تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 196 ـ 210
(196)
جوفه فسقط قتيلاً فطعن من ورائه ، فسقط إلى الأرض ، فاُخذ أسيراً ، ثمّ اُخذ فرسه وسلاحه ، وتقدّم رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن العبّاس فأخذ عمامته ، فجعل يقول : اسقوني شربة.
    فقال مسلم بن عمرو الباهلي : لا والله لا تذوق الماء أو تذوق الموت.
    فقال له مسلم : ويلك ما أجفاك وأقسى قلبك ، أشهد عليك إن كنت من قريش فإنّك (1) ملصق ، وإن كنت من غير قريش فأنت دعي ، من أنت يا عدوّ الله ؟
    قال : أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته ، ونصح الامام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
    فقال له مسلم : لاُمّك الهبل يا ابن باهلة ، أنت أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم ، إذ آثرت طاعة آل أبي سفيان على آل رسول صلّى الله عليه وآله.
    ثمّ قال : ويحكم يا أهل الكوفة ، اسقوني شربة من ماء ، فأتاه غلام لعمرو ابن حريث المخزومي بقلّةٍ من ماء وقدح قوارير قصب القلة في القدح وناوله ، فأخذ مسلم القدح ، فلمّا أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً ، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم ، وسقطت ثناياه في القدح ، فامتنع من شرب الماء فأخذوه وحملوه على بغل ، فدمعت عيناه ، وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
    فقال له عبيد الله بن العبّاس : من يطلب مثل الّذي طلبت لا يبكي.
    فقال : والله إنّي لا أبكي على نفسي ، ولكن أبكي على أهلي المقبلين ـ أعني الحسين عليه السلام ـ ، ولمّا اركب البغل ونزع عنه السيف قال لمحمد
1 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : فأنا.

(197)
ابن الأشعث : أتستطيع أن تبعث رجلاً عن لساني يبلّغ حسيناً فإنّي لا أراه إلا قد خرج إلى ما قبلكم هو وأهل بيته فيقول له : إنّ مسلم بن عقيل بعثني إليك وهو أسير في أيدي العدوّ يسار (1) به إلى القتل فارجع بأهلك ولا تغتر بأهل الكوفة فإنّهم أصحاب أبيك الّذين (2) كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذّبوني فكذبتك (3).
    فقال ابن الأشعث : لأفعلن ، ومعنى قول مسلم : « كذبتك » : أن مسلم كان قد كتب إليه عليه السلام كتاباً ذكر فيه كثرة من بايعه ، فهو معنى قوله « كذّبوني فكذبتك » ، ثمّ اُتي به واُدخل على ابن زياد ، فلم يسلم ، فقيل له : سلم على الأمير.
    فقال مسلم للقائل : اسكت لا اُمّ لك ، ما هو لي بأمير فاُسلّم عليه ، واخرى انّه ما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي ، فإن استبقاني فسيكثر سلامي عليه.
    فقال ابن زياد : لا عليك سلّمت أم لا تسلّم ، إنّك مقتول.
    فقال مسلم : إن قتلتني فقد قتل من هو شرّ منك من هو خير منّي.
    ثمّ قال ابن زياد : يا شاقّ ، يا عاقّ ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألحقت الفتنة.
    فقال مسلم : كذبت يا ابن زياد ، وإنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد علج من علوج ثقيف (4) ، وأنا
1 ـ في المقتل : يذهبون.
2 ـ في المقتل الّذي.
3 ـ في المقتل : كذبوني ، فكتبت إليك ، وليس لمكذوب رأي.
4 ـ في المقتل : زياد بن عبيد بن علاج من ثقيف.


(198)
أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ خلقه (1) ، فوالله ما خلعت ولا غيرت ، وإنّما أنا في طاعة إمامي الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ونحن (2) أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
    فقال له ابن زياد : يا فاسق ، ألم تكن تشرب الخمر في المدينة ؟
    فقال المسلم : أحقّ بشرب الخمر منّي من يقتل النفس الحرام ، ويقتل على العداوة والغضب والظن وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً.
    فقال له ابن زياد : يا فاسق ، منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.
    فقال مسلم : ومن أهله ، يا ابن مرجانة ؟
    فقال : أهله يزيد.
    فقال مسلم : الحمد لله ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم ؟
    فقال ابن زياد : أتظنّ أنّ لك من الأمر شيء ؟
    فقال : لا والله ما هو الظنّ ، ولكنّه اليقين.
    فقال ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك [ شرّ قتلة ] (3).
    فقال مسلم : أمّا إنّك لا تدع سوء القتلة ، وقبيح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة (4) ، والله لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة من ماء
1 ـ في المقتل : بريّته.
2 ـ في المقتل : فهو.
3 ـ من المقتل.
4 ـ في المقتل : الفعلة.


(199)
لطال عليك أن تراني في هذا القصر الملعون والملعون من بناه ، ولكن إن كنت عزمت على قتلي فأقم رجلاً من قريش اوصي إليه بما اُريد ، ثمّ نظر مسلم إلى عمر بن سعد ، وقال : إنّ بيني وبينك قرابة فاستمع منّي ، فامتنع عمر بن سعد.
    فقال ابن زياد : ما يمنعك من الاستماع إلى ابن عمّك ؟
    فقام عمر إليه ، فقال : اُوصيك ونفسي بتقوى الله فإنّ تقوى الله منها درك كلّ خير ، وليّ إليك حاجة.
    فقال عمر : قل ما أحببت.
    فقال مسلم : حاجتي أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عنيّ ديني وقدره سبعمائة درهم استدنتها في مصركم ، وأن تستوهب جثّتي فتواريها إذا قتلني هذا الفاسق ، وأن تكتب إلى الحسين بن عليّ أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي.
    فقال عمر : أيّها الأمير ، إنّه يقول كذا وكذا.
    فقال ابن زياد : أمّا [ ما ] (1) ذكرت من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دَينك ، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت ، وأمّا جسدك فإذا نحن قتلناك ـ والخيار في ذلك إلينا ـ فلسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك ، وأمّا الحسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكف عنه.
    وفي رواية اُخرى : انّه قال : وأمّا الحسين فلا ولا كرامة ، ولكن اُريد ـ يا ابن عقيل ـ أن تخبرني لماذا (2) جئت هذا البلد وأمرهم جيمع وكلمتهم واحدة
1 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : بماذا ؟


(200)
فأردت أن تفرّق عليهم أمرهم وتحمل بعضهم على بعض ؟
    فقال مسلم : ليس لهذا أتيت ، ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وأنّ معاوية حمل فيهم غنيّهم (1) بغير رضا منهم ، وغلبهم على ثغورهم الّتي أفاء الله عليهم ، وأنّ عاملهم بتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر ، فأتينا لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب ، وكنّا أهل ذلك ولم تزل الخلافة لنا وإن قهرنا عليها ، رضيتم بذلك أم كرهتم ، لأنّكم أوّل من خرج على إمام الهدى وشقّ عصا المسلمين ، ولا نعلم لنا ولكم [ مثلاً ] (2) إلاّ قول الله : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَموُا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (3).
    قال : فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين.
    فقال مسلم : أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة ، فاقض ما أنت قاض يا عدوّ الله ، فنحن أهل بيت البلاء موكل بنا.
    فقال ابن زياد : اصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه ، وأتبعو رأسه جسده.
    فقال مسلم : أمّا والله يا ابن زياد ، لوكنت من قريش وكانت (4) بيني وبينك رحم لما قتلتني ولكنّك ابن أبيك ، فازداد ابن زياد غيضاً (5) ، ثمّ دعا برجل من أهل الشام كان مسلم قد ضربه على رأسه ضربة منكرة ، فقال له : خذ مسلم بن
1 ـ في المقتل : وأنّ معاوية حكم فيهم ظلماً.
2 ـ من المقتل.
3 ـ سورة الشعراء : 227.
4 ـ في المقتل : أو كان.
5 ـ في المقتل : غضباً.


(201)
عقيل ، واصعد به إلى أعلى القصر ، واضرب عنقه ليكون ذلك أشفى لصدرك.
    قال : فأصعد مسلم إلى أعلى القصر وهو يسبّح الله ويستغفره ويقول : اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ، حتّى اُتي به إلى أعلى القصر ، وتقدّم ذلك الشامي إليه فضرب عنقه صلوات الله ورحمته وبركاته عليه ثمّ نزل الشامي إلى ابن زياد وهو مذعور.
    فقال ابن زياد : ما الّذي ذعرك ؟
    قال : رأيت ساعة قتلته رجلاً بحذائي أسود شديد السواد كريه المنظر وهو عاضّ على اصبعه ـ أو قال على شفته ـ ففزعت منه فزعاً لم أفزع مثله ، فتبسّم ابن زياد ، وقال : لعلّك دهشت وهذه عادة لم تعتدها.
    قال : ثمّ دعا ابن زياد بهانىء بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم.
    فقال : محمد بن الأشعث : أصلح الله الأمير ، إنّك قد عرفت منزلته [ في المصر ] (1) وشرفه في عشيرته ، وقد علم قومه أنّي وأسماء (2) بن خارجة جئناك به ، فاُنشدك الله أيّها الأمير إلاّ وهبته لي ، فإنّي أخاف عداوة قومه لي فإنّهم سادة أهل الكوفة ، فزبره ابن زياد وأمر بهانىء بن عروة فاخرج الى السوق الى مكان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، وعلم هانيء أنّه مقتول ، فجعل يقول : وامذحجاه وأين بني (3) مذحج ؟ واعشيرتاه وأين بني عشيرتي ؟ ثمّ أخرج يده من الكتاف ، فقال : أمّا من عصا أو سكيّن أو حجر يدرأ (4) به الرجل عن نفسه ؟ فوثبوا إليه
1 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : مسلم.
3 ـ في المقتل : منّي ، وكذا في الموضع الآتي.
4 ـ في المقتل : يجاحش.


(202)
فشدّوه ، ثمّ قالوا له : امدد عنقك.
    فقال : ما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه غلام لابن زياد بالسيف ضربه فلم تعمل فيه شيئاً.
    فقال هانىء : إلى الله المعاد والمنقلب ، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك ، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي ، فإنّي ما غضبت إلاّ لابن نبيّك محمد صلّى الله عليه وآله ، فتقدم الغلام ثانية فقتله رحمة الله وبركاته عليه.
    ثمّ أمر ابن زياد بمسلم وهانىء فصلبا منكسين.
    روي أنّ مسلماً كان من أشجع الناس قلباً وأشدّهم بطشاً. ولقد كان من قوتّه انّه كان يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت ، فلعنة الله على قاتله وخاذله.
    ولمّا صلبا منكسين رضي الله عنهما قال فيهما عبد الله بن الزبير الأسدي :
فإن كنت ما (1) تدرين ما الموت فانظري إلى بطل قد هشم السيف وجهه أصابهما ريب المنون (3) فأصبحا إلى هاني بالسوق وابن عقيل وآخر يهوي من جدار (2) قتيل أحاديث من يسري بكلّ سبيل

1 ـ في المقتل : إذا كنت لا.
2 ـ في المقتل : طمار.
3 ـ في المقتل : أمر الأمير.


(203)
ترى جسداً قد غيّر الموت لونه فتى كان أحيا من فتاة حيية أيركب أسماء الهماليج (2) آمناً فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ونضْح دمٍ قد سال كلّ مسيل وأقطع من ذي شفرتين صقيل وقد طلبته مذحج بقبيل (3) فكونوا أيامى (4) اُرضيت بقليل
    قال : ثمّ كتب عبيد الله بن زياد إلى عدوّ الله يزيد لعنه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
    لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد.
    الحمدلله الّذي أخذ لأميرالمؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه ، ثمّ ذكر فيه قصّة مسلم وذكر هانىء بن عروة ، وكيف أخذهما وقتلهما ، ثمّ قال : وقد بعثت برأسهما مع هانىء بن حيّة (5) الوادعي والزبير بن الأروح التميمي ، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة ، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ فإنّ عندهما
1 ـ زاد في المقتل البيت التالي :
وأشجع من ليث بخفان مصحر وأجرأ من ضار بغاية غيل
2 ـ الهماليج : جمع هملاج ، وهو البرذون.
3 ـ في المقتل : بذحول ، وزاد فيه البيت التالي :
تطوف حواليه مراد وكلّهم على رقبةٍ من سائلٍ ومسول
4 ـ في المقتل : بغايا.
5 ـ في تاريخ الطبري : هانىء بن أبي حيّة ، وفي الكامل في التاريخ : هانىء بن جبة الوداعي.


(204)
علماً وفهماً وصدقاً وورعاً.
    قال : فلمّا ورد الكتاب والرأسان على يزيد لعنه الله أمر بالرأسين فنصبا على باب دمشق ، ثمّ كتب إلى ابن زياد :
    أمّا بعد :
    فإنك عملت عمل الحازم ، وصِلْتَ صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد كفيتَ ووفيتَ ، وقد سألتُ رسوليك فوجدتهما كما زعمتَ ، وقَد أمرتُ لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك ، فاستوص بهما خيراً وقد بلغني انّ الحسين قد عزم على المصير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر والمسالح واحترس ، واحبس على الظنّ ، واقتل على التهمة ، واكتب إليّ بذلك كلّ يوم بما يحدث من خبر. (1)
    قلت : يا من بذل نفسه في طاعة ربّه ووليّ أمره ، وأجهد جهده في جهاد أعداء الله في علانيته وسرّه ، وكشف عن ساق في طلب السعادة الباقية ، وشمّر عن ساعد لتحصيل الدرجة العالية ، حزني عليك أقلقني ، وما اُسدي إليك أرّقني ، ودمعي لما أصابك أغرقني ، ووجدي لمصابك أحرقني ، أدّيت الأمانة جاهداً ، وبذلت النفس مجاهداً ، صابراً على ما أصابك في جنب الله ، مصابراً بقلبك وقالبكأعداء الله ، لم تضرع ولم تفشل ، ولم تهن ولم تنكل ، بل قابلتَ الأعداء بشريف طلعتك ، وقاتلتَ الأشقياء بشدةّ عزمتك.
    عاهدوك وغدروا ، وأخلفوك وكفروا ، واستحبّوا العمى على الهدى ، واختار الدنيا على الاُخرى ، فطوّقهم الله بذلك أطواق العار ، وأعدلهم بقتالك
1 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/197 ـ 215.

(205)
أُطباق النّار ، وجعلهم ضرام وقودها ، وطعام حديدها ، وأفراط جنودها ، فلقد حقّت عليهم كلمة العذاب بخذلانهم إيّاك ، ونكصوا على الأعقاب إذ استبدلوا بك سواك.
    فأبعد بالكوفة وساكنيها ، وأهاليها وقاطنيها ، فليست واقعتك بأعظم من واقعة عمّك وقتله في محرابه ، ولا خذلك بأعظم من خذل الزكيّ وغدر أصحابه ، ولا نقض عهدك بأقبح من نقض عهد المقتول بين خاصّتهم وعامّتهم ، ولا خفر ذمّتك بأشنع من خفر ذمة المصلوب بكناستهم.
    فلقد غدروا بعد مواثيقهم وأيمانهم ، وكفروا بعد تظاهرهم بإيمانهم ، فحرمهم الله ريح الجنّة ، وطوقّهم أطواق اللعنة ، ورمى مصرهم بالذلّ الشامل ، والخزي الكامل ، والسيف القاطع ، والعذاب الواقع ، ليس له من الله من دافع (1) ، حتّى صارت حصيداً كأن لم تغن بالأمس (2) ، وبراحاً خالية من الإنس ، للبوم في أرجائها تغريد ، وللوحش في عراصها تطريد ، وأهلها عباديد (3) في الأقطار ، ومتفرّقون في الأمصار ، قد أذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار.
    لمّا خذلوا الحق وأهله ، واسترهبوا الجهاد وفضله ، وآثروا الدعة والراحة ، واستشعروا السفاهة والوقاحة ، سلّط الله عليهم شرّ خليقته ، وأدنى بريّته ، نجل سميّة الزانية ، وزعيم العصابة الباغية ، ثمّ قفّاه بالخصيم الألدّ ، والكفور الأشدّ ، الغيّ يظلّه عن التعريف ، الأم نغل من ثقيف ، الّذيّال الميّال ،
1 ـ إقتباس من الآية : 2 من سورة المعارج.
2 ـ إقتباس من الآية : 24 من سورة يونس.
3 ـ عباديد : متفرّقون.


(206)
المغتال القتّال ، السفّاك الفتّاك ، الهتّاك الأفّاك ، فداسهم دوس السنبل وذراهم ذرى الحبّ كما قال فيه بعض عارفيه : جاءنا أعمش اختفش ارحميمة برجلها وأخرج إليها ثياباً قصاراً ، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله ، فقال : بايعوني فبايعناه ، وفي هذه الأعواد ينظر إلينا بالتصغير ، وننظر إليه بالتعظيم ، يأمرنا بالمعروف ونجيبه ، وينهانا عن المنكر ونرتكبه ، فاستعبد أحرارهم ، وأباد خيارهم ، وأذلّ بالتسخير رجالهم ، وأيتم بفتكه أطفالهم ، فتفرّقوا أيادي سبأ ، واتّخذوا سبيلهم في الأرض سرباً.
    فانظر إلى فروع اُصولها في زمانك ، ونتائج مقدّماتها في أوانك ، هل ترهم إلاّ بين شرطي ذميم ، أو عتلّ زنيم ، أو ممسك لئيم ، أو معتد أثيم ؟
    بغض ذرّيّة الرسول في جبلّتهم مركوز ، والتغامز عليهم بالحواجب في طبيعتهم مرموز ، يقصدونهم في أنفسهم وأموالهم ، ويهضمونهم بأقوالهم وأفعالهم ، ويتجّسّسون على عوراتهم ، ويتّبعون عثراتهم ، وبالأعين عليهم يتلامزون ، وإذا مروّا بهم يتغامزون ، إن رأوا فضيلة من فضائلهم كتموها ، وإن بدرت منهم صغيرة أكبروها ، يغرون بهم سفاءهم ، وينصرون عليهم أعداءهم ، أتباع كلّ ناعق ، وأشياع كلّ مارق ، لا يستضيؤون بنور العلم ، ولا يترتّبون برتبة الحلم ، يدّعون حبّ ذرّيّة نبيّهم ، وصفحات وجوههم تنطق بتكذيبهم ، ويظهرون النصيحة لعترة وليهّم ، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، يؤذون الجار ، ويهضمون الأخيار ، ويعظّمون الأشرار ، ويحسدون على ربع دينار.
    ولقد أقمت فيهم مدّة ، وصحبت منهم عدّة ، وعمرّت المساكن المونقة وغرست الحدائق المغدمة ، أكثر ... (1) سوادهم ، ولا آكل زادهم ، اُكافي على الحسنة بعشر أمثالها ، واُجازي بالهدية أضعاف أثقالها ، وأتعفّف عن ولائمهم ،
1 ـ غير مقروءة في الأصل.

(207)
وأتصلّف عن مطاعمهم ، حذراً من مننهم ، وتقصيّاً عن نعمتهم ، كما قال الأوّل :
فلا ذا يراني واقفاً في طريقه ولا ذا يراني جالساً عند بابه
    فنصبوا حبائل حسدهم قصداً لوقوعي ، وأوفوا قواتل سمومهم ليجتاحوا أصلي وفروعي ، وأطلعني ربّي على فساد ضمائرهم ، وخبث سرائرهم ، فاتخذّت الليل ستراً ، وفصلت عن قراري سرّاً ، قد أذهل الخوف لبيّ ، وأرجف الوجل قلبي ، ملتفتاً إلى ما خلفي ، قد أحال الفرق لوني وغيّر وضعي ، قائلاً : ( رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1) ، ولا تجعلني فتنة للقوم الكافرين (2) ، عامداً أفضل مشهد ، وأكرم مرقد ، وخير صعيد ، وأفخر شهيد ، سيّد الشهداء ، وأشرف أولاد الأنبياء ، صاحب كربلاء ، حتّى إذا استقرّت في الدار ، وأمنت البوار ، خمدت مسراي عند الصباح ، وجعلت مثواي حضرة خامس الأشباح ، واتخذت بلدته موطناً ومستقرّاً ، ونزلاً مستمرّاً ، وهلّم جرّا ، وتلوت : ( سُبْحَانَ الَّذِي أسرَى ) (3). ولمّا سئمتُ صحبتهم ، وقلوتُ جبلهم ، جعلتُ أشرح ما صدر لي عنهم ، واُوضح ما تمّ عليَّ منهم ، بسحر حلال من شعري ، وراتق زلال من نثري.
    فمن جملة ذلك أبيات من جملة قصيدة مطوّلة قلتها حين فررت ، ونظمت فيها ما ذكرتُ ، وأوردتُ ما تمّ على السيّد المجيد ، والسبط الشهيد ، عليه أفضل الصلوات ، وأكمل التحيّات :
كربلا كم فيك من شيب خضيب بدم النحر وكم هام نقيف

1 ـ سورة القصص : 21.
2 ـ إقتباس من الآية : 85 من سورة يونس.
3 ـ سورة الإسراء : 1.


(208)
وسعيد بصعيد الطفّ ثاو لبني الزهراء أرباب المساعي زلف نحوهم عصبة سوءٍ لعن الله بني الكوفة لم سل يزيداً قائماً بالقسط من صلبوه بعد خذل ثمّ قتل فلذا صارت براحاً وخلت وغدت أبناؤها في كلّ فجٍّ ولئيم وذميم ورجيم وجبان يوم زحف وقراع هم فروع لاُصول لم يرقّوا رأسه يعلى على رمح ثقيف والمعالي والعوالي والسيوف ليس فيهم غير زنديق وكوفي يك فيهم من بعهد الله يوفي حاز المعالي من تليد وطريف آه ممّا حلّ بالبدن الشريف أرجاؤها من قاطن فيها وريف بين شرطي زنيم وعريف وشقيّ وغويّ وطفيف وعلى الجارات بالليل زحوف لبني الزهراء في يوم الطفوف


(209)
أسفوا إن لم يكونوا ذا اجتها فاستحلّوا من بينهم كلّ سوء فلذا نحوهم وجّهت دمي ولمّا أسدوه من بغي وظلـ ومن الله عليهم لعنات ما شكا ذو حرقة ما ناله د مثل آبائهم بين الصفوف وأحلّوا بهم كلّ مخوف وعليهم أنا داع بالحتوف ـم تسرّه بالسوء داني وأليف دائماً تترى بلا كم وكيف من فاجرٍ بالبغي والظلم عسوف
    فيا من يعنّفني بسبّهم ، ويؤفّفني بثلبهم ، ويعيبني بعيبتهم ، ويخطئني بتخطئتهم ، ويعيّرني ويتجسس على عوراتي ، ويسلك مسلكهم في التفحّص عن زلّاتي ، لا تلمني على ما صدر منّي ، ولا تفنّدني وتصدعني ، فلا بدّ للملآن أن يطفح ، وللصوفي عند غلبة الحال أن يشطح ، فمهد لقاعدة نظمي ونثري عذراً ، ولا ترهقني من أمري عسراً.
    أمّا سمعت أخبار آبائهم الأوّلين ؟ أمّا رأيت آثار أسلافهم الأقدمين ؟ جدّل الوصيّ في جامعهم ، وطعن الزكيّ بين مجامعهم ، وقتل ابن عقيل لدى منازلهم ، والاجاب على السبط الشهيد بقبائلهم وقنابلهم ، وسبي ذراريه على أقتاب رواحلهم ، هو الّذي أطلق لساني بما وصفت ، وأجري بناني بما صغت


(210)
ورصفت ، فلا تعذلني على نحيبي وعويلي ، ولا تصدّني لبكائي عن سبيلي ، إلاّ من اتّخذ في الأرض لنفاقه نفقاً ، وجرى في تيه ضلاله حيفاً وعنفاً وسأختم هذا المجلس الجليل ، بمرثيّة السيّد النبيل ، مسلم بن عقيل :
لهف قلبي وحرقتي وعويلي نجل عمّ النبيّ خير وفيّ خذلوه وأسلموه إلى الحي‍ وتلقّى السيوف منه بوجه نصر الحقّ باللسان وبالقل‍ ومن الله باع نفساً رقت في بذل النفس في رضا ابن لست أنسى الأوغاد إذ خذلوه وهو يسطو كليث غاب فكم جدّل وبكائي حزناً لخير قتيلِ عاهد الله مسلم بن عقيلِ ‍ن فوفى بعهد آل الرسول لم تهن في رضا المليك الجليلِ ‍ب وحاز الثنا بباع طويل المجد أعلا العلى بصبرٍ جميل وليّ الله صنو الرسول زوج البتول والعدا يطلبونه بذحول رجساً بالصارم المصقول
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس