تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: 541 ـ 555
(541)
يفصل اللحم ولم ير على يده أثر الدم.
    فلمّا فرغوا من الطبخ أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّاً أن ينادي على رأس داره : أجيبوا رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأجابوه من النخلات والزروع ، فبسط النطوع في المسجد ، وصدر الناس وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ، وسائر نساء المدينة ، ورفعوا منها ما أرادوا ولم ينقص من الطعام شيء ، ثمّ عادوا في اليوم الثاني فأكلوا ، وفي الثالث أكلوا مبعوثة أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه ، ثمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله بالصحاف فملئت ، ووجّه إلى منازل أزواجه ، ثمّ أخذ صحفة ، وقال : هذه لفاطمة وبعلها ، ثمّ دعا فاطمة فأخذ يدها ووضعها في يد عليّ ، وقال : بارك لكَ الله في ابنة رسول الله ؛ يا عليّ ، نعم الزوج فاطمة ، ويا فاطمة ، نعم البعل عليّ.
    وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله أمر نساءه أن تزيّنها ويصلحن من شأنها في حجرة اُمّ سلمة فاستدعين من فاطمة عليها السلام طيباً فأتت بقارورة ، فسئلت عنها ، فقالت : كان دحية الكلبيّ يدخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله فيقول : يا فاطمة ، هاتي الوسادة فاطرحيها لعمّك ، فكان إذا نهض سقط من بين ثيابه شيء ، فيأمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله بجمعه ، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ذلك ، فقال : عنبر يسقط من زغب أجنحة جبرئيل ، وأتت بماء ورد فسألتها عنه اُمّ سلمة ، فقالت : هذا عرق رسول الله صلّى الله عليه وآله كنت آخذه عند قيلولته عندي.
    وروي أنّ جبرئيل أتى بحلّةٍ قيمتها الدنيا ، فلمّا لبستها تحيّرت نسوة قريش منها ، وقلن : أنّى لك هذا ؟


(542)
    قالت : هو من عند الله سبحانه (1).
    تاريخ الخطيب : بإسناده إلى ابن عبّاس وجابر (2) أنّه لمّا كانت الليلة التي زفّت فيها فاطمة إلى عليّ عليهما السلام كان النبي صلّى الله عليه وآله أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك يشيّعونها من خلفها ، يسبّحون الله ويقدّسونه حتى طلع الفجر.
    كتاب مولد فاطمة عليها السلام عن ابن بابويه رضي الله عنه ـ في خبر ـ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أمر بنات عبد المطّلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها السلام ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقلن ما لا يرضي الله.
    قال جابر : فأركبها رسول الله صلّى الله عليه وآله [ على ] (3) ناقته. وفي رواية : على بغلته الشهباء ، وأخذ سلمان بزمامها ، وحولها سبعون حوراء والنبيّ صلّى الله عليه وآله وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ، ونساء النبي قدّامهم يرجزن ، فأنشأت اُمّ سلمة رضي الله عنها :
سرن (4) بعون الله جاراتي واذكرن ما أنعم ربّ العُلى واشكرنه في كلّ حالات من كشف مكروه وآفات

1 ـ في « ح » : كما قيل لمريم اُمّ عيسى عليه السلام فقالت كقولها : ( هوَ من عندِ اللهِ ) [ سورة آل عمران : 37 ].
2 ـ في المناقب : تاريخ الخطيب ، وكتاب ابن مردويه ؛ وابن المؤذّن ؛ وابن شيرويه الديلميّ ، بأسانيدهم عن علي بن الجعد ، عن ابن بسطام ، عن شعبة بن الحجّاج ؛ وعن علوان ، عن شعبة ، عن أبي حمزة الضبعيّ ، عن ابن عبّاس وجابر.
3 ـ من المناقب.
4 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : سرّت.


(543)
فقد هدانـا بعـد كـفر وقد فسرن مع خير نساء الورى يا بنت من فضّله ذو العلى أنعشنا ربّ الـسموات تفدى بعمّات وخـالات بالوحي منه والرسالات
    ثمّ قالت عائشة :
يا نسوة اسـترن بالـمعـاجر واذكرن ربّ الناس إذ يخصّنا فالحمد لله عـلى إفـضاله سرن بها فالله أعلـى قدرها (1) واذكرن ما يحسن في المحاضر بدينه مـع كـلّ عبـد شـاكر والشكر لله الـعزيز الـقادر وخصـّهـا مـنه بطهر طاهر
    ثمّ قالت حفصة :
فاطمة خـير نـساء البشر فضّلك الله على كلّ الورى زوّجك اللـه فتىً مفضّلاً (3) فسرن جاراتي بها فيالها (4) ومن لها وجه كـوجـه القمر بفضل من خُصّ بآي السـور (2) أعني عليّاً خير مَن في الحضر كريمة بنت عظـيم الخـطـر
    ثمّ قالت معاذة اُمّ سعد بن معاذ :
أقول قولاً فيه ما فيه محمد خير بنـي آدم بفضله عرّفنا رشدنا (5) وأذكر الخيـر واُبـديه ما فيه من كبر ولا تيه فالله بالخـير يـجازيه

1 ـ في المناقب : فالله أعطى ذكرها.
2 ـ في المناقب : الزمر.
3 ـ في المناقب : فاضلاً.
4 ـ في المناقب : بها إنّها.
5 ـ أي دليلنا.


(544)
ونحن مع بنت نبيّ الهدى في ذروة شامخـة أصلها ذي شرف قد مكّنت فيه فما أرى شيـئاً يـدانيه
    وكانت النسوة يرجعن أوّل بيت من كلّ رجز ، ثمّ يكبّرن حتى دخلن الدار ، ثمّ أنفذ رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى عليّ ودعاه إلى المسجد ، ثمّ دعا فاطمة فاخذ يدها ووضعها في يد عليّ ، وقال : بارك الله لكَ في ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
    كتاب ابن مردويه : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا بماء ، فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ، ثمّ مجّها في القعب ، ثمّ صبّ منها على رأسها ، ثمّ قال : أقبلي ، فلمّا أقبلت نضح بين ثدييها ، ثمّ قال : أدبري ، فلمّا أدبرت نضح بين كتفيها ، ثمّ دعا لهما.
    أبو عبيد في غريب الحديث أنّه قال : اللّهمّ اونسهما أي ثبّت الودّ بينهما.
    وروي أنّه صلّى الله عليه وآله قال : اللّهمّ إنّهما أحبّ خلقك إليّ فأحبّهما وبارك في ذرّيّتهما ، واجعل عليهما منك حافظاً ، وإنّي اُعيذهما وذرّيّتهما بك من الشيطان الرجيم.
    [ وروي أنّه دعا لها فقال : ] (1) أذهب الله عنكِ الرجس وطهّركِ (2) تطهيراً.
    وروي أنّه قال : مرحباً ببحرين يلتقيان ونجمين يقترنان ، ثمّ خرج إلى الباب وهو يقول : طهّركما الله وطهّر نسلكما ، أنا حرب لمن حاربكما ، وسلم لمن سالمكما ، أستودعكما الله وأستخلفه عليكما ، وباتت عندها أسماء بنت
1 ـ من المناقب.
2 ـ كذا في المناقب ، وفي الأصل : عنكم الرجس وطهّركم.


(545)
عميس اُسبوعاً بوصيّة خديجة إليها ، فدعا لها النبي صلّى الله عليه وآله في دنياها وآخرتها.
    ثمّ أتاهما في صبيحتهما ، وقال : السلام عليكم ، أدخل رحمكما الله ، ففتحت له أسماء الباب ، وكانا نائمين تحت الكساء ، فقال : على حالكما ، فأدخل رجليه بين أرجلهما ، فأخبر الله عن أورادهما ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) (1) الآية ، فسأل عليّاً : كيف وجدت أهلك ؟
    قال : نعم العون على طاعة الله.
    وسأل فاطمة ، فقال : كيف وجدتِ بعلك ؟
    فقالت : خير بعل.
    فقال : اللّهمّ اجمع شملهما ، وألّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذرّيّتهما من ورثة جنّة النعيم ، وارزقهما ذرّيّة طيّبة طاهرة مباركة ، واجعل في ذرّيّتهما البركة ، واجعلهم أئمّة يهدون بأمرك إلى طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك ، ثمّ أمر بخروج أسماء ، وقال : جزاك الله خيراً ، ثمّ خلا بها بعد ذلك بإشارة الرسول صلّى الله عليه وآله.
    وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا كانت صبيحة عرس فاطمة جاء النبي بعسّ (2) فيه لبن ، فقال لفاطمة : اشربي فداك أبوك ، وقال لعليّ : اشرب فداك ابن عمّك. (3)
1 ـ سورة السجدة : 16.
2 ـ العسّ : القدح أو الغناء الكبير.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 349 ـ 356 ، عنه البحار : 43 / 111 ـ 117 ح 23 و 24.


(546)
    ولدت فاطمة بمكّة بعد النبوّة بخمس سنين ، وبعد الاسراء بثلاث سنين ، في العشرين من جمادى الاُخرى ، وإقامتها مع أبيها بمكّة ثماني سنين ، ثمّ هاجرت إلى المدينة فزوّجها من عليّ بعد مقدمه (1) المدينة بسنتين ؛ أوّل يوم من ذي الحجّة ؛ وقيل : اليوم السادس منه ، ودخل بها يوم الثلاثاء لستّ خلون منه بعد بدر. (2)
    وقبض صلّى الله عليه وآله وكان لها ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر ، وعاشت بعده اثنين وسبعين يوماً ؛ ويقال : خمسة وسبعين ؛ وقليل : أربعة أشهر ، وقال القرباني : أربعين يوماً وهو أصحّ.
    وولدت الحسن والحسين ولها اثنتا عشرة سنة (3).
    وتوفّيت ليلة الأحد لثلاث عشرة سنة خلت من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة ، ومشهدها بالبقيع ، وقالوا : إنّها دفنت في بيتها ،
1 ـ في المناقب : مقدمها.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 357.
3 ـ في المناقب : وولدت الحسن ولها اثنتا عشرة سنة.


(547)
وقالوا : قبرها بين قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين منبره. (1)
    وكناها : اُمّ الحسن ، واُمّ الحسين ، واُمّ محسن ، واُمّ الأئمّة ، واُمّ أبيها.
    وأسماؤها ـ على ما ذكره أبو جعفر القمّي ـ : فاطمة ، البتول ، الحصان ، الحرّة ، السيّدة ، العذراء ، الزهراء ، الحوراء ، المباركة ، الطاهرة ، الزكيّة ، الراضية ، المرضيّة ، المحدّثة ، مريم الكبرى ، الصدّيقة ؛ ويقال لها في السماء : النوريّة ، السماويّة ، الحانية (2) ، الزاهدة ، الصفيّة ، المتهجّدة الشريفة ، القانتة العفيفة ، سيّدة النسوان ، وحبيبة حبيب الرحمن ، ابنة خير المرسلين ، وقرّة عين سيّد الخلائق أجمعين ، وواسطة العقد بين سيّدات نساء العالمين ، والمتظلّمة بين يدي العرش يوم الدين ، ثمرة النبوّة ، واُمّ الأئمّة ، وزهرة فؤاد شفيع الاُمّة ، الزهراء المحترمة ، والغرّاء المحتشمة ، المكرّمة. (3)
    فيامن يروم حصر مناقبها ، ويطلب ضبط مراتبها ، ويسأل عن معاليها ومحامدها ، ويبحث عن خصائصها ومحاممدها ، لقد رمت حصر كواكب السماء الدنيا ، وأردت عدّ رمل عالج والدهناء ، هذه ابنة من اُخذ عهده على أهل الأرض والسماء ، وعرج بروحه وبدنه كقاب قوسين أو أدنى ، ورقمت أحرف أسمائه على العرش المجيد ، وجعل شفيع من استمسك بعروة عصمته يوم الوعيد.
    القرآن منشور نبوّته ، والروح الأمين سفير رسالته ، « أرسله بالهدى ودين الحقّ » (4) بشير بعثته ، ( فاتّبعوني يحببكمُ اللهُ ) (5) دليل محبّته ، ( كَتَبَ
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 357 ، عنه البحار : 43 / 180 ح 16.
2 ـ أي المشفقة على زوجها وأولادها.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3 / 357 ـ 358 ، عنه البحار : 43 / 16 ح 15.
4 ـ في سورة التوبة ، 33 ، وسورة الفتح : 28 ، وسورة الصفّ : 9 : ( أرسلَ رسولهُ بالهدى ودينِ


(548)
اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي ) (6) علم بصيرته ، ختم سجلّ ولايته ( ما كانَ محمّدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسولَ الله وخاتمَ النبيّينَ ) (7) ، وتوقيع علّة رسالته ( وما أرسلناكَ إلا رَحمةً للعالمينَ ) (8) ، نشأ في حجر الفتوّة ، وربّي في دار النبوّة ، واُضجع في مهد العصمة ، واُرضع ثدي الحكمة ، ثمّ اُدخل مكتب ( سنقرئكَ فلا تنسى ) (9) ، واُدّب بأدب ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلينَ ) (10) ، فبلغ من القيام بشروطها الغاية القصوى.
    مدّت يد العصمة بقلم القدرة على لوح نفسه ( وعلّمكَ ما لم تكن تعلمُ ) (11) ، وخوطب بلسان العزّة والرفعة : ( اقرأ باسم ربّكَ الذي خلقَ خلقَ الإنسانَ من علقٍ اقرأْ وربّكَ الأكرمُ الذي علّمَ بالقلمِ ) (12).
    لمّا استندت عناية المعلّم سبحانه بتهذيبه وتأديبه ، وشرّفه باختصاصه بتعليمه وتقريبه ، تفجّرت ينابيع الحكمة من صفا سريرته ، وظهرت أسرار العناية من ضفا روحانيّته ، وزفّت يد الإرادة الأزليّة عروس الرسالة النبويّة إليه ، وحلتها ماشطة المحبّة الإلهيّة في ملابس الألطاف الخفيّة عليه ، وأفرغت على أعطاف نبوّته من ملابس الرئاسة العامّة تعظيماً وتوقيراً ، وضربت على
الحقّ ).
5 ـ سورة آل عمران : 31.
6 ـ سورة المجادلة : 21.
7 ـ سورة الأحزاب : 40.
8 ـ سورة الأنبياء : 107.
9 ـ سورة الأعلى : 6.
10 ـ سورة الأعراف : 199.
11 ـ سورة النساء : 113.
12 ـ سورة العلق : 1 ـ 4.


(549)
هامة رفعته حجلة ( إنّا أرسلناكَ شاهداً ومبشّراً ونذيراً ) (1) ، ( وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) (2).
    لمّا انشرح صدره بخطاب ( ألم نشرح لكَ صدركَ ) (3) ، وعلا أمره بمقال ( ورفعنا لكَ ذكركَ ) (4) ، وصار قلبه مشكاة النور الإلهيّ ، وفضله حتى القيامة غير متناهي ، اجلس في صدر صفة مشارق فيضان الأنوار الإلهيّة على جنانه ، فأضاءت الأكوان بانعكاس أشعّة مرآة كمال عرفانه ، فأظهر بدروس علومه من الايمان ما كان دارساً ، وأنار بوضع قواعد شرعه من الاسلام ما كان طامساً.
    وهذه النبذة التي أوردتها ، واللمعة التي ذكرتها قطرة من بحر صفته ، وذرّة من طود مدحته ، اللّهمّ اجعلنا من المهتدين بواضح دليله ، السالكين في منجم سبيله ، المهتدين بأبرار عترته ، المستضيئين بأنوار ذرّيّته.
    وأمّا بعلها فحسبك ما نطق به القرآن من خصائصه وفضائله ، ووضح بالبرهان الساطع فيه من مناقبه ودلائله ، ( إنّما وليّكم ) (5) عنوان منشور ولايته ، و ( قل لا أسئلكم ) (6) توقيع مسطور نسبته ، وسورة هل أتى نزلت في رفعة عظيم إخلاصه ، وآية النجوى (7) وردت في صفاته وخواصّه ، خسف الله
1 ـ سورة الفتح : 8.
2 ـ سورة الأحزاب : 46.
3 ـ سورة الشرح : 1.
4 ـ سورة الشرح : 4.
5 ـ سورة المائدة : 55.
6 ـ سورة الشورى : 23.
7 ـ أي قوله تعالى في سورة المجادلة : 12 : ( يا أيها الذينَ آمنوا إذا ناجيتُمُ الرسولَ فقدّموا بينَ يدي نجواكمْ صدقةً ذلكَ خيرٌ لكم وأطهرُ فإن لم تجدوا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ ).


(550)
بشمس وجهه بدر الشرك في بدر واُحد ، وأخمد بنور طلعته نار الكفر يوم عمرو بن ودّ ، وهزم أحزابه بجدّ عزائمه ، وقطع أسبابه بحدّ صارمه ، وشدّ أزر الايمان ببطشه شدّاً ، وألبس دين الاسلام بفتكه شرفاً ومجداً.
    لمّا آثر بالقرص في صيام نذره ، ردّ الله له القرص بعد مغيبه وستره ، وأثبت في الذكر العزيز ذكره ، وأعلى في الكتاب المجيد قدره ، تتلى آيات مدحه ومدح ذرّيّته إلى يوم القيامة ، وتنشر رايات شكره بإعجازه ومناديه إلى حين حلول الطامّة ، سمّاه الله وزوجته وابنيه في محكم تنزيله أبراراً (1) ، وزادهم في ديوان شكره بمدحه إيّاهم فخاراً.
    فالحمد لله الذي أوضح لقلوبنا سلوك سبيلهم ، وزادها لهم هدى ونوراً. وشرح صدورنا لاتّباع دليلهم ، وألبسها من ملابس ولائهم تزكية وتوقيراً. وقرّبنا زلفى من رضوانه بعرفان حقّهم ، وجعلنا من الموقنين بفضلهم وصدقهم ، وسقانا من زلال خالص حبّهم شراباً طهوراً. ثم أنزل لذّة زلاله في مذاق أفئدتنا منذ عالم الذرّ حين قال ربّنا : ( ألستُ بربّكم ) (2) فأقرّ من أقرّ ، وأنكر من أنكر ، ولم تزل عين عنايتهم تحرسنا من ظلم الضلال الأكبر إلى أن جعل الله لنا في عالم الشهادة بروراً وطهوراً. لولا استمساكنا بعروة عصمتهم ، والتزامنا بحبل مودّتهم ، واتّباعنا سبيل شرعتهم لم نكن شيئاً مذكوراً.
    طهّرنا ربّنا بفاضل طهورهم من دنس الشرك ، ونزّهنا باتّباع زاهر نورهم من دين الشكّ ، وخلص إبريز خالص معتقدنا بنار حبّهم عند السبك ، ورفع لنا في مقام المجد منبراً وسريراً.
1 ـ في قوله تعالى في سورة الانسان : ( إنَّ الأبرار يشربونَ من كأسٍ كان مزاجها كافوراً ).
2 ـ سورة الأعراف : 172.


(551)
    ووسم قلوبنا بميسم مودّتهم وطهّرها من الزلل ، ورقم على إبريز خالص معتقدنا أحرف حبّهم في دار ضرب الأزل ، وأذاقنا من رحيق عنايتهم ما لذّته في مذاق أفئدتنا لم تزل كأساً كان مزاجها كافوراً.
    نشهد أنّهم أبواب وسائلنا إلى ربّنا ، وأسباب اتّصالنا بمنازل قربنا ، فلهذا وجّهنا إلى كعبة شرفهم مطايا حبّنا ، واعتقدنا ما سوى جلال جنابهم من الخلق هباء منثوراً.
    هل أتى نصّ هل أتى إلا في مدحة فضلهم ؟ وهل اُنزلت آية النجوى الا تزكية لفعلهم ؟ وهل دنا بقدم الصدق إلى الملكوت الأعلى غير جدّهم صاحب آيات ( إنّا أرسلناكَ شاهداً ومبشّراً ونذيراً ) (1) ( وداعياً إلى اللهِ بإذنهِ وسراجاً منيراً ) (2) ؟
    ردّ الله له القرص حين آثر في صيامه بالقرص ، وعليه الرسول بالرئاسة العامّة يوم الغدير نصّ ، وله الله بالبضعة الزهراء دون اخلق خصّ ، وجعله نسباً وصهراً وكان ربّك قديراً (3).
    لمّا لم يثنهم عن الوفاء بعهد ربّي ثاني ، ولم يكن لهم بالاخلاص في الطاعة من الخلق ثاني ، أثنى عليهم بآيات المثاني ، فقال : ( يوفونَ بالنذرِ ويخافونَ يوماً كان شرّه مستطيراً ) (4).
    مصابيح ظلام إذا العيون هجعت ، ومجارع اكرام إذا الغيوث منعت ،
1 ـ سورة الفتح : 8.
2 ـ سورة الأحزاب : 46.
3 ـ إشارة إلى الآية : 54 من سورة الفرقان.
4 ـ سورة الإنسان : 7.


(552)
يؤثرون في صومهم بقوت يومهم ولا يخشون أزمّة قرعت ، ( ويطعمونَ الطعامَ على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) (1).
    لم يتبعوا صدقاتهم منّاً ولا أذى لمّا تصدّقوا ، وما فاهوا بما يكدر الصنعة وما نطقوا ، بل قالوا في سرائر ضمائرهم لمّا تصدّقوا وصدقوا : ( إنّما نطعمكُمْ لوجهِ اللهِ لا نريدُ منكم جزاءً ولا شكوراً ) (2).
    إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا يوم الدين ، إنّا نرغب أن يخلصنا ببذل معروفنا بالصالحين ، إنّا نطلب إليه أن يرقم أسماءنا في دفاتر المخلصين ، ( إنّا نخافُ من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً ) (3).
    تحقّقوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وفرقوا من مقام التوبيخ حين العرض عليه ، وأشفقوا يوماً يعضّ الظالم على يديه (4) ( فوقاهم الله شرّ ذلك اليومِ ولقّاهم نضرة وسروراً ) (5).
    أجلسهم على بساط اُنسه في ظلّ جنابه ، وسقاهم من شراب قدسه أصفى شرابه ، وجعلهم خاصّة نفسه في دار ثوابه ( وجزاهم بما صبروا جنّةً وحريراً ) (6).
    متقابلين فيها على مضاعفات الأسرّة والفرش ، في جنّة صعيدها رضوان الله وسقفها العرش ، قد نزع الله ما في صدورهم من غلّ وغشّ ، ( متّكئينَ فيها
1 ـ سورة الإنسان : 8.
2 ـ سورة الإنسان : 9.
3 ـ سورة الإنسان : 10.
4 ـ إشارة إلى الآية : 57 من سورة الفرقان.
5 ـ سورة الإنسان : 11.
6 ـ سورة الإنسان : 12.


(553)
على الأرائك لا يرونَ فيها شمساً ولا زمهريراً ) (1).
ظـلالـها ممـدودة علـيهم ولـدانهـا قـائــمة لديهم يطوف بالأكواب والكـؤوس صار بأمـر بارئ الـنفـوس جوهرهـا من فضـّة نقـيّة موضوعة في الغرف المبنيّة من دارهـم منبع عين تسنيم مـقسـمٌ فـي جنـّة النعيم عن سلسبيل سل سبيل تخبر قـطوفـها دانـيـة إليـهم كلـولؤ يحـسبه مـنـثورا في مجلس التطهير والتقديس لهم شراباً سائغـاً طـهـورا من كوثر متـرعـة رويـّة قدّرها مـدبّـرهـا تقـديرا ارقّ باللـطـف من النسـيم يكسـهم بـشـربه سـرورا بأنّ بدء جـزئه مـن كـوثر

1 ـ سورة الإنسان : 13.

(554)
خـصّوا بـه مـن ذي الجلال الأكبر طووا ثلاثـاً لـم يـذوقـوا مطعـماً فقال فـيهم ذو الـعـلـى ونـعـما إن شئت فاتـل سـورة الانـسـان بـه أقـرّ خـالـص الإيــمـان وإنـّـمـا وليـّـكم (1) في المائـدة يمجّهـا مـسـمع ذي المـعانــدة إنّ عصبة النصّاب أضحـت عازلة إذا تـلـونـا آيـة المـباهـلـة (2) يزيدهـم بـصفـوه حبورا بل آثـروا بـقوتهـم تكرّما قال مـديحاً فيـهم مـشهورا ترى لـهم شأناً عظيـم الشأن لمّا غـدا الرجس به كفـورا عـليهم بكـلّ فضـل عائـدة فيـنثني بـغـيـظه مقهـورا لنا وفـي فضـلهم مجـادلـة ولّوا عـلى أدبـارهـم نفورا

1 ـ سورة المائدة : 55.
2 ـ سورة آل عمران : 61.


(555)
أبحر علـم وسـواهـم آل إليـهم المـرجـع والـمآل آل العـبا خصّوا بآي الذكر ونزّهوا من كلّ عيب يجري يا من يروم رتـبة الامـامة بغير علم متـقناً أحكـامـه أتحسب الإمرة والـخلافـة أم بأب مثل أبـي قـحافـة سل اُمّك البغــيّة الشـقيّة فإنّها أخـبـر بالـقضـيّة غرّتك دنياك فصرت حاكماً وهـم لخير المرسـليـن آل يومـاً عبوساً كالـحاً عسيرا والنصف من شفيع يوم الحشر في غيـرهم وطهّروا تطهيرا سواهـم والأمـر والـزعامة لقد رقوت موبــقاً خطـيرا بالكبر والغلــظة والخـلافة بؤ خـاسئـاً مذمماً مـدحوراً صهّـاك عـن اُصولك العليّة فلا تكن بغيرهــا فـخـورا وللوصيّ والبـتول ظـالـماً
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الأول ::: فهرس