تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 406 ـ 420
(406)
الآثام ، كلّ ذلك وجدك يغلي بنار حقدك ، وحودك يشبّ ضرام حسدك ، ثم أتبعت بالطلقاء وأبناء الطلقاء على حربه ، وأغريت الأشقياء اللصقاء بسبّه ، وفعلت إلى ابن هند محرّضة له عليه ، وأغريت بني حرب بإرسال شواظ حربهم إليه ، ونبذت كلّ عهدٍ عهده الرسول إليك فيه ، ثائرة بدم عثمان وكنت من أعظم خاذليه ، لمّا وضعت قميصه على رأسك ، وحفت به الأوغاد من أرجاسك.
    حقّت عليكِ كلمة العذاب ، واستوجبتِ اللعنة من ربّ الأرباب ، واُقسم لو شاهدتك يوم بصرتك ، وقد انفردت من أهلك واُسرتك ، وعقر بعيرك ، وقلّ نصيرك ، وقتل جندك ، وفلّ حدّك ، لم اولك منّي صفحاً ، ولم أطوِ عنك شكحاً ، ولقرعت سمعك بقوارع عذلي ، ولو جأت (1) خدّك بسبت نعلي ، ولسفعت ناصيتك بسوطي ، ولرفعت بلعنتك صوتي ، لا لأنّي مخالف سيّدي في فعله ، ولا زار على صفحه بفضله ، إذ ستر بحلمه ما فضح منك ، وعفا بمنّه ما صدر عنك ، بل غضباً لله ، وتعصّباً لأولياء الله.
يا من عصـت بخروجها كفرت بأنـعـم ربـّهـا وأتت من البـلد الحـرام تذكي سعـير ضـرامها وبذي السلا أحـببـت (2) وكذا بنـجل طـريدها تنحب عـليها عاويات ومضت لشدّة حقـدها قصداً لحـرب ولـيّها وخلاف أمر نبيّـهـا بفـتنةٍ مـن غيـّهـا بسـفيههـا زهـريّها غـادرٍ تيـمـيـّهـا وعتلـّها أمـويّـهـا الحـوب عنـد مجيّها لم تعتبر بعـويّــها

1 ـ الوجء : اللكز ، الضرب.
2 ـ كذا في الأصل.


(407)
حتى إذا نشرت صـحاف في عصبةٍ سـلكت سبيل صارت حماة بـعيـرها بـسيوف أقـوام علـت صــنـو الـرسـول وأب الحـروب وربـّها بـدريـّهـا اُحــديّها عــلويّهـا قـدسـيّها أعـني قصـيّ رتـبته أبدت خـضوعاً ظاهراً فلذاك موت الـسـبط وأتت على بغل تـحثّ فالله يلعـن حـشدهـا والسائقـين بعـيرهـا بغيـها مـن طـيـّها عنيـدها وعـصيّـها قد فلّ حـلّ نـديّـها أعلامـهـم بعـلـيّها وخير اُمّتـه وربّانيها ومـدار قطب رحيّها سلـعيّها جمـليّهــا نوريّـها مـهديّـهـا من ذاتـها وقصـيّها والغدر حشو طـويّها أبد الغلّ من مخفيّهـا بـكـفرها وفـديـّها مـن تيـمها وعديّهـا ومن استظلّ بـفيـّها
    لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من هذه الفتنة التي طار شررها ، وشاع خبرها ، واشتهرت أوغادها ، وأظهرت أحقادها ، وعمّت بليّتها ، وغمّت ظلمتها ، وأحرق لهبها ، واشتدّ كلبها ، وأبرزت أعداء الرحمن فيها رؤوسها ، وبذلت في طاعة الشيطان نفوسها ، وسلكت طرق البغي بقتالها مولاها ، وارتكبت سبيل الغيّ فما أحقّها بخزي الله وأولاها ، لم تشكر ربّها على ما أولاها ، ولم تحفظ نبيّها فيما أوصاها ، الّذي أضرمت المخدّرة المصونة مقباسها ، ووصلت البرّة الميمونة أمراسها ، وأقامت السجاعة المطرقة سوقها ، وأظهرت الأصيلة المعرقة فسوقها ، حتى قتلت رجالها ، وجدّلت أبطالها ، وعقر مركبها


(408)
وخاب مطلبها.
    فيالها فتنة كفر قتامها لراكبها ، وغمر غمامها كتائبها ، وبرقت بوارق صفاحها في سحائب غبرتها ، ولمعت أسنّة رماحها في ظلمة فترتها ، فكم اقتطفت فيها رؤوس ، واختطفت نفوس ، واُريق دم ، وبري قدم ، واُبين عضد وساعد ، واُبيد معاضد ومساعد ، أشنع فتنة في الاسلام حدثت ، وأفضع واقعة بها القصاص تحدّثت ، قطعت آجال رجالها بمصاعها ، وصبغت أثباج أبطالها بجريانها.
    يالها فتنة كانت رأساً لكلّ فتنة ، وبدعة وضعت أساساً لأقبح سنّة ، وهل قتال القاسطين إلا فرع شجرتها ؟ وهل جهاد المارقين إلا شزرة من جمرتها ؟ وهل اقتدى ابن حرب إلا بحربها ؟ وهل اغترف نجل هند إلا من شربها ؟ وهل نسج الطاغي إلا على منوالها ؟ وهل احتذى الباغي إلا بمثالها ؟
    وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه أثر جلاها ، وطلا عثناياها ، وفحل شولها ، وصاحب قولها ، وخائض هولها ، والمخصوص بقوّتها وحولها ، كبش الكتيبة ، مشهور الضريبة ، جبر صدع الاسلام ، لمّا كسر الأصنام ، ونصب من الحقّ الأعلام ، لمّا خفض الأنصاب والأزلام ، كم كسر بعامله منصوباً ؟ وكم وفّر من نائله نصيباً ؟ كاسر هبل الكفرة ، وعاقر جمل الغدرة ، الفائز من قداح النجدة بمعلّاها ، والحائز من خلال الشجاعة بأعلاها ، قاطع أمراس (1) البغاة ، وقالع أساس الطغاة ، منه تعلّم الناس الشجاعة في قتالهم ، ومن علومه فرّعوا مآخذ أقوالهم.
    بنصرته جماعة الحقّ نصرت ، وبطريقه طريقة العلم ظهرت ، لمّا صبغ
1 ـ المَرِس : الشديد الذي مارَسَ الامور وجرّبها : والجمع : أمراس.

(409)
الحمرة نجيع (1) الأبطال صعيد البصرة ، صار بياض وجه الاسلام لا يرهقه قترة ، لكن بقي خدّ الخارجة من عتبة بيتها لقتاله صار حالكاً ، وداخل فيضها من يدها منتزعاً هالكاً.
    دراية فرحها نكيساً ، وتدبير فكرها معكوساً ، وصارت كرّتها خاسرة ، وهمّتها قاصرة ، وسلعتها بائرة ، وخسرت الدنيا والآخرة ، وقرعت بقوارع الملام ، وكملت بمعابل الكلام.
    فيا من يصوّب آراءها ، ويداوي أدواءها ، ويستخفّ وزرها ، ويستقلّ شرّها ، ويسدّد اجتهادها ، ويصوّب مرادها ، لقد أبعدت مرماك ، واتّبعت هواك ، ومهّدت قاعدة نفاقك ، وغرست في ظلمة محاقك ، وأوردت تصحيح المعتلّ من فعل وترجيح المرجوع من نقلك ، لقد اجتثت اٌصولك ، وفسد معقولك ، وعتم قياسك ، وقلع أساسك ، واهملت قضيّتك ، وانقبضت بسطتك ، وفلّت غرستك ، وقلّت بطشتك.
    يا من عصت ربّها بخروجها وحربها ، وتعصّبت على مولاها بقالبها وقلبها ، أنّى لك هذه الشجاعة والقوّة ، والشدّة والنخوة ؟ أمن أبيك يوم خيبر ؟ أم من جدّك المبجّل الموقّر ، صاحب خوان بن جذعان ، وناصب أنصاب الأوثان ، أقتم قريش أصلاً ، وألأمهم فعلاً ، وأرذلهم بيتاً ، وأنذلهم حيّاً وميّتاً ... (2) من آل قصي ، ولا في السراة من بني لؤي ، فأنتم يا ابنة الكاذب المصدّق ، كما قال فيكم الشاعر وصدق :
ويقضي الأمر حين تغيب تيم فإنّك لو رأيـت عبـيد تـيم ولا يستأذنون وهم شهود وتيما قلت إنّهم العـبيـد

1 ـ النجيع : الدمُ.
2 ـ غير مقروءة في الأصل.


(410)
    فلعن الله ابن صهّاك المغتلمة ، ونجل البغيّة حنتمة ، فهو الّذي أعلى قدركم ، وأسمى ذكركم ، ورفع بعضكم ، وصحّح المكسّر من جمعكم ، وجعلكم أعلاماً تفضلون على أولياء الله ، تفخرون على أهل بيت نبيّكم وبهم فخركم ، وتتأمّرون على عترة وليّكم وبهم علا أمركم ، وزيّن الشيطان للاُمّة الضالّة اتّباعكم ، وصيّرهم أشياعكم وأتباعكم ، فاتّبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ، وأطاعوه إلا قليلاً من المخلصين ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وحرّفوا كلام الله بزخرفهم وغرورهم ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، ونصروا من أوجب العقل له أن يخذل ، ونصبوا الغوائل لأهل بيت نبيّهم ، وأراقوا القواتل لذرّيّة وليّهم ، وجعلوا أحفادهم إلى يوم الناس هذا عالة يتكفكفون ، وخاملين لا يعرفون.
    قد أبكم الفقر فصيحهم ، وقبح العسر صبيحهم ، يرهن أحدهم إزاره لسدّ فورته ، ويبذل مقداره لفرط عسرته ، منعتموهم ما فرض الله لهم في محكم تنزيله ، وحرمتموهم ما أوجب لهم من الحقّ على لسان رسوله ، حتى نكحت به الفروج المحرّمة ، واستبيحت من دين الله كلّ حرمة ، واشتريت منه البغايا والقيان ، وصار زمام الاسلام بأيدي عبدة الصلبان ، فأنتم أصل البلاء ، وفرع الشقاء ، وحمة الشيطان ، وجمة البهتان ، هذه الشجرة الملعونة في القرآن ، والطائفة المارقة عن الايمان ، أعداء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، قربتموها وكان أحقّ أن تبعد ، ونشأتموها وكان أولى أن تعضد ، وغرستم أصلها على رقاب المؤمنين ، وسقيتم فرعها بدماء المهاجرين الأوّلين ، رآهم الرسول ينزون على منبره نزو القردة فما رئي بعد ضاحكاً حتى بلغ من الحياة أمده.
    روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنّ رسول الله صلّى الله


(411)
عليه وآله رأى في منامه أنّ قروداً تنزوا على منبره وتنزل وتصعد ، فساءه ذلك واغتمّ ، ولم ير بعدها ضاحكاً حتى مات.
    ( والشجرةَ الملعونةَ في القرآنِ ) (1) هم بنو اُميّة أخبره سبحانه بتغلّبهم (2) على مقامه وقتلهم ذرّيّته. (3)
    روي عن منهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليه السلام ، فقلت : كيف أصبحت ، يا ابن رسول الله ؟
    قال : أصبحنا والله كبني إسرائيل في أيدي القبط ، يذبّحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وأصبح خير البريّة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله يلعن على المنابر ، وأصبح من يحبّنا منقوصاً حقّه بحبّه إيّانا. (4)
    وقيل للحسن البصري : يا أبا سعيد ، قتل الحسين بن علي عليه السلام ،
1 ـ سورة الاسراء : 60.
2 ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : تغليبهم.
3 ـ انظر : كتاب سليم بن قيس : 153 ، سنن الترمذي : 5 / 414 ح 3350 ، الكافي : 8 / 222 ح 280 ، تفسير العيّاشي : 2 / 298 ح 98 ، تفسير القمّي : 2 / 431 ، مستدرك الحاكم : 3 / 170 ـ 171 ، أمالي الطوسي : 2 / 300 ، إعلام الورى : 46 ، مجمع البيان : 3 / 424 ، ترجمة الامام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق : 198 ح 327 ، مناقب ابن شهراشوب : 4 / 35 ـ 36 ، تفسير الرازي : 20 / 236 ، الكامل في التاريخ : 3 / 407 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 16 ، تفسير القرطبي ، 20 / 132 ، البداية والنهاية : 10 / 48 ، تأويل الآيات : 1 / 281 ح 12 ، تفسير الصافي : 5 / 351 ، إثبات الهداة : 1 / 156 ح 16 وص 366 ح 479 ، البحار : 44 / 58 ح 7 ، وج 61 / 155 وص 168 ح 23 ، تفسير نور الثقلين : 3 / 180 ح 281 ، وج 4 / 65 ـ 66 ح 87.
4 ـ انظر : مقتل الخوارزمي : 2 / 71 ـ 72 ، مجمع البيان : 3 / 424 ، مناقب ابن شهراشوب : 4 / 169 ، البحار : 45 / 175 ضمن ح 22 ، عوالم العلوم : 17 / 409 ـ 410 ضمن ح 6 ، إحقاق الحقّ : 12 / 121.


(412)
فبكى حتى اختلج جنباه ، ثم قال : واذلّاه لاُمّةٍ قتل ابن دعيّها ابن بنت نبيّها. (1)
    فهل تجرّوا على أولياء الله إلا بكم ؟ وهل ألحدوا في دين الله إلا بسببكم ؟ ما أقام أبوك ابن صهّاك والياً من بعده ولا قلّده ولاية عهده إلا لعلمه بقوّة شقاقه ، وشدّة نفاقه ، وعظيم إلحاده ، وعميم فساده ، فقام عدوّ الله ناسجاً على منواله ، مقتدياً بأقواله وأفعاله ، فرفع بضبع المنافق الشقيّ ، وأعلا كعب المارق الغويّ ، أعني ابن هند البغيّة ، رأس العصابة الأمويّة ، فولّاه رقاب المسلمين ، وأذلّ بتوليته أعلام المؤمنين ، ومهّد له قواعد ظلم الأطهار ، وأوضح له مقاصد هضم الأخيار ، وقرن دولته بدولته ، وولايته بولايته ، ثمّ جعل الأمر شورى بعد انقضاء أجله ، وانتهاء اُكله ، بيد ابن عوفه قرين الشيطان وأليفه ، رأس الغدرة الكذبة ، أصحاب ليلة العقبة ، الذي نصبوا الغوائل لنبيّهم ، وأضمروا له القواتل بغيّهم ، وراموا تنفير ناقته ، واستئصال شأفته ، وأطلع الله نبيّه على ما أضمروا ، وحاق بهم سيّئات ما مكروا.
    ما أدخله الزنيم في مشورته ، ولا جعله اللعين قياس نتيجته ، إلا لعلمه بخبث سريرته ، وسوء عقيدته ، وبغضه للحقّ وأهله ، وتعصّبه للباطل بقوله وفعله ، فجعلها في البيت الّذي رسخت في الشرك قوائمه ، وشمخت بالظلم دعائمه ، وشقيت بالنفاق شجرته ، وشاعت في الآفاق بدعته.
    أوّل الاثمة ، وثالث الظلمة ، وفرع الشجرة الملعونة ورأس الاُمّة المفتونة ، حتى إذا قام منه زرع الباطل على سوقه ، وعمّ المسلمين بظلمه وفسوقه ، أجمعت الاُمّة على خلعه وخذله ، واجتمعت لحربه وقتله ، وسقته من كؤوس
1 ـ مجمع البيان : 61 / 155.

(413)
المنون صبراً ، واخترمته بسيوف الحتوف صبراً ، وأعادته طريحاً مهيناً ، وطليحاً ظميناً ، وأخرجه الله من دار الفناء ملوماً محسوراً ، وأعدّ له جهنّم وساءت مصيراً ، حتى إذا عاد الحقّ إلى أهله ، والتفّ الفرع على أصله ، وقام بأمر الله وليّه الكامل ، وجاء الحق وزهق الباطل ، ظهر كامن غلّك وحسدكِ ، واشتعلت نار البغي في فؤادك وجسدكِ ، وشيّدتِ ما شيّد أبوك وعمّكِ ، وأظهرت الطلب بدم المخذول بزعمكِ ، ونصر الله الحقّ على رغمك ، وخاب من سهام الخير وعد سهمك.
    ثمّ لم يزل غلّك يغلي عليكِ ، وحقدك يلقى إليك ، والخنّاس يوسوس في صدرك ، وينفث في سرّك ، حتى أغريت الجبّار العنيد بعدواته ، وحمّلت الشيطان المريد على مناجزته ، فكفر الطليق بأنعم ربّه ، وأجهد اللصيق جهده في حربه ، ورابطه ثمانية عشر شهراً ، مجدّاً في عداوته سرّاً وجهراً ، فلولا خليفة أبيك ، ونتيجة ذويك ، لما حصل ما حصل ، ولا اتّصل من اتّصل ، فأنتم أصل البغي وفرعه ، وموقف الظلم وجمعه ، ووتر العدوان وشفعه ، وبصر الشيطان وسمعه ، فلعنة الله على اُصولك الماضية ، وقرونك الخالية ، وجموعك الباغية ، وجنودك الطاغية ، لعناً لا انقطاع لعدده ، ولا نفاد لأمده ، آمين ربّ العالمين.
    ولنرجع إلى تمام المجلس :
    نزل صلوات الله عليه بعد انقضاء الحرب في الرحبة السادس من رجب وخطب فقال : الحمد لله الذي نصر وليّه ، وخذل عدوّه ، وأعزّ الصادق المحقّ ، وأذلّ الناكث المبطل.
    ثمّ إنّه عليه السلام دعا الأشعث بن قيس من ثغر آذربايجان ، والأحنف


(414)
بن قيس من البصرة ، وجرير بن عبد الله البجلي من همذان فأتوه إلى (1) الكوفة ، ووجّه جرير إلى معاوية يدعوه إلى طاعته. (2)
    وأمّا عائشة فإنّ أمير المؤمنين ردّها إلى المدينة وأرسل معها قريباً من مائتي امرأة (3) ، فلم تلبث إلا قليلاً حتى لحقت بمعاوية بالشام ووضعت قميص عثمان ملطّخاً بالدم على رأسها.
    فقال عمرو لمعاوية : حرّك لها جوارها نحن (4) ، فأخذه معاوية وصعد المنبر ، فكان من أمر صفّين ما أنا ذاكره :
    لمّا قدم جرير على معاوية يدعوه إلى طاعة أمير المؤمنين عليه السلام توقّف معاوية وماطل جرير وطاوله حتى قدم عليه شرحبيل ، فصعد معاوية المنبر وخطب ، وقال : أيّها الناس ، قد علمتم أنّي خليفة عمر وعثمان ، وقد قتل عثمان مظلوماً ، وأنا وليّه وابن عمّه وأولى الناس بالطلب بدمه ، فما رأيكم ؟
    فقالوا : نحن طالبون بدمه.
    فدعا عمرو بن العاص ووعده أن يطعمه مصر ـ وكان والياً عليها من قبل عثمان ـ فسار إليه ، وكان يتثاقل في مسيره.
    فقال له غلام له يقال له وردان ، تفكّر في أمرك انّ الآخرة مع عليّ والدنيا مع معاوية.
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : فأقره في.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 164.
3 ـ انظر : تاريخ اليعقوبي : 2 / 183 ، تذكرة الخواصّ : 81 ، تاريخ الطبري : 4 / 544 ، تجارب الاُمم : 1 / 331 ، الكامل في التاريخ : 3 / 258 ، فقد ذكرت فيهما كيفيّة إرسال عائشة إلى المدينة ، وفي عدد النساء اللاتي أرسلهنّ أمير المؤمنين عليه السلام مع عائشة اختلاف.
4 ـ كذا في الأصل.


(415)
    فقال عمرو :
يا قاتل الله ورداناً وفطنته لقد أصاب الّذي في القلب وردان (1)
    فقال له ابن عمرو :
ألا يا عمرو ما أحرزت نصراً أبعت الديـن بالدنيـا خساراً ولا أنت الغداة إلى رشادِ فأنت لذاك من شرّ العبادِ
    [ فانصرف جرير ، ] (2) وكتب معاوية إلى أهل المدينة : إنّ عثمان قتل مظلوماً ، وعليّ آوى قتلته ، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه ، وجعلنا الأمر شورى بين المسلمين كما جعله عمر عند وفاته ، فانهضوا معنا ـ رحمكم الله ـ إلى حربه.
    فأجابوه بكتاب :
معاوي إنّ الحـقّ أبلـج واضـحٌ نصبت لك (4) اليوم ابن عفّان خدعة وليس كا ربصت (3) أنت ولا عمرو كما نصب الشيخان إذ زخرف الأمر

1 ـ البيت في المناقب هكذا :
    لا قاتل الله ورداناً وابنه أبدى لعمري ما في الصدر وردان.
2 ـ من المناقب.
3 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل غير مقروءة.
4 ـ في المناقب : لنا.


(416)
رميتم عليّاً بالذي لم يضـرّه فما ذنبه إن نال عثمان معشر وكان عليّ لازماً قعر بيـته فما أنتما لا درّ درّ أبـيكـما فما أنتما والنصر منّا وأنتما وليس له في ذاك نهي (1) ولا أمر أتوه من الأحياء يـجمـعهم مصر (2) وهمّته التسبيح والحـمد والـذكر وذكركم الشورى وقد وضح الأمر طليقا اُسارى ما تبوح به الـخمر (3)
    وأرسل معاوية أبا مسلم الخولاني بكتاب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، من جملته :
    وكان أنصحهم لله خليفة الأوّل ، ثم خليفة خليفته ، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلماً ، فكلّهم حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، عرفنا ذلك من (4) نظرك الشزر ، وقولك الهجر ، وتنفّسك الصعداء ، وإبطاؤك عن الخلفاء ، وفي كلّ ذلك تقاد كما يقاد الجمل المغشوش ، ولم تكن لأحدٍ [ منهم ] (5) أشدّ حسداً منك لابن
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : سعي.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل غير مقروءة.
3 ـ في المناقب : طليق اُسارى ما تبوح بها الخمر.
4 ـ في المناقب : ثم.
5 ـ من المناقب.


(417)
عمّك ، وكان أحقّهم إلا تفعل [ ذلك ] (1) لقرابته وفضله ، فقطعت رحمه ، قبّحت حسنه ، وأظهرت له العداوة ، وبطنت له بالغشّ ، وألّبت الناس عليه ، فقتل معك في المحلّة ، وأنت تسمع الواعية (2) ، لا تدرأ عنه بقول ولا فعل.
    فلمّا وصل أبو مسلم وقرأ الكتاب على الناس قالوا : كلّنا قاتلون ، ولأفعاله منكرون.
    فكان جواب أمير المؤمنين عليه السلام :
    وبعد ، فإنّي رأيتك قد أكثرتَ في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون من بيعتي ، ثمّ حاكم القوم إليّ أحملكم على كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله ، وأمّا الّذي تريده في خدعة (3) الصبي عن اللبن ، ولعمري لئن نظرت بعقلك [ دون هواك ] (4) لعلمت أنّي من أبرأ الناس من دم عثمان ، وقد علمت أنّك من أبناء الطلقاء الّذين لا تحلّ لهم الخلافة.
    قال : ثم صعد عليه السلام المنبر وحضّهم على ذلك.
    قال ابن مردويه : قال قيس بن أبي حازم التميمي وأبو وائل : قال أمير المؤمنين عليه السلام : انفروا إلى بقية الأحزاب وأولياء الشيطان ، انفروا إلى من يقول كذب الله ورسوله.
    وجاء رجل من عبس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسئل : ما الخبر ؟ فقال : إنّ في الشام يلعنون قتلة عثمان ، ويبكون على قميصه.
1 و 4 ـ من المناقب.
2 ـ في المناقب : الهائعة.
3 ـ في المناقب : وأمّا تلك التي تريدها فإنّها خدعة.


(418)
    فقال عليه السلام : ما قميص عثمان بقميص يوسف ، ولا بكاؤهم عليه إلا كبكاء أولاد يعقوب ، فامّا فتح الكتاب وجده بياضاً فحولق.
    وكتب معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام : ليت القيامة قد قامت فترى المحقّ من المبطل.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( يستعجلٌ بها الذينَ لا يؤمنون بهَا والذين آمنوا مشفقون منها ) (1).
    وكتب معاوية أيضاً إلى أمير المؤمنين ـ بعد كلام طويل ـ :
    يا عليّ ، اتّق الله ، ولا تفسدنّ سابقة قدمك ، وذر الحسد فلطالما لم ينتفع به أهله ، فإنّ الأعمال بخواتيمها ، ولا تعمدن بباطل في حقّ من لا حقّ له ، فإنّ تفعل ذلك فلن تضرّ الا نفسك ، ولا تمحق الا عملك.
    فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام ـ بعد كالم طويل ـ :
    عظتي لا تنفع من حقّت عليه كلمة العذاب ، ولم يخف العقاب ، ولا يرجو الله وقاراً ، ولم يخف إلا حذاراً (2) ، فشأنك وما أنت عليه من الضلالة والحيرة والجهالة تجد الله عزّ وجلّ في ذلك بالمرصاد.
    ثم قال في آخر كلامه :
    فأنا أبو الحسن قاتل جدّك عتبة ، وعمّك شيبة ، وخالك الوليد بن عتبة ، وأخيك حنظلة الذين سفك الله دماءهم على يدي في يوم بدر ، وذلك السيف معي ، وبذلك القلب ألقى عدوّي.
1 ـ سورة الشورى : 18.
2 ـ في المناقب : ولم يخف حذاراً.


(419)
    [ ومن كلامه : ] (1) ومتى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوفين ، فالبث قليلاً تلحق الهيجاء جمّل ، فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك من تستبعد ، وأنا مرقل نحوك في جحفل (2) من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطع قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، قد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصلها في أخيك وخالك وجدّك ، وما هي من الظالمين ببعيد.
    فنهاه عمرو عن مكاتبته ولم يكتب بعدها الا بيتاً واحداً :
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلا وضرب الرقاب
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : قاتلت الناكثين هؤلاء القاسطين وساُقاتل المارقين ، ثمّ سار أمير المؤمنين راكباً فرس رسول الله صلّى الله عليه وآله وقصده في تسعين ألفاً.
    قال سعيد بن جبير : منها تسعمائة رجل من الأنصار وثمانمائة من المهاجرين.
    وقال عبد الرحمان بن أبي ليلى : وسبعون رجلاً من أهل بدر ؛ وقيل : مائة وثلاثون رجلا.
    وخرج معاوية في مائة ألف وعشرين ألف ، يتقدّمهم مروان وقد تقلّد بسيف عثمان ، فنزل [ صفّين ] (3) في المحرّم على شريعة الفرات.
1 ـ من المناقب.
2 ـ المرقل : المسرع. والجحفل : الجيش.
3 ـ من المناقب.


(420)
    ومنعوا عسكر أمير المؤمنين عليه السلام من الماء ، فأنفذ أمير المؤمنين صعصعة (1) بن صوحان العبدي فقال في ذلك عنفاً.
    فقال معاوية : أنتم قتلتم عثمان عطشاً.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء والموت في حياتكم قاهرين خير من الحياة في دنياكم مقهورين (2).
    وقال الأشتر رضي الله عنه :
ميعادنا الآن بياض الصبح لا يصلح الزاد بغير ملحِ
    وحملوا في سبعة عشر ألف رجل حملة واحدة فغرق بعضهم ولزم الباقون من عسكر معاوية ، فملك الشريعة أصحاب علي عليه السلام ، فأمر أمير المؤمنين أن لا يمنعوهم من الماء ، وكان نزوله عليه السلام بصفّين لليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وثلاثين ، فأمر معاوية النقّابين أن ينقّبوا تحت عسكر عليّ أمير المؤمنين عليه السلام.
    فقال أمير المؤمنين :
فلو أنّي أطعت عصيت قومي ولكنّـي إذا أبـرمـت أمراً إلى ركن اليمامة أو شئام تخالفـني أقاويل الطغام
    فتقدّم الأشتر وقتل صالح بن فيروز العكّي (3) ومالك بن الأدهم وزيد (4) بن عبيد
1 ـ في المناقب : شبث بن ربعي الرياحي وصعصعة.
2 ـ في المناقب : في موتكم قاهرين.
3 ـ كذا في وقعة صفّين : 174 ، وفي الأصل : العاملي ، وفي المناقب : العتلي.
    وفي وقعة صفّين هكذا عدّ الباقين : ومالك بن أدهم السلماني ، ورياح بن عتيك الغسّاني ، والأجلح بن منصور الكندي ـ وكان فارس أهل الشام ـ وإبراهيم بن وضّاح
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس