تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 436 ـ 450
(436)
ضرائبه ، وملك الموت طوع أمر حسامه ، وروح القدس يفخر بثبات جأشه وإقدامه.
    كم فلّ بحدّ غضبه حدّاً ؟ وكم قدّ بعزم ضربه قدّاً ؟ وكم عفّر في الثرى بصارمه جبيناً وخدّاً ؟ وكم بني للاسلام بجهاده فخراً ومجداً ؟
    اُمثّله في فكرتي ، واُصوّره في سريرتي ، في حالتي مسيره بكتائبه إلى خصمه ، وجلوسه على وسادته لنشر غرائب علمه ، طوداً يقلّه طرف ، وبحراً يظلّه سقف ، إن تكلّم بيّن وأوضح ، وإن كلم هشم وأوضح ، يقط الأصلاب بضربه ، ويقصّ الرقاب في حربه ، آية الله في خلقه ، ومعجز النبيّ على صدقه ، ومساويه في وجوب حقّه ، ومضاهيه في خَلقه وخُلقه ، أفضل خلق من بعده ، وأشرف مشارك له في مجده ، كلّ من الرسل الاُولى عاتبه ربّه على ترك الأولى ؛ قال سحانه في آدم : ( وعصى آدمُ ربّه فغوى ) (1) ، وفي نوح : ( إنّي أعظكَ أن تكونَ منَ الجاهلينَ ) (2) ، وفي الخليل : ( قالَ أولمْ تؤمنْ ) (3) ، وفي الكليم : ( فعلتها إذاً وأنا من الضالّين ) (4) ، وفي داود : ( وظنَّ داود أنّما فتنّاهُ ) (5) ، وفي سليمان : ( إنّي أحببتُ حبّ الخيرِ عن ذكرِ ربّي ) (6) ، وفي يونس : ( وذا النونِ إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدرَ عليه ) (7).
    وأمير المؤمنين باع نفسه من ربّه ، وحبس قلبه على حبّه ، ووقف
1 ـ سورة طه : 121.
2 ـ سورة هود : 46.
3 ـ سورة البقرة : 260.
4 ـ سورة الشعراء : 20.
5 ـ سورة ص : 24.
6 ـ سورة ص : 32.
7 ـ سورة الأنبياء : 87.


(437)
جسده على طاعته ، وفرغ روحه لمراقبته ، أطلعه سبحانه على جلال عظمته ، وكمال معرفته ، وسقاه من شراب حبّه ، واختصّه بشرف قربه ، فما في فؤاده الا إيّاه ، وما في لسانه إلا ذكراه ، يفني وجوده في شهوده إذا هو ناجاه ، ويصفو أبحر ندّه في سجوده عمّا سواه ، قد استشعر لباس المراقبة ، وحاسب نفسه قبل المحاسبة.
    يأنس بالظلام إذا الليل سجى ، ويستضيء بأنوار الكشف إذا الغسق دجا ، ويستوحش من الخلق في حال خلوته مع حبيبه ، ويستنشف نفحات الحقّ إذ هو كمال مطلوبه ، رقي لقدم صدقه صفوف الكروبيّين بروحانيّته ، وطار بقوادم عشقه ففات أشباح الصافّين الحافّين بإخلاص محبّته ، جذبته يد المحبّة بزمام العناية إلى حضرة معشوقه ، وأزاحت كدورات الطبيعة عن مسالك طريقه ، حتى إذا آيس من جانب طور قيّوم الملكوت أنوار عظمته ، واستأنس بمناجاة صاحب العزّة والجبروت واطّلع على أسرار إلهيّته ، وقرع بيد إخلاصه شريف بابه ، وأصغى بصماخ ( وتعيها اُذنٌ واعيةٌ ) (1) إلى لذيذ خطابه ، وأشعر قلبه لباس الخضوع بين يديه ، وأحضر لبّه جلال من وجّه مطايا عزمه إليه ، وشاهد بعين يقينه عزّه هيبة سلطانه ، وقطع العلائق عمّا سوى القيام بشروط الخدمة لكبرياء عظم شأنه.
    كشف فياض العناية به الحجاب عن جلال كمال عزّته ، ورفع النقاب عن ذلك الجناب فأدرك بكمال عرفانه بهجة حضرته ، أجلسه على بساط المنادمة في غسق الدجا ، وناجاه بلسان المحبّة وقد برح الخفا ، وسقاه بالكأس الرويّة من شراب ( يحبّهم ويحبّونهُ ) (2) ، ويثب في مدارج السلوك إلى عين اليقين
1 ـ سورة الحاقّة : 12.
2 ـ سورة المائدة : 54.


(438)
يقينه ، وتوّجه بتاج ( إنّما وليّكمُ ) (1) ، ونفعه نحلة ( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبُلَ فتفرّقَ بكم ) (2) ، وجعل له الرئاسة العامّة في خلقه ، وقرن طاعته بطاعته ، وحقّه بحقّه ، وأثبت في ديوان الصفيح الأعلى منشور عموم ولايته ، ووقّع بيد القدرة العليا توقيع شمول خلافته ، يطالع رهبان صوامع العالم الأشرف في اللوح المحفوظ أحرف صفاته ، ويصغي بصماخ توجّهاتها إلى لذيذ مناجاته ، فتحتقر شدّة كدحها في طاعة ربّها في حبّ طاعته ، وترى عبادتها لمبدعها كالقطرة في اليمّ في جانب عبادته.
    باهى الله به ليلة الفراش (3) أمينيه جبرئيل وميكائيل ، وناداهما بلسان الابتلاء وهو العالم من أفعال عباده بكلّ دقيق وجليل : إنّي قد جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر أخاه بالزيادة ؟ فكلّ منهما بخل ببذل الزيادة لأخيه ، وتلكّأ عن جواب صانعه ومنشيه ، فأوحى إليهما : هلّا كنتما كابن أبي طالب ؟! فإنّه آثر أخاه بالبقيّة من أجَله ، وبات مستاقا (4) بسيوف الأعداء من أجله ، اهبطا إلى الأرض فاحسنا كلاءته وحفظه ، وامنعاه من كيد عدوّه في حالتي المنام واليقظة.
    وكذلك يوم اُحد وقد ولّوا الأدبار ، واعتصموا بالفرار ، وأسلموا الرسول إلى الجبن ، ولم يعد بعضهم إلا بعد يومين ، هذا ووليّ الله يتلقّى عنه السيوف
1 ـ سورة المائدة : 55.
2 ـ سورة الأنعام : 153.
3 ـ حديث مبيت أمير المؤمنين علي عليه السلام على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله من الأحاديث المتواترة والمشهورة ، انظر : الفصول المائة في حياة أبي الأئمّة : 1 / 227 ـ 263 فقد أوفى الكلام في هذا الحديث.
4 ـ كذا في الأصل.


(439)
بشريف طلعته ، ويمنع عوامل الحتوف بشدّة عزمته ، حتى باهى الله يومئذ ملائكته ببطشه القويّ ، ونادى منادٍ من السماء : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا عليّ.
    وفي بدر إذا التقى الجمعان ، واصطدم الفيلقان ، وشخصت الأعين ، وخرست الألسن ، وجبت الجيوب ، ووجبت القلوب ، كان صلوات الله عليه وآله قاصم أبطالها ، وميتّم أشبالها ، وليث ناديها ، وصل داريها ، صبّ الله بشدّة بطشه على أعدائه سوط عذابه ، وأنزل بالملحدين في آياته من صولة سطوته وخيم عقابه.
    صاحب بطشتها الكبرى ، وناصب رايتها العظمى ، جعل الله الملائكة المسوّمين فيها من جملة حشمه وجنده ، ولواء الفتح المبين خافقاً على هامة رفعته ومجده ، وشمس الشرك ببدر وجهه مكوّرة ، وجموع البغي بتصحيح عزمه مكسّرة ، وهل أتاك نبأ الخصم الألدّ ؟ أعني مقدام الأحزاب عمرو بن ودّ ، البطل الأعبل ، وفارس يليل ، إذ أقبل برز كالليث القرم ، ويهدر كالفحل المغتلم ، ويصول مدلّاً بنجدته ، ويجول مفتخراً بشدّته ، ويشمخ بأنفه كبراً ، ويبذخ بخدّه صعراً ، قد تحامته الفرسان خوفاً من سطوته ، وأحجمت عنه الشجعان حذراً من صولته ، وانهلعت قلوب الأبطال لمّا طبق الخندق بطرفه ، وذهلت عقول الرجال لمّا شزرهم بطرفه ، كالأسد الكاسر في غابه ، أو النمر الكاشر عن نابه ، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وأحجمت الأنصار لمّا سمعت زئير الأسد المبادر ، وامتدّت نحوه الأعناق ، وشخصت إليه الأحداق ، وخشعت الأصوات ، وسكنت الحركات ، وهو يؤنّب بتعنيفه ، ويجبر بتأفيفه.
    فعندها أشرق بدر الحقّ من شفق الفتوّة ، وطلعت شمس المجد من برج


(440)
النبوّة ، وأقبل علم الاسلام يرفل في ملابس الجلال ، وتبدّى نور الايمان يخطر في حلل الكمال ، كالطود الشامخ في مجده ، أو البحر الزاخر عند مدّه ، قد أيّده الله بروح قدسه ، وأوجب من ولائه ما أوجب من ولاء نفسه ، وأيّده بالعصمة التامّة ، وشرّفه بالرئاسة العامّة ، كالقمر المنير في كفّه شهاب ساطع ، أو الموت المبير إذا علا بسيفه القاطع ، حتى إذا قارنه وقاربه وشزره بطرفه عند المصاولة علاه بمشحوذ العذاب لو علا به رضوى لغادر كثيباً مهيلاً ، ولو أهوى به على أكبر طود في الدنيا لصبّره منفطراً مقلولاً ، فخرّ كالجذع المنقعر ، أو البعير إذا نحر ، يخور بدمه ، ويضطرب لشدّة ألمه ، قد سلبته ملابس الحياة أيدي المنيّة ، وكسته من نجاح دمه حلّة عدميّة ، وكفى الله المؤمنين القتال بوليّه المطلق ، صدّيق نبيّه المصدّق ، الّذي أعزّ الله الاسلام وأهله بعزمه ، وأذلّ الشرك وجنده بقدمه.
    فيا من كفر بأنعم ربّه ، وأجلب بخيله ورجله على حربه ، ورابطه مصابراً ، وعانده مجاهراً ، وأظهر نفاقه الكامن ، وغلّه الباطن ، ألم يكن أبوك في تلك المواطن رأساً للمشركين ؟ ألم يكن في حرب نبيّه ظهيراً للكافرين ؟ ألست ابن آكلة الأكباد البغيّة ؟ ألست زعيم العصابة الأمويّة ؟ ألست فرع الشجرة الملعونة ؟ ألست رأس الاُمّة المفتونة ؟ أليس قائد احزاب المشركين أباك ؟ أليس أوّل المبارزين في بدر جدّك وخالك وأخاك ، اُديرت كؤوس المنون بيد وليّ الله عليهم ، وبطرت الحتوف من كثب إليهم ، وأنزل سبحانه ( فاضربوا فوق الأعناقِ واضربوا منهم كلّ بنانٍ ) (1) منهم ذلك بما قدّمت أيديهم ، قلبت أشلاءهم بعد الموت في القلب ، ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوتَ
1 ـ سورة الأنفال : 12.

(441)
واُخِذوا من مكانٍ قريبٍ ) (1) ، لرأيت أعناقهم تقطع صبراً ، وأشلاءهم تبضّع هبراً ، واُمراءهم قد ولّوا الأدبار ، ثمّ لا ينصرون ، واُسراءهم كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
    هؤلاء أسلافك الماضية ، وآباؤك الغالية ، الذين قصّ الله قصصهم في محكم تنزيله ، ولعنهم على لسان نبيّه ورسوله ، وسمّاهم الشجرة الملعونة في القرآن (2) ، والعصابة الخارجة عن الايمان ، الذين اتّخذوا الأصنام آلهة من دون الله ، واستقسموا بالأزلام خلافاً لأمر الله ، وكان سيّدنا ووليّ أمرنا ومعتقدنا ووسيلتنا إلى ربّنا حينئذٍ أوّل من أسلم لربّ العالمين ، قائماً يومئذ بنصر سيّد المرسلين.
مقالـكم في اُحدٍ اُعـل هــبل أوّل مـن آمـن بالـله ومـن وخير من واسى النبيّ في الوغا يا من تلـمني في هواه لا تـلم من كفّـه رجـوت اُسقى شربة أنا الذي من عـهده مسـتمسك خير وليّ ليس يحـصى فضله بعـد إلـهي ونـبيـّي لا أرى في القلب منّي منـزل لـحبّه أهتف باسمـه إذا خطب عرا فإنّنـي ومـن أجـل كـيـده وقولـه الـله أعـلى وأجـل صلّى وصام تابعاً خير الرسل وخير من في الله نفـسه بـذل فحبّه وجـدته خـير العـمـل ختامها مـسك وفـي ذلـك فل بعروةو عـقد ولاها لاتـحـل ومجـده عزّ عن الوصف وجل سواه ينجيني إذا الـخطب نزل متحكّم بصـدق عهـدي لم يزل وأسـأل الـله بـه وأبـتـهـل بساحتي العكس جـابـني الأمـل (3)

1 ـ سورة سبأ : 51.
2 ـ إشارة إلى الآية : 60 من سورة الاسراء.
3 ـ البيت لا يخلو من اضطراب ـ كما تلاحظ ـ.


(442)
رفضت رجسـين تسـمّـيا بما ودنـت ديـنـاً قيّـماً إنـّهـما وهكـذا ثـالـثـهم أظلـم من ومن أتت لـحربـه وخـالفت وسائقي بعيرها وقائدي نفيرها ومن بـصفّين علـيه جـرّدوا وأقبلـوا يـقدمـهم زعيـمهم نجل الـطغـاة الطلقاء والذي ومن عن الحقّ السـويّ مرقوا كلّهم قد فـارقـوا ديـن الهدى عليهم مـن ذي الجـلال لعنة ما سيّرت أفلاكها بشمـسهـا سمّـاه ذو الـعرش قديماً في الأُول في الكفر شـرّ مـن يـغوث وهبل حلّ علـى وجـه الثرى أو ارتحل إلـهـهـا وبـعلـها يوم الجـمل ومـن رضــي ومـن دخــل بيض الضـبا واعتقلوا سمر الأسل رأس النفـاق والـغرور والحـيل لعنهم في مـحـكم الـذكر نـزل وخالفوا جميـع أربـاب الـمـلل وقارفـوا الكـفر بـقول وعـمل دوامهـا حجتـى الــقيام متّصل وابتلج الصبـح وأظلـم الطـَفَل (1)
    اللّهمّ يا من أفرغ على أعطاف عقولنا ألطاف كرامته ، وحلّى أجياد نفوسنا بجلي عنايته ، ورفع قواعد ملّتنا ، وجمع على التقوى كلمتنا ، وأثبت في دوحة الايمان اصولنا ، وسقى بزلال الاخلاص فروعنا ، وتمّم باتّباع سبيل نبيّه ووليّه حدودنا ورسومنا ، فصرنا لا نعتقد سواه قديماً أزليّاً ، ولا نرى وجوداً غير وجوده أبديّاً ديموميّاً ، ننزّهه عن الشريك والعديل ، ونقدّسه عن الشبيه والمثيل ، خلقنا لننزّهه ونمجدّه ، وأوجدنا لنعبده ونوحّده ، وجعل نفح ذلك واصلاً إلينا ، ومضاعفاً علينا ، لا لحاجة منه إلى عبادتنا ، ولا لفائدة عائدة إليه من طاعتنا.
1 ـ الطَفَل : المساء.

(443)
    ظهر لأفكارنا بآثار صنعته ، واحتجب عن أبصارنا بكبريائه وعظمته ، وفرض علينا بعد الاقرار بأنّه الواحد الأحد المبتدع المخترع ، وعرفان ما يصحّ على ذاته الشريفة ويمتنع ، وتعاليه عمّا لا يليق بجلاله من تعارض خلقه ، والاذعان بالتسليم لأمره وقضاء حقّه ، سلوك سبيل من أقامهم هداة إليه ، وإدلاء في مفاوز الضلالة عليه ، والتسليم لأمرهم ، والتنويه بذكرهم ، والاخلاص بشكرهم ، والاتّضاع لقدرهم ، والاغتراف من بحر علمهم ، والاغتراف بصواب حكمهم ، وأن لا يقدّم عليهم من سجد لصنم ، أو استقسم بزلم ، أو بحر بحيرة ، أو عتر عتيرة ، قد نمته الخبيثون والخبيثات ، وحاق به دناءة الآباء وعهر الاُمّهات.
    ونعتقده انّه سبحانه قرن حبّهم بحبّه ، وجعل حربهم كحربه ، وسلمهم كسلمه ، وعلمهم من علمه ، فهم اُولوا الأمر الذين قرن طاعتهم بطاعته ، وهداة الخلق إلى ما اختلفوا فيه من فرض دينهم وسنّ حسدهم من لعنه الله وغضب عليه ، وأعدّ له خزيه يوم يقوم الناس لديه.
    أغرى الشيطان بهم سفهاءه ، وأعلى عليهم أولياءه ، وزيّن للناس اتّباعهم ، وجعلهم أشياعهم واتباعهم ، وسمّى رأس الكذبة صدّيقهم ، وأساس الظلمة فاروقهم ، وخائن الاُمّة وليّ أمرهم ، وأجهل الاُمّة كاتب وحيهم ، وولّوا الناس بغرورههم ، وحرّفوا كتاب الله بزورهم ، وأخلفوا عهد الرسول ونبذوا ميثاقه المأخوذ عليه ، وجرّدوا عليهمه سيوفهم وعواملهم ، وفوّقوا نحوهم سهامهم ومعابلهم.
    ثمّ تفكّر في حال الرجس اللئيم ، والدنس الأثيم ، ابن آكلة الأكباد ، ونتيجة الآثمة الأوغاد ، وما أظهر من الكفر والالحاد ، والبغي والعناد ، وليس ذلك ببدع من قبيح فعله ، وزنيم أصله ، فهو من قوم طوّقهم الله بطوق لعنته في


(444)
الدار الفانية ، وأعدّ لهم أليم عقوبته في جحيمه الهاوية.
    اللّهمّ إنّا نتقرّب إليك بلعنته وسبّه ، وتكفير مصوّبي اجتهاده في حربه ، ولمّا تصوّرت شدّة شكيمته في غيّه ، وخبث سريرته ببغيه ، وأذاه للنبيّ وأهله ، وعداوته للوصيّ ونجله ، كنت اُخاطبه بكلمات أوحاها جناني ، وأقصده بلعنتي في سرّي وإعلاني ، وأذبحه بذكر مساويه ببليغ نثري ، واورد نبذة من مخازيه بفصيح شعري ، فمن جملة ذلك أبيات ألقاها خالص الايمان على بنان نطقي ، وأهداها الملك الديّان إلى لسان صدقي ، تحلّي الطروس بذكرها ، وتسرّ النفوس بنشرها ، وهي هذه :
يا ابن البغـيّة يـا رأس البغــاة ويا وأهل بدر واُحـدٍ والّـذيـن سـروا ومن بلعنـتهم جـاء الكـتاب وفـي ويا ابن من كان رأس المشركين ويا رمتم بأن تطـفئوا نور الهدى بعدت فأرسل الله جـنداً لـم تـروه على نجل الطغاة وأهل الزيـغ والـزلـلِ لحرب خير الورى بالبيض والأسـل الأحزاب ذكرهم حتى القيـام جلـي رأس النفاق وأهل الشـرك والخطل أحزابكم مثل سهـل الأرض والجبلِ جموعكم فانثنيـتم خائـبي الأمـلِ


(445)
حتى إذا قـام ديـن الحـقّ منتــصباً وذلّ ما عزّ مـن عُــزّاكـم وغــدا وعـمرو ودّكم أمـسـى كـودّكـــم هـادي الخـليقة محـمود الـطريقـة ليث الكـتيبـة مشـهور الـضريـبة نفس الرسـول وواقــيه بمـهجـته ربّ الفراش إذا المختـار اخرج مـن بدت لأهل العـلى انــوار طلـعته من جدّك الرجس في بـدرٍ وخالك مع يُنبيك صارمـه عنهــم بـأنـّهـم يزهو فخاراً إذ المحفوظ مـنه غلي مكسراً جمعها للكسر مـن هـبـل مقسماً بحسام الضـيغـم البـطـل معصوم الحقيقة نور الله فـي الأزل ذي القربى القريبة ثاني خاتم الرسل وناصر دينه بـالـقـول والـعمل مقامه في الدجا يسري على وجـل فوق الفراش كبدرٍ تمّ فـي الـطَفَل أخيك عمّا لقـوه منه قـف وسـَل ما بين منـعفـر مـنه ومـنجـدل


(446)
يا أكفر الـخلق مـن بدوٍ ومن حضرٍ لو تؤمـنوا رغباً فـي الدين بل رهباً في كـفّ أبلـج يـوم الروع طلعته غدا وليدكـم مـن ثـدي صـارمـه كهف الأنـام وهـاديـهم ومنـقذهم وغيث ما حلتم إن أزمـّه قـرعـت سل عن فضـائـله جـماً فـإنّ له يوم القموص على شأناً بسـطوتـه كانت حصوناً حـصاناً فـي شـوا فافتضّ بالذكر الصـمصـام عذرتها وأظـلم النـاس فـي حلٍّ ومـرتحـل وخشيتـه مـن حسـام قـاطـع الأجل كالشـمس مـشرقة في دارة الـحـمل لبـان صـرف الردى بالـغلّ والنـهل ومن بهم سـالـك في أوضـح السـبل وغيـث صـارخهم في الحاديث الجلل في الذكر ذكـر جلـيل سـار كالمـثل إذ ردّ شـانـئـه بـالـخذل والفشـل هقها إلى ذراها سـحاب المزن لم تصل فأصبحت من دمـاء الـقـوم فـي حلل


وظيخها (1) طاح قد صرات سلالمه يا قالع الباب يا باب النجاح ومـن أرجو بك الله يـوم الشـحر ينقذني ولا يجبهني حيث الفضـيحـة بي ولا تكلني إلـى نفـسي وتجـعلني منكساً منه أعـلاها إلـى الـسفل أوقفت دون الورى فـي بابه أملي وأن يضاعف ما قد قـلّ من عملي أولى ويستر ما أخفيت من زللـي في كلّ حال على علياه متـّكلـي
    ولمّا جرى ما جرى في ليلة الهرير وكان القتل فاشياً في عسكر معاوية كما بيّنّا أوّلاً أنّ القتلى كانت من عسكر علي عليه السلام أربعة آلاف رجل ، ومن عسكر معاوية اثنين وثلاثين ألفاً ؛ وقيل : أكثر كما ذكر فأصبح معاوية وقد أسقط في يده ، وأشرف على الهلكة ، فقال لعمرو : نفرّ أو نستأمن ؟
    قال : نرفع المصاحف على الرماح ونقرأ : ( ألم ترَ إلى الذينَ اُوتوا نصيباً من الكتاب يدعونَ إلى كتاب اللهِ ليحكم بينهم ) (2) فإن قبلوا حكم القرآن رفعنا الحرب وواقفناهم (2) إلى أجل مسمّى ، وإن أبى بعضهم الا القتال فللنا شوكته (4) ، ووقعت الفرقة بينهم.
1 ـ كذا في الأصل.
2 ـ سورة آل عمران : 23.
3 ـ في المناقب : ورافعنا بهم.
4 ـ في المناقب : شوكتهم ، وتقع بينهم الفرقة ، وآمر بالنداء : فلسنا ولستم من المشركين...


(448)
    فرفعوا المصاحف على الرماح ، وبان من جملتها مصحف يقال إنّه مصحف الإمام وحملوه على أربعة رماح ، وأتبعوه بأربعمائة مصحف اُخرى ، ونادوا من كلّ جانب : فلسنا ولستم من المشركين ، ولا المجمعين على الردّة ، فإن تقبلوها ففيها البقاء للفرقتين وللبلدة ، وإن تدفعوها ففيها الفناء وكلّ بلاءٍ إلى مدّة. (1)
    وكان جلّ عسكر أمير المؤمنين عليه السلام منافقين عليهم لعائن الله كمسعر بن فدكي ، وزيد بن حصين الطائي ، والأشعث بن قيس الكندي ، وغيرهم ، ممّن كان أشدّ الناس عداوة لأمير المؤمنين في الباطن ، وإنّما خرجوا معه تعصّباً لأنّهم كان لهم أضراب وأنداد عند معاوية ، فخرجوا حميّة لذلك وللدنيا ، ولهذا كان أكثرهم ممّن حضر حرب الحسين عليه السلام ، واستحلّوا منه كلّ حرمة ، وأظهروا له كامن عداوتهم ، فلعنة الله عليهم ، وكذلك خذلوا مسلم بن عقيل وزيد ابن علي بن الحسين حتى قتل بين ظهرانيهم ، لم يراعوا فيه حرمة جدّه رسول الله ، فلهذا رمى الله بلدتهم بالذلّ الشامل والسيف القاطع ، واستجاب دعاء سيّد الوصيّين صلوات الله عليه بقوله : اللّهمّ سلّط عليهم غلام ثقيف الذيّال الميّال (2) ، يبيد خضراءهم ، ويستأصل شأفتهم (3).
    قيل : إنّ رجلاً من ذوي العقول من أهل الكوفة لمّا رأى سبايا الحسين عليه السلام وحرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وبناته يطاف بهنّ في شوارع الكوفة على أقتاب الجمال كاُسارى الخزر والترك عمد إلى جميع ما يملك من
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 182.
2 ـ الذيّال : الذي يجرّ ذيله على الأرض تبختراً. والميّال : الظالم.
3 ـ نهج البلاغة : 174 خطبة رقم 117 ، شرح نهج البلاغة : 7 / 277 ، الكامل في التاريخ : 4 / 587 ، البحار : 34 / 91 ح 941 ، وج 41 / 332 ح 54 ، وج 66 / 327.


(449)
عقار وغيره فباعه وارتحل عنها ، وقال : بلد يطاف فيه بعيال رسول الله ونسائه ، وترفع رؤوس رجالهم على رؤوس الرماح لا يفلح أبداً ، فما عسى أن يقال في بلدة خذل أهلها الوصيّ المرتضى ، ونافقوا سبط خاتم الأنبياء ، وراموا قتله ، وانتهبوا ثقله ، ونكثوا بيعته ، ثمّ كانت واقعة سيّد الشهداء ، وقرّة عين سيدّة النساء ، وخامس أصحاب الكساء ، كاتبوه ووعدوه النصر على عدوّه ، فجرّدوا عليه سيوفهم وعواملهم ، وقتلوه عطشاناً ، وسبوا ذراريه ونساءه ، ليس منهم رجل رشيد ينكر فعلهم ، بل ضربت عليهم الذلّة وشملهم خزي الدنيا ( ولعذابُ الآخرةِ أخزى وهم لا ينصرونَ ) (1) ؟
    فلهذا منعهم الله لطفه ، وأحلّ بهم غضبه ، وسلّط عليهم غلام ثقيف الذي توعّدهم به أمير المؤمنين ، وزياد بن اُميّة ، وغيرهم ، من الخارجين في الاسلام حتى صارت براحاً كأن لم تغن بالأمس (2).
    روي أنّه مات في سجن الحجّاج مائة وعشرون ألف من غير قتل (3) ، وكان سجنه ليس له سقف يضلّ وحرٍّ أو قرّ ، وكان عليه لعنة الله لا يرفع عنهم سيفه ولا سوطه ، وكان لا يخاطبهم الا بالتهديد والوعيد ويقول : يا أهل العراق ، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق ، إنّه قد ضاع سوطي فأقمت مقامه السيف ، والله لأُلحوَنّكم لَحوَ العَصا (4) ، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل ، ولمّا تجهّز عليه اللعنة إلى حرب الأزارقة قال : والله لا أرى أحداً منكم بعد ثلاث الا
1 ـ سورة فصّلت : 16.
2 ـ إشارة إلى الآية : 24 من سورة يونس.
3 ـ انظر : الكامل في التاريخ : 4 / 587.
4 ـ انظر الكامل في التاريخ : 4 / 376 ـ 377.
واللحاء : ما على العَصا مِن قشرها.


(450)
ضربت عنقه ، ثمّ بعد ثلاث سار في أزقّة الكوفة فلم ير أحداً ، وكان الرجل منهم يرسل أمته من منزل العسكر لتلحقه بزاده ولا يجسر على الدخول لذلك.
    وهذا معنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إنّي والله ـ يا أهل الكوفة ـ أعلم ما يصلحكم ، ولكنّي لا اُفسد نفسي بصلاحكم. (1)
    معنى كلامه عليه السلام : انّه لا يقيم أودهم إلا الظلم والعسف والقتل كما فعل الحجّاج وغيره بهم ، ولو كان الايمان قد أثلج في قلوبهم ، والاخلاص قد باشر نيّاتهم ، لابتغوا الدليل المرشد ، والهادي الناصح ، والمعلّم المشفق ، الّذي جعله الله لسانه في خلقه ، وعينه في عباده ، وأيّده بالعصمة ، وقلّده أحكامه ، لا يوازي في العلم ، ولا يضاهى في المجد ، فنافقوه وخذولوه وغدروا به بعد أن لاحت علامات النصر ، وسطعت أنوار الفتح ، وطلع فجر الحقّ ، وأشرف صلوات الله عليه بثبات جأشه ، وقوّة نصيحته ، وحياطته للاسلام وأهله ، على إدحاض الباطل وجدّ أصله ، واستئصال شأفته ، فتقاعسوا عن نصره ، وأظهروا مكنون نفاقهم ، وأبدوا مستور شقاقهم ، وقالوا ما قالوا ، وواجهوه بما واجهوا ، فعليهم لعائن الله ما أخبث نيّاتهم ، وأدغل قلوبهم ، وأعظم فتنتهم ، فلهذا أنزل الله بهم ما أنزل ، وأحلّ بهم ، فلا تراهم إلى الناس الا مقهورين مضطهدين تسومهم الاعتام سوء العذاب ، ويفتح عليهم من الأذى كلّ باب ، لا يخصلون من فتنة إلاّ
1 ـ انظر : نهج البلاغة : 99 خطبة رقم 69.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس