دراسة الجانب الروائي

في
صفة وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وينقسم الى ثلاثة أقسام :
القسم الاول : مناقشة ما رواه الصحابة في صفة وضوء النبــي
سنداً ودلالة ونسبة
القسم الثاني : مكانة وضوء النبي في مدونـات الصحابة والتابعين
وتابعي التابعين
القسم الثالث : مناقشة ما رواه أهل البيت في صفة وضوء النبي
سنداً ودلالة ونسبة



( 64 )


( 65 )

القسم الأوّل
مناقشة
ما رواه الصحابة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وآله
سنداً ودلالةً ونسبةً

رواة كيفية الوضوء
في الصحاح والسنن




  • عبد الله بن عباس
  • عليّ بن أبي طالب
  • عبد الله بن زيد بن المازني
  • عبد الله بن عمرو بن العاص
  • الربيع بنت المعوذ
  • عائشة بنت أبي بكر
  • عبد الله بن انيس
  • عثمان بن عفان


( 66 )



( 67 )

قبل الدخول في مناقشة الروايات البيانية عند الطرفين « نهج التعبد المحض ونهج الاجتهاد بالرأي » لابدّ من إعطاء فكرة إجمالية عن طريقة عملنا في هذا القسم ، فنقول :
قد اتخذنا (الجامع الصحيح) للترمذي منهجاً أوّلياً لمعرفة روايات الوضوء التي أتى بها الترمذي في باب ما جاء في وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله كيف كان ؟ لأنّه انتهج في كتابه ذكر أسماء كلّ الصحابة الذين رووا فيما يتعلق بكل باب من أبواب جامعه ، ثمّ وسّعنا العمل بتخريج روايات أولئك الصحابة في الصحاح والمسانيد والسنن المتداولة بأيدينا ، ودرسنا جميع تلك الأخبار سنداً ودلالةً و نسبةً ، وبتعبير الفقهاء من جهة اصالة الصدور ، واصالة الظهور ، وجهة الصدور.
وحيث أنّ معنى البحثين السنديّ والدلاليّ قد عُرِفَتْ ماهيته لدى الباحثين فلاحاجة بنا لتوضيحه ، وأمّا ما اصطلحنا عليه بجملة « نسبة الخبر » فهو ممّا يجب توضيحه ، لأنّا بعد الفراغ من دراسة الخبر سنداً ودلالة ، نأتي إلى دراسة حقيقة إمكان انتساب هذا الخبر إلى ذلك الصحابي المنسوب إليه الخبر ، وهل يتوافق مع مرويّاته الأخرى و سيرته العمليّة أم لا ؟ بل ومدى تطابق هذا المنسوب مع الثوابت الحديثية الاخرى الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وأخيراً نأتي بما يرجّح أحد النقلين عنه.
لأنّ الذي يهمّنا هو الإلمام بأطراف الحدث الفقهيّ المراد دراسته ، من خلال الأخذ بجميع أطراف الشخصيّة المنسوب إليها الحدث ، أو التي يمكن أن ينسب إليها ، بناءً على الكليّات العامّة التي عرفناها عنه ، ثمّ محاولة تطبيق هذا المنسوب مع الحصيلة النهائية المستنتجة منها ، ومدى تلائم وانسجام تلك النسبة معه أو عدمها ؟
فمطلوبنا هو الوصول إلى إمكان انتساب الواقعة الفقهية إلى الشخصيّة الفلانيّة


( 68 )

وعدمه ثبوتاً ـ كما يقول الأصوليون ـ بغضّ النظر عن ادّعاء وقوعه وعدم وقوعه في الخارج العملي.
وهذا البحث ليس بدعاً من البحوث ؛ فقد كان نقد المتن معمولاً به متداولاً عند الصحابة وجميع الفقهاء المسلمين والكتّاب والباحثين ، إذ جمع الزركشي ما استدركته عائشة على الصحابة في كتاب أسماه « الإجابة فيما استدركته السيدة عائشة على الصحابة ».
والحديث الذي يمكن أنّ ينتقد له القابليه لأن يلحق بما اصطلح عليه ارباب علم الدراية بالمعلول في المتن ، وقد أطلق الفقهاء والباحثون على مثل هذا اسم « النقد الداخلي للخبر » ، وهو قريب مما اصطلحنا عليه بجملة « نسبة الخبر إليه ».
فالعلماء لم يقعّدوا هذا المنهج بشكل قاعدة عامّة لها أسسها وثوابتها وتطبيقاتها في بحوثهم ، ولم يستخدموه لمعرفة جميع مفردات الموضوع المبحوث عنه ، وإن كانوا يشيرون إليه في الأعمّ الأغلب ، عند دراستهم للروايات الفقهية سنداً ودلالة بصورة بسيطة وسريعة ، كما أنّهم لم يستقصوا فقه تلك الشخصية وتاريخه وسيرته وأحواله ، للحكم على الصادر عنه ، بل تراهم يتخذون الموقف ويستوحونه من خلال وقوفهم على نصّ أو نصّين عنه ، وهذا ما لا يمكن قبوله ، لأنّ الاعتماد على النصّ بمفرده دون مقايسته بأشباهه ونظائره والوقوف على ما يعارضه لا يجدي شيئاً ، ولايمكنه أن يصوّر لنا فقهه وسيرته ، فقد قال ابن خلدون وهو يشير إلى هذه المسألة : «...وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسّرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم على مجرد النقل ، غثاً و سميناً ، ولم يعرضوها على أصولها ولاقاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط » (1).
وقال الشريف المرتضى ـ من علماء الشيعة الإمامية ـ في جواب ما روي في الكافي عن الامام الصادق في قدرة الله :
____________
(1) مقدمة ابن خلدون : 9. وعنه في منهج نقد المتن : 12.
( 69 )

« اعلم أنّه لا يجب الإقرار بما تضمّنه الروايات ، فإن الحديث المرويّ في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا يتضمّن ضروب الخطإِ وصنوف الباطل ، من محال لايجوز أن يتصور ، ومن باطل قد دلّ الدليل على بطلانه و فساده ؛ كالتشبيه والجبر والقول بالصفات القديمة...، ولهذا وجب نقد الحديث بعرضه على العقول ، فإذا سلم عليها عرض على الأدلّة الصحيحة ، كالقرآن وما في معناه ، فإذا سلم عليها جُوّز أن يكون حقاً والمخبر به صادقاً ، وليس كلّ خبر جاز أن يكون حقاً وكان وارداً من طريق الآحاد يقطع على أنّ المخبر به صادقٌ » (1).
فرؤية ابن خلدون والسيد المرتضى وغيرهما وإن كانت تتفق معنا في الأصول ، لكنّها لا ترسم رؤيتنا ؛ لأنّا لا نكتفي بها وحدها ، لأنّ مدار عملنا هنا هو البحث عن تطابق هذا المنقول عن هذا الشخص مع مواقفه ونصوصه الأخرى الصادرة عنه بالخصوص ، لا مقايستها مع الأصول الأخرى وأشباهها فقط لمعرفة أنّها من الشريعة أم لا ، فمثلاً : لو ورد خبر مفاده أنّ عمر بن الخطاب كان لا يعمل بالاجتهاد بالرأي ، معضّداً بما رواه هو عن النبيّ صلى الله عليه وآله من النهي عن العمل بالرأي! فنحن أمام خيارات :
إمّا أن نقول بكذب الخبر الوارد عن عمر ، لما رأيناه من مجمل سيرته من العمل بالاجتهاد وتفسيره للمواقف والأحكام بالرأي لا النص ، وبه يبقى ما رواه محمولاً على وجه ما ، أو ساقطاً من الاعتبار.
وإمّا أن نكذّب مرويّاته الّتي رواها عن النبيّ صلى الله عليه وآله في النهي عن الاجتهاد.
وإمّا أن نقول بصحّة مروياته الناهية عن الاجتهاد ، والرواية الواردة في عدم عمله بالاجتهاد ، ونحتال لسيرته بما أمكننا من وجوه.
ونحن أمام هذا الركام لا نستطيع الخروج إلاّ بنتيجة تابعة للأهواء والميول ، إذ أنّ هذا الجمع جمعٌ متكلّف غاية التكلّف ، لأنّ الأشخاص لا يصحّحون السيرة ، بل السيرة هي التي تكون مقياساً للأشخاص وميزاناً لهم ، ولمعرفة ما يهدفون إليه.
____________
(1) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) جوابات المسائل الطرابلسيات الثالثة مسألة (13) ص 409 ـ 410.
( 70 )

ثمّ إنّ هذا الجمع جمع بين سيرة قطعية للخليفة عمر بن الخطاب في عمله بالرأي ، ومرويات قطعية ثابته عن النبيّ صلى الله عليه وآله في النهي عن العمل بالرأي والاجتهاد ، ومن البديهي أنّ سيرة الخليفة عمر وغيره لا يمكنها أن تعارض سنة رسول الله صلى الله عليه وآله قولاً وعملاً وتقريراً ، فلابدّ من طرحها ، والبحث عن المخرج والمبرر العلمي المعقول الذي يكمن وراء هذه المقولة وأمثالها ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ، فإنّ استبعاد بعض النفوس تخطئة الخليفة الثاني أو غيره من الصحابة ، والنبوّ به عن تجاوز ما يرويه عن النبي ، هو ما لا نرتضيه ولا نجعله مقياساً لتجاوز الحقائق ؛ لكونه شخصاً غير معصوم يخطأُ ويصيب.
فنحن لو أردنا أن نقف على الحقيقة لزمنا معرفة السيرة العامة للخليفة أوغيره ، وهل أنّه من نهج الاجتهاد بالرأي أو التعبد المحض ؟ وحيث ثبت عند المسلمين جميعاً أنّه من رواد الاجتهاد والرأي فلا سبيل بعد ذلك إلاّ طرح الرواية القائلة بعدم عمله بالرأي ، حتّى لو افترضنا جدلاً صحّتها سنداً ودلالةً ، وذلك لمنافاتها للسيرة القطعية العامّة التي علمناها منه في عمله بالاجتهاد والرأي ، ولإيماننا بتحكّم الأهواء والميول في نقل مثل هذه القضايا! ولكون الفقه والتاريخ قد تاثرا بتلك الاجتهادات لامحالة.
قال الدكتور محمّد روّاس قلعه چي في موسوعة فقه عمر بن الخطاب :
« من المعروف عند الفقهاء أنّ للفقه بناءاً متكاملاً ، يأخذ بعضه برقاب بعض ، ولكي يكون الرأي الفقهي الصادر عن المجتهد مقبولاً لابدّ و أن يكون منسجماً مع بنائه الفقهي ، فإذا ما نبا عنه أو شذّ عُدّ غير مقبول ، وإن كان منسجماً معه عدّ مقبولاً وإن كان سنده ضعيفاً ، وإنّي إذا ما أتى القول عن عمر منسجماً مع بناء فقهه أثبتّه له وإن كان ضعيفاً ، ويكون انسجامه مع البناء الفقهي بمثابة الشواهد للحديث الضعيف ، يتقوّى بها ويشتدّ أزره ، مثلاً ، لو ورد عن عمر أنّه كان يمضمض ويستنشق من كفٍّ واحدة ، يشهد لصحّة هذا القول عن عمر بناء عمر لنظريّته في النجاسات ، إذ أنّ الماء عنده لا ينجس نجاسة ماديّة ولا معنويّة ، وإذا كان الماء لا يَنجُس فما المانع أن يتمضمض ويستنشق من كف...وهكذا » (1).
____________
(1) موسوعة فقه السلف (فقه عمر بن الخطاب) : 11.
( 71 )

لكن رؤيتنا أوسع دائرة من قول القلعه چى أيضاً ، لأنّه ولا تختصّ بمعرفة بنائه الفقهيّ ، بل تتعدّى إلى معرفة سيرته العامّة ومواقفه الأخرى ونصوصه في الفقه وأقواله وخطبه المتناثرة في كتب التاريخ و...فإنّ فتح مثل هذه الأمور يُعطينا رؤية أدق عن الصحابي الراوي والعقائد والأفكار السائدة في عهده ، ومدى تطابق هذا النقل عنه و صحّة انتسابه إليه ، وهذه النكتة جديرة بالبحث والدرس ، لكونها تحلّ لنا الكثير من الأقوال المنسوبة إلى هذا أو ذاك في عويصات المسائل ، كما أنّها تجلّي لنا الآراء الكامنة وراء نسبة الأقوال.
ونستطيع كذلك تطبيق هذه الرؤية عكسيّاً ، بمعنى أنا يمكننا إسقاط أيَّ رواية ـ ولو صحت سنداً ودلالةً ـ لمخالفتها للثوابت العلمية والدينية كالقرآن والسنة النبوية ، فقد روى ابو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين و...ـ حتّى عدّ خلق العالم في سبعة أيّام (1) فنحن ، لابدّ أن نطرح هذه الرواية وأمثالها لمخالفتها لصريح القرآن الّذي جاء في سبع آيات من سبع سور منه بأنّه سبحانه خلق العالم في ستّة أيّام (2).
فهذه الرواية في الأعمّ الأغلب يتّفق صدورها عن أبي هريرة ويمكن انتسابها إليه ، ولا يمكن التصديق بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قالها وإن روى الصحابيّ ذلك!
فالوقوف على السيرة العامة للراوي والرواية ـ كما قلنا ـ هو المطلوب في مثل هكذا بحوث ؛ لأنّه يعطينا صورة قريبة للواقع ، ويعرّفنا باتجاهه الفكري وإمكان تطابق هذا القول معه وعدمه ، وهو أيضاً يعرّفنا بملابسات الأمور ومن هم وراء نسبة الأقوال إلى هذا أو ذاك! ودوافعهم المختلفة في هذه النسبة أو تلك ، ونفي هذا النقل أو ذاك.
لكنه ليس هو الوحيد في الباب ، بل يجب كذلك البحث عن تطابق هذا المنقول مع الأصول الأخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية ، كي نعرف صحة النقل او بطلانه ، ولتوضيح هذا الامر « يمكن أن نعطي مثلاً واقعياً من حياتنا اليومية ، فإذا
____________
(1) اخرج هذا الحديث مسلم والنسائي واحمد ، والبخاري في التاريخ الكبير وغيرهم.
(2) الاعراف : 54 ، يونس : 3 ، هود 7 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، ق : 38 ، الحديد : 4.

( 72 )

أخبرك رجل عن آخر خبراً ، كان أوّل ما يسبق إلى خاطرك ، أن تستوثق من صدق المخبِر بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته ، وغير ذلك من الملاحظات التي تراها ضروريّة لك للتأكّد منه.
فإذا استوثقت من الرجل نظرت بعد ذلك في الخَبر نفسه وعرضته على ما يعرض عن صاحبك من أقوال وأحوال ، فإذا اتفق مع ما تعلمه من ذلك ، لم تشك بصدق المخبر والاطمئنان إليه ، وإلاّ كان لك أن تتوقّف في قبول الخبر لا لريبة في المخبِر ـ فأنت واثق من صدقه ـ بل لشبهة رأيتها في المخبَر نفسه ، ويصحّ أن يكون مرجعها وهماً أو نسياناً من المخبِر ، كما يصح أن ترجع إلى سرّ فيه لأمر لم تتبينه ، فلعلّ هذه الحالة توجب علينا أن نتوقف عند الخبر لنطمئنّ إلى صحّته ولا نتسرّع في حكمنا أنّه كاذب ، و إذا فعلنا ذلك يكون منا افتئاتاً على من أخبرنا ونحن له مصدّقون و به واثقون » (1).
ومما يجب التنويه عليه هنا : هو انّنا سعينا في هذا الكتاب ـ وبقدر المستطاع ـ تبسيط العبارة و الفكرة ، و طرحها بكلا الاُسلوبين (القديم والجديد) ، وذلك لحساسية الموضوع ، وكثرة قرّائه من طلاب العلوم الدينيه والاكاديميين ، كي لا نجحف أحداً مما نطرحه من بحوث ، ولكي لا يخلو البحث من فائدة لكلتا المجموعتين ، لأنَّ البحوث الإسنادية مثلاً هي تخصصية بحته فلا يستسيغها الاكاديمي الحديث ، وقد تثقل على غير المتخصص ، ومثلها الحال بالنسبة إلى البحوث الحديثة كـ (نسبة الخبر إليه) فقد لا يرى الاكاديمي الإسلامي فائدة في طرحها.
فالذي نرجوه من قرائنا هو أن يعيرونا صبراً ، وأن يقرءوا الاُسلوبين معاً ، كي يحصلوا على الفائدة المرجوة من هذه الدراسة ، وأن يدركوا بأنّ ما كتبناه ليس خارجاً عن الموضوع بل يُشكلان دعامتين لخطوة واحدة.
وعليه فيكون مجال عملنا « نسبه الخبر اليه » في ثلاثة محاور :
1 ـ إمكان صدور هذا الخبر عن هذا الفرد بعينه وعدمه ؟
2 ـ عرضها على سيرته العلمية والعملية قولاً وفعلاً وتقريراً ؛ للوقوف على
____________
(1) نقد الحديث 1 : 431 ـ 432 للدكتور حسين الحاج حسن ، ط مؤسسة الوفاء|بيروت.
( 73 )

ما يخالفها.
3 ـ تطابق المنقول مع الأصول و الثوابت الأخرى في الشريعة وعدمها ؟
والآن ، وبعد هذا العرض السريع نأتي بقول الترمذي في باب « ما جاء في وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله كيف كان » فإنّه قال بعد ذكره حديثاً عن علي بن أبي طالب :
« وفي الباب : عن عثمان ، وعبد الله بن زيد ، وابن عبّاس ، وعبد الله بن عمرو ، والربيّع ، وعبد الله بن أنيس ، وعائشة (1) » ،
والآن مع مرويات هؤلاء الصحابة حسب تقسيمنا وتبويبنا ، للكتاب لا حسب ترتيب الترمذي :
____________
(1) سنن الترمذي 1 : 34 ذيل حديث 48.
( 74 )


( 75 )



مناقشة مرويات
عبدالله بن عبــاس
سنداً ودلالةً ونسبةً

  • المناقشة السندية لمرويّاته الغسليّة
  • المناقشة السندية لمرويّاته المسحيّة
  • البحث الدلالي
  • دعوى رجوعه إلى الغسل
  • نسبة الخبر إليه



  • ( 76 )


    ( 77 )


    عبد الله بن عبـاس
    وروايات الغسل



    ( 78 )


    ( 79 )

    لأصحاب الكتب الثمانية (1) ، بل غيرها (2) خمسة أسانيد إلى مرويّات ابن عبّاس الغسليّة ، فقد روى البخاري عنه بسند واحد ، وأبو داود والنسائي كلٌّ منهما بسندين وترجع هذه الأسانيد الخمسة إلى طريقين ، فأربعة منها تتّحد بـ « زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس » ، وهذا هو الطريق الأول ، والثاني يرويه « عباد بن منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس » ، والبحث ينصبُّ على هذين الطريقين من خلال هذه الأسانيد الخمسة كالآتي :

    أ ـ ما رواه عطاء بن يسار عنه

    الإسناد الأوّل
    قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم (3) ، قال : أخبرنا
    ____________
    (1) للجمهور أصول خمسة اعتمدوها واشتهرت عندهم ، ولهم كتب اُخرى فيها شروط الصحيحين ـ وقد اعتمدوها كمصادر ثانوية ، والأصول الخمسة وهي :
    1 ـ صحيح البخاري 2 ـ صحيح مسلم 3 ـ سنن أبي داود 4 ـ سنن الترمذي 5 ـ سنن النسائي.
    وقد اختلفوا في السادس ، فقال ابن حجر انه سنن الدارمي ، وذكر بعض انه ابن ماجة ، وقال ابن الاثير : إن بعض العلماء جعل الموطأ سادس تلك الاصول ، ونحن اعتمدنا المتفق والمختلف فيه من الأصول فصارت ثمانية. ثمّ وسعنا البحث الى الاصول الثانوية الاخرى للوقوف على جميع روايات الباب غسلاً أو مسحاً بقدر المستطاع.
    (2) كمسند احمد وصحيح ابن حبان وصحيح البزار وصحيح ابن خزيمة ومسند ابي يعلى وصحيح ابن أبي خيثمة ومعاجم الطبراني الثلاثة ومصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرها من المصادر الحديثية.
    (3) هو : أبو يحيى البزار ، البغدادي ، العدوي ، المعروف بصاعقة ، مولى آل عمر بن الخطاب ، فارسي الاصل ، وثقه عبد الله بن أحمد بن حنبل ، والنسائي ، وابو بكر الخطيب ، وقال ابو حاتم : صدوق. روى له الجماعة

    =


    ( 80 )

    ابو سلمة الخزاعي ـ منصور بن سلمة (1) .. قال : أخبرنا ابن بلال ـ يعني سليمان (2) ـ عن زيد بن أسلم (3) ، عن عطاء بن يسار (4) ، عن ابن عبّاس ، أنّه توضّأ فغسل وجهه ، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق ، ثمّ أخذ غرفة من ماء ، فجعل بها هكذا ، أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه ، ثمّ أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ، ثمّ أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثمّ مسح برأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء فرشّ على رجله اليمنى حتّى غسلها ، ثمّ أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله ـ يعني اليسرى ـ ثمّ قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضّأ (5).

    المناقشة
    ويناقش هذا الطريق من عدة جهات :
    الأولى : من جهة سليمان بن بلال ، إذ أورده ابن حجر ضمن المطعونين من
    ____________
    =
    سوى مسلم وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال 26 : 5 ، الجرح والتعديل 8 : الترجمة 33 ، تاريخ بغداد : 2 : 363) وغيرهما من المصادر.
    (1) هو منصور بن سلمة ، أبو سلمة الخزاعي البغدادي ، وثقة ابن معين وابن سعد ، وقال بان حجر في التهذيب : قال ابن عدي : لا بأس به ، وقال في التقريب : ثقة ثبت حافظ (انظر تهذيب الكمال 28 : 533 ، الطبقات الكبرى ، لابن سعد 7 : 345 ، تقريب التهذيب 2 : 476) وغيرها من المصادر.
    (2) هو سليمان بن بلال ، القرشي ، التيمي ، مولاهم ، روى له الجماعة (أنظر تهذيب الكمال 11 : 372 وسير أعلام النبلاء 7 : 475 وتهذيب التهذيب 4 : 175) وغيرها من المصادر ، وسيأتي الحديث عنه.
    (3) هو زيد بن أسلم ، القرشي ، العدوي ، أبو أسامة المدني ، مولى عمر بن الخطاب ، روى له الجماعة. (انظر تهذيب الكمال 10 : 12 وتهذيب التهذيب 3 : 397 ، وتاريخ البخاري الكبير 3 : الترجمة 1387) وغيرها من المصادر ، وسيأتي الحديث عنه.
    (4) هو عطاء بن يسار الهلالي ، أبو محمد المدني ، مولى ميمونة زوج النبي ، وثقه يحيى بن معين أبو زرعة والنسائي ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 3 الترجمة 5654 لأنه أرسل عن أبي الدرداء ، وقد صرح البخاري بذلك (انظر تهذيب الكمال 20 : 125 الترجمة 2946 ، الجرح والتعديل 6 الترجمة 1867 تهذيب التهذيب 7 : 217) وغيرها من المصادر.
    (5) صحيح البخاري 1 : 47 | باب غسل الوجه واليدين من غرفة واحدة.

    ( 81 )

    الصحيح (1) ، حيث حكى عن ابن شاهين عن الحافظ عثمان بن أبي شيبة أنّه قال في سليمان : لا بأس به ، لكن ليس ممّا يعتمد على حديثه (2).
    وقال أحمد بن حنبل عن سليمان : لا بأس به (3).
    وقال ابو حاتم : متقارب (4).
    وهذان الوصفان ـ لا بأس به ، ومتقارب ـ وأمثالهما كـ (متماسك) و(مأمون) و(خيار) وحتّى (صدوق) و(محلّه الصدق) وغيرها ، لو اتّصف الراوي بأحدها فإنّ مروياته تخرج من الصحاح وتندرج في الحسان ، فلا يمكن الاحتجاج بها إلاّ بعد النظر والاعتبار.
    قال ابن أبي حاتم : إذا قيل صدوق ، أو محلّه الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه (5).
    وقال ابن الصلاح معقّباً على قول ابن أبي حاتم : هكذا كما قال ، لأنّ هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط ، فينظر في حديثه ، ويختبر حتى يعرف ضبطه (6).
    وقال النووي معقبا أيضا على قول ابن ابي حاتم : وهو كما قال ، لأن هذه العبارة لا تشعر بالضبط ، فيعتبر حديثه على ما تقدم (7).
    وقال الطيبي :...فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، لأن هذه العبارات لا تشعر بالضبط فيُنظر ليعرف ضبطه (8).
    وقال السخاوي : (..لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة
    ____________
    (1 ـ 2) مقدمة فتح الباري 405.
    (3) الجرح والتعديل 4 : الترجمة 460.
    (4) الجرح والتعديل 4 : الترجمة 460.
    (5) حكاه عنه غير واحد من العلماء كابن الصلاح في المقدمة : 238 ، والنووي في التقريب : 14.
    (6) مقدمة ابن الصلاح : 238.
    (7) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) : 14 ، وتدريب الراوي : 186. انظر العلل 5 | 758 المحلق بـ (الجامع) للترمذي ، وشرح ابن رجب 1 : 340 ، والباعث الحثيث 1 : 133 ـ 134.
    (8) الخلاصة في أصول الحديث : 88.

    ( 82 )

    الضبط ، بل يكتب حديثهم ويختبر) (1).
    وقال السيوطي : لأنّ هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه (2).
    والمقصود من النظر والاعتبار : هو البحث عن راوٍ ثقة ضبط يروي عن زيد بن اسلم ـ كما في مقامنا ـ مثل او نحو ما رواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم.
    أو يبحث عن طريق آخر رواته غير رواة الطريق الأول يتصفون بالوثاقة والضبط يروون عن تابعي آخر غير عطاء بن يسار عن ابن عبّاس مثل هذا الحديث أو نحوه أو قريباً منه.
    والغرض من عملية الاعتبار هذه هو متابعة الحديث ـ الّذي ليس بحجة لسوء ضبط رواتهِ أو لأنّه مرسل السند ـ بحديث آخر صحيح أو غيره له إمكانيةٌ لأن يرفعهُ إلى مرتبة الحجية.
    وفيما نحن فيه لم نعثر على خبر راوٍ ثقة ضبط يروي ذلك ، اللّهم إلاّ ما جاء عن محمد بن عجلان وعبد العزيز الدراوردي وهشام بن سعد ، وهؤلاء لا يمكن الاحتجاج بهم ، لأنّ ما رواه محمد بن عجلان لا يمكن الاستناد إليه والاعتماد عليه ؛ لكون ابن عجلان غير ضابط ومدلّساً كما سيتّضح لك ذلك عند كلامنا عن طريق النسائي الاوّل.
    وأمّا رواية عبد العزيز الدراوردي فهي ساكتة عن حكم الرجلين في الوضوء أهو الغسل أم المسح (3).
    وأمّا رواية هشام بن سعد فهي الأخرى غير صحيحة وسيتّضح ذلك في طريق أبي داود ـ الإسناد الثاني ـ من أنّها ـ في نفسها ـ تحتاج إلى تابع لتصحيحها.
    نعم ، إنّ ابن حجر حينما ذكر سليمان بن بلال في المطعونين من رجال الصحيح ـ لقول ابن أبي شيبة ـ دافع عنه بقوله : « وهو تليين غير مقبول ، فقد اعتمده الجماعة » ،
    ____________
    (1) فتح المغيث 1 : 395 وط 340.
    (2) تدريب الراوي : 186 و ط اخرى 1 : 343.
    (3) أنظر (الاسناد الرابع) كذلك.

    ( 83 )

    ولنا على كلام ابن حجر عدة ملاحظات :
    الأولى : إنّ هذه الدعوى تحكّم على الباقين من أهل العلم ـ ممن هم من غير الجماعة ـ وسلب لأدوارهم في إبداء النظر ، فلو احتجّ الجماعة براوٍ طعن فيه يحيى بن سعيد القطّان أو العجلي أو أحمد بن حنبل أو يحيى بن معين أو ابن عدي أو الساجي أو الذهبي أوغيرهم ، فإنّه يلزم منه ـ على ضوء قول ابن حجر ـ أنّ طعنهم لغوٌ لا اعتبار به ، وهذا ما لا يلتزم به ابن حجر نفسه.
    الثانية : لو تنزّلنا وقبلنا قول ابن حجر فإنّ اعتماد الجماعة على راوٍ يكون حجّة على الجماعة لا على غيرهم ، اللّهم إلاّ أن يقال أنّ الأمّة قد أجمعت على الاحتجاج بما اعتمده الجماعة فقط ، وهذا ما لا يقول به ابن حجر ، بل يلزم منه القول أنّ هؤلاء الأعلام كـ (يحيى بن سعيد القطان والعجلي وأحمد و...) وغيرهم كانوا قد خالفوا إجماع الأمّة.أضف إلى ذلك أنّ الإجماع لا يقوم بالجماعة (البخاري ، مسلم ، الترمذي ، ابو داود ، النسائي ، ابن ماجة) فقط ، بل يشمل غيرهم من أساطين العلم وأئمّة النظر على أنّ الرواة الذين احتجّ بهم الجماعة وخالفهم الباقون من أهل العلم كثيرون ، ولو شئنا لأفردنا في ذلك كتاباً.
    الثالثة : إنّ دعوى ابن حجر منتقضة بعدّة رواة قد صرّح ابن حجر نفسه باعتماد الجماعة عليهم والاحتجاج بهم ، مع أنّ النسائيّ ـ وهو أحد الجماعة ـ قد جرحهم كـ (شريك بن عبد الله بن أبي نمر) الذي قال عنه النسائي : ليس بقوي (1) ، ومثله قوله في حاتم بن إسماعيل












    ____________
    (1) انظر تهذيب الكمال 2 : 475 وهامش ص 477 ، ديوان الضعفاء 1 : الترجمة 1877 ، المغني في الضعفاء 1 : الترجمة 2763 ، ميزان الاعتدال 2 : الترجمة 3696 ، ضعفاء ابن الجوزي 2 : 40 ، الضعفاء للعقيلي 2 : 193 ، ومقدمة فتح الباري : 408.
    ( 84 )

    المدني (1) ، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة (2) ، وغيرهم.
    والعجيب أنّ ابن حجر نفسه لم يوثّق شريكاً وحاتماً رغم معرفته بأنّهم ممن اعتمدهم الجماعة ، وهذا لعمري تهافتٌ بيِّن ، فقد قال في شريك : صدوق يخطىء (3) ، وقال في حاتم : صدوق يَهم (4).
    وعلى أحسن التقادير من الممكن القول بأنّ اعتماد الجماعة على راوٍ يجعله مرجّحاً ومؤيّداً لحُسنِ حاله لا أنّه يكون دليلاً تسلب معه آراء الباقين من الأئمّة!!.
    والّذي يزيدنا قناعة بقلّه ضبط سليمان وعدم إمكان الاعتماد عليه ، هو ما فعله بعض علماء الجرح والتعديل معه ، إذ قرنه بمن هو سيء الحفظ ، قليل الضبط...وهذه قرينة قويّة على أنّ ضبطه ليس بذاك المعتمد ، فأبو زرعة قرنه بهشام بن سعد ، حيث قال : سليمان بن بلال أحبّ إليّ من هشام بن سعد (5).
    وقيل ليحيى بن معين : سليمان بن بلال أحبّ إليك أو الدراوردي ؟؟ فقال سليمان (6). والدراوردي هذا لم نعثر على قول يمدح ضبطه على ما سيأتي بيانه لاحقاً.
    والمتتبّع لمفردات علم الرجال يعلم أنّ المقارنات بين راويين تشعر بوجود شبه بين المقارَن والمقارن به ، والمقارنة بين سليمان وهشام أو بين سليمان والدراوردي إنّما حاصلها الإشارة إلى قلّة ضبط سليمان ، فراجع كتب الرجال لتعرف حقيقة الحال.
    إذا استبان لك ما تقدم نقول : إنّ هذا الطريق ليس على شرط البخاريّ ، لأنّ البخاري ـ على ما حكي عنه ـ كان قد اشترط في صحيحه أن يتّفق العلماء على وثاقة
    ____________
    (1) مقدمة فتح الباري : 393.
    (2) مقدمة فتح الباري : 390.
    (3) تقريب التهذيب 1 : 351.
    (4) تقريب التهذيب 1 : 137.
    (5) الجرح والتعديل 4 : الترجمة 460 ، تهذيب الكمال 11 : 376 ، سير أعلام النبلاء 7 : 427. وهشام ابن سعد متكلم في ضبطه على ما سيأتي في بيانه في الإسناد الثاني.
    (6) تهذيب الكمال 11 : 374 ، سير أعلام النبلاء 7 : 426.

    ( 85 )

    الراوي وضبطه وملاقاته لمن يروى عنه ، وسليمان هو ممن لم يتّفق العلماء على وثاقته ؛ إذ قال عنه ابن حنبل وابن أبي شيبة : لا بأس به ، وقال ابو حاتم : متقارب ، وإنّ هذه التعابير تشعر بعدم توفّر شريطة الضبط فيه ، وهي كافية للقول بأنّ خبر سليمان ليس على شرط البخاري ، فقد قال الحافظ أبي الفضل بن طاهر : إنّ شرط البخاري أن يخرج الحديث المتّفق على ثقةٍ نَقَلَتُهُ إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ، ويكون إسناده متصلاً (1) !!
    على أن سليمان بن بلال مع ذلك ثقة عند كثير من الائمّة ، فقد وثقه ابن معين ويعقوب ابن شيبة والنسائي وابن سعد (2) وابن حبان حيث ذكره في كتاب الثقات (3).
    أقول : مع ذلك فإن سليمان ممّن ينظر في حديثه ، وهذا لايمنع أن يكون ثقة في نفسهِ ؛ فإن تليين أبي حاتم وأحمد بن حنبل وابن أبي شيبة وكذا قول الذهلي فيه بأنّه كثير الرواية مقارب الحديث (4). لا يمنع من أن يكون ثقة في نفسهِ حتّى ولو كان لين الحديث مقاربه.
    إن قلت : أنَّ التعديل والتوثيق يقدّم على التليين ـ كما في مقامنا ـ فمن اللغو النظر في حديث سليمان مع الاتفاق على تقديم التعديل!
    قلنا : هذا صحيح ، الا أننا بسطنا القول في سليمان ـ كما رأيت ـ وفي أمثاله ـ كما سيأتي ـ لوجود مرويات أُخرى عن ابن عباس في الوضوء المسحي قوية ، لها إمكانية التعارض مع رواية سليمان هذهِ ، فبيان حال سليمان هنا ينفع في الترجيح ، كما سيأتي مفصلاً ، أضف إلى ذلك ؛ أنَّ الرواة اختلفوا في الرواية عن زيد بن أسلم ـ كما سيتضح لك ـ فلابد إذن من إعمال المرجّحات للوقوف على الأصح.
    الثانية : من جهة زيد بن أسلم ، فإنَّ الاحتجاج به مشكل جداً ، لأنّه كان قليل الحفظ ، على ما هو صريح سفيان بن عيينة ، فقد قال : كان صالحاً ، وكان في حفظه
    ____________
    (1) مقدمة فتح الباري : 7 ، تدريب الراوي 1 : 124.
    (2) انظر تهذيب الكمال 11 : 374 تجد أقوالهم هناك.
    (3) الثقات ، لابن حبان 6 : 388.
    (4) تهذيب الكمال 11 : 375.

    ( 86 )

    شيء (1).
    والذي يُليَّن بقلّة الحفظ لا يمكن الاحتجاج به على ما هو بناء أهل العلم كابن الصلاح (2) والنووي (3) وأبي حاتم (4) وابن كثير (5) والطيبيّ (6) والسخاوي (7) والسيوطي (8) والجرجاني (9) وغيرهم.
    وقد صرح هؤلاء العلماء بأنّ أهل هذه المرتبة هم أدون مرتبةً من « صدوق » ، و « لا بأس به » التي مرت عليك في سليمان.
    أضف إليه أنّ زيداً قد عنعن روايته هذه عن عطاء وهو ممن يدلّس ؛ فقد ذكر ابن عبد البر في مقدّمة التمهيد ما يدلّ على أنّه كان يدلّس (10) ، وقال ابن حجر :
    روى عن ابن عمر رضي الله عنهما في ردّ السّلام بالإشارة.
    قال ابن عبيد : قلت لإنسان سَلْهُ أَسَمِعَهُ من ابن عمر ؟
    فسأله فقال : أما إني فكلمني وكلمته...وفي هذا الجواب إشعار بأنّه لم يسمع هذا بخصوصه منه ، مع أنّه مكثر عنه فيكون قد دلسهُ (11).
    أضف إلى ذلك أنّ زيداً ممن روى عن أبي سعيد الخدري ومحمود بن لبيد وأبي أمامة مالم يسمع منهم (12) مع ملاحظة أنّه ممن عاصرهم قطعاً ، وهذا يعني أنّه
    ____________
    (1) تهذيب التهذيب 3 : 397.
    (2) مقدمة ابن الصلاح : 239.
    (3) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني على البخاري) 15.
    (4) حكاه عنه ابن الصلاح في المقدمة : 239.
    (5) اختصار علوم الحديث : 93.
    (6) الخلاصة في اصول الحديث : 88.
    (7) فتح المغيث 1 : 395 وط اخرى 1 : 341.
    (8) تدريب الراوي 186.
    (9) ظفر الأماني بشرح مختصر الجرجاني : 492.
    (10) تهذيب التهذيب 3 : 397 عن التمهيد لابن عبد البر.
    (11) تعريف أهل التقديس : 37.
    (12) تهذيب التهذيب 3 : 397.

    ( 87 )

    دلس عن أربعة من الصحابة.
    والّذي عليه جمهور أهل التحقيق من أئمّة الحديث أنّ المدلِّس لو عنعن فإنّه لايقبل منه ، وروايته ساقطة عن الحجيه على ما هو صريح الحاكم (1) والطيبي (2) وابن كثير (3) والنووي (4) والعراقي (5) والسخاوي (6) والسيوطي (7) وابن الصلاح (8) والجرجانى (9) وغيرهم (10).
    قال العراقي في ألفيّته :

    وصحَّحوا وَصْلَ معنعنٍ سَلِمْ * من دَلْسِهِ راويه واللقا عُلِم (11)

    وحاصل كلام العراقيّ أنّ العلماء حكموا على الحديث المعنعن بالصحّة لو سلم راويه من التدليس وعُلم لقاؤه أو سماعه ممّن حدّث عنه ، وإلاّ فلا يعتمد عليه.
    فإن قلت : إنّ الحديث المعنعن الذي يرويه مدلِّس ، إنّما هو ليس بحجّة في غير الصحيحين ، وأما في الصحيحين فهو حجة ؛ لأنّه محمول على الاتّصال والسماع من جهة أُخرى ، فقد قال النووي :
    ____________
    (1) معرفة علوم الحديث : 34.
    (2) الخلاصة في أصول الحديث : 71.
    (3) اختصار علوم الحديث : 46.
    (4) تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني) 1 : 7.
    (5 ـ 6) فتح المغيث 1 : 179 وط اخرى 1 : 155.
    (7) تدريب الراوي 113 وط اخرى 1 : 214.
    (8) مقدمة ابن الصلاح : 152.
    (9) ظفر الأماني بشرح مختصر الجرجاني ، للكنوي : 394.
    (10) كالقاسمي في قواعد الحديث : 127.
    (11) قوله « واللقا علم » قيد لإخراج المرسل عن غيره ، لان المرسل هو أن يحدث الراوي عمن لم يعاصره ويلقاه كأن يروي التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأما التدليس فهو أن يحدث عمن لقيه او عاصره في حين لم يسمع ذلك منه ، فلقاء الراوي أو معاصرته لمن يحدّث عنه وعدمه هو المائز بين الحديث المرسل والمدلس فلا يخفى عليك ذلك.

    ( 88 )

    « واعلم أنّ ما كان في الصحيحين عن المدلِّسين بـ « عن » ونحوها (1) فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى ، وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعاً ؛ فيذكر رواية المدلَّس بـ « عن » ثمّ يذكرها بالسماع » (2).
    قلنا : هذا باطل ولا يفيد ايضاً في المقام ، لأنّنا لم نعثر على تصريح لزيد بن أسلم بالسماع عن عطاء في جميع مرويّات صحيح البخاري ، بل وحتّى في غيره من الكتب المعتمدة ، والّذي يشهد على بطلان دعوى النووي وغيره (3) ما صرّح به ابن حجر من أنّ الحديث المعنعن المرويّ في صحيح البخاري إذا رواه مدلِّس ، ولم يصرِّح ذلك المدلِّس بالسماع في موضع آخر من الصحيح ، فحديثه ساقط عن الاعتبار والحجيّة ، وإليك نص كلامه :
    «...فحكم من ذكر من رجاله ـ أي صحيح البخاري ـ بتدليسٍ أو إرسال أن تُسبَر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة ، فإن وجد التصريح بالسماع اندفع الاعتراض وإلاّ فلا » (4).
    وهذا النص صريح في سقوط طريق البخاريّ هذا عن الحجيّة ، إذ قدّمنا إليك بأننّا لم نعثر على تصريح لزيد بن أسلم بالسماع عن عطاء فيه.
    نعم ، هناك ما يشير ظاهره إلى أن زيداً قد صرح بالسماع عن عطاء في رواية أخرجها مسلم في كتاب المساقاة وهي :
    قال مسلم : حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، سمعت زيد بن اسلم ، أخبرنا عطاء بن يسار ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : استسلف بَكْراً... الحديث (5).
    ____________
    (1) كأن يقول الراوي : حدثني زيد أن عمراً قال كذا ، فهذا الحديث يسمى بالمؤنّن ، وحكمه حكم المعنعن ـ في الحكم عليه بالاتصال والانقطاع ـ « انظر مقدمة ابن الصلاح : 153 تقريب النووي (المطبوع مع شرح الكرماني) : 8 ، فتح المغيث 1 : 184 وط اخرى 1 : 161 ، 155 ، تدريب الراوي 115 وط اخرى 1 : 217 ».
    (2) مقدمة شرح صحيح مسلم ، للنووي 1 ـ 2 : 146.
    (3) كالقاسمي في قواعد التحديث : 137.
    (4) مقدمة فتح الباري : 382.
    (5) صحيح مسلم 3 : 1224 ح 119.

    ( 89 )

    فإِن قلت : هذا دليل على سماعهِ من عطاء فلا يضر كونه مدلساً ؟
    قلنا : يدفعه أن هذا ليس بدليل ، أما أولاً ؛ فلأن مسلماً إنما أخرج هذا الحديث بهذا الطريق متابعة لا أصلاً ، ويدلّ على ذلك أنّه قال في إخراج الأصل :
    حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح ، أخبرنا ابن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع ؛ أن رسول الله استسلف من رجلٍ بكراً... الحديث (1).
    وهذا يعني أن الحجّة وأصل الحديث عند مسلم هو ما أخرجه بسنده إلى مالك بن أنس عن زيد بملاحظة أن سلسلة السند إلى زيد في هذا السند أَثبات أفذاذ...
    وأما ثانياً : فلأنَّ تصريح زيد بـ « أخبرنا » في هذا الطريق مما يخدش ثبوته عنه ؛ وذلك لأنّه ـ كما رأيت ـ من رواية « خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عنه » ، وكل من خالد بن مخلد ومحمد بن جعفر (غندر) ـ وبخاصة الثاني ـ متكلَّم في حفظهِ وضبطهِ ، بل هو البليد الأبله كما تقدم الحديث عنه.
    وأما ثالثاً : فلأنّه يستبعد الوثوق بسماعه في روايةٍ واحدة رواها عنه راوٍ قليل الحفظ والذي هو غندر ، مع أن له مئات من الروايات رواها عن عطاء في الكتب الستة وغيرها لم يصرح ولا بواحدة منها بالسماع. وعليه فلا ثبوت لسماعهِ من عطاء على ما هو الحق.
    ولايفوتنا أن نذكر أنَّ الإمام أحمد بن حنبل قد روى في مسندهِ « عن أبي سلمة الخزاعي ، عن ابن بلال » مثل ما رواه البخاري في صحيحة سنداً ومتنا (2) ، إلاّ أن أحمد روى أيضاً بسندهِ المتقدم « عن ابن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن عباس » حديثاً قال عنه : أنّه نحو الحديث السابق (3).
    ومع ذلك فهذا الحديث لايمكن الاحتجاج به بِالمرّة ؛ لأنّ يعقوب هذا مجهول الحال والهوية بالاتفاق على ذلك من علماء الرجال.
    ____________
    (1) صحيح مسلم 3 : 1224 ح 118.
    (2) مسند أحمد بن حنبل 1 :
    (3) مسند أحمد بن حنبل 1 :