تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 256 ـ 270
(256)
[ قتال ] (1) الحسين فإنّك تأثم بذلك وتقطع رحمك ، فوالله لئن خرجت من سلطان الأرض كلّها هو خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين.
    قال : فسكت عمر وفي قلبه من الريّ ما فيه (2) ، فلمّا أصبح أقبل على ابن زياد ، فقال له : ما عندك يا عمر ؟
    فقال : أيّها الأمير ، إنّك ولّيتني هذا بعمل ، وقد تسامع الناس به ، فإن رأيت أن تفسده لي وتولّي غيري فافعل ، فإنّ في الكوفة أسماء بن خارجة ، وكثير بن شهاب ، ومحمد بن الأشعث ، وغيرهم.
    فقال له ابن زياد : لا تعلّمني بأشراف الكوفة ، فإنّي لا أستأمرك فيمن اُريد أن أبعث ، فإن سرت أنت فرّجت عنّا هذه الغمّة ، وأنت الحبيب القريب ، وإلّا فاردد علينا عملنا (3) ، والزم منزلك فإنّا لا نكرهك.
    قال : فسكت عمر ، وغضب ابن زياد ، وقال : يا ابن سعد ، والله لئن لم تمض إلى حرب الحسين (4) وتتولّاه لأضربنّ عنقك ، ولأهدمنّ دارك ، ولأنهبن مالك [ ولا اُبقي عليك ] (5) كائنا من كان.
    فقال : إذاً فأنا سائر إليه غداً ، فجزاه ابن زياد خيراً ، ووصله وأعطاه ، وضمّ إليه أربعة آلاف فارس ، وقال له : خذ بكظم الحسين ، وحل بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه ، ثمّ سار عمر بن سعد في أربعة آلاف نحو الحسين ، وكان
1 و 5 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : ما في قلبه.
3 ـ في المقتل : عهدنا.
4 ـ في المقتل : لم تسر إلى الحسين.


(257)
[ الحرّ ] (1) عنده ألف فذلك خمسة آلاف ، ثمّ دعا عمر بن سعد برجل من أصحابه يقال له عروة بن قيس ، فقال له : امض إلى الحسين فاسأله ما الّذي جاء به إلى هذا الموضع ؟ وما الّذي أخرجه من مكّة ؟
    فقال عروة : أيّها الأمير ، إنّي كنت قبل اليوم اُكاتب الحسين ويكاتبني ، وأنا أستحي أن أصير إليه ، فإن رايت أن تبعث غيري ، فبعث ابن سعد برجل يقال له كثير بن عبد الله الشعبي (2) ، وكان ملعوناً ناصبيّاً شديد العداوة لأهل البيت عليهم السلام فسلّ سيفه ، فلمّا رأى أبو ثمامة الصائدي (3) قال للحسين : يا ابن رسول الله ، قد جاءك شرّ الناس واجرأهم على سفك الدماء.
    قال : فقام الحسين وقال له : ضع سيفك حتّى نكلّمك فقال : لا ولا كرامة ، إنّما أنا رسول فإن سمعتَ منّي بلّغتُ ما اُرسلتُ به ، وإن أبيتَ انصرفتُ.
    فقال له أبو ثمامة : تكلّم بما تريد ولاتدن من الحسين فإنّك رجل فاسق ، فغضب ورجع إلى ابن سعد ، وقال : إنّهم لم يتركوني أن أدنو من الحسين فاُبلّغه رسالتك فابعث غيري ، فأرسل إليه برجل يقال له قرّة بن قيس الحنظلي ، فلمّا أشرف على عسكر الحسين قال الحسين لأصحابه : هل تعرفون الرجل ؟
    فقال حبيب بن مظاهر : نعم ، يا ابن رسول الله ، هذا رجل من بني تميم ثمّ من بني حنظلة ، وقد (4) كنت أعرفه حسن الرأي ، وما ظننت أنّه يشهد هذا المشهد ، ثمّ تقدّم الحنظلي حتّى وقف بين يدي الحسين عليه السلام وأبلغه
1 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : يقال غيلان بن عبد الله السبيعي.
3 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : الصيداوي.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : هذا رجل من تميم وقد.


(258)
رسالة عمر بن سعد.
    فقال الحسين عليه السلام : يا هذا ، أبلغ صاحبك انّي لم ارد هذا البلد ، ولكن كتب إليّ أهله أن آتيهم يبايعوني ويمنعوني وينصروني ، فإن كرهتموني انصرفت عنكم من حيث جئتُ.
    ثمّ وثب إليه حبيب بن مظاهر ، وقال : ويحك يا قرّة ، عهدي بك وأنت حسن الرأي في أهل البيت ، فما الّذي غيرك حتّى جئتنا بهذه الرسالة ، فأقم عندنا وانصر هذا الرجل الّذي قد أتانا الله به ؟
    فقال الحنظلي : سمعت مقالتك ، وهو أحقّ بالنصر من غيره ، ولكنّي أرجع إلى صاحبي بالرسالة وأنظر في ذلك ، ثمّ انصرف وأخبر ابن سعد بمقالة الحسين.
    فقال ابن سعد : الحمد لله ، والله إنّي لا أرجو أن يعافيني الله من حربه ، ثمّ كتب إلى ابن زياد :
    إلى الأمير عبيد الله بن زياد من عمر بن سعد.
    أمّا بعد :
    فإنّي نزلت بالحسين ، ثمّ بعثت إليه رسولاً وسألته عمّا أقدمه ، فذكر انّ أهل الكوفة أرسلوا يسألونه القدوم عليهم ليبايعوه وينصروه ، فإذا قد بدا لهم في نصرته فإنّه ينصرف من حيث أتى ويلحق بيزيد بن معاوية ، أو يلحق بأيّ بلد أردت فيكون كواحد من المسلمين ، فأحببت أن اُعلم الأمير بذلك.
    فلمّا قرأ ابن زياد كتاب عمر فكر ساعة ، ثمّ قال : الآن وقد علقت مخاليبنا يرجو ابن أبي تراب النجاة منها ، هيهات لانجّى الله ابن زياد إن نجا منها


(259)
الحسين ، ثمّ كتب إلى ابن سعد :
    أمّا بعد :
    فقد بلغني كتابك وما ذكرت من أمر الحسين ، فإذا ورد عليك كتابي هذا فأعرض عليه البيعة ليزيد ، فإن فعل وأجاب إلى البيعة وإلّا فائتني به ، والسلام.
    فلمّا ورد الكتاب على ابن سعد قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أخاف أنّ ابن زياد لا يقبل العافية ، والله المستعان ، فلم يعرض ابن سعد على الحسين ما أرسل به ابن زياد لأنّه علم أنّ الحسين لا يبايع يزيد أبداً (1).
    قال : ثمّ جمع ابن زياد الناس في جامع الكوفة ، ثمّ خرج فصعد المنبر ، ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعيّة ، يعطي العطاء في حقّه ، قد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن اُوفّرها عليكم واُخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا.
    ثمّ نزل عن المنبر ووفّر للناس العطاء ، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين عليه السلام ، ويكونوا عوناً لابن سعد على حربه ، فأوّل من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف ، فصار ابن سعد في تسعة آلاف ، ثمّ أتبعه بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين ، والحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف ، وفلان المازني في ثلاثة آلاف ، ونصر بن فلان في ألفين ، فذلك عشرون ألفاً.
1 ـ في المقتل : لا يجيبه إلى ذلك أبداً.

(260)
    ثمّ أرسل إلى شبث بن ربعي أن أقبل إلينا فإنّا نريد أن نوجّه بك إلى حرب الحسين ، فتمارض شبث وأراد أن يعفيه ابن زياد ، فأرسل إليه :
    أمّا بعد :
    فإنّ رسولي خبّرني بتمارضك ، وأخاف أن تكون من الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون (1) ، إن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعاً ، فأقبل إليه شبث بعد العشاء ، لئلّا ينظر الملعون إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلّة ، فلمّا دخل رحّب به وقرّب مجلسه ، وقال : اُحبّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه.
    فقال : أفعل أيّها الامير. (2)
    فما زال يرسل إليه بالعساكر حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل ، ثمّ كتب إليه ابن زياد : إنّي لم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا اُصبح ولا اُمسي إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشيّة ، وكان ابن زياد يستحثّ عمر بن سعد على قتال الحسين عليه السلام ، وعمر بن سعد يكره ذلك. (3)
    قال : والتأمت العساكر عند عمر بن سعد لستّة أيام مضين من المحرّم (4) ، وأقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام ، فقال : يا ابن رسول الله ، هاهنا
1 ـ إشارة إلى الآية : 14 من سورة البقرة.
2 ـ كذا في خ ل الأصل والمقتل ، وفي الأصل : الرجل.
3 ـ في المقتل : يكرة أن يكون قتل الحسين يده.
4 ـ في البحار : وكان ابن زياد يستحثّ عمر بن سعد لستّة أيّام مضين من المحرّم.


(261)
حيّ من بني أسد بالقرب منّا أفتأذن لي بالمصير إليهم [ الليلة ] (1) فأدعوهم إلى نصرتك ، فعسى الله أن يدفع بهم الأذى عنك ؟
    قال : قد أذنت لك ، فخرج حبيب إليهم في جوف الليل مستنكراً مستعجلاً حتّى أتى إليهم فعرفوه أنّه من بني أسد ، فقالوا : ما حاجتك ، يا ابن عمّنا ؟
    فقال : إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم ، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم فإنّه في عصابة من المؤمنين ، الرجل منهم خير من ألف رجل ، لن يخذلوه ، ولن يسلّموه بيد أعدائه (2) وهذا عمر بن سعد قد أحاط به ، وأنتم قومي وعشيرتي ، وقد أتيتكم بهذه النصيحة ، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة (3) ، فإنّي اُقسم بالله لا يقتل أحد منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً إلاّ كان رفيقاً لمحمد صلّى الله عليه وآله في علّيّين.
    قال : فوثب إليه رجل من بني أسد يقال له عبد الله بن بشر ، فقال : أنا أوّل من يجيب إلى هذه الدعوة ، ثمّ جعل يرتجز [ ويقول ] (4) :
قد علم القوم إذا تواكلوا (5) أنّي شجاع بطل مقاتل (7) وأحجم الفرسان أو تثاقلوا (6) كأنّني ليث عرين باسل

1 ـ من المقتل.
2 ـ في البحار : ولن يسلّموه أبداً.
3 ـ في المقتل : وحسن ثواب الآخرة.
4 ـ من البحار.
5 ـ في المقتل : تناكلوا.
6 ـ في المقتل : إذ تناضلوا.
7 ـ في المقتل : إنّي الشجاع البطل المقاتل.


(262)
    ثمّ تنادى (1) رجال الحيّ حتّى التأم (2) منهم تسعون رجلاً فأقبلوا يريدون الحسين عليه السلام ، وخرج رجل في ذلك الوقت من الحي يقال له [ فلان ] (3) ابن عمرو حتّى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال ، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه يقال له الأزرق الشامي ـ وهو الّذي قتله وبنيه قاسم بن الحسن عليه السلام واحداً بعد واحد ـ ، فضمّ إليه أربعمائة فارس ووجّه [ به ] (4) نحو حيّ بني أسد ، بينا اُولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين عليه السلام في جوف الليل إذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطىء الفرات ، وبينهم وبين عسكر الحسين النهر (5) ، فناوش القوم بعضهم بعضاً واقتتلوا قتالاً شديداً ، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق : ويلك مالك ومالنا ؟ انصرف عنّا ودعنا يشقى بنا غيرك (6) ، فأبى الأزرق أن يرجع ، وعلمت بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم فانهزموا راجعين إلى حيّهم ، ثمّ إنّهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيّتهم ، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام فخبرّه بذلك.
    فقال عليه السلام : لا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.
    قال : ورجعت خيل ابن سعد حتّى نزلوا على شاطىء الفرات ، فحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء ، وأضرّ العطش بالحسين وأصحابه ، فأخذ الحسين
1 ـ في المقتلت : بادر ، وفي البحار : تبادر.
2 ـ اجتمع ـ خ ل ـ.
3 و 4 ـ من المقتل.
5 ـ كذا في المقتل والبحرا ، وفي الأصل : النهر.
6 ـ في المقتل : دعنا واشتق بغيرنا.

(263)
عليه السلام فأساً وجاء إلى وراء خيمة النساء فخطا في (1) الأرض تسع عشرة خطوة نحو القبلة ، ثمّ حفر هناك ، فنبعت له عين من الماء العذب ، فشرب الحسين عليه السلام وشرب الناس بأجمعهم وملؤا أسقيتهم ، ثمّ غارت العين ، فلم ير لها أثر. (2)
    وبلغ ذلك ابن زياد ، فأرسل إلى عمر بن سعد : بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ، ويصيب الماء ، فيشرب هو وأصحابه ، فانظر إذ ورد عليك كتابي فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت ، وضيّق عليهم ، ولا تدعهم يذوقوا الماء ، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيّ عثمان.
    فعندما ضيّق عليهم عمر بن سعد غاية التضييق.
    ثمّ دعا بعمرو بن الحجّاج الزبيدي فضمّ إليه خيلاً عظيمة ، وأمره أن ينزل علي الشريعة الّتي [ هي ] (3) حذاء عسكر الحسين.
    قال : فنزلوا على الشريعة ، فلمّا اشتدّ العطش بالحسين دعا بأخيه العبّاس بن عليّ فضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً وبعث معه عشرين قربة ، فأقبلوا في جوف الليل حتّى دنوا من الفرات.
    فقال عمرو بن الحجّاج : من أنتم ؟
    فقال رجل من أصحاب الحسين عليه السلام يقال له هلال بن نافع الجملي (4) : أنا ابن عمٍّ لك من أصحاب الحسين ، جئت أشرب من هذا الماء الّذي
1 ـ في المقتل : على.
2 ـ انظر أيضاً : مناقب ابن شهراشوب : 4/50 عنه مدينة المعاجز : 3/494 ح 1007.
3 ـ من المقتل.
4 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل والبحار : البجلي.


(264)
منعتمونا إيّاه (1).
    فقال عمرو : اشرب هنيئاً.
    فقال هلال : ويحك كيف تأمرني أن أشرب والحسين بن عليّ ومن معه يموتون عطشاً ؟!
    فقال عمرو : صدقت ، ولكن اُمرنا بأمر لا بدّ أن ننتهي إليه ، فصاح هلال بأصحابه ، فدخلوا الفرات ، وصاح عمرو بالناس ، فاقتتلوا على الماء قتالاً شديداً ، فكان قوم يقاتلون وقوم يملأون [ القرب ] (2) حتّى ملؤها ، [ قتل من أصحاب عمرو بن الحجّاج جماعة ] (3) ولم يقتل من أصحاب الحسين أحد ، ثمّ رجع القوم إلى معسكرهم ، فشرب الحسين ومن كان معه ، ولهذا (4) سمّي العبّاس عليه السلام السقّاء.
    ثمّ أرسل الحسين عليه السلام إلى عمر بن سعد لعنه الله : إنّي أُريد أن اُكلّمك فالقني الليله بين عسكري وعسكرك ، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين في مثل ذلك ، فلمّا التقيا أمر الحسين عليه السلام أصحابه فتنحّوا عنه ، فبقي معه أخوه العبّاس ، وابنه علي الأكبر ، وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص وغلام له.
    فقال له الحسين عليه السلام : ويلك يا ابن سعد ، أمّا تتّقي الله الّذي إليه معادك ؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت ؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى.
1 ـ في المقتل : عنه.
2 و 3 ـ من المقتل.
4 ـ في البحار : ولذلك.


(265)
    فقال عمر بن سعد : أخاف أن تهدم داري.
    فقال الحسين عليه السلام : أنا أبنيها لك.
    فقال : أخاف أن تؤخذ ضيعتي.
    فقال الحسين عليه السلام : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.
    فقال : لي عيالي (1) وأخاف عليهم.
    [ فقال : أنا أضمن سلامتهم.
    قال : ] (2) ثمّ سكت ولم يجبه إلى شيء فانصرف عنه الحسين عليه السلام وهو يقول : مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ؟ فوالله إنّي لا أرجو أن تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً.
    فقال ابن النحس سعد : في الشعير كفاية عن البرّ ـ مستهزئاً بذلك القول (3) ـ ، ثمّ رجع ابن سعد إلى معسكره ، وإذا كتاب ابن زياد قد ورد عليه يؤنّبه ويضعّفه ويقول : ما هذه المطاولة ؟ انظر إن بايع الحسين وأصحابه فابعث بهم إليّ سالمين ، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم فإنّهم لذلك مستحقّون ، فإذا قتلت الحسين فأوطىء الخيل ظهره وبطنه ، فإنّه عاقّ شاقّ ، فإذا فعلت ذلك جزيناك جزاء السامع المطيع ، وإن أبيت ذلك فاعتزل خيلنا وجندنا وسلّم الجند والعسكر إلى شمر بن ذي الجوشن فإنّه أحزم منك أمراً ، وأمضى عزيمة.
1 ـ في المقتل والبحار : عيال.
2 ـ من المقتل.
3 ـ من قوله : « فلم يعرض ابن سعد » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 44/385 ـ 389 عن كتابنا هذا ، وكذا في عوالم العلوم : 17/236.


(266)
    وروي أنّ ابن زياد بعث رجلاً يقال له جويرية بن زياد (1) [ وقال ] (2) : إذا أوصلت كتابي هذا إلى عمر بن سعد فإن قام من ساعته لحرب الحسين فذاك ، وإن لم يقم فخذه وقيّده ، وابعث به إليّ ، ويكون شمر بن ذي الجوشن الأمير على الناس.
    فوصل الكتاب [ وكان في الكتاب ] (3) : إنّي لم أبعثك يا ابن سعد لمنادمة الحسين ، فإذا أتاك كتابي هذا فخيّره بين أن تأتيني به أو تقاتله ، فوثب ابن سعد من ساعته وأخبر الحسين بذلك ، فقال الحسين عليه السلام : أخّرنا إلى غد. (4)
    وأقبل العبّاس إلى القوم الّذين مع عمر بن سعد ، فقال : يا هؤلاء ، إنّ أبا عبد الله يسألكم الانصراف عنه باقي يومكم حتّى ننظر (5) في هذا الأمر ، ثمّ نلقاكم به غداً (6).
    قال : فخبّر القوم بذلك أميرهم ، فقال عمر بن سعد لشمر : ماذا ترى ؟
    قال : أنا أرى رأيك ايها الأمير ، فقل (7) ما تشاء.
    فقال عمر بن سعد : إنّي أحببت ألا أكون أميراً فلم اُترك وأكرهت ، ثمّ أقبل عمر بن سعد على أصحابه ، فقال : الرأي عندكم.
    فقال رجل من أصحابه وهو عمرو بن الحجّاج : سبحان الله ! والله لو كانوا
1 ـ في المقتل : جويرة بن يزيد التميمي.
2 و 3 ـ من المقتل.
4 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/236 ـ 246.
    وانظر وقعة الطفّ : 175 ـ 189 ، الملهوف على قتلى الطفوف : 138 ـ 142.
5 ـ في المقتل : ينظر.
6 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : نلقاك غداً.
7 ـ في المقتل : فافعل.


(267)
من أهل الترك والديلم ويسألوا هذه الخصلة (1) لكان ينبغي أن نجيبهم إلى ذلك ، فكيف وهم آل الرسول ؟
    فقال عمر بن سعد : خبروهم أنا قد أجّلناهم باقي يومنا.
    فنادى رجل من أصحاب ابن سعد : يا شيعة حسين ، إنّا قد أجّلناكم يومنا إلى غدٍ ، فإن استسلمتم ونزلتم عل الحكم وجّهنا بكم إلى الأمير ، وإن أبيتم ناجزناكم ، فانصرف الفريقان ، وجاء الليل فبات الحسين عليه السلام ليلته تلك راكعاً وساجداً وباكياً ومستغفراً ومتضرّعاً ، وكذلك كانت صبيحته عليه السلام ، وكان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة.
    وقيل (2) لعليّ بن الحسين ما أقلّ ولد أبيك ؟!
    فقال عليه السلام : العجب كيف ولدت أنا له ، إنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة ، فمتى كان يتفرّغ للنساء ؟
    وكذلك أصحابه باتوا كذلك لهم دويّ كدويّ النحل ، وأقبل شمر في نصف الليل [ يتجسّس ] (3) ومعه جماعة من أصحابه حتّى قرب من عسكر الحسين عليه السلام ، والحسين رافع صوته يتلو هذه الآية : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً ) (4) الآية : ثمّ تلا : ( مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميِزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (5)
1 ـ في المقتل : الليلة.
2 ـ انظر : الملهوف على قتلى الطفوف : 154 ، البحار : 44/196 ح 10 ، وج 82/311 ح 17 ، وعوالم العلوم : 17/61 ح 1.
3 ـ من المقتل.
4 ـ سورة آل عمران : 178.
5 ـ سورة آل عمران : 179.


(268)
فصاح رجل من أصحاب شمر وقال : نحن وربّ الكعبة الطيّبون وأنتم الخبيثون ، وقد ميّزنا منكم ، فقطع برير بن خضير صلاته ، ثمّ ناداه : يا فاسق : يا فاجر ، يا عدوّ الله ، يا ابن البوال على عقبيه ، أمثلك يكون من الطيّبين والحسين من الخبيثين ؟! والله ما أنت إلاّ بهيمة لا تعقل ، فأبشر بالخزي يوم القيامة ، فصاح به شمر وقال : أيّها المتكلم ، إنّ الله قاتلك وقاتل صاحبك عن قريب.
    فقال برير : يا عدوّ الله ، أبالموت تخّوفني ، والله إنّ الموت مع ابن رسول الله أحبّ إليَّ من الحياة معكم ، والله لا نال شفاعة محمد قوماً أراقوا دماء ذرّيّاته (1) وأهل بيته.
    وأقبل رجل من أصحاب الحسين ، فقال : يا برير ، إنّ أبا عبد الله يقول : إرجع إلى مكانك (2) ، ولا تخاطب القوم ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء فلقد نصحتَ وأبلغتَ.
    فلمّا (3) كان وقت السحر خفق الحسين عليه السلام برأسه ، ثمّ استيقظ ، فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟ رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ [ لتنهشني ] (4) وفيها كلب أبقع رأيته أشدّها ، وأظنّ الّذي يتولّى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء ، ثمّ انّي رايت جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي : يا بنَيّ ، أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشرت بك ملائكة السماوات (5) وأهل الصفيح الأعلى فليكن إفطارك عندي الليلة ، فعجّل
1 ـ في المقتل : ذرّيّته.
2 ـ في المقتل : موضعك.
3 ـ انظر أيضاً : البحار : 45/3 ، وج 61/183 ح 50.
4 ـ من المقتل.
5 ـ في المقتل : وقد استبشر بك أهل السماوات.


(269)
ولا تتأخّر ، فهذا ملك من السماء قد نزل ليأخذ دمك في قارورة خضراء فهذا ما رأيت ، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا ، لا شكّ في ذلك (1).
    قال : فلطمت زينب وجهها وصاحت.
    فقال الحسين عليه السلام : مهلاً ، يا اُختاه ، لا يشمت (2) القوم بنا.
    ثمّ جمع الحسين عليه السلام أصحابه بالليلة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ أقبلّ عليهم ، فقال :
    أمّا بعد ، فإنّي لا أعلم أصحاباً أصلح (3) منكم ، ولا أهل بيت آثر (4) ولا أفضل من أهل بيتي ، فجزاكم الله [ عنّي ] (5) جميعاً خيراً ، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً ، وليأخذ كلّ رجل منك بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرّقوا في سواد [ هذا ] (6) الليل وذروني وهؤلاء ، فإنّهم لا يريدون غيري.
    فقال له إخوته وبنو عمّه وأولاد عبد الله بن جعفر : ولِمَ نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ! لا أرانا الله ذلك أبداً ، وكان الّذي بدأ بهذا القول العبّاس بن أمير المؤمنين ، ثمّ تابعوه الباقون.
    ثمّ نظر الحسين عليه السلام إلى بني عقيل فقال : حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم ، اذهبوا فقد أذنت لكم.
    وروي من طريق آخر : فتكلّم إخوته وجميع أهل بيته ، وقالوا : يا ابن
1 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/250 ـ 252.
2 ـ في الملهوف : لاتشمتي.
3 ـ في الملهوف : خيراً.
4 ـ في الملهوف : أبرّ.
5 و 6 ـ من الملهوف.


(270)
رسول الله ، ما تقول الناس لنا ؟ وماذا نقول لهم ؟ إنّا (1) تركنا شيخنا وكبيرنا وابن [ بنت ] (2) نبيّنا ولم نرمِ معه بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب بسيف ، لا والله يا ابن رسول الله لانفارقك أبداً ولكنّا نفديك (3) بأنفسنا حتّى نُقتل بين يديك ونرِد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.
    ثمّ قام مسلم بن عوسجة ، وقال : نحن نخلفك (4) هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدوّ ! والله لا يراني الله أبداً أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي ، واُضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم اُفارقك أو أموت.
    قال : وقام سعيد بن عبد الله الحنفي فقال : لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتّى نعلم أنّا قد حفظنا فيك رسول الله صلّى الله عليه وآله (5) ، ولو علمت أنّي اقتل [ فيك ] (6) ، ثمّ اُحيى ، ثمّ اُحرق ، ثمّ اُذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ، ما فارقتك حتّى ألقى حمامي من دونك ، فكيف وإنّما هي قتله واحدة ، ثمّ أنال الكرامة الّتي لا انقضاء لها ؟!
    ثمّ قام زهير بن القين ، وقال : والله يا ابن رسول الله وددت أنّي قتلت ، ثمّ نشرتُ ألف مرّة وأنّ الله تعالى قد دفع هذه الفتنة عنك (7) وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك.
1 ـ في الملهوف : إذ.
2 و 6 ـ من الملهوف.
3 ـ في الملهوف : نقيك.
4 ـ في الملهوف : نخلّيك.
5 ـ في الملهوف : حتّى يعلم الله ... فيك وصيّة رسوله محمد صلّى الله عليه وآله.
7 ـ في الملهوف : قد دفع بذلك القتل عنك.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس