تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 166 ـ 180
(166)
بالله شيئاً ولم يغيّر ما كان (1) عليه رسول الله صلّى الله عليه وآله ؟
    فقال ابن عبّاس : فماذا أقول فيهم ؟ أقول فيهم إنّهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى ( يُرَاؤُونَ النّْاسَ وَلَا يَذْكُروُنَ اللهَ إلَّا قَلِيلاً ) (2). وأمّا أنت يا ابن رسول الله فإنّك رأس الفخار ، ابن رسول الله [ وابن وصيّه ] (3) ، وابن بنته ، فلا تظنّ ـ يا ابن رسول الله ـ أنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون (4) ، وأنا أشهد أنّ من رغب عنك فماله من خلاق (5).
    فقال الحسين عليه السلام : اللّهمّ فاشهد.
    قال ابن عبّاس : يا ابن رسول الله ، كأنّك تنعى إليَّ نفسك ، وتريد منّي أن أنصرك ، والله لو ضربت بسيفي بين يديك حتّى تنخلع يداي لما كنت بالّذي أبلغ من حقّك عشر العشير.
    فقال ابن عمر : يا ابن عبّاس ، ذرنا من هذا.
    ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين فقال : مهلاً ـ يا أبا عبد الله ـ عمّا قد أزمعت عليه ، وارجع معنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم ، ولا تجعل لهؤلاء الّذين لا خلاق لهم عليك حجّة ، وإن أحببت ألاّ تبايع فأنت متروك ، فعسى يزيد لا يعيش إلاّ قليلاً فيكفيك الله أمره.
    فقال الحسين عليه السلام : اُفّ لهذا الكلام.
1 ـ في المقتل : ولم يتغيّر عمّا كان.
2 ـ سورة النساء : 142.
3 ـ من المقتل.
4 ـ إقتباس من الآية : 42 من سورة إبراهيم.
5 ـ إقتباس من الآيتين : 102 و200 من سورة البقرة.


(167)
    فقال ابن عمر : إنّي أعلم أنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليجعل ابن بنت نبيّه على خطأ ، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن بالسيوف ونرى من هذا الأمر ما لا نحبّ (1) فارجع معنا إلى المدينة ولا تبايع أبداً ، واقعد في منزلك.
    فقال الحسين عليه السلام : هيهات ، إنّ القوم لا يتركوني إن أصابوني ، فإن لم يصيبوني فإنّهم يطلبونني أبداً حتّى اُبايع او يقتلونني ، أمّا تعلم أنّ من هو ان الدنيا على الله انّه اُتي برأس يحيى بن زكريّا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم فلم يضرّ ذلك يحيى بل ساد الشهداء ؟ أو لا تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم كأنّهم لم يصنعوا شيئاً فلم يعجّل الله (2) عليهم ، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام ؟ اتقّ الله ـ يا با عبد الرحمن ـ ولا تدعنّ نصرتي.
    يا ابن عمر ، إن كان الخروج يثقل عليك فأنت في أوسع عذر واجلس عن القوم ولا تعجل بالبيعة لهم حتّى تعلم ما يؤول الأمر إليه.
    قال : ثمّ أقبل الحسين عليه السلام على ابن عبّاس ، فقال : يا ابن عبّاس ، إنّك ابن عمّ والدي ، ولم تزل تأمر بالخير مذ عرفتك ، وكان أبي يستشيرك ، فامض إلى المدينة في حفظ الله (3) ، ولا تخف عليَّ شيئاً من أخبارك ، فإنّي مستوطن هذا الحرم ومقيم فيه أبداً ما رأيت أهله يحبونّي (4) وينصرونني فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم.
    قال فبكى ابن عبّاس وابن عمر ، ثمّ ودّعهما فسارا إلى المدينة ، وأقام
1 ـ في المقتل : وترى من هذه الاُمّة ما لا تحبّ.
2 و3 ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : يخيّروني.


(168)
الحسين بمكّة قد لزم الصوم والصلاة.
    قال : واجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فلمّا تكاملوا في منزله قام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على النبيّ وآله ، ثمّ ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام فترحمّ عليه وذكر مناقبه الشريفة ، ثمّ قال :
    يا معشر الشيعة ، إنّكم قد علمتم بأنّ معاوية قد هلك وصار إلى ربّه ، وقدم على عمله ، وسيجزيه الله بما قدم ، وقد قعد في موضعه ابنه يزيد اللعين ، وهذا الحسين بن عليّ قد خالفه وصار إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، وقد احتاج إلى نصرتكم ، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغروّا الرجل من نفسه.
    فقال القوم : بل نؤويه وننصره ونقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا بين يديه ، فأخذ سليمان بذلك عليهم عهداً وميثاقاً أنّهم لا يغدرون ولا ينكثون ، ثمّ قال : اكتبوا إليه الآن كتاباً من جماعتكم انكم له كما ذكرتم ، وسلوه القدوم عليكم.
    فقالوا : أفلا تكفينا أنت الكتاب إليه ؟
    فقال سليمان : لا ، بل تكتب إليه جماعتكم.
    قال : فكتب القوم إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
    للحسين بن عليّ أمير المؤمنين من سليمان بن صرد والمسّيب بن نجبة وحبيب بن مظاهر ورفاعة بن شدّاد وعبد الله بن وآل وجماعة شيعته من


(169)
المؤمنين.
    سلام عليك.
    أمّا بعد :
    فالحمد لله الّذي قصم عدوّك وعدوّ أبيك من قبل الجبّار العنيد ، الغشوم الظلوم ، الّذي ابتزّ (1) هذه الاُمّة أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمّر عليها بغير رضا منها ، ثّم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبارتها وعتاتها ، فبعداً لهم كما بعدت ثمود ، ثمّ إنّه قد بلغنا أنّ ولده اللعين قد تأمّر على هذه الاُمّة بلا مشورة ولا إجماع ، وبعد ، فإنّا مقاتلون معك وباذلون أنفسنا من دونك ، فأقبل إلينا فرحاً مسروراً ، أميراً مطاعاً ، إماماً ، خليفة مهديّاً ، فإنّه ليس علينا إمام ولا أمير إلاّ النعمان بن بشير ، وهو في قصر الامارة وحيد طريد ، لا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولا نؤدّي إليه الخراج ، يدعو فلا يجاب ، ويأمر فلا يطاع ، ولو بلغنا أنّك أقبلت إلينا لأخرجناه عنّا حتّى يلحق بالشام ، فأقبل إلينا فلعلّ الله تعالى يجمعنا بك على الحقّ والسلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته.
    ثمّ طووا الكتاب وختموه ودفعوه إلى عبد الله بن سبيع الهمداني وعبد الله ابن مسمع بن بكري (2).
    قال : فقرأ الحسين عليه السلام الكتاب وسكت ، ولم يجبهم بشيء ، ثمّ قدم عليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله بن عبد الرحمن الأرحبي وعامر
1 ـ ابتزّ : اغتصب.
2 ـ في المقتل : عبد الله بن مسمع البكري.


(170)
ابن عبيد السكوني (1) وعبد الله بن وال التيمي ومعهم نحو من مائة وخمسين كتاباً من الرجل والثلاثة والأربعة يسألونه القدوم عليهم والحسين عليه السلام يتأنّى فلا يجيبهم بشيء.
    ثمّ قدم عليه بعد ذلك هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي بهذا الكتاب ، وهو آخر كتاب ورد عليه من الكوفة :
بسم الله الرحمن الرحيم
    إلى الحسين بن أمير المؤمنين ، من شيعته وشيعة أبيه عليّ أمير المؤمنين عليه السلام.
    أمّا بعد :
    فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله ، فقد اخضرّت الحبّات (2) ، واينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فاقدم إذا شئت ، فإنّما تقدّم على جند مجنّدة لك ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
    فقال الحسين لهانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبد الله ، خبّراني ، من اجتمع على هذا الكتاب الّذي كتب معكما إليّ ؟
    فقالا : يا بن رسول الله ، اجتمع عليه شبث بن ربعي وحجّار بن أبجر ويزيد بن الحارث ، وذكروا له جماعة.
1 ـ في المقتل : السلوكي.
2 ـ في المقتل : الجَناب.
    والجناب : الفناء وما قرب من محلّة النوم.


(171)
    فقام الحسين عليه السلام وتطهرّ (1) وصلّى ركعتين بين الركن والمقام ، ثمّ انفتل من صلاته وسأل ربّه الخيرة ، ثمّ كتب إلى أهل الكوفة :
    من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين.
    سلام عليكم.
    أمّا بعد :
    فإنّ هانىء بن هانىء وسعيد بن عبد الله قدما عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت ما اقتصصتم ، ولست اُقصّر عمّا أحببتم ، وقد ارسلت إليكم أخي وابن عمّي مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، وقد أمرت أن يكتب إليّ بحالكم ورأيكم ، وهو متوجّه إلى ما قبلكم إن شاء الله ، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه ، فلعمري ما الامام العامل بالكتاب والعادل (2) بالقسط كالّذي يحكم بغير الحقّ ، جمعنا الله وإيّاكم على الهدى ، وألزمنا وإيّاكم كلمة التقوى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (3).
1 ـ في المقتل : وتوضّأ.
2 ـ في المقتل : القائم.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/190 ـ 196.


(172)

    ثمّ دعا الحسين عليه السلام بمسلم بن عقيل رضي الله عنه ودفع إليه الكتاب وقال : إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة ، وهذه كتبهم إليّ ، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى ، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ، فامض على بركة الله وعونه حتّى تدخل الكوفة ، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها وادع الناس إلى طاعتي ، فإن رأيت الناس مجتمعين على بيعتي فعجّل عليَّ بالخبر حتّى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى.
    قال : ثمّ عانقه الحسين وبكيا جميعاً ، وكان الحسين عليه السلام ينظر إلى مصرعه ، فخرج مسلم من مكّة قاصداً المدينة مستخفياً لئلّا يعلم به بنو اُميّة ، فلمّا دخل المدينة بدأ بمسجد النبيّ صلّى الله عليه وآله فصلّى عنده ، ثمّ أقبل (1) في جوف الليل ، فودع أهل بيته ، ثمّ استأجر دليلين من قيس عيلان يدلّانه على الطريق ، ويمضيان به إلى الكوفة على غير الجادّة ، فخرج الدليلان به من المدينة ليلاً وسارا فأضلّا الطريق ، واشتدّ بهما العطش فماتا عشطاً ، وسار (2) مسلم ومن معه إلى الماء وقد كادوا أن يهلكوا عطشاً ، فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام :
1 ـ في المقتل : خرج.
2 ـ في المقتل : وصار.


(173)
    أمّا بعد :
    فإنّي خرجت من المدينة ليلاً مع دليلين استأجرتهما فضلّا عن الطريق واشتدّ بهما العطش فماتا ، ثمّ صرنا إلى الماء بعد ذلك ـ وقد كدنا نهلك ـ وأصبنا الماء بموضع يقال له « المضيق » وقد تطيرّت من وجهي ، فرأيك في إعفائي.
    فعلم الحسين عليه السلام أنّه قد تشأّم وتطيّر ، فكتب إليه :     من الحسين بن عليّ إلى مسلم بن عقيل ] (2)
    أمّا بعد :
    فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إليّ والاستعفاء من وجهك إلاّ الجبن والفشل ، فامض لما اُمرت به.
    فلمّا وصل الكتاب إليه وجد همّاً وحزناً في نفسه ، ثمّ قال : لقد نسبني أبو عبد الله إلى الجبن ، ثمّ سار مسلم حتّى دخل الكوفة. (3)
    وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى اشراف البصرة مع مولى له يقال له سليمان ويكنّى أبا رزين يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ؛ منهم : يزيد بن مسعود النهشلي ، والمنذر بن الجارود العبدي ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم ، وحسبي منكم ؟
1 و 2 ـ من المقتل.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/196 ـ 197.


(174)
    قالوا : بخّ بخّ ، أنت والله فقرة الظهر ، ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدّمت فيه فرطاً.
    قال : فإنّي قد جمعتكم لأمر اُريد أن اُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.
    فقالوا : والله إنّا نمنحك النصيحة ، ونجهد لك الرأي ، فقل نسمع.
    فقال : إنّ معاوية مات فأهون به هالكاً مفقوداً ، وإنّه قد انكسر باب (1) الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه ، وهيهات بالّذي أراد ، اجتهد إليه ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد ـ شارب الخمر ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم ، مع قصر حلم ، وقلّة علم ، لا يعرف من الحقّ موطىء قدمه ، فاُقسم بالله قسماً مبروراً انّ الجهاد في الدين أفضل من جهاد المشركين.
    وهذا الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله عليه وآله ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل ، [ له ] (2) فضل لا يوصف ، وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعيّة ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ، ولا تسكّعوا (3) في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس قد انخذل (4) بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ونصرته ، والله لا يقصّر أحد عن نصرته إلا أورثه الله الذلّ في ولده ،
1 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : انكسرت نار.
2 ـ من الملهوف.
3 ـ التسكّع : التمادي في الباطل.
4 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فقد صخر بن قيس انخذل.


(175)
والقلّة في عشيرته ، وها أنذا قد لبست للحرب لامتها ، وأدرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله في ردّ الجواب.
    فتكلّمت بنو حنظلة ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن نبل كنانتك ، وفرسان عشيرتك ، إن رميتَ بنا أصبتَ ، وإن غزوتَ بنا فتحتَ ، لا تخوض والله غمرة إلا خضناها ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، نصول (1) بأسيافنان ونقيك بأبداننا.
    وتكلّمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : يا أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا مخالفتك والخروج من رأيك (2) ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا.
    وتكلّمت بنو عامر بن تميم ، فقالوا : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وخلفاؤك (3) ، ولا نرضى إن غضبتَ ، ولا نقطن إن ضعنتَ ، والأمر إليك ، فادعنا نجبك ، وأْمرنا نطعك ، والأمر لك إذا شئت.
    فقال : والله يا بني سعد ، لئن فعلتموها لارفع الله السيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم. ثمّ كتب إلى الحسين عليه السلام :
بسم الله الرحمن الرحيم
    أمّا بعد :
    فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له بالأخذ بحظّي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وأنّ الله لم يخل الأرض قطّ من عاملٍ
1 ـ في الملهوف : ننصرك.
2 ـ في الملهوف : خلافك والخروج عن رأيك.
3 ـ في الملهوف : وحلفاؤك.


(176)
عليها بخير ، أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على الخلق ووديعته في أرضه ، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة ، هو أصلها ، وأنتم فرعها ، فأقدم سعدتَ بأسعد طائر ، فقد ذلّلتُ لك أعناق بني تميم وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلّلت لك بني سعد وغسلت درك صدورها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها يلمع. (1)
    فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الكتاب ، قال : مالك آمنك الله يوم الخوف ، وأعزّك وأرواك يوم العطش ، فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين عليه السلام بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع (2) من انقطاعه عنه.
    وأمّا المنذر بن الجارود خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيد الله بن زياد ، وكانت بحرية ابنة المنذر بن الجارود تحت عبيد الله بن زياد فأخذ المنذر الرسول والكتاب وأتى به إلى عبيد الله بن زياد فقتله ، ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد الناس من أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف.
    ثمّ بات تلك الليلة ، فلمّا أصبح استناب أخاه عثمان بن زياد على البصرة ، وأسرع هو إلى الكوفة. (3) ولمّا دخل مسلم الكوفة ـ وكان قبل وصول ابن زياد إليها ـ نزل في دار مسلم (4) بن المسيب ، وهي دار المختار بن ابي عبيدة الثقفي.
    قال : وجعلت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الحسين عليه
1 ـ في الملهوف : حتّى استهلّ برقها فلمع.
2 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : فخرج.
3 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 110 ـ 114.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سالم.


(177)
السلام ، والقوم يبكون شوقاً منهم إلى مقدم الحسين عليه السلام ، ثمّ تقدّم إلى مسلم رجل من همذان يقال له عابس الشاكري ، فقال :
    أمّا بعد ، فإنّي لا اُخبرك عن الناس بشيء ، فإنّي لا أعلم ما في أنفسهم ، ولكنّي اُخبرك عمّا أنا موطّن عليه نفسي ، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم ، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم ، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا اُريد بذلك إلا ما عنده.
    ثمّ قام حبيب بن مظاهر الأسدي الفقعسي ، فقال : أنا والله الّذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه.
    قال : وتتابعت الشيعة على كلام هذين الرجلين ، ثمّ بذلوا لمسلم الأموال ، فلم يقبل منها (1) شيئاً.
    قال : وبلغ النعمان بن بشير قدوم مسلم واجتماع الشيعة إليه وهو يومئذ أمير الكوفة ، فخرج من قصر الامارة مغضباً حتّى دخل المسجد الأعظم ، فنادى في الناس وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
    أمّا بعد ، يا أهل الكوفة ، اتّقوا الله ربّكم ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فإنّ فيها سفك الدماء ، وقتل الرجال ، وذهاب الأموال ، واعلموا أنّي لست اُقاتل إلاّ من قاتلني ، ولا أثب إلاّ من وثب عليَّ ، ولا اُنبّه نائمكم ، فإن أنتم انتهيتم عن ذلك ورجعتم وإلاّ فوالله وإلا فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لأضربنّكم بسيفي ما بقي قائمه في يدي (2) ، ولو لم يكن منكم ناصر ، إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يريد البطل.
1 ـ في المقتل : منهم.
2 ـ في المقتل : ما ثبت قائمه بيدي.


(178)
    فقام إليه عبد الله بن مسلم (1) بن سعيد الحضرمي فقال : أيّها الأمير ، إنّ هذا الّذي (2) أنت عليه من رأيك إنّما هو رأي المستضعفين.
    فقال له النعمان بن بشير ، يا هذا ، والله لأن أكون مستضعفاً (3) في طاعة الله تعالى أحبّ إليَّ من أن أكون من الغاوين في معصية الله ، ثمّ نزل عن المنبر ودخل القصر ، فكتب عبد الله بن مسلم (4) إلى يزيد لعنه الله :
[ بسم الله الرحمن الرحيم ] (5)
    لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من شيعته من أهل الكوفة.
    أمّا بعد :
    إنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة ، وقد بايعته الشيعة للحسين عليه السلام وهم خلق كثير ، فإن كانت لك بالكوفة حاجة فابعث اليها رجلاً قويّاً ينفّذ فيا أمرك ، ويعمل فيها كعملك في عدوّك ، فإنّ النعمان بن بشير ضعيف أو هو مستضعف (6) ، والسلام.
    وكتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقّاص بمثل ذلك ، فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد لعنه الله دعا بغلام كان لأبيه يقال له سرجون فأعلمه بما ورد عليه ، فقال له : أُشير عليك بما تكره.
1 ـ في المقتل : فقام إليه مسلم.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : الحضرمي أيّها انّها الّذي.
3 ـ في المقتل : والله لئن أكوننّ من المستضعفين.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : سعيد.
5 ـ من المقتل.
6 ـ في المقتل : يتضعّف.


(179)
    قال : وإن كرهت.
    قال : استعمل عبيد الله بن زياد على الكوفة.
    قال : إنّه لا خير فيه ـ وكان يزيد يبغضه ـ فأشر بغيره ، فقال : لو كان معاوية حاضراً أكنت تقبله منه ؟
    قال : نعم.
    قال : فهذا عهد عبيد الله على الكوفة ، أمرني معاوية أن أكتبه فكتبته وخاتمه عليه ، فمات وبقي العهد عندي.
    قال : ويحك قد أمضيته (1) ، ثمّ كتب :
    من عبد الله يزيد إلى عبيد الله بن زياد.
    سلام عليك.
    أمّا بعد :
    فإن الممدوح مسبوب يوماً ، والمسبوب ممدوح يوماً ، ولك مالك ، وعليك ما عليك ، وقد انتميت ونميت إلى كلّ منصب ، كما قال الأوّل :
رفعت فجاوزت السحاب برفعة فمالك إلاّ مقعد الشمس مقعد
    وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان ، وابتلي [ به ] (2) بلدك من دون البلدان ، وابتليت به من بين العمّال ، وفي هذه تعتق أو تكون عبداً تعبد كما تعبد العبيد ، وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة انّ مسلم بن عقيل في الكوفة يجمع المجموع ، ويشقّ عصا المسلمين ، وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي
1 ـ في المقتل : ويحك فامضه.
2 ـ من المقتل.


(180)
تراب ، فإذا أتاك كتابي هذا فسرحين تقرأه حتّى تقدّم الكوفة فتكفيني أمرها فقد ضممتها إليك ، وجعلتها زيادة في عملك ، فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز ، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع ، واعلم أنّه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك ، فالعجل العجل ، الوَحاء (1) الوَحاء ، والسلام.
    ثمّ دفع الكتاب إلى مسلم بن عمرو الباهلي وأمره أن يسرع [ السير إلى عبيد الله ] (2) ، فلمّا ورد الكتاب على ابن زياد وقرأه أمر بالجهاز وتهيّأ للمسير وقد كان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة كما أشرنا أوّلاً.
    فسار وفي صحبته مسلم بن عمرو والباهلي ، والمنذر بن جارود ، وشريك ابن عبد الله الهمداني ، فلمّا وصل قريب الكوفة نزل ، فلمّا أمسى دعا بعمامة سوداء فاعتمّ بها متلثماً ، ثمّ تقلدّ سيفه ، وتوشّح قوسه ، وأخذ في يده قضيباً ، واستوى على بغل له ، وركب معه أصحابه ، وأقبل حتّى دخل من طريق البادية ، وذلك في ليلة مقمرة والناس متوقّعون قدوم الحسين عليه السلام ، وهم لا يشكّون انّه الحسين فهم يمشون بين يديه ويقولون : مرحباً بك يا ابن رسول الله ، قدمت خير مقدم.
    فرأى عبيد الله بن زياد من إرادة (3) الناس بالحسين ما ساءه ، فسكت ولم يكلّمهم ، فتكلّم مسلم بن عمرو الباهلي ، وقال : إليكم عن الأمير يا ترابيّة ، فليس هذا من تظنّون ، هذا عبيد الله بن زياد.
    فتفرّق الناس عنه ، وتحصّن النعمان بن بشير وهو يظنّه الحسين ، فجعل
1 ـ الوحاء : الاسراع.
2 ـ من المقتل.
3 ـ في المقتل : تباشير.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس