 892 ح 1569.
    ومن أراد المزيد من مصادر هذا الحديث فليرجع إلى الأحاديث الغيبيّة : 1 / 135 ح


(385)
    وروى الأعثم في الفتوح (1) ، وشيرويه في الفردوس ، وابن مردويه في فضائل عليّ ، والموفّق في الأربعين ، وشعبة والشعبي أنّ عائشة لمّا سمعت نباح الكلاب قالت : أيّ ماء هذا ؟
    فقالوا : الحوأب.
    قالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إنّي نهيت ، قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وعنده نساؤه [ يقول ] (2) : ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدّب [ تخرج ] (3) وتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها ويسارها قتلى كثيرة ، وتنجو بعدما كادت تقتل ؟
    ثمّ لم تعتبر بما رأت وسمعت من رسول الله صلّى الله عليه وآله لشدّة حنقها وعداوتها لأمير المؤمنين عليه السلام حتى قصدت البصرة بخيلها ورجلها.
    فلمّا نزلت الخريبة خارج البصرة قصدهم عثمان بن حنيف رضي الله عنه ـ وكان والياً على البصرة من قبل أمير المؤمنين ، فحاربهم حرباً شديداً ، وسمّي ذلك اليوم « يوم الجمل الأوّل » وأصدعهم المصاع ، ومنعهم من دخولها أشدّ المنع ، وعلموا أنّه لا طاقة لهم به ، ثمّ كتب إلى أمير المؤمنين يخبره الخبر ، ثمّ بعد ذلك دعوا عثماناً إلى الصلح على أن يكون على حاله في يده بيت المال والإمرة والجمعة والجماعة والمسجد الجامع ، ويقيموا على حالهم في الخريبة حتى يجمع الناس على أمر فيه صلاح المسلمين ، وإلى أن يصل إليهم أمير
78.
1 ـ الفتوح : 2 / 460.
2 و 3 ـ من المناقب.


(386)
المؤمنين عليه السلام.
    فقال طلحة لأصحابه في السرّ : والله لئن قدم عليّ القبصرة لنؤخذنّ بأعناقنا ، وحثّهم على بيات عثمان ونقض عهده ، فأجابوه وقصدوا عثمان في ليلة مظلمة وهو يصلّي بالناس العشاء الآخرة ، وقتلوا من شرطه خمسين رجلاً ، واستأسروه ، ونتفوال شعر لحيته ، وحلقوا رأسه ، وحبسوه.
    وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ولّى على المدينة أخاه سهل بن حنيف ، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى عائشة : أعطي الله عهداً لئن لم تخلوا سبيله لابلغنّ من أقرب الناس إليكم ، فأطلقوه ، وبعثت عائشة إلى الأحنف بن قيس تدعوه ، فأبى واعتزل في الجَلحاء على فرسخين من البصرة في ستّة آلاف رجل ، ثمّ بعث طلحة والزبير عبد الله بن الزبير في جماعة إلى بيت المال فقتل أبا سالمة الزطّي وكان على بيت المال ؛ وقيل : معه خمسي رجلاً من أصحابه.
    وخرج أمير المؤمنين عليه السلام في ستّة آلاف رجل من المدينة ونزل بالربذة ، ومنها إلى ذي قار بالقرب من الكوفة ، وأرسل الحسن وعمّار إلى الكوفة وكتب معهم :
    من عبد الله ووليّه عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة حمية (1) الأنصار وسنام العرب ، ثم ذكر ما تمّ على عثمان وفعل طلحة والزبير [ وعائشة ] (2) ، ثم قال : ألا إنّ دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل ، وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم ، وبادروا عدوّكم.
    فلمّا بلغوا الكوفة قال أبو موسى الأشعري : يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله
1 ـ في المناقب : جبهة.
2 ـ من المناقب.


(387)
تقتلوا أنفسكم ، إنّ الله كان بكم رحيماً ( ومن يقتل مؤمناً متعمّداً ) (1) الآية ، وجعل يثبّط الناس ، وكان رأساً من رؤساء المنافقين لأمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت عائشة قد أرسلته أن يثبّط الناس عن عليّ عليه السلام ، فسكّته عمّار.
    فقال أبو موسى : هذا كتاب عائشة تأمرني أن اُثبّط الناس من أهل الكوفة ، وأن لا يكوننّ لنا ولا علينا ليصل إليهم صلاحهم.
    فقال عمّار : إنّ الله تعالى أمرها بالجلوس فقامت ، وأمرنا بالقيام لندفع الفتنة فنجلس !! فقام زيد بن صوحان ومالك الأشتر في أصحابهما وتهدّدوه ، فلمّا أصبحوا قام زيد بن صوحان وقرأ : ( الم أحسبَ الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنونَ ) (2) الآيات.
    ثمّ قال : أيها الناس ، سيروا إلى أمير المؤمنين ، وانفروا إليه أجمعين ، تصيبوا الحق راشدين.
    ثم قال عمار : هذا ابن عم رسول الله يستنفركم فأطيعوه ـ في كلام له ـ.
    وقال الحسن بن علي عليهما السلام : أجيبوا دعوتنا ، وأعينونا على ما بلينا به ـ في كلام له ـ ، فخرج قعقاع بن عمرو ، وهند بن عمرو ، وهيثم بن شهاب ، وزيد بن صوحان ، والمسيّب بن نجبة ، ويزيد بن قيس ، وحجر بن عديّ ، وابن مخدوج ، والأشتر ، يوم الثالث في تعسة آلاف ، فاستقبلهم أمير المؤمنين على فرسخ ، ووقال : مرحباً بكم أهل الكوفة سنام العرب ، وفئة الإسلام ، ومركز الدين ـ في كلام له ـ وخرج إلى أمير المؤمنين من شيعته من أهل البصرة من
1 ـ سورة النساء : 93.
2 ـ سورة العنكبوت : 1 و 2.


(388)
ربيعة ثلاث آلاف رجل ، وبعث الأحنف إلى أمير المؤمنين : إن شئت جئتك في مائتي فارس فكنت معك ، وإن شئت اعتزلت ببني سعد وكففت عنك ستّة آلاف سيف ، فاختار يا أمير المؤمنين.
    ثمّ كتب أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير :
    أمّا بعد :
    فإنّي لم اُرد الناس حتى أرادوني ، ولم اُبايعهم حتى أكرهوني ، وأنتما ممّن أراد بيعتي ، ثم قال عليه السلام بعد كلام : ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما.
    البلاذري : قال : لمّا بلغ أمير المؤمنين قولهما : ما بايعناه إلا مكرهين تحت السيف ، قال : أبعدهما الله إلى أقصى دار وأحرّ نار.
    وكتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عائشة :
    أمّا بعد :
    فإنّك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله محمد صلّى الله عليه وآله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الاصلاح بين المسلمين ، فخبّريني ما للنساء وقود العساكر والاصلاح بين الناس ؟ وطلبت كما زعمت بدم عثمان ، وعثمان رجل من بني اُميّة ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة ، ولعمري إنّ الذي عرّضك للبلاء ، وحملك على العصبيّة ، لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ، وما غضبت حتى أُغضبت ، ولا هجت حتى هيّجت ، فاتّقي الله ـ يا عائشة ـ وارجعي إلى منزلك ، واسبلي عليك سترك.
    فقال طلحة والزبير : احكم كما تريد ، فلن ندخل في طاعتك.


(389)
    وقالت عائشة : لقد جلّ الأمر عن الخطاب ، وأنشأ حبيب بن يساف الأنصاري :
أبا حسن أيقظت من كان نائماً وإنّ رجالاً بايعـوك وخـالفوا وطلحة فيها والزبيـر قرينـة وذكرهم قتل ابن عفّان خدعة وما كلّ من يدعو (1) إلى الحق يتبعُ هواك وأجروا في الضلال وضيّعوا (2) وليـس لـما لا يدفـع الله مدفعُ هـم قـتـلوه والمـخادع يـخدع
    تاريخ الطبري والبلاذري : أنّه ذكر مجيء طلحة والزبير عند الحسن البصري ، فقال : يا سبحان الله ! ما كان للقوم أن يقولوا ، والله ما قتله غيركم.
    تاريخ الطبري : قال يونس النحوي : فكّرت في أمر عليّ وطلحة والزبير إن كانا صادقين أنّ عليّاً عليه السلام قتل عثمان ، فعثمان هالك ، وإن كذبا عليه فهما هالكان.
    ثم أنفذ أمير المؤمنين عليه السلام زيد بن صوحان وابن عبّاس فوعظاها وخوّفاها.
    فأجابتهم : لا طاقة لي بحجج عليّ.
1 ـ في المناقب : وما كان من يدعى.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وأوضعوا.


(390)
    فقال ابن عبّاس : لا طاقة لك بحجج المخلوق ، فكيف طاقتك بحجج الخالق ؟ (1)
    ولمّا رأى أمير المؤمنين انّ الشيطان قد استحوذ ، وانّ ّالآيات والنذر لا تغني عنهم ، زحف عليه السلام بالناس غداة يوم الجمعة لعشر ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين ، وعلى ميمنته الأشتر وسعيد بن قيس ، وعلى ميسرته عمّار بن ياسر وشريح بن هانىء ، وعلى القلب محمد بن أبي بكر وعديّ بن حاتم ، وعلى الجناح زياد بن كعب وحجر بن عديّ ، وعلى الكمين عمرو بن الحمق وجندب بن زهير ، وعلى الرجّالة أبو قتادة الأنصاري ، وأعطى رايته محمد بن الحنفيّة ، ثم أوقفهم من صلاة الغداة إلى صلاة الظهر يدعوهم ويناشدهم ، ويقول لعائشة : إنّ الله أمرك أن تقرّي في بيتك ، فاتّقي الله وارجعي ، ويقول لطلحة والزبير : خبّاتما نساءكما وأبرزتما زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله واستغررتماها ! (2)
    فيقولان : إنّما جئنا للطلب بدم عثمان ، وأن نردّ الأمر شورى.
    واُلبست عائشة درعاً ، وضربت على هودجها صفائح حديد ، واُلبس الهودج أيضاً درعاً ، وكان الهودج يومئذ عند لواء أهل البصرة (3) وهو على جمل يدعى عسكرا. (4)
    ابن مردويه في كتاب الفضائل : أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال للزبير : أما تذكر يوماً كنت مقبلاً بالمدينة تحدّثني إذ خرج رسول الله صلّى الله عليه
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 149 ـ 153 ، عنه البحار : 32 / 117 ح 94.
2 ـ في المناقب : واستفززتماها.
3 ـ في المناقب : وكان الهود لواء أهل البصرة.
4 ـ إلى هنا رواه في أنساب الأشراف : 2 / 239.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس