تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 481 ـ 495
(481)
فقد أعرف أقواماً مساريع إلى الخير وإن كانوا صعاليك (1) وللشرّ متـاريـك (2)
    أبو صالح الحنفي : قال : سمعت عليّاً عليه السلام يقول : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في منامي ، فشكوت إليه ما لقيت من اُمّته من الأود واللدد (3) ، وبكيت ، فقال : لا تبك يا عليّ ، والتفتَ والتفتُّ ، فإذا رجلان مصفّدان ، وإذا جلاميد ترضخ بها رؤوسهما.
    وروي أنّه عليه السلام قال لابنته اُمّ كلثوم : يا بنيّة ، إنّي أراني قلّ ما أصحبكم.
    قالت : وكيف ذاك يا أبتاه ؟
    قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في المنام وهو يمسح الغبار عن وجهي ، ويقول : يا عليّ ، لا عليك قضيت ما عليك.
    قالت : فما مكثنا حتى ضرب في تلك الليلة.
    وروي أنّه قال : يا بنيّة ، إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يشير إليّ بكفّه ، ويقول : يا علي ، إلينا ، فإنّ ما عندنا خير لك.
    أبو مخنف الأزدي ، وابن راشد ، والرفاعي ، والثقفي جميعاً ، قالوا : لمّا رجع أمير المؤمنين عليه السلام من حرب الخوارج وقتلهم الله على يده ، وأنجز ما وعده ، اجتمع في مكّة جماعة من الخوارج فقالوا : إنّا شرينا أنفسنا لله فلو
1 ـ الصعاليك : جمع الصعلوم ، وهو الفقير ، الضعيف.
2 ـ انظر خصائص الأئمّة عليهم السلام : 63.
3 ـ الاود : الاعوجاج. اللدد : الخصومة.


(482)
أتينا أئمّة الضلال ، وطلبنا غِرّتهم أرحنا العباد والبلاد منهم.
    فقال عبد الرحمان بن ملجم لعنه الله : أنا أكفيكم عليّاً ، وقال الحجّاج بن عبد الله السعدي الملقّب بالبُرَك : أنا أكفيكم معاوية ، وقال عمرو بن بكر التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، واتّعدوا ليلة التاسع عشر من شهر رمضان ، ثمّ تفرّقوا ، فدخل ابن ملجم الكوفة فرأى رجلاً من تيم الرباب عند قَطام التميميّة ، وكان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها الأخضر وأخاها الأصبغ بالنهروان فشغف بها ، وخطبها فأجابته بمهر ذكره العبدي في كلمته :
فلم أر مهراً ساقـهُ ذو سمـاحةٍ ثـلاثـة آلافٍ وعبـدٌ وقَـينَةٌ فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا كمهر قَطام مـن فصيـح وأعجم وقتل (1) عليّ بالحـسام الـمسمّم ولا فتك إلا دون فتك (2) ابن ملجم
    فقبل ابن مُلجَم ذلك ، ثمّ قال : يا ويلك ، ومن يقدر على قتل عليّ ، وهو فارس الفرسان ، ومغالب الأقران ، والسبّاق إلى الطعان ؟ وأمّا المال فلا بأس عليّ منه.
    قالت : اقبل ، فقبل ، وقال لها : إنّي ما أتيت هذه البلدة إلا لذلك ، ولم اُظهر ذلك لأحد إلا لك.
    قالت : فإنّي أرسل إلى جماعة رأيهم رأيك في ذلك ، فبعثت إلى ابن عمّ لها يقال له وردان (3) بن مجالد التميمي وسألته معونة ابن ملجم ، واستعان ابن ملجم بشبيب بن بَجَرة ، وأعانه رجل من وكلاء عمرو بن العاص فأطعمتهم
1 ـ في المناقب : وعبدٌ وفتية وضرب عليّ.
2 ـ في المناقب : ولا قتل الا دون قتل.
3 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : ورقاء.


(483)
اللوزينج والجوزينق وسقتهم الخمر العكبري ، فنام شبيب وتمتّع ابن ملجم معها ، ثمّ قامت فأيقظتهم وعصبت صدورهم بحرير ، وتقلّدوا أسيافهم.
    وقيل : إنّ ابن ملجم قال لها : أترضين منّي بضربة واحدة ؟
    قالت : نعم ، ولكن اعطني سيفك ، فأعطاها فأمست ملطّخة بالسمّ ، ثمّ مضوا وكمنوا له مقابل السدّة ، وحضر الأشعث بن قيس لمعونتهم ، وقال لابن ملجم : النجا النجا لحاجتك ، فقد فضحك الصبح ، فأحسّ حجر بن عديّ بما أراد الأشعث ، فقال : قتلته يا أشعث ، وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فدخل المسجد فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف.
    وعن عبد الله بن محمد (1) الأزدي ، قال : أقبل أمير المؤمنين عليه السلام ينادي : الصلاة الصلاة ، فإذا هو مضروب ، وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله يا عليّ لا لك ولا لأصحابك ، وسمعت عليّاً يقول : فزت وربّ الكعبة ، ثمّ قال : لا يفوتنّكم الرجل.
    وكان قد ضربه شبيب فأخطأه ووقعت ضربته في الطاق ، ومضى هارباً حتى دخل منزله ودخل عليه ابن عمّ له فرآه يحلّ الحرير عن صدره ، فقال : لعلّك قتلت أمير المؤمنين ؟ فاراد أن يقول : لا ، فقال : نعم ، فقتله الأزدي.
    وأمّا ابن ملجم فإنّ رجلاً من همدان لحقه وطرح عليه قطيفة وصرعه.
    وانسلّ الثالث بين الناس وأتوا بابن ملجم إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : النفس بالنفس ، إن أنا متّ فاقتلوه كما قتلني ، وإن سلمت رأيت فيه رأيي.
    وفي رواية : إن عشت رأيت فيه رأيي ، وإن هلكت فاصنعوا به ما يفعل
1 ـ في المناقب : محمد بن عبد الله.

(484)
بقاتل النبيّ صلّى الله عليه وآله.
    فسئل : ما معناه ؟
    فقال : اقتلوه ، ثمّ حرّقوه بالنار.
    فقال ابن ملجم : لقد ابتعته بألفٍ وسممته بألف ، فإن خانني فأبعده الله ، ولقد ضربته ضربة لو قسّمت بين أهل الأرض لأهلكتهم.
    وفي محاسن الجوابات عن الدينوريّ : أنّ ابن ملجم قال : لقد سألت الله أن يقتل به شرّ خلقه.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : لقد أجاب الله دعوتك ، يا حسن ، إذا متّ فاقتله بسيفه.
    روي أنّه عليه السلام قال : أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره ، فإن أصحّ فأنا وليّ دمي ، إن شئت عفوت ، وإن شئت استنفذت ، وإن هلكت فاقتلوه.
    وروي أنّه لمّا ضرب أمير المؤمنين عليه السلام وسمعوا قوله : فزت وربّ الكعبة ، وارتفع الصياح في المسجد : قُتِل أمير المؤمنين ، أقبل أهل الكوفة رجالاً ونساءً بالمصابيح ، فوجدوا أمير المؤمنين عليه السلام مطروحاً في محرابه ، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء والنحيب.
    وأقبل الحسن والحسين ، فلمّا رأيا أمير المؤمنين وقعا على قدميه وأعلنا بالبكاء والنحيب ، وأقبلت بنات أمير المؤمنين مشقّقات الجيوب ، وجعل أمير المؤمنين يأخذ الدم من رأسه ويلطّخ وجهه ومحاسنه ، ويقول : هكذا ألقى الله ، هكذا ألقى رسول الله ، هكذا ألقى فاطمة ، هكذا ألقى جعفر الطيّار ، وسمع أمير المؤمنين بكاء بناته ، فقال : احملوني إلى المنزل لاُودّع بناتي وأهلي ،


(485)
فوضع إحدى يديه على كتف الحسن ، والاُخرى على كتف الحسين ، ومضيا به إلى حجرته ورجلاه تخطّان الأرض ، وقد علا لونه الاصفرار ، ولمّا وصل إلى الحجرة تنفّس الصبح ، فقال : يا صبح ، اشهد لي عند ربّك أنّني منذ كفلني رسول الله صلّى الله عليه وآله طفلاً إلى يومي هذا ما طلعتَ عليّ وأنا نائم أبداً ، ثمّ قال : اللّهمّ اشهد وكفى بك شهيداً أنّي لم أعص لك أمراً ، ولا تركت فرضاً ، ولا خطر في بالي ما يخالف أمرك.
    وروى ابن نباتة في خبر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : لقد ضربت في الليلة الّتي قبض فيها يوشع بن نون ، ولاُقبضنّ في الليلة التي رفع (1) فيها عيسى عليه السلام.
    عن الحسن عليه السلام في خبر : ولقد صعد بروحه في الليلة الّتي صعد فيها بروح يحيى بن زكريّا عليهما السلام.
    وكان عبد الرحمان بن ملجم لعنه الله في عداد مراد. قال ابن عبّاس : من نسل قدار عاقر ناقة صالح ، وقصّتهما واحدة ، لأنّ قدار عشق امرأة يقال لها رباب كما عشق ابن ملجم قطاماً.
    وسُمِعَ ابن ملجم يقول : لأضربنّ عليّاً بسيفي هذا ، فذهبوا به إليه عليه السلام ، فقال : ما اسمك ؟
    قال : عبد الرحمان بن ملجم.
    قال : نشدتك بالله عن شيء تخبرني به ؟
    قال : نعم.
1 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : قبض.

(486)
    قال : هل مرّ بك رجل متوكّئاً على عصا وأنت في الباب فمشقك بعصاه ، ثم قال : بؤساً لك يا أشقى من عاقر ناقة ثمود ؟
    قال : نعم.
    قال : هل كان الصبيان يسمّونك ابن راعية الكلاب ؟
    قال : نعم.
    وروي انّه أتى ابن ملجم أمير المؤمنين عليه السلام يبايعه فردّه مرتين أو ثلاثاً ، ثمّ بايعه وتوثّق منه إلا يغدر ولا ينكث ، فقال : والله ما رأيتك تفعل هذا بغيري.
    فقال أمير المؤمنين عليه السلام : امض يا ابن ملجم ، فوالله لتخضبنّ هذه من هذا ـ وأشار إلى لحيته ورأسه ـ.
    وروي أنّ ابن ملجم أتى أمير المؤمنين عليه السلام يستحمله ، فقال : يا غزوان احمله على الأشقر ، ثمّ قال عليه السلام :
اُريد حياته ويريد قتلي عذيري من خليلي (1) من مراد (2)
    وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان كثيراً ما يقول : ما يمنع أشقاها ؟ أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا ؟ وكان يقول : والله ليخضبنّ هذه من دم هذا ، ثمّ يشير إلى لحيته ورأسه خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير (3).
1 ـ في المناقب : عذيرك من خليلك.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 308 ـ 313 ، عنه البحار : 42 / 236 ـ 240 ح 45.
3 ـ انظر : الطبقات الكبرى : 3 / 33 ، مقتل أمير المؤمنين عليه السلام لابن أبي الدنيا : 41 ح 26 ، الآحاد والمثاني : 1 / 148 ح 176 ، أنساب الأشراف : 2 / 500 ح 545.


(487)
    وقيل لأمير المؤمنين عليه السلام : إنّ ابن ملجم يسمّ بسيفه ويقول : إنّه سيقتلك به فتكةً يتحدّث بها العرب ، فبعث إليه ، فقال له : لِم تسمّ سيفك ؟
    قال : لعدوّي وعدوّك ، فخلّا عنه ، وقال : ما قتلني بعد.
    وقال ابن عبد الرحمان السلمي : أخبرني الحسن بن علي عليه السلام أنّه سمع أباه في ذلك السحر يقول : يا بنيّ ، إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله الليلة في المنام ، فقلت : يا رسول الله ، ماذا لقيت من اُمّتك من الأود واللدد ؟
    فقال : ادع عليهم.
    فقلت : اللّهمّ أبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شرّاً منهم (1). ثم انتبه وجاء مؤذّنه يؤذنه بالصلاة ، فخرج فاعتوره الرجلان ، فأمّا أحدهما فوقعت ضربته في الطاق ، وأمّا الآخر فضربه في رأسه وذلك في صبيحة يوم الجمعة لتسع عشرة من رمضان صبيحة بدر.
    وروي أنّه جمع الأطبّاء لأمير المؤمنين عليه السلام ، وكان أبصرهم بالطبّ أثير (2) بن عمرو السكوني ، وكان صاحب كسرى يتطبّب له ، وهو الّذي تنسب إليه صحراء أثير فأخذ رئة شاة حارّة فتتبّع عرقاً منها فأخرجه وأدخله في جراحة أمير المؤمنين عليه السلام ، ثمّ نفخ العرق واستخرجه فإذا عليه بياض دماغ وإذا الضربة قد وصلت إلى اُمّ رأسه.
1 ـ انظر نهج البلاغة : 99 خطبة رقم 70 ، عنه البحار : 34 / 79 ح 936 ، وج 42 / 226 ح 37.
2 ـ كذا في الاستيعاب ، وفي الأصل : كثير ، وفي مقتل أمير المؤمنين لابن أبي الدنيا : 43 ح 28 أنّ طبيبه كان ابن أثير الكندي.


(488)
    فقال : يا أمير المؤمنين ، اعهد فإنّك ميّت (1).
    فعندها أوصى أمير المؤمنين عليه السلام للحسن والحسين صلوات الله عليهما بالوصيّة التي رواها سيّدنا ومفخرنا السيد محمد الرضي الموسويّ في كتاب نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين ، وهي قوله عليه السلام :
    ومن وصيّة له عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم عليه اللعنة :
    اُوصيكما بتقوى الله ، وألاّ تبغياً الدنيا وإن بغتكما ، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا بالحقّ ، واعملا للآخرة (2) ، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.
    اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ، ونظم أمركم ، وصلاح ذات بينكم ، فإنّي سمعت جدّكما رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : صلاح ذات البيت أفضل من عامّة الصلاة والصوم.
    الله الله في الأيتام فلا تُغبّوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم.
    الله الله في جيرانكم ، فإنّهم وصيّة نبيّكم ، وما زال عليه السلام يوصي بهم حتى ظننّا (3) أنّه سيورثهم.
    والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.
    والله الله في الصلاة فإنّها عمود دينكم.
1 ـ الاستيعاب : 3 / 62.
2 ـ في النهج : للأجر.
3 ـ كذا في النهج ، وفي الأصل : ظننت.


(489)
    والله الله في بيت ربّكم ، لا تخلوه ما بقيتم ، فإنّه إن ترك لم تناظروا.
    والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله.
    وعليكم بالتواصل والتباذل ، وإيّاكم والتدابر والتقاطع ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولّى عليكم اشراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.
    [ ثمّ ] (1) قال : يا بني عبد المطّلب ، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون : قتل أمير المؤمنين (2) ، ألا لا يقتل فيَّ (3) إلا قاتلي.
    انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثّلوا بالرجل ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور. (4)
    أبو بكر الشيرازي في كتابه عن الحسن البصري ، قال : أوصى عليّ صلوات الله عليه عند موته للحسن والحسين عليهما السلام وقال لهما : إذا أنا متّ فإنّكما ستجدان عند رأسي حنوطاً من الجنّة وثلاثة أكفان من استبرق الجنّة فغسّلوني وحنّطوني بالحنوط وكفّنوني.
    قال الحسن عليه السلام : فلمّا قبض عليه السلام وجدنا عند رأسه طبقاً
1 ـ من النهج.
2 ـ كرّرت هذه الجملة في الأصل.
3 ـ في النهج : لا تقتلنّ بي.
4 ـ نهج : 421 رقم 47 ، عنه البحار : 42 / 256 ح 78.
    وروى الوصيّة أيضاً ابن أبي الدنيا في مقتل الامام أمير المؤمنين عليه السلام ص 45 وما بعدها ، فراجع.


(490)
من الذهب عليه خمس شمّامات من كافور الجنّة ، وسدراً من سدر الجنّة.
    ومن الطريق أهل البيت عليهم السلام ما جاء في تهذيب الأحكام (1) عن سعد الاسكافي قال : حدّثني أبو عبد الله عليه السلام [ قال ] (2) : لمّا اُصيب أمير المؤمنين عليه السلام قال للحسن والحسين عليهما السلام : غسّلاني وكفّناني وحنّطاني ، واحملاني على سريري ، واحملا مؤخّره تكفيان مقدّمه ، فإنّكما تنتهيان إلى قبر محفور ، ولحد ملحود ، ولبن موضوع ، فالحداني واشرجا اللبن عليَّ ، وارفعا لبنة من عند (3) رأسي فانظرا ما تسمعان.
    وعن منصور بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، عن جدّه [ زيد بن عليّ ، عن أبيه ، عن جدّه ] (4) الحسين بن علي عليهم السلام في خبر طويل يذكر فيه :
    اُوصيكما وصيّة فلا تظهرا على أمري أحداً ، فأمرهما أن يستخرجا من الزاوية اليمنى لوحاً وأن يكفّناه فيما يجدان ، فإذا غسّلاه وكفّناه وضعاه على اللوح وإذا وجدا السرير يشال مقدّمه فيشيلان مؤخّره ، وأن يصلّي الحسن مرّة والحسين مرّة صلاة إمام ، ففعلا بما رسم عليه السلام ، فوجدا اللوح وعليه مكتوب :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما ادّخره نوح النبي لعلي بن أبي طالب ،
1 ـ تهذيب الأحكام : 6 / 106 ح 3.
    ورواه في الكافي : 1 / 457 ح 9 ، وفرحة الغريّ : 30 ، عنهما البحار : 42 / 213 ح 14.
    وأخرج قطعة منه في البحار : 42 / 251 ح 53 عن الكافي.
2 ـ من المناقب.
3 ـ في المناقب : ممّا يلي.
4 ـ من المناقب.


(491)
وأصابا الكفن في دهليز الدار موضوعاً فيه حنوط د أضاء نوره على نور النهار.
    وروي أنّ الحسين عليه السلام قال وقت الغسل : أما ترى خفّة أمير المؤمنين ؟
    فقال الحسن : يا أبا عبد الله ، إنّ معنا قوماً يعينونا ، فلمّا قضينا صلاة العشاء الآخرة إذا قد شيل مقدّم السرير ، ولم نزل نتّبعه إلى أن وردنا الغريّ ، فأتينا إلى قبر كما وصف عليه السلام ونحن نسمع خفق أجنحة كثيرة وضجّة وجَلَبة (1) ، فوضعنا السرير وصلّينا على أمير المؤمنين عليه السلام كما وصف لنا ، ونزلنا قبره فأضجعناه في لحده ، ونضّدنا عليه اللبن.
    وفي الخبر عن الصادق عليه السلام : فأخذنا اللبنة من عند رأسه بعدما أشرجنا عليه اللبن ، وإذا ليس في القبر شيء ، وإذا هاتف يهتف : أمير المؤمنين عليه السلام كان عبداً صالحاً ، فألحقه الله بنبيّه صلّى الله عليه وآله ، وكذلك يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء ، حتى لو أنّ نبيّاً مات بالمشرق و [ مات ] (2) وصيّه بالمغرب لألحق الله الوصيّ بالنبيّ.
    وفي خبر عن اُمّ كلثوم بنت علي عليه السلام : فاشنقّ القبر عن ضريح فإذا هم بساجة (3) مكتوب عليها بالسريانيّة :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا قبر حفره نوح لعليّ بن أبي طالب وصيّ
1 ـ الجلبة ـ بالتحريك ـ : اختلاط الصوت.
2 ـ من المناقب.
3 ـ الساجة : الطيلسان الواسع المدوّر.


(492)
محمد صلّى الله عليه وآله قبل الطوفان بسبعمائة سنة.
    وعنها رضي الله عنها أنّه لمّا دفن أمير المؤمنين علهي السام سمع ناطق يقول : أحسن الله لكم العزاء في سيّدكم وحجّة الله على خلقه.
    التهذيب (1) في خبر أنّه نفذ إسماعيل بن عيسى العبّاسي غلاماً أسود شديد البأس يعرف بالجمل في ذي الحجّة سنة ثلاث وتسعين ومائتين في جماعةٍ وقال : امضوا إلى هذا القبر الذي قد افتتن به الناس ويقولون انّه قبر عليّ حتى تنبشوه (2) إلى قعره ، فحفروا حتى نزلوا خمسة أذرع فبلغوا إلى موضع صلب عجزوا عنه ، فنزل الحبشي وضرب ضربة سمع طنينها في البرّ (3) ، ثمّ ضرب ثانية وثالثة ، ثمّ صاح صيحة وجعل يستغيث فأخرجوه بالحبل فإذا على يده من أطراف أصابعه إلى ترقوته (4) دم فحملوه على بغل ، ولم يزل ينتثر من عضده وسائر شقّه الأيمن فرجعوا إلى العبّاسي ، فلمّا رآه التفت إلى القبلة وتاب من فعله وتولّى وتبرّأ ، ومات الغلام من وقته ، وركب في الليل إلى عليّ بن مصعب ابن جابر وسأله أن يجعل (5) على القبر صندوقاً.
    قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه : حدّثني أبو الحسن محمد بن تمّام الكوفي ، قال : حدّثني أبو الحسن بن الحجّاج ، قال : رأينا هذا الصندوق
1 ـ تهذيب الأحكام : 6 / 111 ح 16. وفيه إسماعيل بن عديّ العبّاسي.
2 ـ كذا في التهذيب ، وفي الأصل والمناقب : تنبشون.
3 ـ في التهذيب : القبر.
4 ـ في التهذيب : مرفقه.
5 ـ في التهذيب والمناقب : يعمل.


(493)
وذلك قبل أن يبني الحسن بن زيد الحائط. (1)
    أقول : وإنّما أمر أمير المؤمنين عليه السلام بإخفاء قبره عن غير أهله وولده لأمرٍ لا نعلم نحن سرّه ، ولتكن المحنة أشدّ ، والبلاء أعظم ، أو لكثرة أعدائه ، وقصدهم إطفاء نوره ، أو غيرهما ؛ كخوف شدّة عداوة أعدائه له في حياته ، كالناكثين والقاسطين والمارقين الذين غرّروا بأنفسهم في حربه ، ورابطوه قاصدين إطفاء نوره واستئصال شأفته ، حتى قتلوه في محرابه راكعاً ، وأعلنوا بسبّه على منابرهم ، وقتلوا ولده وشيعته ، وسبوا نساءه وبناته وولده ، ثمّ تتبّعوا أبرار شيعته بالأذى والقتل ، كما فعل زياد بن أبيه والحجّاج ، وغيرهما ، وكانوا يقتلون على التهمة والظنّة ، حتى روي أنّهم سمعوا برجل يحدّث الناس بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام ببلاد ما وراء النهر فاجتهدوا في قتله وقتلوه غيلة (2) ، فما ظنّك لو علموا بموضع قبره ؟ وهو عليه السلام أعلم بما قال وأوصى.
    ولم يكن قبره عليه السلام مخفيّاً عند ولده وأهله وأحفاده الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم ، حتى انّ الإمام المعصوم عليّ بن الحسين سيّد العابدين أتى من المدينة لزيارته وأخفى نفسه في الحياة وزاره ليلاً ورجع من فوره إلى المدينة ، وكذلك الباقر عليه السلام.
    روى جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، قال : أتى عليّ بن الحسين عليه السالم زائراً أمير المؤمنين فوضع خدّه على القبر ،
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 348 ـ 350 ، عنه البحار : 42 / 234 ـ 236 ح 44.
2 ـ الغيلة : المكر.


(494)
وقال : السلام عليك يا وليّ (1) الله في أرضه ، وحجّته على عباده ، إلى آخر الزيارة ، ثمّ قال : اللّهمّ إنّ قلوب المخبتين إليك والهة (2) ، وسبل الراغبين إليك شارعة ، إلى آخره ، كما ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي في مصباحه (3).
    ولم يزل قبره عليه السلام مخفيّاً عند العامّة معلوماً عند الخاصّة إلى أن ، انقرضت دولة الشجرة الملعونة في القرآن ـ أعني بني اُميذة عليهم لعائن الله ـ فأظهره الصادق عليه السلام لخاصّته وأصحابه (4).
    وكان يأتي إليه من المدينة جماعة من شيعته ، وكان معلوماً لأكثر الناس في تلك الناحية ، حتى انّ بعض خلفاء بني العبّاس خرج يتصيّد في ناحية الغريّين والثويّة وأرسل الكلاب فلجأت [ الظباء ] (5) إلى أكمة ورجعت الكلاب ، ثمّ إنّ الضباء هبطت منها وصنعت الكلاب مثل الأوّل ، فسئل شيخاً من بني أسد فقال : إنّ فيها قبر علي بن أبي طالب عليه السلام جعله الله حرماً لا يأوى إليه شيء إلا أمن. (6)
1 ـ في الصحيفة السجّاديّة ومصباح المتهجّد : يا أمين. وهذه الزيارة معروفة بزيارة أمين الله.
2 ـ المخبتين : الخاشعين : والهة : متحيّرة من شدّة الوجد.
3 ـ مصباح المتهجّد : 738 ، الصحيفة السجّاديّة الجامعة : 590 دعاء 255.
    وانظر أيضاً : كامل الزيارات : 39 ب 11 ح 1 ، مزار الشهيد : 95 ، البلد الأمين : 295 ، مصباح الكفعمي : 480 ، فرحة الغريّ : 40.
4 ـ انظر : إرشاد المفيد : 12.
5 ـ من المناقب.
6 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2 / 350.
    ورواه مفصّلاً في فرحة الغريّ : 119 وفيه أنّ الخليفة هو هارون الرشيد ، عنه البحار : 42 / 329 ح 16.


(495)
    ولنرجع إلى تمام الحديث :
    ولمّا فرغ أمير المؤمنين من وصيّته وكانت ليلة الحادي والعشرين وذهب شطر من الليل فتحت أبواب السماء ، وزيّنت الجنان ، وتهيّأت أرواح الأنبياء والأولياء لاستقبال روحه الشريفة صلوات الله عليه. قال عليه السلام للحسن والحسين : احملوني إلى هذا البيت ، ودعوني وحدي ، واغلقوا عليَّ الباب ، واجلسوا خارج الباب إلى أن أمضي إلى جوار الله تعالى ، فوضعوه عليه السلام وفعلوا ما أمرهم ، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى سمعوا أمير المؤمنين عليه السلام يقول : لا إله إلا الله ، فلمّا سمع الحسن والحسين تهليله صلوات الله عليه لم يتمالكا إلى أن دخلا عليه ، فوجدوه قد قضى صلوات الله عليه نحبه ، فأخذوا في تجهيزه كما ذكرنا أوّلاً صلوات الله ورحمته وبركاته عليه وعلى روحه وبدنه ، ولعنة الله على ظالمه وقاتله ومانعه حقّه.
    وروى الكليني في الكافي (1) أنّه لمّا توفّي أمير المؤمنين عليه السلام جاء شيخ يبكي وهو يقول : اليوم انقطعت علاقة النبوّة ، حتى وقف بباب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه السلام ـ وذلك حين موته قبل أن يخرجوه ويأخذوا في جهازه ـ فأخذ بعضادتي الباب ، ثم قال : رحمك الله ، لفقد كنتَ أول الناس إسلاماً ، وأفضلهم إيماناً ، وأشدّهم يقيناً ، وأخوفهم من الله ، وأطوعهم لنبيّ الله ، وأفضلهم مناقباً ، وأكثرهم سوابقاً ، وأشبههم به خَلقاً وخُلقاً ، وسيماء وفضلاً ، وكنتَ أخفضهم صوتاً ، وأعلاهم طوداً ، وأقلّهم كلاماً ، وأصوبهم منطقاً ،
1 ـ الكافي : 1 / 454 ح 4 ، عنه البحار : 42 / 303 ح 4 وعن كمال الدين : 387 ح 3.
    وأخرجه في مدينة المعاجز : 3 / 65 ح 730 عن الكافي.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس