تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 271 ـ 285
(271)
    وتكلّم جماعة أصحابه بنحو من ذلك ، وقالوا : أنفسنا لك الفداء نقيك بأيدينا ووجوهنا ، فإذا نحن قُتلنا بين يديك نكون قد وفينا لربّنا [ وقضينا ] (1) ما علينا.
    وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال : قد اُسر ابنك بثغر الريّ.
    فقال : عند الله أحتسبه ونفسي ، ما كنت اُحبّ أن يؤسر وأبقى بعده.
    فسمع الحسين عليه السلام قوله ، فقال : رحمك الله ، أنت في حلّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك.
    فقال : أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.
    قال : فأعط ابنك هذه الأثواب البرود (2) يستعين بها على (3) فكاك أخيه.
    فأعطاه خسمة أثواب قيمتها ألف دينار.
    قال : فلمّا كان الغداة أمر الحسين بفسطاطه فضرب ، وأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ، ثمّ دخل ليطلي.
    فروي أن برير بن خضير (4) وعبد الرحمان بن عبد ربّه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط فتطلّيا بعد الحسين عليه السلام ، فجعل برير يضاحك عبد الرحمان.
    فقال عبد الرحمن : يا برير ، أتضحك ؟! ما هذه ساعة ضحك ولا باطل. (5)
1 ـ من الملهوف.
2 ـ في الملهوف : هذه البرود ، والبُرد : ثوب.
3 ـ في الملهوف : في.
4 ـ في الملهوف : حصين.
5 ـ كذا في الملهوف : وفي الأصل : أتضحك هذه حال باطل ؟


(272)
    فقال برير : لقد علم قومي أنى ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه فوالله ما هو إلا أن نلقى (1) هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ، ثمّ نعانق الحور العين. (2).
    قال : وركب أصحاب عمر بن سعد ، فقرّب إلى الحسين عليه السلام فرسه فاستوى عليه ، وتقدّم نحو القوم في نفر من أصحابه ، وبين يديه برير بن خضير فقال له الحسين عليه السلام : كلّم القوم ، فتقدّم برير حتّى وقف قريباً من القوم وقد زحفوا نحو الحسين بأجمعهم ، فقال لهم برير : يا قوم (3) ، اتّقوا الله فإنّ ثقل محمد صلّى الله عليه وآله قد أصبح بين أظهركم ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الّذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟
    فقالوا : نريد أن نمكّن منهم الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم.
    فقال لهم برير : افلا تقبلون (4) منهم إن يرجعوا إلى المكان الّذي جاءوا منه ؟ ويلكم ـ يا أهل الكوفة ـ أنسيتم كتبكم وعهودكم الّتي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟ يا ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحرمتموهم (5) عن ماء الفرات ؟ بئسما خلّفتم نبيّكم في ذرّيّته ، مالكم لا سقاكم الله (6) يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم.
1 ـ كذا في الملهوف ، وفي اأصل : بما يصير ، فوالله ما هو إلّا نلقى.
2 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 151 ـ 152.
3 ـ في المقتل : يا هؤلاء.
4 ـ في المقتل : ترضون.
5 ـ في البحار : وحلّأتموهم.
6 ـ لفظ الجلالة أثبتناه من المقتل.


(273)
    فقال له نفر منهم : يا هذا ، ما ندري ما تقول ؟
    فقال برير : الحمد لله الّذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهمّ ألق بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان ، وفجعل القوم يرمونه بالسهام ، فرجع (1) برير إلى ورائه.
    وتقدّم الحسين عليه السلام حتّى وقف بإزاء (2) القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّهم (3) السيل ، ونظر إلى عمر بن سعد واقفاً في صناديد الكوفة ، فقال : الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلنا دار فناء وزوال ، ومتصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا ، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيّب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله في عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الربّ ربّنا هو ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول صلّى الله عليه وآله ، ثمّ أنتم قد رجعتم (4) إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان وانساكم ذكر الله ، فتبّاً لكم ولمّا تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبعداً للقوم الظالمين.
    فقال عمر بن سعد : ويلكم كلّموه فإنّه ابن أبيه ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولا حصر ، فكلّموه ، فتقدّم إليه شمر ، فقال : يا حسين [ ما ] (5) هذا الّذي تقول ؟ أفهمنا حتّى نفهم.
1 ـ كذا في المقتل والبحار ، وفي الأصل : فجعل.
2 ـ في المقتل : قبالة.
3 ـ في المقتل : كأنّها.
4 ـ في المقتل والبحار : ثمّ إنّكم زحفتم.
5 ـ من المقتل والبحار.


(274)
    قال عليه السلام : أقول : أتّقوا الله ولا تقتلون ، فإنّه لا يحلّ لكم قتلي ، [ ولا انتهاك حرمتي ] (1) فإنّي ابن بنت نبيّكم ، وجدّتي خديجة زوجة نبيّكم ، ولعلّكم قد بلغكم قول نبيّكم صلّى الله عليه وآله : الحسن والحسين سيّدا [ شباب ] (2) أهل الجنّة (3) ، فإن كذّبتموني فإنّ فيكم من الصحابة مثل جابر بن عبد الله [ وسهل بن سعد ] (4) وزيد بن أرقم وأنس بن مالك فاسالوهم عن هذا الحديث فإنّهم يخبرونكم انّهم سمعوه من رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وإن كنتم في شكٍّ من أمري أفلست ابن بنت نبيَكم ؟ أتشكّون في ذلك ؟ فوالله ما (5) بين المشرقين والمغربين ابن بنت نبيّ غيري ، أتطلبوني بدم أحد قتلته منكم ، أو بمال استملكته (6) ، أو بقصاص من جراحات [ استهلكته ] (7) ؟ فسكتوا لا يجيبونه.
    ثمّ قال عليه السلام : والله لا اُعطي (8) بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد ، عبادالله إنّي عذت بربّي وربّكم [ أن ترجمون وأعوذ بربّي وربّكم ] (9) من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.
    فقال شمر : يا حسين ، الشمر يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.
1 ـ من المقتل والبحار.
2 و 4 و 7 و 9 ـ من المقتل.
3 ـ زاد في المقتل : ما خلا النبيّين والمرسلين ، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله.
    ومن قوله : « وركب أصحاب عمر بن سعد » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 45/5 ـ 6 عن كتابنا هذا.
5 ـ ليس ـ خ ل ـ.
6 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : استهلكته.
8 ـ في المقتل : اُعطيهم.


(275)
    قال : فسكت الحسين عليه السلام ، وناداه حيبيب بن مظاهر : إنّي أظنّك تعبد الله على سبعين حرفاً يا فاسق ، وأنا أشهد أنّك ما تدري ما تقول ، وأنّ الله تعالى قد طبع على قلبك.
    فقال له الحسين عليه السلام (1) : حسبك يا أخابني أسد ، فقد قضى القضاء ، وجفّ القلم ، والله بالغ أمره ، وإنّي لأشوق إلى جدّي وأبي واُمّي وأخي وأسلافي من يعقوب إلى يوسف عليه السلام وأخيه ، وليّ مصرع أنا ملاقيه. (2)
    ثمّ إنّ الحسين عليه السلام عبّأ أصحابه وكان ذلك اليوم يوم عاشوراً ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، وفي رواية اُخرى : إثنان وثمانون راجلاً ، فجعل على ميمنته زهير بن القين ، وعلى ميسرته حبيب بن مظاهر ، ودفع اللواء إلى أخيه العبّاس ، وثبت الحسين عليه السلام مع أهل بيته في القلب.
    وعبّأ عمر بن سعد أصحابه ، فجعل على ميمنته عمرو بن الحجّاج ، وعلى ميسرته شمر ، وثبت هو في القلب ، وكان جنده (3) اثنين وعشرين ألفاً.
    وفي رواية عن الصادق عليه السلام : ثلاثين ألفاً لما رواه ابن بابويه رضي الله عنه في أماليه في قول الحسن للحسين عليهما السلام : يزدلف إليك ثلاثون ألفاً. (4)
    وروي أنّ الحسين عليه السلام لما أحاط به القوم واُمراؤهم [ وأيقن
1 ـ في المقتل : يا حسين بن عليّ أنا أعبد الله على حرف إن كنت أدري ما تقول.
2 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 1/252 ـ 254.
3 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : وكانوا ... على اثنين وعشرين ألفاً.
4 ـ أمالي الصدوق : 101 ح 3 ، مناقب ابن شهراشوب : 4/86 ، مثير الأحزان : 23 ، الملهوف على قتلى الطفوف : 99 ، إثبات الهداة : 2/556 ح 7 ، البحار : 45/218 ح 44.


(276)
أنّهم ] (1) قاتلوه قام خطيباً في أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : قد نزل من الأمر ما ترون ، إنّ الدنيا قد أدبرت (2) وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، حتّى لم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، أو (3) خسيس عيش كالمرعى الوبيل ، أمّا ترون الحقّ لا يعمل به ، والباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ، وإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة (4) مع الظّالمين إلّا برماً.
    وروي عن زيد بن عليّ ، عن أبيه ـ بحذف الأسانيد ـ ، قال : خطب الحسين عليه السلام أصحابه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس ، خطّ الموت على بني آدم خط (5) القلادة على جيد الفتاة ، ما أولعني بالشوق إلى اسلافي ، وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه ، كأنّي أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات قد ملأت منّي أكرشها ، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ليوفينا اُجور الصّابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لحمته (6) وعترته ، ولن تفارقه أعضاؤه ، وهي مجموعة له في حضيرة القدس تقربّهم (7) عينه.
    وروي أنّه لمّا عبّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السلام ، ورتّبهم [ في ] (8) مراتبهم ، وأقام الرايات في مواضعها ، وعبّأ [ الحسين أصحابه
1 و 8 ـ من المقتل.
2 ـ في المقتل : تغيّرت.
3 ـ في المقتل : من.
4 ـ في المقتل : والعيش.
5 ـ في المقتل : كمخطّ.
6 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : حرمته.
7 ـ في المقتل : بها.


(277)
في ] (1) الميمنة والميسرة ، وأحاطوا بالحسين من كلّ جانب حتّى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج حتّى أتى الناس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا ، حتّى قال لهم : ويلكم ما عليكم ان تنصتوا إليّ ، فتسمعوا قولي ، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد.
    ثمّ قال ـ بعد كلام طويل ـ : الّا إنّ الدعيّ بن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين ، بين السلّة (2) والذلّة ، وهيهات منّا آخذ الدنيّة ، أبى الله [ ذلك ] (3) ورسوله ، جدود طابت ، وحجور طهرت ، وانُوف حمّية ، ونفوس أبيّه ، ألا وقد أعذرت وأنذرت ، ألا إنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثمّ أنشأ :
فإن نهزم فهزّامون قدما وما ان طبّنا جبن ولكن وإن نُهزم فغير مهزّمينا منايانا ودولة آخرينا
    ألا ثمّ لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم [ دور ] (4) الرحى ، عهد عهده إليَّ أبي [ عن جدّي ] (5) فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ كيدوني فلا تنظرون ، اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنيناً كسنين يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة ، ولا يدع منهم (6) أحداً إلّا قتله [ قتله ] (7) بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي منهم ، فإنّهم غرونا وخذلونا ، وأنت ربّنا ، عليك توكّلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك
1 و 4 و 7 ـ من المقتل.
2 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : القلّة ، وفي المتقل : القتلة.
3 ـ من المقتل ، وفي الملهوف : وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، حجور طابت ، وحجور طهرت.
6 ـ في المقتل : فيهم.


(278)
المصير (1).
    ثمّ قال صلوات الله عليه : ادعوا لي عمر بن سعد ، فدعي له ـ وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه ـ ، فقال : يا عمر ، أنت تقتلني وتزعم أنّ الدعيّ بن الدعيّ يولّيك الريّ وجرجان ، والله لا تتهنّأ بذلك أبداً ، عهد معهود ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأنّي براسك على قصبة قد نصبت بالكوفة ، يتراماه الصبيان بالحجارة ويتّخذونه غرضاً بينهم. (2)
    فاغتاض (3) عمر بن سعد من كلامه ، ثمّ صرف وجهه عنه ونادى بأصحابه : ما تنظرون ؟ احملو عليه بأجمعكم.
    قال : فدعا الحسين عليه السلام بفرس رسول الله صلّى الله عليه وآله المرتجز ، فركبه وعبّأ أصحابه ، وزحف إليه عمر بن سعد ونادى غلامه دريداً : قدّم رايتك ، ثمّ وضع عمر سهمه في قوسه ، ثمّ رمى ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير عبيد الله أنّي أوّل من رمى الحسين ، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم ، فما بقي أحد من أصحاب الحسين عليه السلام إلّا اصابه من سهامهم (4)
    قيل : فلمّا رموهم هذه الرمية قلّ أصحاب الحسين عليه السلام ، وبقي القوم الّذين يذكرون ، وقتل في هذه الحملة الاُولى من أصحاب الحسين خمسون رجلاً رحمة الله عليهم (5) ، فعندها ضرب الحسين عليه السلام بيده إلى
1 ـ انظر الأحاديث الغيبيّة : 2/311 ح 572.
2 ـ تيسير المطالب : 95 ـ 97.
3 ـ في المقتل : فغضب.
4 ـ في المقتل : من رميتهم سهم.
5 ـ من قوله : « فرمى أصحابه كلّهم » إلى هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 45/12 عن كتابنا هذا. وكذا في عوالم العلوم : 17/255.


(279)
لحيته ، وقال : اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضب الله على المجوس إذ عبدت [ الشمس والقمر و ] (1) النّار ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم ، والله لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدونه أبداً حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي.
    ثمّ صاح عليه السلام : أمّا من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى ؟ أمّا من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟
    وكان الحرّ حين أمره عبيد الله بن زياد بالمسير الى حرب الحسين وخرج من منزله نودي ثلاث مرّات : يا حرّ ، أبشر بالجنّة ، فالتفت فلم ير أحد.
    فقال : ثكلت الحرّ اُمّه ، يمضي إلى حرب ابن رسول الله ويدخل الجنّة! فنمّ ذلك الكلام في فؤاده ، فلمّا سمع الحسين عليه السلام يستغيث اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكياً متضرّعاً مع غلام له تركيّ ، وأتى إلى عمر بن سعد ، وقال : أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
    فقال : إي والله قتالاً أيسره [ أن ] (2) تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
    فقال : أمّا لكم في الخصال الّتي عرض عليكم رضى ؟
    قال : والله لو كان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى ذلك.
    فأقبل الحرّ حتّى وقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل (3) ، فقال له المهاجر بن أوس : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما
1 ـ من المقتل : وفي الملهوف : إذ عبدوا الشمس والقمر دونه.
2 ـ من المقتل.
3 ـ الأَفْكَل : الرعدة من برد أو خوف. « لسان العرب : 11/ 19 ـ أفكل ـ ».


(280)
عدوتك ، فما هذا الّذي أرى منك ؟
    فقال : والله إنّي اُخيّر نفسي بن الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت.
    ثمّ ضرب فرسه قاصداً الحسين عليه السلام ويده على رأسه وهو يقول : اللّهمّ إنّي تبت فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك.
    وقال للحسين عليه السلام : جعلت فداك ، أنا صاحبك الّذي حبستك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، والله الّذي لا إله إلّا هو ، ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضتَ عليهم ، والله لو حدثتني (1) نفسي أنّهم يقتلوك لما ركبتها منك (2) أبداً ، وإنّي قد جئتك تائباً إلى ربّي ، ومواسيك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، فهل ترى لي من توبة ؟
    قال : نعم يتوب الله عليك ويغفر لك ، ما اسمك ؟
    قال : انّا الحرّ.
    قال : أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك إن شاء الله في الدنيا والآخرة ، انزل.
    قال : أنا لك فارساً خير منّي لك راجلاً ، اُقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول مصيري ، ثمّ قال (3) : يا ابن رسول الله ، كنتُ أوّل خارج عليك ، فائذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك ، وأول من يصافح جدّك غداً ـ وإنّما قال الحرّ : لأكون أوّل قتيل من المبارزين ، وإلا فإن جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة
1 ـ في المقتل : لو سوّلت لي.
2 ـ في المقتل : أنّهم يقتلونك لما ركبت هذا منك.
3 ـ من هنا نقله المجلسي رحمه الله في البحار : 45/13 عن كتابنا هذا وعن مناقب ابن شهراشوب والكامل في التاريخ : 4/64. وكذا في عوالم العلوم 17/257.


(281)
الاُولى كما ذكر ـ ، فكان أوّل من تقدّم إلى براز القوم ، وجعل ينشد ويقول :
إنّي أنـا الحرّ ومـأوى الضيــف عن خير من حلّ بأرض (1) الخيف أضرب في أعناقكم بالسيف أضربكم ولا أرى من حيف
    وروي أنّ الحرّ لمّا لحق بالحسين عليه السلام قال رجل من تميم يقال له يزيد بن سفيان : أمّا والله لو لحقته لأتبعته السنان ، فبينا هو يقاتل ، وانّ فرسه لمضروب على اُذنيه وحاجبيه ، وانّ الدماء لتسيل ، إذ قال الحصين : يا يزيد هذا الحرّ الّذي كنت تتمنّاه [ فهل لك به ] (2) ؟
    قال : نعم.
    قال : فخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتله وقتل أربعين فارساً وراجلاً ، فلم يزل يقاتل حتّى عرقب (3) فرسه ، وبقي راجلاً [ فجعل يقاتل ] (4) وهو يقول :
إنّي أنا الحرّ ونجل الحرّ ولست بالجبان عند الكرّ أشجع من ذي لبدٍ هزبر لكنّني الوقاف عند الفرّ (5)
    ثمّ لم يزل يقاتل حتّى قتل رحمة الله عليه ، فاحتمله أصحاب الحسين
1 ـ في المقتل : بوادي.
2 و 4 ـ من المقتل.
3 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : غرقت.
5 ـ روى الأرجاز في المقتل هكذا :
إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ ولست بالخوار عنـد الكـرّ أشجع من ذي لبدة هزبر لكنّني الثابت عند الفرّ

(282)
عليه السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق ، فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول : أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك ، وأنت الحرّ في الدنيا ، وأنت الحرّ في الآخرة.
    ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام ، وقيل : بل رثاه عليّ بن الحسين عليه السلام :
لنعمّ الحرّ حرّ بني رياح ونعم الحرّ إذ نادي حسين صبور عنـد مختـلف (1) الرماح فجاد بنفسه عند الصياح (2)
    وروي أنّ الحرّ كان يقول :
آليت لا اُقتل حتّى اقتلا لا ناكل عنهم ولا معللّا أضربهم بالسيف ضرباً معضلا لا عـاجز عنهـم ولا مبـدّلا
أحمي الحسين الماجد المؤمّلا (3)
    وكان من أراد الخروج ودّع الحسين صلوات الله عليه ، وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، فيجيبه : وعليك السلام ، ونحن خلفك ، ويقرأ عليه السلام : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلوُا تَبْدِيلاً ) (4).
    ثمّ برز برير بن خضير الهمداني رضي الله عنه بعد الحرّ ، وكان من عباد الله الصالحين ، فبرز وهو يقول :
1 ـ في المقتل : مشتبك.
2 ـ كذا في المقتل ، وفي الأصل : الصفاح.
3 ـ روى الأرجاز في المقتل هكذا :
آليـت لا اُقتـل حتـى اقتـلا أضربهم بالسيف ضرباً معضلا ولا اُصاب اليوم إلاّ مقبلا لا نـاكلاً فيهم ولا مهللّا
4 ـ سورة الأحزاب : 23.


(283)
أنـا بريـر وأبـي خضير يعرف فينا الحبر بن الحبر يرّوغ الاسـد عـن الزبير أضربكم ولا أرى من ضير
كذلك فعل الخير من برير (1)
    وجعل يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين ، اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذرّيّته الباقين ، وكان برير أقرأ أهل زمانه ، فلم يزل يقاتل حتّى قَتَل ثلاثين رجلاً ، فبرز إليه رجل يقال له يزيد من معقل ، فقال لبرير : أشهد أنّك من المضلّين.
    فقال له برير : هلمّ فلندع الله أن يلعن الكاذب منّا ، وأن يقتل المحقّ منّا المبطل ، فتصاولا فضرب يزيد لبرير ضربة خفيفة لم تعمل شيئاً ، ضربه برير ضربة قدّت المغفر ووصلت إلى دماغه فسقط قتيلاً.
    قال : فحمل رجل من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمة الله عليه ، وكان يقال لقاتله بجبر بن أوس الضبي ، فجال في ميدان الحرب وجعل يقول :
سلي تخبرني عنّي وأنت ذميمة ألم آت أقصى ما كرهت ولم تحل غداة حسيـن والرمـاح شوارع غداة الوغى والروع ما أنا صانع

1 ـ روى الأرجاز في المقتل هكذا :
أنا برير وقتـي خضيـر يعرف في الخير أهل الخير أضربكم ولا أرى من ضير كذلك فعل الخير مـن برير

(284)
معــي يزنـي لـم تخنــه كعوبـه فجـردتــه في عصبة ليـس ديـنهم وقد صيرّوا (1) للطعن والضرب حسّرا فأبلــغ عبيــدالله إذ مــا لقيتــه قتلـت بـريـراً ثـمّ جلــت بهمـّةٍ وأبيض مشحوذ الغرارين قاطع كديني وإنّـي بعـد ذاك لقـانع وقد جالدوا لـو أنّ ذلـك نافـع بأنّي مطيـع للخليـفة ســامع غداة الوغـى لمّا دعا من يقارع
    قال : ثمّ ذكر له بعد ذلك أنّ بريراً كان من عباد الله الصالحين فجاءه ابن عمّ له وقال : ويحك يا بجير ، قتلت برير بن خضير فبأيّ وجه تلقى ربّك ؟
    قال : فندم الشقيّ ، وأنشأ يقول :
فلو شاء ربّي ما شهدت قتالهم فقد كان ذا عار عليَّ وشبهة (2) ولا جعل النعماء عند ابن جائر يعيّر بها الأبناء عند المعـاشر

1 ـ في المقتل : صبروا.
2 ـ في المقتل : لقد كان ذلك اليوم عاراً وسبّة.


(285)
فياليت إنّي كنت في الرحم حيضة فيا سوأتى مـاذا أقـول لخالقي ؟ ويـوم حسين كنت ضمن المقابر (1) وما حجّتي يوم الحساب القُماطر ؟
    ثمّ برز من بعده وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي ، وقد كانت معه اُمّه يومئذ ، فقالت : قم يا بنيّ ، فانصر ابن بنت رسول الله.
    فقال : أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر ، فبرز وهو يقول :
إن تنكرونـي فأنـا ابـن الكلبي وحملتي وضربتي (2) في الحرب وأدفع الكرب أمــام (3) الكرب سوف تروني وتـرون ضـربي أدرك ثأري بعد ثـأر صحبـي ليس جهادي (4) في الوغى باللعب
    ثمّ حمل فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة ، فرجع إلى اُمّه وامرأته فوقف عليهما ، فقال : يا اُمّاه أرضيت ؟
    فقالت : ما رضيت إلّا أن تقتل بين يدي الحسين.
    فقالت امرأته : بالله لا تفجعني في نفسك.
1 ـ في المقتل : في رمس قابر.
2 ـ في المقتل والبحار : وصولتي.
3 ـ في المقتل : بيوم.
4 ـ في المقتل : فما جلادي.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس