تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 466 ـ 480
(466)
الناس خيرهم لنفسه ، وشرّ الناس شرّهم لنفسه ، وليس بين الله وبين أحد قرابة ، و ( كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينةٌ ) (1).
    فلمّا وصل إليهم أمير المؤمنين عليه السلام استعطفهم فأبوا إلا قتاله ، وتنادوا أن دعوا مخاطبة عليّ وأصحابه وبادروا إلى الجنّة ، وصاحوا : الرواح الرواح إلى الجنّة ، وأمير المؤمنين يعبّئ أصحابه ونهاهم أن يتقدّم إليهم أحد.
    فكان أوّل من تقدّم من الخوارج أخنس بن العيزر (2) الطائي ، وجعل يقول :
ثمانون من حيي جديلة قـتّـلوا ينـادون لا لا حكم إلا لـربّنـا هم فارقوا من جار في الله حكمه على النهر كانوا يخضبون العواليا حنـانـيك فاغفر حوبنا والمساويا فكلّ إلـى (3) الرحمن أصبح ثاويا
    فقتله أمير المؤمنين عليه السلام.
    وخرج عبد الله بن وهب الراسبي ، وقال :
أنا ابن وهب الراسبي الشاري حتـى تـزولـه دولة الأشرار أضرب في القوم لأخذ الثار ويرجـع الحقّ إلى الأخيار
    فقُتل.
    وخرج مالك بن الوضّاح قائلاً :
إنّي لبائع ما يفنى بباقية ولا اُريد لدى الهيجاء تربيضا

1 ـ سورة المدّثر : 38.
2 ـ في المناقب : العيزار ، وفي البحار : العزير.
3 ـ في المناقب : على.


(467)
    وخرج إلى أمير المؤمنين عليه السلام الوضّاح بن الوضّاح من جانب ، وابن عمّه حرقوص من جانب ، فقتل الوضّاح ، وضرب ضربة على رأس حرقوص فقطعه ، ووقع [ رأس ] (1) سيفه على الفرس فشرد وأرجله في الركاب حتى أوقعه في دولاب خراب فصارت الحروريّة كرمادٍ اشتدّت به الريح في يوم عاصفٍ.
    وكان المقتولون من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام : رؤبة بن وبر البجلي ، ورفاعة بن وائل الأرحبي ، والفياض بن خليل الأزدي ، وكيسوم بن سلمة الجهني ، وحبيب بن عاصم الأزدي ، إلى تمام تسعة ، وانفلت من الخوارج تسعة ، كما أخبر أمير المؤمنين عليه السلام في بدء الأمر ، فقال : إنّهم لا يقتلون منّا عشرة ، ولا يسلم منهم عشرة. (2)
    أبو نعيم الأصفهاني : عن سفيان الثوري أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر أن نفتّش على المُخدَج بين القتلى وفلم نجده.
    فقال رجل : والله ما هو فيهم.
1 ـ من المناقب.
2 ـ انظر : الكامل للمبرّد : 3 / 102 ، مقتل الامام أمير المؤمنين لابن أبي الدنيا : 22 ، الفتوح لابن أعثم : 4 / 120 ، الهداية الكبرى : 137 ، كمال الدين : 1 / 120 ، نهج البلاغة : 93 خطبة رقم 59 ، المحاسن والمساوئ : 385 ، السنن الكبرى للبيهقي : 8 / 158 ، تاريخ بغداد : 14 / 365 ، مناقب ابن المغازلي : 406 ، البدء والتاريخ : 5 / 224 ، مناقب الخوارزمي : 263 ح 245 ، شرح نهج البلاغة : 2 / 273 ، إعلام الورى : 173 ، الخرائج والجرائح : 1 / 228 ، الكامل في التاريخ : 3 / 345 ، مطالب السؤول : 132 ، الفخري : 95 ، كشف الغمّة : 1 / 274 ، مشارق أنوار اليقين : 80 ، مجمع الزوائد : 6 / 241 ، كنز العمّال : 11 / 290.


(468)
    فقال صلوات الله عليه : والله ما كذبت ولا كذّبت.
    وروي (1) أنّ أمير المؤمنين قال : اطلبوا المُخدَج.
    فقالوا : لم نجده.
    فقال : والله ما كذبت ولا كذّبت ، يا عجلان : ائتني ببغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأتاه بالبغلة ، فركبها وجال في القتلى ، [ ثم ] (2) قال : اطلبوه هاهنا.
    قال : فاستخرجوه من تحت القتلى في نهر وطين ، فسجد أمير المؤمنين شكراً لله.
    تاريخ القمّي : إنّه رجل أسود ، عليه قريطق ، مُخدَج اليد (3) ، أحد ثدييه كثدي المرأة ، عليه شعيرات مثل شعيرات تكون على ذنب اليربوع (4).
    وفي مسند الموصلي : حبشيّ [ مثل البعير ] (5) في منكبه مثل ثدي المرأة ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : صدق الله ورسوله.
    وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : من يعرف هذا ؟ فلم يعرفه أحد.
1 ـ انظر : سنن أبي داود : 4 / 245 ، صحيح مسلم : 749 ذح 156.
2 ـ من المناقب.
3 ـ قريطق : تصغير قرطق ، وهو قباء. ومُخدَجُ اليد : ناقصها.
4 ـ اليَربوعُ : حيوان صغير على هيئة الجُرَذ الصغير ، وله ذنب طويل ينتهي بخصلة من الشعر ، وهو قصير اليدين طويل الرجلين. « المعجم الوسيط : 1 / 325 ».
5 ـ من المناقب.


(469)
    فقال رجل : أنا رأيت هذا بالحيرة فقلت : إلى أين تريد ؟
    فقال : هذه ، وأشار إلى الكوفة ، وما لي بهذا (1) معرفة.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : صدق ، هو من الجانّ.
    وفي رواية : هو من الجنّ.
    وفي مسند الموصلي : من زعم من الناس أنّه رآه قبل مصرعه فهو كاذب.
    وفي مسند أحمد : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : أما إنّه أخبرني خليلي بثلاثة إخوة من الجنّ هذا أكفرهم (2) ، والثاني له جمع كثير ، والثالث فيه ضعف.
    وفي رواية عن سعد بن أبي وقّاص : هو شيطان الردهة (3).
    وإلى هذا أشار أمير المؤمنين في خطبته القاصعة (4) : ألا وقد أمرني الله سبحانه بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض ، فأمّا الناكثون فقد قاتلت ، وأمّا القاسطون فقد جاهدت ، وأمّا المارقة فقد دوّخت ، وأمّا شيطان الردهة فقد كفيته بصعقةٍ سمعت لها وجبة قلبه ورجّة صدره (5).
1 ـ في المناق : بها.
2 ـ في المناقب : أكبرهم.
3 ـ الرَدهة : النُقرة في الجبل قد يجتمع فيها الماء ، وشيطان الرَدهة : ذو الثَدِيّة وُجِد مقتولاً في ردهة.
4 ـ نهج البلاغة : 299 ـ 300 خطبة رقم 192.
5 ـ الصَعقة : الغشيّة تصيب الانسان من الهول. ووجبة القلب : اضطرابه وخفقانه. ورجّة الصدر : اهتزازه وارتعاده.


(470)
    [ للحميري : ] (1)
إنّي أدينُ بما دان الوصيّ به وما به دان يوم النهر دنت به في سفكِ ما سفكت فيها إذا حضروا تلك الدماء معاً يا ربّ في عنقي يوم الخُرَيبة (2) من قتل المحلّينا وبايعت كَفّه كفّي بصفّينا وأبرزَ الله للقسط المَوازينا ثمّ اسقِني مثلَها آمينَ آمينا (3)
    الحميري :
ومارقة في دينهم فارقوا الهدى سطوا بابن خبّاب وألقى بنفسه فلمّا أبوا في الغيّ إلا تمادياً فأضحوا كعادٍ أو ثمود كأنّما ولم يأتلوا بغياً عليه وحكّموا وقتل ابن خبّاب عليهم محرّم سما لم عبل الذراعين ضيغم تساقوا عقاراً أسكرتهم فنوّموا (4)
    ثمّ لمّا انقضى أمر الخوارج عليهم اللعنة خاض الناس في أمر الحكمين ، فقال بعض الناس ، ما يمنع أمير المؤمنين عليه السلام أن يأمر بعض أهل بيته فيتكلّم ؟
    فقال للحسن عليه السلام : قم فتكلّم في هذين الرجلين : عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص.
1 ـ من المناقب.
2 ـ الخريبة : موضع بالبصرة كانت فيه واقعة الجمل.
3 ـ العقد الفريد : 3 / 285 ، الأغاني : 7 / 273 ، أعيان الشيعة : 3 / 416 ، ديوان السيّد الحميري : 418.
4 ـ ديوان السيّد الحميري : 372.


(471)
    فقام الحسن عليه السلام ، فقال : أيّها الناس ، إنّكم قد أكثرتم في أمر عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص ، وإنّما بعثناهما (1) ليحكما بكتاب الله فحكما بالهوى على الكتاب ، ومن كان هكذا لم يسمّ حكماً ولكنّه محكوم عليه ، وقد أخطأ عبد الله بن قيس إن أفضى (2) بها إلى بعد الله بن عمر ، فأخطأ في ذلك في ثلاث خصال : في أنّ أباه لم يرضه لها ، وفي أنّه لم يستأمره ، وفي أنّه لم يجتمع عليه الأنصار والمهاجرون الذين نفذوها لمن بعده ، وإنّما الحكومة فرض من الله ، وقد حكّم رسول الله صلّى الله عليه وآله سعداً في بني قريظة لحكم فيهم بحكم الله لا شكّ فيه ، فأنفذ رسول الله صلّى الله عليه وآله حكمه ولو خالف ذلك لم يجزه ، ثمّ جلس.
    ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام لابن عبّاس : قم فتكلّم.
    فقام ، وقال : أيها الناس ، إنّ للحقّ أهلاً أصابوه بالتوفيق والناس بين راضٍ به وراغب عنه ، وإنّما بعث عبد الله بن قيس لهدىً من ضلالة ، وبعث عمرو لضلالة من هدى (3) ، فلمّا التقيا رجع عبد الله عن هداه وثبت عمرو على ضلالته ، والله لئن حكما بالكتاب لقد حكما عليه ، وإن حكما بما اجتمعا عليه معاً ما اجتمعا على شيء ، وإن كانا قد حكما بما سارا إليه لقد سار عبد الله وإمامه عليّ ، وسار عمرو وإمامه ومعاوية ، فما بعد هذا من غيب ينتظر ، ولكنّهم سئموا الحرب وأحبّوا البقاء ، ودفعوا البلاء ، ورجا كلّ قوم صاحبهم.
1 ـ في المناقب : بعثا.
2 ـ في المناقب : أوصى.
3 ـ في المناقب : بهدى إلى ضلالة ... بضلالة إلى الهدى.


(472)
    ثم قال عليه السلام لعبد الله بن جعفر : قم فتكلّم.
    فقام عبد الله ، وقال : أيها الناس ، إنّ هذا الأمر كان النظر فيه إلى عليّ عليه السلام والرضى فيه لغيره فجئتم بعبد الله بن قيس فقلتم : لا نرضى إلا بهذا فارض به فإنّه رضانا ، وأيم الله ما استفدنا علماً ، ولا انتظرنا منه غائباً ، ولا أمّلنا ضعفه ، ولا رجونا به صاحبه ، ولا أفسدا بما عملا العراق ، ولا أصلحا الشام ، ولا أماتا حقّ عليّ ، ولا أحييا باطل معاوية ، ولا يذهب الحقّ رقية راقٍ ولا نفحة الشيطان ، وإنّا اليوم على ما كنّا عليه أمس ، وجلس.
    ومن كلام أمير المؤمنين عليه السلام (1) : ألاّ ومن دعا إلى هذا الشعار (2) فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتي هذه ، فإنّما حُكّم الحكمان ليحييا ما أحيى القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن ، وإحياؤه الاجتماع عليه ، وإماتته الافتراق عنه ، فإن جرّنا القرآن إليهم اتّبعناهم ، وإن جرّهم إلينا اتّبعونا ، فلم آت ـ لا أبا لكم ـ بُجراً ، ولا ختلتكم عن أمركم ، ولا لبّسته (3) عليكم ، إنّما اجتمع رأي ملئِكم على اختيار رجلين ، أخذنا (4) عليهما ألاّ يعتدّيا القرآن ، فتاها عنه ، وتركا الحقّ وهما يبصرانه ، فكان الجور هواهما فمضيا عليه ، وقد سبق استثناؤنا
1 ـ نهج البلاغة : 185 خطبة رقم 127.
2 ـ الشِعار : علامة القوم في الحرب والسفر ، وهو ما يتنادون به ليعرف بعضهم بعضاً.
3 ـ البُجر : الشرّ والأمر العظيم. وختلتكم : خدعتكم. والتلبيس : خلط الأمر وتشبيهه حتى لا يعرف. وفي الأصل : لأ أبا لكم بجواب ، لا قلبّنكم عن أمركم ، ولا لبسنّه عليكم. وما أثبتناه في المتن وفقاً للنهج.
4 ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : أخذتما.


(473)
عليهما ـ في الحكومة بالعدل والصمد (1) للحقّ ـ سوء رأيهما ، وجور حكمهما.
    ثم إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الخطبة المذكورة في نهج البلاغة (2) من كلامه عليه السلام الّذي رواه نوف البكالي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب بها قائماً على حجارةٍ نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي وهو ابن اُخت أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي التي أوّلها : الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر ، إلى آخرها ، فلمّا فرغ من خطبته عليه السلام نادى بأعلا صوته : الجهاد الجهاد عباد الله ، ألا وإنّي معسكر في يومي هذا ، فمن أراد الرواح إلى الله تعالى فليخرج.
    قال نوف : وعقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف ، وللحسن في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعدادٍ اُخر وهو يريد الرجعة إلى صفّين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه ابن ملجم لعنة الله عليه ، فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنامٍ فقدت راعيها تتخطّفها الذئاب من كلّ مكان. (3)
    قلت : ولمّا تفكّرت في هذه العصابة المارقة عن الدين ، الخارجة عن الحق المبين ، التي كفى الله المؤمنين فتنتها ، وأدحض حجّتها ، واستأصل شأفتها ، وأوضح فسادها ، وبيّن إلحادها ، على لسان لسانه الناطق ، وأمينه الصادق ، خير الخلق بعد نبيّ الله ، وأعلمهم بصفات الله ، وأقومهم بحدود الله ، نظمت هذه
1 ـ الصمد : القصد.
2 ـ نهج البلاغة : 260 خطبة رقم 182.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 187 ـ 194 ، عنه البحار : 33 / 388 ـ 394 ح 618 من قوله : « ثمّ إنّهم أتوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه ».


(474)
الأبيات تقرّباً إلى الله بلعنتهم وسبّهم ، ووشحت نظامي بذمّهم وثلبهم ، وأوضحت من مساوئهم ، وكشفت عن مخازيهم ، وخاطبتهم خطاب المجاهد المناجز ، وقاتلتهم مقاتلة المصاول المبارز ، وجرّدت عضب لساني من عمد مقولي ، وطعنت بعامل نظامي في أعداء معاذي وموئلي ، قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، أعلى من فاز بالمعلّا من قول ربّ العالمين : ( وكأيّن من نبيٍّ قاتل معه ربّيّونَ كثيرٌ فما وهنوا لما أصابهم في سبيلِ اللهِ وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبُّ الصابرين ) (1).
يا اُمّة فـارقـت منـهاج هاديـهـا وأصبحت عن طريق الحقّ خارجـة سوق العسوف بـها قامـت فأنفسـها ما ان شرى الله منها أنـفساً زهقـت عن نور شمس الهدى أبصارها برقت زلّت مطالبهـا ضلّـت مـذاهـبـها ترى حـرورا بهـا معـنى لأعظمها رامت على الحق أن تعـلو بشـبهتها تنكّبت عن طريق الرشـد وارتكـبت بسيف أعلا الورى جـدّاً وأشـرفـها وخير من فـرض الـلـه الـولاء له وأعظم النـاس قـدراً بـل وأسمحهم أخ الرسـول وفاديـه بـمهـجتـه وأوضعت بوجيف فـي مغاويها كالنّبل تمرق من مـحني راميها بالسيف اُرخص منها سعر غاليها في النهروان بل الشيطان شاريها إذ البصائر فرط الجهل معشيـها عمّت مصائبها خابت مساعيهـا لمّا غدا البغي نحو الحتف داعيها فانهدّ بنيانهـا وانحـطّ عاليـها سبل الضلال فأضحى حتفها فيها جدّاً وأعظمـها مـجداً وواليـها على الخلائـق دانيـها وقاصيها كفّاً وأجـملهم وصفـاً وبـنويها وخير اُمّـته طـرّاً وقـاضيـها

1 ـ سورة آل عمران : 146.

(475)
ومن إذا أشـكلت فـي الدين معضلة في محكم الذكر كـم في مدحه نطقت عن حاز بالبضعة الزهـراء مكرّمة الله زوّجـهـا والـروح شـاهـدها نثار طوبى لـحسـد العـرس يومئذٍ في سورة الدهر حاز الفخر من مدحٍ حتى القيامة تـتلى فـي خصائصه يا من يــروم بلا عـلم مراتـبه أبالاُصول التي شاعت فضـائحـها ترجو بجهلك يا مــغرور منـزلة منّتك نفـسك سلطانـاً مـناصبـه هي الخـلافة بالنصّ الجليّ من الله فـهو الـذي بقـضايـاه يـجليـها آياته وجـــلت عنـه مـعانيـها دون الـعبـاد فـلا خلـق يدانيها أكرم بشـاهدها أعـظم بـوالهـيا كان النـثار فـيا طوبـى مواليـها في شأنه انزلت سبحـان مـنشيـها يسرّ قلب اُولي الايـمـان تـاليـها أقدام رومـك زلـّت عـن مـراقيها أم بالفروع التي جمـّت مخـازيـها من المهيـمن لا ترقـى مـعاليـهـا لا يستطيع خبيث الأصـل يأتيـهـا الجـليـل فـما اعـلى مبـانيـهـا


    روى الشيخ محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رضي الله عنه بإسناد صحيح متّصل إلى عليّ بن الحسن بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن الرضا علي بن موسى ، عن أبيه موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين ، قال : خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم ـ قلت : وربّما كانت هذه الخطبة آخر جمعة من شهر شعبان ـ فقال : أيها الناس ، قد أظلّكم هر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ، شهر هو عند الله أفضل الشهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات.
    شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله ، وجعلتم من أهل كرامة الله ، أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجابٌ ، فاسألوا الله ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتاب الله فيه ، فإنّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم ـ إلى تمام الخطبة ، ذكرها الشيخ المذكور رضي الله عنه في أماليه ، إلى أن قال : ـ أيها الناس ، إنّ


(477)
أبواب الجنان مفتّحة في هذا الشهر الشريف فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم ، وأبواب النيران مغلقة في هذا الشهر الشريف فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم ، والشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم ألاّ يسلّطها عليكم.
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : فقمت وقلت : يا رسول الله ، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر الشريف ؟
    فقال : يا أبا الحسن ، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ ، ثمّ بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟
    قال : أبكي لما يستحلّ منك في هذا الشهر ، كأنّي بك وأنت تصلّي ربّك ، وقد انبعثت أشقى الأوّلين وأشقى الآخرين ، شقيق (1) عاقر ناقة ثمود ، فضربك على قرنك ضربة خضب منها لحيتك.
    قال أمير المؤمنين عليه السلام : فقلت : يا رسول الله ، أفي سلامة من ديني ؟
    فقال : في سلامة من دينك.
    ثم قال صلّى الله عليه وآله : يا عليّ من قتلك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبّك فقد سبّني ، لأنّك منّي كنفسي ، روحك من روحي ، وطينتك من طينتي ، إنّ الله سبحانه خلقني وإيّاك ، واصطفاني وإيّاك ، واختارني للنبوّة ، واختارك للامامة ، فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوّتي.
    يا عليّ ، أنت وصيّي ، وأبو ولدي ، وزوج ابنتي ، وخليفتي على اُمّتي في
1 ـ كذا في الأمالي ، وفي الأصل : شبيه.

(478)
حياتي وبعد موتي ، أمرك أمر ، ونهيك نهيي ، اُقسم بالذي بعثني بالنبوّة وجعلني خير البريّة إنّك لحجّة الله على خلقه ، وأمينه على سرّه (1) ، وخليفته على عباده (2).
    تفسير وكيع والسدّي وسفيان وأبي صالح : أنّ عبد الله بن عمر قرأ قوله تعالى : ( أولم يروا أنّا نأتي الأرضَ ننقصها من أطرافها ) (3) قال : هو يوم قتل فيه أمير المؤمنين عليه السلام ، ثم قال : يا أمير المؤمنين ، لقد كنتَ الطرف الأكبر في العلم ، اليوم نقص علم الاسلام ، ومضى ركن الايمان.
    وروى الزعفراني ، عن المزني ، عن الشافعي (4) ، عن مالك ، [ عن سمّي ، ] (5) عن أبي صالح ، قال : لمّا قتل عليّ بن أبي طالب قال ابن عبّاس : هذا اليوم نقص العلم والفقه من أرض المدينة ، ثمّ قال : إنّ نقصان الأرض نقصان علمائها وخيار أهلها ، إنّ الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ، لكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس دوننا (6) جهّالاً ، فيسألوا فيفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا.
    سعيد بن جيبر ، عن ابن عبّا س في قوله سبحانه : ( ربّ اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخلَ بيتي مؤمناً ) وقد كان قبر أمير المؤمنين عليه السلام مع نوح في
1 ـ كذا في الأمالي ، وفي الأصل : بريّته.
2 ـ أمالي الصدوق : 84 ح 4 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 295 ح 53 ، فضائل الأشهر الثلاثة : 77 ح 61 ، عنها البحار : 96 / 356 ح 25.
    وأخرجه في البحار : 42 / 190 ح 1 عن الأمالي والعيون.
3 ـ سورة الرعد : 41.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وروى المازني عن الشافعي.
5 ـ من المناقب.
6 ـ في المناقب : رؤساء.


(479)
السفينة ، فلمّا خرج من السفينة ترك قبره خارج الكوفة ، فسأل نوح ربّه المغفرة لعليّ وفاطمة قوله : ( وللمؤمنينَ والمؤمناتِ ) ، ثم قال : ( ولا تزيدِ الظالمينَ ـ لآل محمد ـ إلاَّ تباراً ) (1).
    وروي أنّه نزل فيه ـ أي في قاتل عليّ ـ : ( وسيعلمُ الذينَ ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبونَ ) (2).
    وروى أبو بكر بن مردويه في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، وأبو بكر الشيرازي في نزول القرآن ، أنّه قال سعيد بن المسيّب : كان أمير المؤمنين يقرأ : ( إذ انبعثَ أشقاها ) (3) قال : والذي نفسي بيده لتخضبنّ هذه من هذا ـ وأشار بيده إلى رأسه ولحيته ـ (4).
    وروى الثعلبيّ والواحديّ بإسنادهما عن عمّار وعن عثمان بن صهيب وعن الضحّاك. وروى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة وعن صهيب وعن عمّار وعن ابن عديّ وعن الضحّاك. والخطيب في التاريخ عن جابر بن سمرة. وروى الطبري والموصلي عن عمّار. وروى أحمد بن حنبل عن الضحّاك أنّه قال (5) النبيّ صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، أشقى الأوّلين عاقر ناقة ثمود ، وأشقى الآخرين قاتلك.
1 ـ سورة نوح : 28.
2 ـ سورة الشعراء : 227.
3 ـ سورة الشمس : 12.
4 ـ نعى أمير المؤمنين عليه السلام نفسه كثيراً ، انظر : الأحاديث الغيبيّة : 2 / 132 ـ 150 ح 427 ـ 441.
5 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : وروى الثعلبيّ والواحديّ بإسنادهما عن عمّار وجابر بن سمرة عن عمّار أنّه قال.


(480)
    وفي رواية : من يخضّب هذه من هذا.
    وروى الحسن البصري أنّه عليه السلام سهر في تلك الليلة الّتي ضرب فيها ولم يخرج لصلاة الليل على عادته ، فقالت اُمّ كلثوم : ما هذا السهر ؟
    قال : إنّي مقتول لو قد أصبت.
    فقالت : مر جعدة فليصلّ بالناس.
    [ قال : نعم ، مروا جعدة ليصلّ ] (1) ، ثمّ مرّ وقال : لا مفرّ من الأجل ، وخرج قائلاً :
خلّوا سبيل الجاهد المجاهد في الله لا يعبد غير الواحد في الله ذي الكتب وذي المشاهد ويوقظ النـاس إلى المســاجد
    وروي أنّه عليه السلام سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر إلى السماء ، وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذّبت ، وإنّها الليلة التي وعدت بها ، ثمّ يعاود مضجعه ، فلمّا طلع الفجر نادى ابن النباح (2) : الصلاة ، فقام فاستقبلته الإوزّ ، فصحن في وجهه ، فقال : دعوهنّ ، فإنّهنّ صوائح تتبعها نوائح ، وتعلّقت حديدة غلق (3) الباب بمئزره ، فشدّ إزاره وهو يقول :
اُشدد حيازيمك للموت ولا تجزع من الموت فإنّ الموت لاقيك إذا حلّ بنـاديـك

1 ـ من المناقب.
2 ـ في المناقب : ابن التياح.
3 ـ في المناقب على.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس