تذكرة الفقهاء الجزء الأول ::: 1 ـ 15

تذكرة الفقهاء
تأليف
العلامة الحلي
الحسن بن يوسف بن المطهر
المتوفى سنة 726 ه‍
الجزء الأول
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث


(3)
    الحمد لله ذي القدرة الأزليّة ، والعزة الباهرة الأبدية ، والقوة القاهرة القويّة ، والنعم الغامرة السرمدية ، والآلاء الظاهرة السنية ، المستغني بوجوب وجوده عن الاتصاف بالمواد والصور النوعية ، والمقدس بكمال ذاته عن المشاركة للأجسام والأعراض الفلكية والعنصرية ، ابتدع أنواع الكائنات بغير فكر وروية ، واخترع أجناس الموجودات بمقتضى حكمته العلية ، مكمل نوع الانسان بإدراك المعاني الكلية ، ومفضل صنف العلماء على جميع البرية ، وصلّى الله على أشرف النفوس القدسية ، وأزكى الذوات المطهّرة الملكية ، محمد المصطفى وعترته المرضية.
    أما بعد : فإن الفقهاء عليهم السلام هم عمدة الدين ، ونقلة شرع رسول رب العالمين وحفظة فتاوى الأئمة المهديين ، صلوات الله عليهم أجمعين ، وهم ورثة الأنبياء ، والذين يفضل مدادهم على دماء الشهداء ، وقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله النظر إليهم عبادة ، والمجالسة لهم سعادة ، واقتفاء أثرهم سيادة ، والاكرام لهم رضوان الله ، والاهانة لهم سخط الله (1) ، فيجب على كلّ أحد تتبع مسالكهم ، واقتفاء آثارهم ، والاقتداء
1 ـ ورد عن النبيّ وآله المعصومين سلام الله عليهم أجمعين الكثير من الأحاديث في فضل العلم

(4)
بهم في إيرادهم وإصدارهم ، واتّباعهم في إظهار شرع الله تعالى وإبانة أحكامه ، وإحياء مراسم دين الله وإعلان أعلامه.
    وقد عزمنا في هذا الكتاب الموسوم ب‍ « تذكرة الفقهاء » على تلخيص فتاوى العلماء ، وذكر قواعد الفقهاء ، على أحق الطرائق وأوثقها برهاناً ، وأصدق الاقاويل وأوضحها بياناً ـ وهي طريقة الامامية الآخذين دينهم بالوحي الالهي ، والعلم الرباني ، لا بالرأي والقياس ، ولا باجتهاد الناس ـ على سبيل الايجاز والاختصار ، وترك الاطالة والاكثار.
    وأشرنا في كلّ مسألة إلى الخلاف ، واعتمدنا في المحاكمة بينهم طريق الإنصاف ، إجابة لالتماس أحب الخلق إليّ ، وأعزهم علي ، ولدي محمد أمده الله تعالى بالسعادات ، ووفقه لجميع الخيرات وأيده بالتوفيق ، وسلك به نهج التحقيق ، ورزقه كلّ خير ، ودفع عنه كلّ شر ، وآتاه عمراً مديداً سعيداً ، وعيشاً هنيئاً رغيداً ، ووقاه الله كلّ محذور ، وجعلني فداءه في جميع الأمور.
    ورتبت هذا الكتاب على أربع قواعد ، والله الموفق والمعين.
والعلماء ، وطلب العلم ، نحو ما أشار إليه المصنف وغيره ، أنظر : الكافي 1 : 23 / 57 ، بصائر الدرجات : 30 ، أمالي الشيخ الصدوق : 143 ، أمالي الطوسي 1 : 69 و 87 و 2 : 135 ، أمالي الصدوق : 58 / 9 ، نوادر الراوندي : 11 ، العوالم 2 : 125 ، البحار 1 : كتاب العلم ، وراجع : سنن ابن ماجة 1 : 8 / 223 ، سنن الترمذي 5 : 48 / 2682 ، كنز العمال 10 : 130 ـ 314 الأحاديث ، الترغيب والترهيب 1 ، 92 / 133 ، مجمع الزوائد 1 : 119 ـ 202.

(5)
القاعدة الأولى
في العبادات
وهي تشتمل على ستة كتب :
الأول في :
الطهارة


(6)

(7)
    الطهارة ـ لغة ـ النظافة ، وشرعاً : وضوء ، أو غسل ، أو تيمم ، يستباح به عبادة شرعية.
    والطهور هو المطهر لغيره ، وهو فعول بمعنى ما يفعل به ـ أي يتطهر به ـ كغسول ، وهو الماء الذي يغتسل به ، لقوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماءً طهورا ) (1).
    ثم قال : ( وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ) (2).
    ولأنّهم فرقوا بين ضارب وضروب ، وجعلوا الثاني للمبالغة ، فيكون للتعدية لامتناع المبالغة في المعنى ، ولقوله عليه السلام ـ عن ماءً البحر وقد سئل أيجوز الوضوء به ـ : ( هو الطهور ماؤه ) (3).
    وقال أبوبكر بن داود وبعض الحنفية : الطهور هو الطاهر (4). فالعرب
1 ـ الفرقان : 48.
2 ـ الأنفال : 11.
3 ـ المصنف لابن ابي شيء بة 1 : 130 ، سنن الترمذي 1 : 100 / 69 ، سنن الدارقطني 1 : 36 / 13 ـ 15 ، سنن النسائي 1 : 176 ، سنن أبي داود 1 : 21 / 83 ، الموطأ 1 : 22 / 12 ، سنن ابن ماجة 1 : 136 / 386 ـ 388 ، سنن البيهقي 1 : 3.
4 ـ أحكام القرآن للجصاص 3 : 338 ، تفسير القرطبي 13 : 39 ، شرح فتح


(8)
لم تفرق بين الفاعل والمفعول في التعدي واللزوم كقاعد وقعود ، وضارب وضروب.
    وأقسام الطهارة ثلاثة : وضوء ، وغسل ، وتيمم ، وكل منها واجب وندب.
    فالوضوء يجب للصلاة الواجبة ، أو الطواف الواجب ، أو مسّ كتابة القرآن إنّ وجب ، ويستحب لما عداه.
    والغسل يجب لاحد الثلاثة ، أو للاستيطان في المساجد ، أو قراء‌ة العزائم إنّ وجبا ، وللصوم الواجب إذا بقي للفجر ما يغتسل فيه الجنب ولصوم المستحاضة مع غمس القطنة ، ويستحب لما عداه.
    والتيمم يجب للصلاة الواجبة ، ولخروج الجنب من أحد المسجدين ، ويستحب لما عداه ، وقد تجب الثلاثة بالنذر ، واليمين ، والعهد.
    وهذا الكتاب يشتمل على أبواب :
القدير 1 : 60 ـ 61 ، أحكام القرآن لابن العربي 3 : 1416 ، نيل الأوطار 1 : 19 ، المجموع 1 : 84 وفيه أبوبكر الاصم وابن داود بدل أبوبكر بن داود.

(9)


(10)

(11)
    مسألة 1 : المطلق هو ما يستحق إطلاق اسم الماء من غير إضافة ، وهو في الأصل طاهر مطهر إجماعاً من الخبث والحدث ، إلّا ما روي عن عبد الله ابن عمر وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما قالا في ماءً البحر : التيمم أحب (1) الينا منه (2). وعن سعيد بن المسيب : اذا ألجئت إليه فتوضأ منه (3).
    ويدفعه الاجماع ، وقوله صلّى الله عليه وآله ـ في حديث أبي هريرة ـ : ( من لم يطهره البحر فلا طهره الله ) (4) ، وقول الصادق عليه السلام في رواية عبد الله بن سنان وقد سئل عن ماءً البحر أطهور هو ؟ قال : « نعم » (5).
    ولا فرق بين النازل من السماء والنابع من الأرض ، وسواء أذيب من ثلج أو برد (6) أو لا ، وسواء كان مسخنا أو لا ، إلّا أنّه يكره المسخن بالنار في
1 ـ في نسخة ( م ) : اعجب.
2 ـ اُنظر : المصنف لابن أبي شيء بة 1 : 131 ، سنن الترمذي 1 : 102 ، المجموع 1 : 91 ، تفسير القرطبي 13 : 53.
3 ـ المصنف لابن أبي شيء بة 1 : 131.
4 ـ سنن البيهقي 1 : 4 ، سنن الدارقطني 1 : 35 / 11.
5 ـ الكافي 3 : 1 / 4 ، التهذيب 1 : 216 / 622.
6 ـ البرد بالفتح : القطع الثلجية الصغيرة التي تنزل من السحاب ، أنظر مجمع البحرين 3 : 11 ، الصحاح 2 : 446 « برد ».


(12)
غسل الأموات لقول الباقر عليه السلام : « لا يسخن الماء للميت » (1) فإن خاف الغاسل البرد زالت الكراهة.
    وكره مجاهد المسخن في الطهارة (2) ، وأحمد المسخن بالنجاسة للخوف من حصول نجاسة فيه (3).
    ويبطل بأن [ الاسلع بن ] شريكا رحال [ ناقة ] (4) النبيّ عليه السلام أجنب فسخن الماء فاغتسل ، وأخبره ولم ينكر عليه (5) ، ودخل النبيّ عليه السلام حماما بالجحفة وهو محرم (6) ، واضطر الصادق عليه السلام إلى الغسل فأتوه بالماء مسخناً وهو مريض فاغتسل (7).
    ويكره المشمس في الآنية ـ وبه قال الشافعي (8) ـ لنهيه عليه السلام
1 ـ الفقيه 1 : 86 / 397 ، التهذيب 1 : 322 / 938.
2 ـ مصنف ابن أبي شيء بة 1 : 25 ، التفسير الكبير 11 : 168 ، المجموع 1 : 91 ، المحلى 1 : 221 ، الشرح الكبير 1 : 39.
3 ـ المغني 1 : 46 ، الشرح الكبير 1 : 39 ، الإنصاف 1 : 29 ، المحرر في الفقه 1 : 2 ، كشاف القناع 1 : 26 ، المجموع 1 : 91.
4 ـ كانت في الاصلين هكذا : ويبطل بأن شريكاً رحال رسول الله صلّى الله عليه وآله. والاسلع هو ابن شريك بن عوف الاعوجي التميمي ، خادم النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وصاحب راحلته ، نزل البصرة آخى النبيّ صلّى الله عليه وآله بينه وبين ابي موسى ، روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وعنه روى زريق المالكي وغيره ، وقد ذكر هذه القصة كلّ من ابن حجر في الاصابة 1 : 36 ، وابن الاثير في اسد الغابة 1 : 74 في ترجمة الاسلع هذا. وما بين المعقوفتين والتي قبلها للتوضيح.
5 ـ اضافة لمصادر الترجمة المتقدمة اُنظر : سنن البيهقي 1 : 5 ، تلخيص الحبير 1 : 128.
6 ـ ترتيب مسند الشافعي 1 : 314 / 816.
7 ـ التهذيب 1 : 198 / 576 ، الاستبصار 1 : 163 / 564.
8 ـ الاُم 1 : 3 ، مختصر المزني 1 : 1 ، المجموع 1 : 87 ، الوجيز 1 : 5 ، الاشباه والنظائر : 424 ، المهذب لأبي اسحاق الشيرازي 1 : 11 ، فتح العزيز 1 : 129 ، معرفة السنن والآثار 1 : 162.


(13)
عنه ، وعلل بأنه يورث البرص (1).
    وقال أبو حنيفة ، ومالك ، وأحمد : لا يكره كالمسخن بالنار (2).

فروع :
    الأول : لا كراهة في المشمس في الأنهار الكبار والصغار ، والمصانع إجماعاً.
    الثاني : النهي عن المشمس عام ، وبه قال بعض الشافعية ، وقال بعضهم : إنّه مختص بالبلاد الحارة كالحجاز ، وبعضهم بالاواني المنطبعة كالحديد والرصاص ، أو بالصفر ، واستثنوا الذهب والفضة لصفاء جوهرهما (3).
    الثالث : لو زال التشميس احتمل بقاء الكراهة ، لعدم خروجه عن كونه مشمساً.
    الرابع : لو توضأ به صحّ إجماعاً ، لرجوع النهي إلى خوف ضرره.
    الخامس : روى ابن بابويه كراهة التداوي بمياه الجبال الحارة (4).
    السادس : إذا تغيرت أحد أوصاف المطلق بالأجسام الطاهرة ولم يسلبه الاطلاق ، فهو باق على حكمه بإجماعنا ، لبقاء الاسم ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والزهري ، وأبو بكر الرازي (5).
1 ـ سنن الدارقطني 1 : 38 / 2 ـ 3 ، معرفة السنن والآثار 1 : 164 ، سنن البيهقي 1 : 6.
2 ـ المغني 1 ، 46 ، الشرح الكبير 1 : 38 ، التفسير الكبير 11 : 169 ، المجموع 1 : 88 ، فتح العزيز 1 : 129.
3 ـ المجموع 1 : 88 ، فتح العزيز 1 : 133 ـ 135.
4 ـ الفقيه 1 : 13.
5 ـ أحكام القرآن للجصاص 3 : 338 ، المغني 1 : 41 ، التفسير الكبير 24 : 93 ـ 94 ، بداية المجتهد 1 : 27 ، بدائع الصنائع 1 : 15 ، شرح فتح القدير 1 : 64.


(14)
    وقال الشافعي ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : إنّ تغيّر بما لم يخالط أجزاء‌ه كالخشب والدهن ، أو كان ترابا أو لا ينفك الماء عنه كالطحلب وورق الشجر الساقط في السواقي ، وما يجري عليه الماء من حجارة النورة والكحل وغيره فهو باق على حكمه ، وإن كان غير ذلك لم يجز الوضوء منه كالمتغير بالصابون والزعفران والملح الجبلي.
    ولو كان أصله الماء ـ بأن يرسل في أرض مالحة فيصير ملحا ـ جاز (1).
    السابع : لو افتقر في طهارة إلى مزج المطلق بالمضاف ، قال الشيخ : صحت الطهارة به إنّ بقي الاطلاق ، ولا يجب المزج (2) وفي الجميع إشكال.
    الثامن : لو تطهر بالجمد ، فإن جرى على العضو المغسول ما يتحلل منه صحّ ، وإلّا فلا ، واجتزأ الشيخ بالدهن (3).
    التاسع : لو مازجه المضاف المساوي في الصفات ، احتمل اعتبار بقاء الاسم ـ على تقدير المخالفة والاستعمال ـ ما لم تعلم الغلبة.
    العاشر : ماءً زمزم كغيره ، وكره أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ الطهارة به (4) لقول العباس : لا أحله لمغتسل ، لكن لشارب حلّ وبلّ (5) وهو محمول
1 ـ المغني 1 : 41 ـ 42 ، بداية المجتهد 1 : 27 ، المجموع 1 : 105 و 109 ، الاُم 1 : 7 ، المنتقى للباجي 1 : 55 ، الإنصاف 1 : 22.
2 ـ المبسوط للطوسي 1 : 5.
3 ـ المبسوط للطوسي 1 : 9 ، الخلاف 1 : 52 مسألة 3.
4 ـ المغني 1 : 47 ، الشرح الكبير 1 : 40 ، الإنصاف 1 : 27 ، كشف القناع 1 : 28.
5 ـ جاء في الصحاح 4 : 1639 مادة بلل ما لفظه : والبل ـ بكسر الباء مع التشديد ـ المباح ، ومنه قول العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه في زمزم : لا أحلها لمغتسل ، وهي لشارب حلّ وبل.


(15)
على قلة الماء لكثرة الشارب.

    مسألة 2 : كلّ ماءً تغير أحد أوصافه الثلاثة ـ أعني اللون والطعم والرائحة ـ بالنجاسة كان نجساً إجماعاً ، لقوله عليه السلام : « خلق الماء طهورا ، لا ينجسه شيء إلّا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه » (1) وعن الصادق عليه السلام : « إذا تغير الماء ، وتغير الطعم ، فلا تتوضأ منه ، ولا تشرب » (2) ولا فرق في هذا بين الجاري والراكد ، والقليل والكثير لانفعال الجميع.

فروع :
    الأول : لو تغير بمرور الرائحة من غير ملاقاة النجاسة لم ينجس.
    الثاني : لو تغير الجاري اختص المتغير منه بالتنجيس ، وكان غيره طاهراً.
    الثالث : لو تغير بعض الواقف الكثير اختص المتغير منه بالتنجيس إن كان الباقي كراً وإلّا عم الحكم ، وقالت الشافعية : يعم مطلقاًً لأنّه ماءً واحد فلا يتبعض حكمه (3) والملازمة ممنوعة.
    الرابع : لو انصبغ ماءً الغسل أو الوضوء بصبغ طاهر على العضو فإن لم يسلبه الاطلاق أجزأ وإلّا فلا.
واختلفت المصادر في نسبة هذا القول فممن نسبه للعباس : ابنا قدامة في المغني 1 : 47 ، والشرح الكبير 1 : 40 ، والبهوتي في كشاف القناع 1 : 28 والزمخشري في الفائق 1 : 129 ، والهروي في غريب الحديث 1 : 361 ، والجوهري في الصحاح 4 : 1639. وممن نسبه لعبد المطلب : ابن منظور في لسان العرب 11 : 167 ، والنووي في المجموع 1 : 91.
1 ـ عوالي اللآلي 1 : 76 / 154 و 2 : 15 / 29.
2 ـ الكافي 3 : 4 / 3 ، التهذيب 1 : 216 / 625 ، الاستبصار 1 : 12 / 19.
3 ـ المجموع 1 : 111 ، الوجيز 1 : 7 ، فتح العزيز 1 : 199 ، المهذب للشيرازي 1 : 12.
تذكرة الفقهاء الجزء الأول ::: فهرس