تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 421 ـ 435
(421)
الكناني وزامل بن عبيد الخزاعي ومالك بن روضة الجُمحي مبارزة. وطعن الأشعث لشُرحِبِيل بن السِمط ولأبي الأعور السلمي ، فخرج حوشب ذو الظليم وذو الكلاع في نفر فقالوا : أمهلونا هذه الليلة :
    فقالوا : لا نبيت إلّا في معسكرنا ، فانكشفوا.
    ثم إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أنفذ سعيد بن قيس الهمداني وبشر (5) بن عمرو الأنصاري إلى معاوية ليدعواه إلى الحق فانصرفا بعد ما احتجّا عليه.
    ثم أنفذ أمير المؤمنين عليه السلام [ شبث بن ربقي و ] (6) عديّ بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وزياد بن خصفة (7) بمثل ذلك ، فكان معاوية يقول : سلّموا إلينا قتلة عثمان لنقتلهم به ، ثمّ نعتزل الأمر حتى يكون شورى ، فتقاتلوا في ذي الحجّة وأمسكوا في المحرّم ، فلمّا استهلّ صفر سنة سبع وثلاثين أمر أمير المؤمنين عليه السلام فنودي في عسكر الشام بالاعذار والانذار ، ثم عبّى عسكره فجعل على ميمنة الجيش الحسنين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل ، وعلى ميسرته محمد بن الحنفيّة ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال ، وعلى القلب عبد الله بن العبّاس والعبّاس بن ربيعة بن الحارث والأشتر والأشعث ، وعلى الجناح سعد (8) بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ورفاعة بن شدّاد البجلي وعديّ بن حاتم ، وعلى الكمين عمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة الكناني وقبيصة بن
الجُمحي ، وزامل بن عبيد الله الحِزامي ، ومحمد بن روضة الجُمحي.
4 ـ في المناقب : زياد.
5 ـ في وقعة صفّين : بشير. وأضاف إليهما شبث بن رِبعي التميمي.
6 ـ من وقعة صفّين والمناقب.
7 ـ كذا في وقعة صفّين ، وفي الأصل والمناقب : حفص.
8 ـ كذا في وقعة صفّين والمناقب ، وفي الأصل : سعيد. وكذا في الموضع الآتي.


(422)
جابر الأسدي.
    وجعل معاوية على ميمنته ذاالكَلاع الحميري وحوشب ذاالظليم ، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مَسلمة ، وعلى القلب الضحّاك بن قيس الفهري وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد ، وعلى الساقة بسر بن أرطاة الفهري ، وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاري وهمام بن قبيصة النمري ، وعلى الكمين أبا الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي.
    فبعث أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية أن اخرج إليّ اُبارزك ، فلم يفعل ، وقد جرى بين العسكرين أربعون وقعة تغلّب فيها أهل العراق : أوّلها يوم الأربعاء بين الأشتر وحبيب بن مسلمة ، والثانية بين المرقال و [ أبي ] (1) الأعور السلمي ، والثالثة بين عمّار وعمرو بن العاص ، والرابعة بين محمد بن الحنفيّة وعبيدالله بن عمر ، والخامسة بين عبد الله بن عبّاس والوليد بن عقبة ، والسادسة بين سعد بن قيس وذي الكلاع ، إلى تمام الأربعين ، وكان آخرها ليلة الهرير. (2)
    ولأبطال أهل العراق مع أبطال أهل الشام وقعات وحروب وأشعار لا نطوّل بذكرها خوف الملل ، ففي بعض أيّامها جال أمير المؤمنين عليه السلام في الميدان قائلاً :
أنا علي فاسـألوني تخبروا سيفي حسام وسناني يزهرُ وحمزة الخير ومـنّا جعفر ثمّ ابرزوا لي في الوغى وابتدروا منّا النـبـي الـطاهر المـطّهرُ وفـاطـمُ عرسـي وفيـها مفخرُ

1 ـ من المناقب.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 164 ـ 169.


(423)
هذا لهذا وابن هند محجرٌ مذبذب مطرد مؤخّر
    فاستلحقه (1) عمرو بن الحصين السكوني على أن يطعنه فرآه سعيد بن قيس فطعنه.
    وأنفذ معاوية ذا الكلاع إلى بني همدان فاشتبكت الحرب بينهم إلى الليل ، ثم انهزم أهل الشام ، وأنشد أمير المؤمنين عليه السلام :
فوارس من همدان ليسوا بعزل يقودهـم حـامي الحقيقة ماجد جزى الله همدان الجنان فإنّهم غداة الوغى من شاكر وشبام سعيد بن قيس والكريم محام سهام العدى في يوم كلّ حمام (2)
    ونادى خال السدوسي من أصحاب علي عليه السلام : من يبايعني على الموت ؟ فأجابه تسعة آلاف ، فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية ، فهرب معاوية فنهبوا فسطاطه ، وأنفذ معاوية إليه : يا خالد ، لك عندي إمرة خراسان [ متى ] (3) ظفرت فاقصر ويحك عن فعالك هذا ، فنكل عنه ، فتفل أصحابه في وجهه وحاربوا إلى الليل.
    وخرج حمزة بن مالك الهمداني من أصحاب معاوية قائلاً لهاشم المرقال :
يا أعور العين وما فينا عور نبغي ابن عفّان ونلحَى من غَدَر (4)

1 ـ في المناقب : فاستخلفه.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 171 ـ 172.
3 ـ من المناقب.
4 ـ اورد الأرجاز في وقعة صفّين : 347 هكذا :
يا أعور العين وما بي من عَوَر نحن اليمانون وما فينا خَوَر أثُبت فإنّي لستُ من فَرعَي مُضر كيـفَ ترى وقع غُلامٍ من عُذَر

(424)
    فقتله المرقال ، فهجموا على المرقال فقتلوه رحمة الله عليه ، فأخذ سفيان بن الثور رايته (1) فقاتل حتى قتل ، فأخذها عتبة بن المرقال فقاتل حتى قتل ، فأخذها أبو الطفيل الكناني مرتجزاً :
يا هاشم الخير دخلت الجنّة قتلت في الله عدوّ السنّة (2)
    فقاتل حتى جرح فرجع القهقرى ، وأخذها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي مرتجزاً :
أضربكم ولا أرى مـعاويه هوت به في النار اُمّ هاوية أبرج العين العظيم الحاويه (3) جاوَرَه (4) فيها كلاب عاويه (4)
    فهجموا عليه فقتلوه ، فأخذها عمرو بن الحمق وقاتل أشدّ قتال ، وخرج من أصحاب معاوية ذو الظليم ، وبرز من عسكر عليّ عليه السلام سليمان بن صرد الخزاعي ، وحملت الأنصار معه حملة رجل واحد ، فقُتل ذو الظليم وذو
يَنعى ابن عَفّانٍ ويَلحى مَن غَدَر سِيّان عِندي مَن سَعى ومن أمَر
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : فجزّ شيبان بن الثور رأسه. وهو تصحيف.
2 ـ أورد الأرجاز في وقعة صفّين : 359 هكذا :
يا هاشمَ الخَيرِ جُزيتَ الجنّه والتاركي الحقّ وأهلَ الظنّه صيّـرني الدَهر كأنّي شَنّه قاتلـتَ في الله عدوّ السّنّه أعظِم بِِما فُزتَ به من مِنّه يا ليتَ أهلي قد عَلَوني رَنّه
من حَوْبةٍ وعَمَّةٍ وَكَنَّهْ
3 ـ الأبرج العين : أي كان بياضها محدقاً بالسواد كلّه. والحاوية : الأمعاء.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : خاوية.
5 ـ نسب هذه الأرجاز في وقعة صفّين : 399 إلى مالك الأشتر ، وبهذا اللفظ :
أضربـُهَمْ ولا أرى مُعاويهْ هوتْ به في النار اُمّ هاويه الأخزَرَ العَين العظيمَ الحاويهْ جاورهُ فيـهاَ كـلابٌ عاويهْ
أغوى طَغاماً لاهَدَته هاديه

(425)
الكلاع وساروا (1) إليهم وكاد معاوية يؤخذ.
    وخرج عبدالله بن عمر ودعا محمد بن الحنفية إلى البراز ، فنهض محمد فنهاه أبوه ، وكان لعنة الله عليه وعلى أبيه يقول :
أنا عُبيد الله ينميني عمر خيرُ قريشٍ مَن مضى ومن غَبرْ
    فقتله عبد الله بن سوار ؛ ويقال : حريث بن خالد (2) ؛ ويقال : هانئ بن الخطّاب : ويقال : محمد بن الصبيح ، فأمر معاوية بتقديم سبعين راية ، وبرز عمّار في رايات ، فقُتل من أصحاب معاوية سبعمائة رجل ، ومن أصحاب عليّ مائتا رجل.
    وخرج العراد بن الأدهم ودعا العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، فقتله العبّاس ، فنهاه عليّ عليه السلام عن المبارزة ، فقال معاوية : من قتل العبّاس فله عندي كذا ما يشاء ، فخرج رجلان لخميان (3) ، فدعاه أحدهما إلى البراز.
    فقال : إن أذن لي سيّدي اُبارزك ، وأتى عليّاً عليه السلام ، فلبس عليّ سلاح العبّاس ، وركب فرسه متنكّراً.
    فقال الرجل : أذن لك سيّدك ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ( اُذِنَ للّذينَ يقاتَلونَ بأنّهم ظلموا ) (4) فقتله ، ثمّ برز الآخر ، فقتله.
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وساير ، وفي وقعة صفّين : واستدار القوم.
2 ـ في وقعة صفّين : 299 : حُريث بن جابر الحنفيّ.
3 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : نحيبان.
    واللخم : حيّ باليمن.
4 ـ سورة الحجّ : 39.


(426)
    وخرج حَجل بن عامر (1) العبسي فطلب البراز ، فبرز إليه ابنه (2) اُثال ، فلمّا رآه أبوه قال : انصرف إلى أهل الشام فإنّ فيها أموالاً جمّة فقال ابنه : يا أبة انصرف إلينا فجنّة الخلد مع عليّ.
    وعبّى معاوية أربعة صفوف فتقدّم أبو الأعور السلمي يحرّض أهل الشام ، ويقول : يا أهل الشام ، إيّاكم والفرار فإنّه سبّة وعار ، فدقّوا [ على ] (3) أهل العراق ، فإنّهم أهل فتنة ونفاق ، فبرز سعيد بن قيس وعديّ بن حاتم والأشتر والأشعث ، فقتلوا منهم ثلاثة آلاف ونيّفاً ، وانهزم الباقون.
    وبرز عبدالله بن جعفر فقتل خلقا كثيراً حتى استغاث عمرو بن العاص ، وأتى اُويس القرني وهو متقلّد بسيفين ؛ وقيل : كان معه مرماة ومخلاة من الحصى ، فسلّم على أمير المؤمنين عليه السلام وودّعه وبرز مع (4) رجّالة ربيعة ، فقتل من يومه ، فصلّى عليه أمير المؤمنين ودفنه.
    ثم إنّ عمّار كان يقاتل ويقول :
نحن قتلناكم (5) على تنزيله ضرباً يزيل الهامَ عن مَقيله ثمّ قتلناكم على تأويـله ويذهِل الخليل عن خليله (6)

1 ـ في الأصل والمناقب : حجل بن اُثال ، والصحيح ما أثبتناه وفقاً لوقعة صفّين : 443.
2 ـ كذا في المناقب ، وهو الصحيح ، وفي الأصل : أبوه.
3 ـ من المناقب.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : معه.
5 ـ في المناقب : ضربناكم.
6 ـ أورد الرجز في وقعة صفّين : 341 هكذا.
نحن ضربناكم على تنزيله ضرباً يُزِيلُ الهامَ عن مَقيلهِ فاليوم نضربكم على تأويله ويذهـل الـخليلَ عن خليله
أو يرجعَ الحقُّ إلى سبيلهِ
    وما في المناقب يختلف عمّا هو في الأصل ووقعة صفّين.


(427)
    ثم قال : والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وهم على الباطل. (1)
    وبرز أمير المؤمنين عليه السلام ودعا معاوية وقال : أسألك أن تحقن دماء المسلمين وتبرز إليّ وأبرز إليك ، فيكون الأمر لمن غلب ، فبهت معاوية ولم ينطق بحرف ، فحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الميمنة فأزالها ، ثم حمل على الميسرة فطحنها ، ثم حمل على القلب وقتل منهم جماعة ، ثم أنشد :
فهل لك في (2) أبي حسن عليّ دعـاك إلى البراز فكعت عنه لعلّ الله يمكّن من قفاكا ولو بارزته تربت (3) يداكا
    وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام وخرج متنكّراً ، فخرج عمرو بن العاص مرتجزاً :
يا قادة الكوفة من أهل الفتن كفى بهذا حَزَناً مِنَ (4) الحَزَن يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن أضربكم ولا أرى أبا الحسن (5)

1 ـ قوله : « ثمّ قال : والله ... على الباطل » ليس في المناقب. وسيأتي هذا الكلام مكرّراً في ص 450 ، فراجع.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : من.
3 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : ثبّت. وانظر الأبيات في وقعة صفّين : 432.
4 ـ في المناقب : مع.
5 ـ رويت هذه الأرجاز والأرجاز التي تليها في وقعة صفّين : 371 منسوبة إلى عمرو بن العاص ، وبهذا اللفظ :
أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن يرضى به الشام إلى أرض عدن يأيّها الأشرافُ مـن أهـل اليمن أعني عليّاً وابنَ عـمّ الـمؤتَمَن الماجدُ الأبلجُ ليث كالشـطن يا قادة الكوفة من أهـل الفتن أضربكم ولا أرى أبا حـسن كفى بهذا حَزَناً مـن الحَـزَن

(428)
    فتناكل (1) عنه عليّ عليه السلام رجاء أن بتبعه عمرو ، فتبعه ، فرجع أمير المؤمنين إليه مرتجزاً :
أنا الـغلام الـقرشـيّ المؤتمن يرضى به السادة من أهل اليمن أبو الحسين فاعلمن وأبو الحسن الماجدُ الأبلج ليـث كـالشطن (2) [ من ساكني نجد ومن أهل عَدَن ] (3) جاك يقـتاد العـنان والرسـن
    فولّى عمرو هارباً ، فطعنه أمير المؤمنين فوقعت في ذيل درعه ، فاستلقى على قفاه وأبدى عورته ، فصفح عنه أمير المؤمنين استحياء وتكرّماً.
    فقال له معاوية : أحمد الله الذي عافاك ، وأحمد استك الّذي وقاك.
    ففي ذلك يقول أبو نؤاس :
فلا خير في دفع الأذى (4) بمذلّة كما ردّها يوماً بسوءته عمرو
    ثمّ دعا أمير المؤمنين معاوية إلى البراز ، فنكل عنه ، فخرج بسر بن أرطاة طامعاً في عليّ ، فصرعه أمير المؤمنين عليه السلام ، فاستلقى على قفاه وكشف عورته ، فانصرف عليّ عليه السلام.
    فقال أهل العراق (5) : ويلكم يا أهل الشام ، أما تستحيون من معاملة المخانيث ؟ لقد علّمكم رأس المخانيث عمرو في الحرب كشف الاساءة.
    ولمّا رأى معاوية كثرة براز عليّ أخذ في الخديعة ، فأنفذ عمرو إلى ربيعة
1 ـ أي نكص وأظهر الجبن.
2 ـ الأبلج : المشرق الوجه أو منفصل الحاجبين. والشطن : الحبل المضطرب أو الطويل.
3 ـ من المانقب ، وليس فيه العجز الأخير : « جاك يقتاد ... ».
4 ـ في المناقب : الردى.
5 ـ نسب هذا القول في المناقب إلى أمير المؤمنين عليه السلام.


(429)
فوقعوا فيه ، فقال : اكتب إلى ابن عبّاس وغرّه ، فكتب :
طال البلاء فما يدرى له آسِ بعد الإله سوى رِفق ابن عبّاسِ
    فكان جواب ابن عبّاس :
يا عمرو حسـبك من خَدعٍ ووَسواسِ إلاّ بــوادر (2) طعن فـي نحوركم إن عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً فاذهب فمالك فـي ترك الهدى (1) آسِ تشجى النفوس لـه فـي النقع إفلاسِ في الأرض أو سلّماً في الاُفق يا قاسي
    ثمّ كتب إليه معاوية أيضاً :
    إنّما بي من قريش ستّة نفر : أنا وعمرو بالشام ، وسعد وابن عمر في الحجاز ، وعلي وأنت في العراق ، على خطبٍ عظيم ، ولو بويع لك بعد عثمان لأسرعنا فيه.
    فأجابه ابن عبّاس :
دعوتَ ابن عبّاس إلى السلم خدعة (3) وليس لها حتى تموت بقابِل (4)

1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الأذى.
2 ـ البوادر : جمع البادرة ، طرف السهم من جهة النصل. وفي وقعة صفّين : 413 : تواتر.
3 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : بدعة.
4 ـ في المناقب : بخادع. والأبيات طويلة وردت في وقعة صفّين : 416 منسوبة إلى الفضل ابن عبّاس.


(430)
    وكتب إلى عليّ عليه السلام :
    أمّا بعد ، فإنّا لو علمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لِمَ تجهّمنا بعضنا على بعض ؟ وإن كنّا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرمّ (1) به ما مضى ، ونصلح به ما بقي ، وقد كنت سألتك الشام على ألاّ تلزمني لك طاعة ولا بيعة ، فأبيتَ ، وأن أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإنّك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ، ولاتخاف من الفناء الا ما أخاف ، وقد والله رقّت الأجساد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذلّ به عزيز ، ويسترقّ به حرّ.
    فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام :
    أمّا قولك إنّ الحرب قد أكلت العرب الا حشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحقّ فإلى النار ، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك [ اليوم ] (2) ما منعتك أمس ، وما استواؤنا في الخوف والرجاء (3) ، فلست أمضي على الشكّ منّي على اليقين ، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة.
    وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، وليس اُميّة كهاشم ، ولا حرب كعبد المطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا الطليق كالمهاجر ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحقّ كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، وفي أيدينا فضل النبوّة الذي أذللنا به العزيز ، وأنعشنا به الذليل ، وبعنا بها الحرّ.
1 ـ في المناقب : نصلح. وكلاهما بمعنى واحد.
2 ـ من المناقب.
3 ـ في المناقب : والرضا.


(431)
    وأمر معاوية ابن خَديج الكندي أن يكاتب الأشعث ، والنعمان بن بشير أن يكاتب قيس بن سعد في الصلح ، ثمّ أنفذ عمراً وحبيب بن مسلمة والضحّاك بن قيس إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا كلّموه قال : أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، فإن تجيبوا إلى ذلك فللرشد أصبتم ، وللخير وفّقتم ، وإن تابوا لم تزدادوا من الله الا بعداً.
    فقالوا : قد رأينا أن تنصرف عنّا فنخلّي بينكم وبين عراقكم ، وتخلّون بيننا وبين شامنا ، فتحقن (1) دماء المسلمين.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : لم أجد إلا القتال أو الكفر بما اُنزل على محمد صلّى الله عليه وآله.
    ثمّ برز الأشتر وقال : سوّوا صفوفكم.
    وقال أمير المؤمنين عليه السلام : أيّها الناس ، من بيع يربح في هذا اليوم ـ في كلام له ـ ألا إنّ خضاب النساء حنّاء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير في عواقب الاُمور ، ألا إنّها إحن بدريّة ، وضغائن اُحديّة ، وأحقاد جاهليّة ، ثم قرأ عليه السلام : ( فقاتلوا أئمّة الكفرِ إنّهم لا أيمانَ لهم لعلّهم ينتهونَ ) (2).
    ثم تقدّم عليه السلام وهو يرتجز :
دُبّوا دَبيبَ النَمل لا تفوتوا كيما تَنالوا الدين أو تَمُوتوا وأصبحوا في حربكم وبيتوا أو لا فإنّي طالما عُـصيتُ

1 ـ في المناقب : فنحن نحقن.
2 ـ سورة التوبة : 12.


(432)
قد قلتم لو جئتنا فجيتُ (1)
    ثمّ حمل عليه السلام في سبعة آلاف (2) رجل فكسروا الصفوف.
    فقال معاوية لعمرو : اليوم صبر وغداً فخر.
    فقال عمرو : صدقت ، ولكنّ الموت حقّ ، والحياة باطل ، ولو حمل عليّ في أصحابه حملة اُخرى فهو البوار.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنّة ؟
    فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلاً :
أحمد ربّي فهو الحميد ذاك الّذي يفعل ما يريد
دين قويم وهو الرشيدُ
    فقاتل حتى قُتل.
    وبرز عمّار بن ياسر ، وكان له من العمر ثمانون سنة ، فجعل يقول :
اليوم نلقى الأحبّه محمداً وحزبه
    والله والله لو قتلونا حتى بلغوا بنا سعفاتِ هجر لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل ، وهو الّذي قال رسو الله صلّى الله عليه وآله في حقّه : « عمّار جلدة بين عيني ، تقتله الفئة الباغية لانالهم شفاعتي » (3) ، فقاتل
1 ـ انظر ديوان الامام علي بن أبي طالب ( طبعة دار الكتاب العربي ) : 54 ففي آخره :
قد قلتم لو جئتنا فجيتُ ليس لكم ما شئتم وشيتُ
بل ما يريدُ المحييُ المميتُ
2 ـ في المناقب : في سبعة عشر ألف.
3 ـ انظر الأحاديث الغيبيّة : 1 / 218 ـ 228.


(433)
حتى قُتِل. (1)
    وبرز خزيمة بن ثابت الأنصاري قائلاً :
كم ذا يُرجّي أن يعيشَ الماكثُ والناس موروث ومنهم وارث
هذا عليٌَ مَن عَصاه ناكثُ (2)
    فقاتل حتى قتل.
    وبرز عديّ بن حاتم قائلاً :
أبعد عمّارٍ وبعد هاشم وابن بُديل صاحب المَلاحم
ترجو البقاءَ من بعد يا ابن حاتم (3)
    فما زال يقاتل حتى فقئت عينه.
    وبرز الأشتر قائلاً :
سيروا إلى الله ولا تعرّجوا دينٌ قويم وسبيل مُنهَج (4)
    وقتل جندب بن زهير ، فلم يزالوا يقاتلوا حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير ، وكان أصحاب عليّ عليه السلام يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية ، ويقولون : عليّ المنصور ، وهو عليه السلام يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول : اللّهمّ إليك نقلت الأقدام ، وإليك أفضت القلوب ، ورفعت الأيدي ، ومدّت الأعناق ، وطلبت الحوائج ، وشخصت الأبصار. اللّهمّ افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين.
1 ـ قوله : « وبرز عمّار ... حتى قُتِل » لم يرد في المناقب.
2 ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : 398.
3 ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : 403.
4 ـ انظر هذه الأرجاز في وقعة صفّين : 404.


(434)
    وكان عليه السلام يحمل عليهم مرّة بعد مرّة ويدخل في غمارهم ويقول : الله الله في البقيّة ، الله الله في الحرم والذرّيّة ، فكانوا يقاتلون أصحابهم بالجهل ، فلمّا أصبح صلوات الله عليه كان القتلى من عسكره أربعة آلاف رجل ، وقتل من عسكر معاوية اثنتين وثلاثين ألفاً ، فصاحوا : يا معاوية ، هلكت العرب ، فاستغاث بعمروٍ ، فأمره برفع المصاحف.
    قال قتادة : كانت القتلى يوم صفّين ستّون ألفاً. وقال ابن سيرين : سبعون ألفاً ، وهو المذكور في أنساب الأشراف ، ووضعوا على كلّ قتيل قصبة ، ثمّ عدّوا القصب. (1)
    قلت : أعظم بها فتنة يملّ من رصفها البنان ، ويكلّ عن وصفها اللسان ، ويخفق لذكرها الجنان ، ويرجف لهولها الانسان ، طار شررها فعمّ الآفاق ، وسطع لهبها فعمّ بالاحراق ، وارتفع رهج سنابكها فبلغ أسباب السماء ، وضاقت سبيل مسالكها فانسدّ باب الرجاء.
    يالها فتنة اطّيّرت رؤوس رؤوسها عن أبدانها ، وابترت نفوس قرومها بخرصانها ، وبرقت بوارق صفاحها في غمائم عبرتها ، وضعفت رواعد هزبر أبطالها في سحائب مزنها ، قد كفر النقع شمسها ، وأخرس الهول نفسها ، وأبطلت مواقع صفاحها حركات أبطالها ، وصبّغت أسنّة رماحها أثباج رجالها بحرباتها ، لا يسمع فيها إلا زئير اُسد غابها سمر القنا ، ولا ترى منها إلا وميض بريق مواضي الأسنّة والضبا ، كم افترست ثعالب عواملها ليثاً عبوساً ؟ وكم اخترمت بحدود مضاربها أرواحاً ونفوساً ؟ وكم أرخصت في سوق قيامها على ساقها نفيساً ؟ وكم أذلّت بتواصل صولات حملات
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 174 ـ 181 ، عنه البحار : 32 / 580 ـ 589.

(435)
قرومها رئيساً ؟
    أبدان الشجعان ضرام وقودها ، وأجساد الأمجاد طعام حديدها ، ما صيحة عاد وثمود بأهول من وقعة صفعتها ، ولا ظلّة أصحاب الأيكة بأصحى من ظلمة ظلّتها ، طفى نحرها فأعرق ، واضطرم جرها فأحرق ، وعمّ قطرها فاجتاج فرعها وأصلها ، ودارت رحى منونها فطحنت خيلها ورجلها ، صبح عادياتها يذهل السامع ، وقارعة قوارعها تصخّ المسامع ، تزلّ الأقدام لتكاثر زلزالها ، ويحجم الأبطال لخطر نزالها ، اختلط خاثرها بزبادها ، واُشبهت أمجادها بأوغادها ، وموافقها بمنافقها ، ومخخالفها بموالفها ، ودنيّها بشريفها ، وصريحها بحليفها ، وبرّها بفاجرها ، ومؤمنها بكافرها ، فئة تقاتل في سبيل الله واُخرى كافرة ، وفرقة تبتغي عرض الحياة الدنيا وفرقة ترجو ثواب الآخرة.
    قد فتحت أبوا بالجنان لأرواح بذلت وسعها في طاعة ربّها ووليّها ، وشجرة دركات النيران لأنفس أخلفت عهد إمامها ونبيّها ، طالت ليلة هريرها فكم حلايلاً تمت ؟ واضطربت حطمة سعيرها فكم أطفالاً أيتمت ؟ امتدّت ظلمتها ، واشتدّت سدفتها ، وثلمت صفاحها ، وحطمت رماحها ، وعلا ضجيجها ، وارتفع عجيجها ، وتكادمت فحولها ، وتصادمت خيولها ، وتزأّرت آسادها ، وتقطّرت أمجادها.
    وكان أمير المؤمنين عليه السلام نجمها الثاقب ، وسهمها الصائب ، وليثها الخادر ، وعينها الهامر ، وبحرها الزاخر ، وبدرها الزاهر ، كم أغرق في لجّة بطشه منافقاً ؟ وكم أخرق بشهاب سيفه متنافقاً ؟
    جبريل في حروبه مكتب كتابته ، وميكائيل في وقائعه يعجب من
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس