تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 451 ـ 465
(451)
وقعوا فيما هو أعظم منها ، ولا ينجون من ظالم إلا أتاهم ظالم ينسيهم ذكر الظالم الأوّل.
    روي أنّ مسعر بن فدكي وزيد بن حصين الطائي والأشعث بن قيس وكانوا من جلّة عسكر أهل العراق قالوا لأمير المؤمنين لمّا رفعت المصاحف : أجب القوم إلى كتاب الله.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : ويحكم والله ما رفعوا المصاحف إلا خديعة ومكيدة حين علوتموهم.
    وقال خالد بن معمّر السدوسي : يا أمير المؤمنين ، أحبّ الامور إلينا ما كفينا مؤنته.
    فلمّا سمع عسكر أهل العراق كلامهم أقبل إلى أمير المؤمنين منهم عشرون ألفاً يقولون : يا عليّ ، أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت وإلاّ دفعناك برمّتك إلى القوم ، أو نفعل بك كما فعلنا بعثمان.
    فأجابهم صلوات الله عليه ، فقال : احفظوا عنّي مقالتي فإنّي آمركم بالقتال ، فإن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم.
    قالوا : فابعث إلى الأشتر ليأتيك ، فبعث يزيد بن هانئ السبيعي يدعوه.
    فقال الأشتر رضي الله عنه : قد رجوتُ أن يفتح الله لا تعجلني ، وشدّد في القتال ، فقالوا حرّضته على الحرب ، ابعث إليه بعزيمتك فليأتيك وإلاّ والله اعتزلناك (1).
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا يزيد ، عد إليه فقل له : أقبل إلينا فإنّ
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : اغترفناك.

(452)
الفتنة قد وقعت.
    فأقبل الأشتر يقول : يا أهل العراق ، يا أهل الذلّ والوهن ، أحين علوتم القوم وعلموا أنّكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف خديعة ومكراً ؟
    فقالوا : قاتلناهم في الله ونصالحهم في الله.
    فقال : امهلوني ساعة ، أحسست بالفتح ، وأيقنت بالظفر.
    قالوا : لا.
    قال : أمهلوني عدوة فرسي.
    فقالوا : إنّا لسنا نطيعك ولا لصاحبك ، ونحن نرى المصاحف على رؤوس الرماح ندعى إليها.
    فقال : خدعتم والله فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم.
    فقام جماعة من بني بكر بن وائل ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن أجبت القوم أجبنا ، وإن حاربت حاربنا ، وإن أبيت أبينا.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : نحن أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، وإنّ معاوية وعمرواً وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحّاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين وقرآن ، أنا أعرف منكم بهم ، قد صحبتهم أطفالاً ورجالاً ـ في كلام له ـ ، ثمّ اتّفقوا على أن يقيموا حكمين ، فقال أهل الشام : قد اخترنا عمرواً.
    فقال الأشعث وابن الكوّاء ومسعر بن فدكي وزيد الطائي : نحن اخترنا أبا موسى.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّكم عصيتموني في أوّل الأمر فلا


(453)
تعصوني الآن.
    فقالوا : إنّ أبا موسى كان يحذّرنا ممّا وقعنا فيه.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّه ليس بثقة ، إنّه فارقني وخذّل الناس عنّي ، ثمّ هرب منّي حتى أمنته بعد شهر ، ولكن هذا ابن عبّاس اولّيه ذلك.
    فقالوا : ما نبالي أنت كنت أو ابن عبّاس.
    قال : فالأشتر.
    فقال الأشعث : رجل مسعر حرب وهل نحن (1) الا في حكم الأشتر ؟
    قال الأعمش : حدّني من رأى عليّاً عليه السلام يوم صفّين وهو يصفق إحدى يديه على الاُخرى ويقول : يا عجباً اُعصى ويطاع معاوية ! ثم قال : قد أبيتم (2) إلا أبا موسى ؟
    قالوا : نعم.
    قال : فاصنعوا ما بدا لكم ، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من صنيعهم.
    فقال خريم (3) بن فاتك الأسدي :
لو كان للقوم رأي يرشدون بـه لكن رموكم بشيخ من ذوي يمنٍ أهل العراق رموكم بابن عبّـاس لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس
    فلمّا اجتعموا كان كاتب أمير المؤمنين عليه السلام عبيد الله بن أبي رافع ، وكاتب معاوية عمير بن عبّاد الكلبي ، فكتب عبيد الله بن أبي رافع : هذا ما
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : يجز.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : قال : رمتم.
3 ـ كذا في أعيان الشيعة : 6 / 315 ، وفي الأصل والمناقب ، خزيم.


(454)
تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
    فقال عمرو : اكتبوا اسمه واسم أبيه هو أميركم أمّا أميرنا فلا.
    فقال الأحنف : لا تمسح إمارة المؤمنين ، فلم يقبلوا منه.
    فقال أمير المؤمنين : امح نزحة الله ، ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام (1) : الله أكبر ، واحدة بواحدة ، وسنّة بسنّة ، ومثل بمثل ، إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة.
    روى أحمد في المسند (2) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يكتب يوم الحديبيّة : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل بن عمرو : هذا كتاب بيننا وبينك فافتحه بما نعرفه ، واكتب : باسمك اللّهمّ ، هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسهيل بن عمرو وأهل مكّة.
    فقال سهيل : لو أجبتك إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة.
    فقال : امحها يا عليّ ، فجعل أمير المؤمنين يتلكّأ ويأبى فمحاها النبي صلّى الله عليه وآله ، وكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب وأهل مكّة.
    روى محمد بن إسحاق ، عن بريدة بن سفيان ، عن محمد بن كعب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لعليّ : فإنّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد (3).
1 ـ في المناقب : لا تمح إمارة المؤمنين ، امح نزحه من الله ، فقال علي عليه السلام.
2 ـ مسند أحمد : 4 / 86 ـ 87.
3 ـ انظر فيه وفيما يليه : وقعة صفّين : 509 ، تفسير القمّي : 2 / 313 ، خصائص النسائي : 152 ح 186 ، المسترشد : 70 ، دلائل النبوّة للبيهقي ، 4 / 147 ، إرشاد المفيد : 63 ، تنزيه الأنبياء ، 148 ، الذخيرة 406 ، أمالي الطوسي : 1 / 191 ، مناقب الخوارزمي : 193


(455)
    الماوردي في أعلام النبوّة أنه قال صلّى الله عليه وآله : ستسأم مثلها يوم الحكمين.
    وفي رواية : ستدعى إلى مثل هذا فتجيب وأنت على مضض.
    وفي رواية : إن لك يوماً ـ يا عليّ ـ مثل هذا اليوم ، أنا أكتبها للآباء ، وأنت تكتبها للأبناء.
    فقال عمرو : يا سبحان الله ! نشبّه بالكفّار ونحن مسلمون مؤمنون.
    فقال عليه السلام : يا ابن الباغية (1) ، أو لم تكن للمشركين وليّاً وللمؤمنين عدوّاً ؟ أو لم تكن في الضلالة رأساً وفي الاسلام ذنباً ؟ ـ في كلام له ـ فكتبوا أن يحكموا بما في كتاب الله وينصرفوا والمدّة بينهم سنة واحدة كاملة ويكون مجتمع الحكمين بدومة الجندل.
    فلمّا اجتمعا قال عمرو لأبي موسى : نخلع هذين الرجلين ونختار لهذه الاُمّة ، فأجابه أبو موسى إلى ذلك وقال : سمّ لي رجلاً يليق لهذا الأمر.
    قال عمرو : يا أبا موسى ، أنت أولى أن تسمّي رجلاً يلي أمر هذه الاُمّة ، فإنّي أقدر على أن اُبايعك منك على أن تبايعني.
    قال أبو موسى : اُسمّي لك عبد الله بن عمر.
ح 231 ، مجمع البيان : 5 / 119 ، إعلام الورى : 106 و 191 ، الخرائج والجرائح : 116 ح 192 ، الكامل لابن الأثير : 2 / 204 ، وج 3 / 320 ، مناقب ابن شهراشوب : 3 / 184 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 232 ، الفصول المهمّة : 97 ، كشف الغمّة : 1 / 210 ، سبل الهدى : 5 / 123.
1 ـ في المناقب : النابغة.


(456)
    فقال عمرو : فإنّي اُسمّي لك معاوية بن أبي سفيان.
    وفي رواية : انّ عمرو قال : إنّهما ظالمان فإنّ عليّاً آوى قتلة عثمان ، وأمّا معاوية فخذله ، فنخلعهما ونبايع عبد الله بن عمر لزهادته واعتزاله عن الحرب.
    فقال أبو موسى : نعم ما رأيت.
    قال : فإنّي قد خلعت معاوية فاخلع أنت عليّاً ، وإن شئت فاخلعه غداً ، فإنّه يوم الاثنين ، وكان ذلك بينهما ، فلمّا أصبحا خرجا إلى الناس ، فقالا : قد اتّفقنا ، فقال أبو موسى : تقدّم فاخلع صاحبك بحضرة الناس.
    فقال عمرو : سبحان الله ! أتقدّم عليك وأنت في موضعك وسنّك وفضلك مقدّم في الإسلام والهجرة ، ووافد رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى اليمن ، وصاحب مقاسم أبي بكر ، وعامل عمر ، وحكم أهل العراق ، فتقدّم أنت ، فقدّمه.
    فقال أبو موسى لعنه الله : إنّا والله ـ أيها الناس ـ قد اجتهدنا رأينا ولم نر أصلح للاُمّة من خلع هذين الرجلين ، وقد خلعت عليّاً ومعاوية كخلع خاتمي هذا.
    فقال عمرو : لكنّي خلعت صاحبه كما خلع واُثبت معاوية كخاتمي [ هذا ] (1) ، وجعله في شماله. (2)
    فلعنة الله على عمرو وصاحبه. فوالله لقد علما الحقّ وأنّه مع أمير المؤمنين
1 ـ من المناقب.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 182 ـ 185 ، عنه البحار : 33 / 312 ـ 314 إلى قوله : « وأنت مضطهد ».


(457)
يدور حيث ما دار ، وأنّه كتاب الله الناطق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن الحقد القديم ، والنفاق الكامن ، والميل مع الدنيا وأهلها كيف مالت ، والشيطان المغويّ.
    فلعنة الله عليهم كأنّهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : ( يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا اللهَ وَكونوا مع الصادقينَ ) (1) وقوله سبحانه : ( أفمن يهدي إلى الحقُّ أحقّ أن يُتّبعَ أم من لا يهدّي الا أن يُهدى فما لكم كيفَ تحكمونَ ) (2) وقوله سبحانه : ( تلكَ الدارُ الآخرة نجعلها للذينَ لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبةُ للمتّقينَ ) (3) بلى والله سمعوها ووعوها ـ كما قال أمير المؤمنين ـ ولكن حلت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها (4) ، وعدلوا بالحقّ عن أهله ، ووضعوه في غير محلّه ، واتّبعوا كلّ ناعق ، واقتدوا بكلّ ناهق.
    وتبّاً لدنيا يقدّم فيها الأشرار على الأخيار ، والأوغاد على الأبرار ، وسحقاً لاُمّة عدلت سيّد الخلق وأعلمهم وأفضلهم ، وأكملهم علماً وحلماً ، وطاعة لله ، وحياطة لرسول الله ، ونصراً للاسلام وأهله ، وجهاداً في الله ، وقرباً من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، أوّل الناس إسلاماً ، وأقربهم من الله مقاماً ، لم يشرك بالله طرفة عين ، ولّاه الله أمر خلقه في كتابه ، وأقامه إماماً لبريّته في تنزيله وعلى لسان رسوله ، فقام بأمر الله صادعاً ، وبالحقّ ناطقاً.
    كم غرّر نفسه في المهالك لإقامة دين الحقّ ؟ وكم قذف بذاته في أضيق
1 ـ سورة التوبة : 119.
2 ـ سورة يونس : 35.
3 ـ سورة القصص : 83.
4 ـ نهج البلاغة : 49 ـ 50 خطبة رقم 3. والزِبرِج : الزينة من وَشي أو جوهر.


(458)
المسالك في الحروب لإعلاء كلمة الصدق ؟ حتى قتل أبطال المشركين ، وكسر أصنام الملحدين ، وأدخل الناس في دين الله أفواجاً ، بمن لا يعادل عند الله جناح بعوضة ، أجهل الخلق أباً واُمّاً ، وألأمهم أصلاً وفرعاً ، ربّي في حجر الشرك ، ونشي في مهد الكفر ، وارتضع ثدي النفاق ، فرع الشجرة ، وأصل الفجرة ، ورأس المنافقين ، وأساس القاسطين ، الذي لعنه رسول الله صلّى الله عليه وآله ولعن أباه وابنه في قوله : اللّهمّ العن الراكب والقائد والسائق (1).
    فتبّاً لها اُمة ضالّة ، وسحقاً لها طائفة عن الحق عادلة ، ما أشدّ جهلها ، وأسفه حملها ، وأضعف عقولها ، وأخسر صفقتها ، وأكسد تجارتها ؟ إذ عدلت عن مهابط التنزيل إلى مواطن الأباطيل ، وعن أعلام الإيمان إلى أحزاب الشيطان ، واستبدلوا بالدرّ الثمين السرجين ، واتّبعوا ما يتلو الشيطان (2).
    روي في معنى قوله سبحانه : ( ومنَ الناسِ من يعبدُ اللهَ على حرفٍ ) (3) أنّه كان أبو موسى وعمرو.
    وروى ابن مردويه بأسانيده عن سويد بن غفلة ، قال : كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات ، فقال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : إنّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزال اختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالّين ضالّ من اتّبعهما ، ولا تنفكّ اُموركم تختلف حتى تبعثوا حكمين يضلّان ويضلّ من تبعهما.
1 ـ وقعة صفّين : 220 ، عنه البحار : 33 / 190 ، والمقصودون هم : أبو سفيان ، ومعاوية وأخوه.
2 ـ إقتباس م نالآية : 102 من سورة البقرة.
3 ـ سورة الحجّ : 11.


(459)
    فقلت : اُعيذك بالله أن تكون أحدهما.
    قال : فخلع قميصه وقال : برّأني الله من ذلك كما برّأني من قميصي (1). اللّهمّ العن عمرواً وأبا موسى ، ومن أشار بتحكّمهما ، ورضي بحكمهما ، وصوّب اجتهادهما ، وحسّن رأيهما ، وشكّ في نفاقهما ، وحصّر لعنهما ، إنّك أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً.
    ولمّا رجع أمير المؤمنين عليه السلام بعد التحكّم إلى الكوفة اجتمعت الفرقة المارقة عن الايمان ، أهل الزيغ والبهتان ، وقالوا : إنّ عليّاً قد حكم في دين الله ، وكلّ من حكم في دين فقد كفر ، لقوله سبحانه : ( ومن لم يحكم بما أنزلَ اللهُ فاولئكَ همُ الكافرونَ ) (2) ودخلت عليهم الشبهة في ذلك ، فهم الضالّون المضلّون الّذين قال الله فيهم : ( قل هل ننبّئكم بالأخسرينَ أعمالاً ـ قال أمير المؤمنين لمّا سئل عن معناها : هم أهل حروراء ، ثم قال : ـ الذينَ ضلَّ سعيهم في الحياةِ الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنونَ صنعاً ـ في قتال أمير المؤمنين عليه السلام ـ اولئكَ الذين كفروا بآياتِ ربّهم ولقائهِ فحبطت أعمالهم فلا نقيمُ لهم يوم القيامة وزناً ذلكَ جزاؤهم جهنّمُ بما كفروا ـ بولاية عليّ بن أبي طالب ـ واتّخذوا آياتي ـ القرآن ـ ورسلي ـ يعني محمّداً ـ هزواً ) (3) واستهزؤا (4) بقوله صلّى الله عليه وآله : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه.
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 181 ـ 182 ، عنه البحار : 33 / 311 ـ 312 ح 562.
    وانظر : تاريخ اليعقوبي : 2 / 190 ، ومروج الذهب : 2 / 403.
2 ـ سورة المائدة : 44.
3 ـ سورة الكهف : 103 ـ 106.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : استهزاء.


(460)
    تفسير الفلكي : قال النبيّ صلّى الله عليه وآله في قوله سبحانه : ( يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ فأمّا الذينَ اسودّت وجوههم ) (1) فهم الخوارج. (2)
    وقال صلّى الله عليه وآله فيهم : ياتي قوم من بعيد يحتقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم وعبادتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه. (3)
    وروى البخاري ومسلم والطبري والثعلبي في كتبهم أنّ ذا الخويصرة التميمي (4) أتى النبي صلّى الله عليه وآله وقال : أعدل بالسويّة.
    فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : ويحك ، إن لم أعدل أنا فمن يعدل ؟
    فقال عمر : ائذن لي حتى أضرب عنقه.
    فقال : دعه فإنّ له أصحاباً ، فذكر وصفه (5) فنزل ( ومنهُم من يلمزكَ في الصدقاتِ ) (6).
    وروي من طرق شتّى أنّه ذكروه بين يدي (7) رسول الله صلّى الله عليه وآله
1 ـ سورة آل عمران : 106.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 186 ـ 187 ، عنه البحار : 33 / 326 ـ 327 ح 573.
    وانظر : العمدة لابن البطريق : 461 ح 967.
3 ـ انظر : الأحاديث الغيبيّة : 1 / 281 ـ 307 ح 164 ـ 177.
4 ـ هو حرقوص بن زهير رئيس الخوارج.
5 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وصيّه.
6 ـ سورة التوبة : 58.
7 ـ في المناقب : مسند أبي يعلى الموصلي وإبانة ا بن بطّة العكبري وعقد ابن عبد ربّه الأندلسي وحلية أبي نعيم الاصفهاني وزينة أبي حاتم الرازي وكتاب أبي بكر الشيرازي انّه ذُكر بين يدي..


(461)
بكثرة العبادة ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله : لا أعرفه ، فإذا هو قد طلع.
    فقالوا : هو هذا.
    فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنّي لأرى بين عينيه سفعة (1) من الشيطان ، فلمّا رآه قال : هل حدّثتك نفسك إذ طلعت علينا إنّه ليس في القوم مثلك ؟
    قال : نعم ، ثمّ دخل المسجد فوقف يصلّي ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : ألا رجل يقتله ؟ فجرّد (2) أبو بكر عن ذراعيه وصمد نحوه فرآه راكعاً ، فقال : أقتل رجلاً يركع ويقول : لا إله إلا الله !
    فقال صلّى الله عليه وآله : لستَ بصاحبه.
    ثم قال : ألا رجل يقتله ؟ فقام عمر فرآه ساجداً ، فقال : أقتل رجلاً يسجد ويقول : لا إله إلا الله !
    فقال النبي صلّى الله عليه وآله : اجلس فلستَ بصاحبه ، قم يا عليّ ، فإنّك أنت قاتله ، فمضى وانصرف ، فقال : ما رأيته.
    فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أما إنّه لو قتل لكان أوّل فتنة وآخرها.
    وفي رواية : هذا أوّل قرن يطلع في اُمّتي لو قتلتموه ما اختلف بعدي اثنان.
    وقال ابن عبّاس : أنزل الله فيه ( ثانيَ عطفه ليضلَّ عن سبيل اللهِ لَهُ في
1 ـ السفعة : العلامة.
2 ـ في المناقب : فحسر.


(462)
الدنيا خزيٌ ـ القتل ـ ونذيقُهُ يومَ القيامةِ عذاب الحريقِ ) (1) بقتاله أمير المؤمنين عليه السلام.
    ثم إنّهم أتوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ورؤساؤهم زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير التميمي ـ الذي تقدّم ذكره وهو ذو الثديّة ـ وقالوا : لا حكم إلا بالله.
    فقال عليه السلام : كلمة حقّ يراد بها باطل.
    قال حرقوص : فتب من خطيئتك ، وارجع عن فعلتك (2) ، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا.
    فقال عليه السلام : قد أردتكم على ذلك فعصيتموني ، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشروطاً ، وأعطيناهم عليها عهوداً ومواثيقاً ، وقد قال الله سبحانه : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) (3).
    فقال حرقوص : فذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.
    فقال أمير المؤمنين : ما هو ذنب ، ولكنّه عجز من الرأي ، وضعف في العقل ، وقد تقدّمت ونهيتكم عنه.
    فقال ابن الكوّاء : الآن صحّ عندنا أنّك لستَ بإمام ، ولو كنتَ إماماً لما رجعت.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا ويلكم ، قد رجع رسول الله صلّى الله
1 ـ سورة الحج : 9.
2 ـ في المناقب : قصّتك.
3 ـ سورة النحل : 91.


(463)
عليه وآله عام الحديبيّة عن قتال أهل مكّة ، ففارقوا أمير المؤمنين عليه السلام وقالوا : لا حكم إلا لله ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وكانوا اثني عشر ألف رجل من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما ، ونادى مناديهم أنّ أمير القتال شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخرجوا من الكوفة إلى المدائن ، ثمّ إلى النهروان ، واستعرضوا الناس ، وقتلوا عبد الله بن خبّاب بن الارت ، وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام على النهروان.
    فقصدهم أمير الؤمنين عليه السلام وأرسل إليهم ابن عبّاس ، وقال : امض إلى هؤلاء القوم فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا ؟ فلمّا وصل إليهم قالوا : ويلك يا ابن عبّاس أكفرت كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب ؟!
    وخرج خطيبهم عتّاب بن الأعور الثعلبي ، فقال ابن عبّاس : من بنى الاسلام ؟ قال : الله ورسوله.
    قال : فالنبيّ أحكم اُموره وبيّن حدوده أم لا ؟
    قال : بلى.
    قال : فالنبيّ بقي في دار الاسلام أم ارتحل ؟
    قال : بل ارتحل.
    قال : فاُمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده ؟
    قال : بل بقيت.
    قال : فهل أحد قام بعمارة ما بناه ؟
    قال : نعم.


(464)
    قال : من هو ؟
    قال : الذرّيّة والصحابة.
    قال : فعمّروها أم خرّبوها ؟
    قال : بل عمّروها.
    قال : فالآن هي معمورة أم خراب ؟
    قال : بل خراب.
    قال : خرّبها ذرّيّته أم اُمّته ؟
    قال : بل اُمّته.
    قال : أنت من الذرّيّة أم من الاُمّة ؟
    قال : من الاُمّة.
    قال : أنت من الاُمّة وخرّبت دار الاسلام ، فكيف ترجو الجنّة ؟ ـ وجرى بينهما كلام كثير ـ ثمّ حضر أمير المؤمنين عليه السلام بمائة رجل ، فلمّا قابلهم خرج إليه ابن الكوّاء في مائة رجل ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : أنشدكم بالله هل تعلمون حيث رفعوا المصاحف فقلتم : نجيبهم إلى كتاب الله ، فقلت لكم : إنّي أعلم بالقوم منكم ـ وذكر مقاله إلى أن قال ـ فلمّا أبيتم إلى الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييها ما أحيا القرآن ، وأن ميتا ما أمات القرآن ، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكمه ، وإن أبيا فنحن منه (1) براء.
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : منهم.

(465)
    قالوا : أخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء (1) ؟
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : نحن ليس الرجال حكّمنا ، وإنّما حكّمنا القرآن ، والقرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق ، وإنّما يتلكّم به الرجال.
    قالوا : فأخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم ؟
    قال : ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعلّ الله يصلح في هذه المدّة هذه الاُمّة ، وجرت بينهم مخاطبات وجعل بعضهم يرجع ، فأعطى أمير المؤمنين عليه السلام راية أمان مع أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه. فنادى أبو أيّوب : من جاء إلى هذه الراية ، وفارق الجماعة فهو آمن ، فرجع منهم ثمانية آلاف رجل فأمرهم أمير المؤمنين عليه السلام أن يتميّزوا منهم ، وأقام الباقون على الخلاف.
    وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استنفر الناس فلم يجيبوه ، فقال :
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
    ثمّ استنفرهم فنفر معه ألفا رجل يقدمهم عديّ بن حاتم وهو يقول :
إلى شرّ خلق من شراة تحزّبوا وعادوا إله الناس ربّ المشارق
    ثمّ توجّه أمير المؤمنين نحوهم ، وكتب إليهم على يد (2) عبد الله بن أبي عقب ، وفيها : والسعيد من سعدت به رعيّته ، والشقيّ من شقيت به رعيّته ، وخير
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : الدنيا.
2 ـ في المناقب : يدي.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس