عبد الله بن عباس
وروايات المسح


( 108 )


( 109 )

هناك مجموعة من الروايات صدرت عن ابن عباس روى فيها أنّ فرض الرجلين في الوضوء هو المسح لا غير ، وقد أسندها عنه غير واحد من أئمة الحديث.

الإسناد الأوّل
قال عبد الرزاق (1) ، عن ابن جريح (2) ، قال : أخبرني عمرو بن دينار (3) أنّه سمع عكرمة (4) ويقول : قال ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان (5).

المناقشة
رجال هذا الطريق أئمّة ثقات ضابطون ، احتجّ بهم الجماعة فضلاً عن غيرهم ، ولم يرد فيهم ما يخدش في وثاقتهم ، اللّهم إلاّ أشياء قليلة ـ سنتعرض لها ـ غير قادحة
____________
(1) هو ابن نافع الحميري ، مولاهم ، اليماني ، ابو بكر الصنعاني روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 18 : 57 ، سير أعلام النبلاء 9 : 563 ، تهذيب التهذيب 6 : 314) وغيرها من المصادر.
(2) هو عبد الملك بن جريح القرشي ، الاموي ، أبو الوليد روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 18 : 338 سير أعلام النبلاء 6 : 325 ، تهذيب التهذيب 6 : 402) وغيرها من المصادر.
(3) هو المكي ، أبو الأثرم الجمحي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 22 : 6 ، سير أعلام النبلاء 5 : 300 ، الجرح والتعديل 6 : 231) وغيرها من المصادر.
(4) هو عكرمة القرشي الهاشمي ، ابو عبد الله المدني ، مولى ابن عباس ، روى له مسلم مقروناً بغيره و احتج به الباقون (انظر تهذيب الكمال 20 : 264 ، سير أعلام النبلاء 5 : 12 ـ 36 ، تهذيب التهذيب 7 : 263) وغيرها من المصادر.
(5) مصنف عبد الرزاق 1 : 19 ح55 وعنه في كنز العمّال 5 رقم 2211.

( 110 )

فيهم
فأمّا عبد الرزاق
فهو ممن احتجّ به أئمّة أهل العلم وأصحاب الكتب الستة ، إلاّ أنّه ورد فيه بعض التليين ، وغاية ما قيل فيه من جرح أو تليين ثلاثة أشياء لم يعبأ بها أهل العلم ، وهي :
الأول : تكذيب العنبري له.
قال العنبري (العباس بن عبد العظيم) فيه : والله الذي لا إله إلاّ هو إنّ عبد الرزاق كذّاب (1).
وتهمة العنبري هذه غير مفسّرة ، إذ أنّه لم يبيّن موارد كذبه ، وفي أي حديث كان ؟! فعدم ذكره لها يعني إسقاط كلامه من الاعتبار ، وجعله بمثابة الدعوى التي يطالب قائلها بشاهد عليها ، والذي يزيد هذه التهمة إبهاماً وسقوطاً هو تفرّده في نسبتها إلى عبد الرزاق ، ولم يتابعه عليها أحد من الأعلام.
فقد قال ابن حجر : « عبد الرزاق أحد الحفّاظ الأثبات ، صاحب التصانيف ، وثّقه الأئمّة كلّهم إلاّ العبّاس بن عبد العظيم العنبري وحده ؛ فتكلّم بكلام أفرط فيه ولم يوافقه عليه أحد » (2).
وقال الذهبي ـ في السير ـ عن عبد الرزاق «... بل والله ما بر العبّاس بيمينه ، ولبئس ما قال ، يعمد إلى شيخ الإسلام ومحدّث الوقت ، ومن احتج به كلّ أرباب الصحاح... فيرميه بالكذب ، ويقدّم عليه الواقدي الذي أجمعت الحفّاظ على تركه ، فهو في مقالته هذه خارق للإجماع بيقين » (3).
وقال في الميزان : « هذا ما وافق العبّاسَ عليه مسلمٌ ، بل سائر الحفّاظ وأئمّة العلم يحتجّون به إلاّ في تلك المناكير المعدودة » (4) ، فتعبير الذهبي عن المناكير بـ (المعدودة) ،
____________
(1) حكاه عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 9 : 571 ، وابن حجر في مقدمة الفتح : 418.
(2) مقدمة فتح الباري : 418.
(3) سير أعلام النبلاء 9 : 571 ـ 572.
(4) ميزان الاعتدال 2 : 611.

( 111 )

ثمّ تفسير الآخرين لها ، ممّا يهوّن الخطب ، لأنّها معدودة ومعروفة عند أصحاب الحديث ، فيمكن للباحث الوقوف عندها لدراستها.
هذا ، وإنّ الذهبي في ميزانه (1) وابن عدي في ضعفائه (2) قد أشارا إلى أنّ هذه المناكير قد رواها الضعفاء والمتروكون عن عبد الرزاق ، فهي إذن مناكير من جهة مَن روى عن عبد الرزاق لا من جهته ، فالتفت.
ويدل عليه ما جاء عن أحمد بن حنبل أنّه قال : حدثني أحمد بن شبويه ، قال : هؤلاء ـ أي الّذين حدّثوا عنه المناكير ـ سمعوا بعد ما عمي ، كان يُلَقّن ، فَلُقِّنه ، وليس هو في كتبه ، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه ، كان يلقنها بعد ما عمي (3).
وقال الذهبي : سمعت أبا عليّ الحافظ ، سمعت أحمد بن يحيى التستري يقول : لما حدّث أبو الأزهر بهذه الفضائل أُخبر يحيى بن معين ـ تلميذ عبد الرزاق ـ بذلك ، فبينما هو عنده في جماعة أصحاب الحديث إذ قال : من هذا الكذّاب النيسابوري الذي حدّث بهذا عن عبد الرزاق ؟! فقام أبو الأزهر ، فقال : هو ذا أنا ، فتبسّم يحيى ابن معين ، وقال : أما إنّك لست بكذّاب ، وتعجّب من سلامته ، وقال : الذنب لغيرك (4).
وقال ابن الصلاح «... وقد وجدتُ فيما روي عن الطبري ، عن إسحاق ابن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، أحاديث أستنكرها جداً ، فأحلت أمرها على ذلك ـ أي عند ذهاب بصره ـ فإنّ سماع الدبري منه متأخّر جدّاً ، قال إبراهيم الجري : مات عبد الرزاق وللدبري ستّ أو سبع سنين » (5).
____________
(1) ميزان الاعتدال 2 : 613.
(2) الكامل في الضعفاء 5 : 313.
(3) تهذيب الكمال 18 : 57
(4) سير أعلام النبلاء 9 : 575.
(5) مقدمة ابن الصلاح : 597.

( 112 )

وقال ابن الصلاح أيضاً : وعلى هذا يُحمل قول العنبري « إنّه كذّاب » (1).

الثاني : اتهامه بالتشيع.
قال أبو أحمد بن عدي : ولعبد الرزاق أصناف وحديث كثير ، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمّتهم وكتبوا عنه ، ولم يروا بحديثه بأساً ، إلاّ أنّهم نسبوه إلى التشيع ، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليه أحد من الثقات ، فهذا أعظم ما ذمّوه من روايته لهذه الأحاديث ، ولما رواه في مثالب غيرهم ، وأمّا في باب الصدق فإني أرجو أنّه لا بأس به إلاّ أنّه قد سبق منه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير (2).
وهذه التهمة باطلة ، لقول عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي ، قلت : عبد الرزاق كان يتشيع ويفرط في التشيع ؟ فقال : أمّا أنا فلم أسمع منه في هذا شيئاً ، ولكن كان رجلاً تعجبه أخبار الناس ، أو الأخبار (3).
وعن عبد الرزاق قوله : والله ما انشرح صدري قطّ ، أن أفضّل علياً على أبي بكر وعمر ، رحم الله ابا بكر ، ورحم الله عمر ، ورحم الله عثمان ، ورحم الله عليّاً ، من لم يحبّهم فما هو مؤمن ، وقال : أوثق عملي حبّي إياهم.
وفي نقل آخر عنه قوله : أفضِّل الشيخين بتفضيـل عليٍّ إيّاهما على نفسه ، ولو لم يفضّلهما لم أفضّلهما ، كفى بي آزراً أن أحبّ عليّاً ثمّ أخالف قوله (4).
ونحن من خلال هذين النّصين لا نريد القول بتفضيل عبد الرزاق للشيخين على علي بن أبي طالب أو العكس وأنّ ذلك هو معيار التشيع وعدمه آنذاك ، بل الّذي نريد قوله هو أنّ روايته أحاديث لم يوافقه الثقات لا يعني كونها موضوعة كما لا يعني عدم صحتها في نفسها ؛ لأنّ النكارة عند القوم هي رواية أحاديث لا يرتضونها ، وليس معناه عدم صحتها ـ حسبما نوضحه في بحوثنا اللاحقه ـ وخصوصاً لما عرفنا من
____________
(1) مقدمة ابن الصلاح : 597.
(2) تهذيب الكمال 18 : 60 عن الكامل.
(3) علل أحمد 1 : 233.
(4) تهذيب الكمال 18 : 60.

( 113 )

وجود نهجين في الشريعة
1 ـ التعبد المحض
2 ـ الاجتهاد والرأي
وكذا الحال بالنسبة إلى تقديم عبد الرزاق وغيره علياً على غيره ، فهو الآخر لايعني غلواً أو رفضاً ؛ لأنّ هذا التقديم يدخل في باب الاجتهاد المستنبط من الأدلّة ، ولا يمكن لأحد اتّهام الذّاهب إليه بالرفض أو الغلو ، لأنّ زيادة محبة بعض المؤمنين لم يحرِّمها كتاب ولا سنّة ، وخصوصاً حينما عرفنا ذهاب جمع من الصحابة والتّابعين إلى ذلك أمثال : ابي ذر الغفاري ، عمار بن ياسر ، المقداد بن الأسود ، سلمان الفارسي ، ابيأيّوب الأنصاري ، خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، جابر بن عبد الأنصاري ، العبّاس بن عبد المطلب ، الحسن والحسين ، وذهب إلى ذلك أيضاً بنو المطلب وبنوهاشم كافّة ، وما لا يحصى من التّابعين كحجر بن عدي وأويس القرني وزيد ابنصوحان وذهب إلى ذلك ايضاً صعصعة وجندب الخير وغيرهم.
وعليه فرواية عبد الرزاق وأمثاله أحاديث في فضائل أهل البيت أو مناقب الآخرين لا يعني عدم صحة تلك الأحاديث أو كونها نقلت غلواً أو رفضاً كما يدعونه ، وهي الأُخرى لا يمكن أن تعد جرحاً للرّاوي ، لأنّ دعاة النهج الحاكم استهدفوا رواة فضائل علي ومناقب الآخرين بالنقد والتجريح وإن كانت لتلك الأخبار شواهد ومتابعات صحيحة في صحاحهم.
وخير ما أختم به هذا الاتّهام هو ما قاله الذهبي للعقيلي في الدفاع عن علي ابن عبد الله بن جعفر المديني ، والحديث طويل ، منه :
«... ولو تركت حديث علي ، وصاحبه محمد ، وشيخه عبد الرزاق ، وعثمان بن أبي شيبة ، وإبراهيم بن سعد ، وعفان ، وأبان العطار ، وإسرائيل ، وأزهر السمان ، وبهز بن أسد ، وثابت البناني ، وجرير بن عبد الحميد ، لغلقنا الباب ، وانقطع الخطاب ، ولماتت الآثار ، واستولت الزنادقة ، ولخرج الدّجال ، أفما لك عقل يا عُقيلي ، أتدري فيمن تتكلّم ، وإنّما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيف ما قيل فيهم ، كأنّك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق






( 114 )

منك بطبقات ، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك : فهذا مما لا يرتاب فيه محدث ، وأنا اشتهي أن تعرّفني من هو الثّقة الثبت الّذي ما غلط أو انفرد بما لا يتابع عليه ، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له ، وأكمل لرتبته ، وأدلّ على اعتنائه بعلم الأثر ، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها ، اللّهم إلاّ أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك ، فانظر أوّل شيء إلى أصحاب رسول الله الكبار والصغار ، ما فيهم أحد إلاّ وقد انفرد بسنة ، فيقال له : هذا الحديث لا يتابع عليه ، وكذلك التّابعون ؛ كلُّ واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم ، وما الغرض هذا ؛ فإنّ هذا مقرر على ما ينبغي في علم الحديث وإن تفرّد الثقة يُعَدّ صحيحاً غريباً ، وإن تفرد الصدوق ومَن دونه يُعَدّ منكراً ، وإنّ إكثار الرّاوي من الأحاديث الّتي لا يوافق عليها لفظاً أو إسناداً يصيّره متروك الحديث ، ثمَّ ماكلُّ أحد فيه بدعة أو له هفو ، أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه ، ولامن شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ ، ولكن فائدة ذكرنا كثيراً من الثّقات الّذين فيهم أدنى بدعه أوْ لَهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يُعرف أنّ غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم ، فزِنِ الأشياء بالعدل والورع (1) !!.











وقد يدلّ على مكانة عبد الرزاق ووثاقته مقولة تلميذه يحيى بن مَعين فيه ، حيث حكى محمد بن إسماعيل الضراري قوله : بلغنا ونحن بصنعاء عند عبد الرزاق أنّ أصحابنا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما تركوا حديث عبد الرزاق وكرهوه فَدخَلنَا من ذلك غم شديد ، وقلنا : قد اتّفقنا ورحلنا وتعبنا ، فلم أزل في غمّ من ذلك إلى وقت الحج ، فخرجت إلى مكة فلقيت بها يحيى بن معين ، فقلت له : يا أبا زكريا ما نزل بنا من شيء بلغنا عنكم في عبد الرزاق ؟ قال : وما هو ؟ قلنا : بلغنا أنّكم تركتم حديثه ورغبتم عنه ؟!. فقال : يا أبا صالح لو ارتدّ عبد الرزاق عن الإسلام ما تركنا
____________
(1) ميزان الاعتدال ، للذهبي 3 : 140 ـ141 ترجمة رقم 5874

( 115 )

حديثه (1).
وبعد هذا نقول : ليس من المعقول أن يكون عبد الرزاق فاسد المذهب والرواية ونحنُ نرى أئمّة الحديث والرجال أمثال يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن راهويه وغيرهم (2) يأخذون الحديث عنه ويوثّقونه.
الثالث : القول بأنّه تغيّر.
قال النسائي : فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة ، روي عنه أحاديث مناكير (3).
وقال ابو زرعة الدمشقي ، أخبرنا أحمد بن حنبل ، قال أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر ، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره ، فهو ضعيف السماع (4).
وقال أحمد بن شبّويه : «.. هؤلاء ـ أي من روى عن عبد الرزاق المناكير ـ سمعوا منه بعد ما عمي ، كان يُلقَّن فلقَّنوه ، وليس في كتبه ، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه (5) ».
وهذه النصوص توضح أن تغيّر عبد الرزاق كان في أواخر عمره ، وبسبب ذهاب بصره.
وأنّ التضعيف والتليين يرجع إلى ما رواه عنه الضعفاء والمتروكون لا لنفسه ؛ لأنّ من الواضح أن كتب عبد الرزاق معتمدة ولم يخدش في سلامتها أحد ، فقال البخاري : ما حدث عنه عبد الرزاق من كتابه فهو أصح (6).
وقال أحمد بن حنبل : من سمع من الكتب فهو أصحّ (7).
وقال الذهبي : ومن احتجّ به لا يبالي بتغيّره ؛ لأنّه إنّما حدّث من كتبه لا من
____________
(1) سير أعلام النبلاء 9 : 573 ، الميزان للذهبي الضعفاء ، للعقيلي 3 : 110.
(2) انظر تهذيب الكمال 18 : 59 ، سير أعلام النبلاء 9 : 564.
(3) ميزان الاعتدال 2 : 610 ، الضعفاء والمتروكون (للنسائي) : 154 و ليس فيه : روى عنه احاديث مناكير.
(4) سير أعلام النبلاء 9 : 565 ، تهذيب الكمال 18 : 58.
(5) سير أعلام النبلاء 9 : 568.
(6) ميزان الاعتدال 2 : 610 ، التاريخ الكبير ، للبخاري 6 : 130 الترجمة 1933.
(7) تهذيب الكمال 18 : 58.

( 116 )

حفظه (1).
والحاصل : فإن كتب عبد الرزاق معتبرة معتمدة عند أهل العلم ، وبخاصة مصنفّه الجامع الذي قال عنه الذهبي : إنّه خزانة علم (2) ، وأنت تعلم ما في عبارة الذهبي من دلالة على اعتبار ما في المصنّف من أحاديث ، أضف إليه : أن سماع عبد الرزاق من ابن جريح وروايته عنه ، مما لا يتكلّم ولم يتكلّم فيه أحد من أهل العلم ، لأنّه فيها من الأثبات كما هو صريح أحمد بن حنبل (3).
وعليه فإنّ خبر المسح عن ابن عباس ـ من جهة عبد الرزاق ـ حجّة لكونه قد ورد في مصنفه ، ولم يكن من محفوظاته !! ولعنعنة عبد الرزاق هنا عن ابن جريح وهو ممن سمع عنه.
وأمّا ابن جريح
فقد أجمع أئمّة رجال الحديث على الاحتجاج به بشرط أن يصرّح بالسماع ، وذلك لاشتهاره بالتدليس والإرسال عن الآخرين.
قال ابو بكر الأثرم : قال أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريح « قال فلان » و « أُخبرت » جاء بمناكير ، وإذا قال « أخبرني » و « سمعت » فحسبك به (4).
وقال ابو الحسن الميموني ، عن أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريح « قال » فاحذره ، وإذا قال « سمعت » أو « سألت » جاء بشيء ليس في النفس منه شيء (5).
وقال يزيد ابن زريع : كان ابن جريح صاحب غثاء (6).
وقال مالك بن أنس : كان ابن جريح حاطب ليل (7).
____________
(1) انظر هامش مختصر علوم الحديث ، للطيبي : 196.
(2) ميزان الاعتدال 2 : 609.
(3) تهذيب الكمال 18 : 58.
(4) تهذيب الكمال 18 : 348 ، تاريخ الخطيب 10 : 405.
(5) تهذيب الكمال 18 : 348.
(6 ـ 7) تهذيب الكمال 18 : 349 ، تاريخ الخطيب 10 : 404.

( 117 )

وقال ابن حجر : ثقة ، فقيه ، فاضل ، يدلّس ويرسل (1).
أقول : حديث ابن جريح في هذا الطريق خالٍ من علّة التدليس والإرسال ، فأما أنّه ليس بمرسل ، فلأنّ ابن جريح قد عاصر عمرو بن دينار ، وقد صرّح هو بذلك حيث قال : جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء تسع سنين (2).
وأما أنّه ليس بمدلّس ، فلأنّ ابن جريح قد صرّح هنا بالسماع بقوله « أخبرني عمرو بن دينار » ، وعليه فلا خدشة في هذا الطريق من هذه الجهة.
والظاهر إنّ ما اشتهر به ابن جريح من الأرسال والتدليس هو الّذي دعا مالكاً وابن زريع لأَنْ يتكلّما فيه ، فنحن لم نعثر على قولٍ جُرِح به ابن جريح غير ما اشتهر عنه من التدليس والإرسال !!
ومهما يكن من أمر فإنّ كلام مالك وابن رزيع جرح مبهم ، وهو لا يعارض التعديل من الأئمّة له ـ كما هو مسلم..
وأمّا عمرو بن دينار
فهو إمام من الأئمّة ، قد أجمع أهل العلم على الاحتجاج بمرويّاته ، ولم نعثر على مَن جرحه أو ليّنه بشيء.
قال ابو زرعة : مكّي ثقة (3).
وقال ابو حاتم : ثقة ثقة (4).
وقال النسائي : ثقة ثبت (5).
وقال ابن عيينة : ثقة ، ثقة ، ثقة (6).
وقال ابن حجر : ثقة ثبت ، من الرابعة (7).
____________
(1) تقريب التهذيب 1 : 520.
(2) تهذيب الكمال 18 : 347 ، واُنظر تاريخ الخطيب 10 : 402.
(3 ـ 4) تهذيب الكمال 22 : 11 ، الجرح والتعديل 6 : 231.
(5) تهذيب الكمال 22 : 11.
(6) سير أعلام النبلاء 5 : 302.
(7) تقريب التهذيب 2 : 69.

( 118 )

إلى غير هذه الأقوال التي تشهد على علوّ مقامه ورفعة منزلته عند أهل الحديث ، وخصوصاً فيما رواه عن ابن عباس ؛ إذ أنّه أدركه وعاصره وروى عنه ، فضلاً عن روايته عن أصحابه ، فقد قال ابن عيينة : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عباس رضي الله عنهما من عمرو بن دينار ، سمع من ابن عباس ، وسمع من أصحابه (1).
وقال عمرو بن دينار نفسه : جالست جابراً وابن عباس وابن عمر (2).
والحاصل : فانّه مجمع على الاحتجاج بهِ وخاصَّة فيما يرويه عن ابن عباس.
وأمّا عكرمة
فهو المفسّر المشهور ، ـ أحد أوعية العلم حسب تعبير الذهبي ـ احتج به الجماعة وغير الجماعة ، إلاّ أنّ مسلماً قد أخرج له مقروناً بغيره (3) ، لكنه رجع فاحتجّ به فيما بعد ـ على ما سيأتي توضيحه ـ
وقد جرح البعض عكرمة ، ودافع عنه آخرون حيث صنّفوا كتباً في الذبّ عنه ، منهم : أبو جعفر بن جرير الطبري ، ومحمد بن نصر المروزي ، وأبو عبد الله بن منده ، وأبو حاتم ، وابن حبّان ، وأبو عمرو بن عبد الله ، وغيرهم (4).
وممن تصدّى للدفاع عنه الحافظ ابن حجر في مقدمته لفتح الباري ، وكلّهم مجمعون على تبرئته من الكذب (5).
وعلى أيّ حال ، فإنّ غاية ما قيل في عكرمة من تهم وطعون هي ثلاثة ، وهي كُلُّها يمكن أن يجاب عنها طبق ما قرّر من اصول وقواعد ، وعليه فالنتيجة المتوصل
____________
(1) التاريخ الكبير ، للبخاري 6 : الترجمة 2544.
(2) تهذيب الكمال 22 : 11.
(3) فقد قرن مسلم عكرمة بطاووس في الرواية عن ابن عباس في حج ضباعة (انظر صحيح مسلم بشرح النووى 7 ـ 8 : 382 ح 1208).
(4) مقدمة فتح الباري : 424 وفي كلام الشيخ محمد تقي التستري ـ من الشيعة ـ ما يشير إلى دفاعه عن بعض التهم الموجّهة إليه ، اُنظر قاموس الرجال 7 : 237.
(5) مقدمة فتح الباري : 424.

( 119 )

اليها هنا لا تعني بالضرورة راينا ، ولا تمتثل وجهة نظرنا ، وإنما تعنى صحّة النتيجة طبق الاصول والمقررات وعلى أىّ حال فالطعون هي :
الأوّل : القول بأنّه كذّاب
وأشدّ ما استدلّوا به على كذبه عدّة نصوص ، هي :
1 ـ ما جاء عن ابن عمر من قوله لنافع : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (1).
2 ـ روى جرير بن عبد الحميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : دخلت على علي بن عبد الله بن عباس ، وعكرمة مقيّد على باب الحشّ ، قال : قلت : ما لهذا كذا ؟
قال : إنّه يكذب على أبي (2).
3 ـ روى إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب أنّه قال لبَرَدٍ مولاه : لاتكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس (3).
وروى هشام بن سعد ، عن عطاء الخراساني ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله تزوّج ميمونة وهو محرم ، فقال : كذب مخبثان ، اذهب فسبّه ، سأحدّثكم : قدم رسول وهو محرم ، فلمّا حلّ تزوّجها (4).
4 ـ قال عبد الكريم الجزري : قلت لسعيد بن جبير : إنّ عكرمة كره كراء الأرض ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : إنّ أمثل ما أنتم صانعون استئجار الأرض البيضاء (5).
5 ـ قال مسلم الزنجي ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، أنّه كان جالساً مع سعيد ابن جبير فمرّ به عكرمة ومعه ناس ، فقال لنا سعيد : قوموا إليه واسألوه واحفظوا ما تسألون عنه وما يجيبكم ، فقمنا وسألناه فأجابنا ، ثمّ أتينا سعيداً فأخبرناه ،
____________
(1) تهذيب الكمال 20 : 279 ، سير أعلام النبلاء 5 : 22.
(2) سير أعلام النبلاء 5 : 23 ، تهذيب الكمال 20 : 280.
(3) تهذيب الكمال 20 : 280 ، سير أعلام النبلاء 5 : 22.
(4 ـ 5) تهذيب الكمال 20 : 280 ، سير أعلام النبلاء 5 : 24.

( 120 )

فقال كذب (1) .
6 ـ وعن عثمان بن مرة ، قال : قلت للقاسم : أن عكرمة قال : حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن المزفت ، والنقير ، والدباء ، الحَنتم ، والجرار ، قال : يا ابن أخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثاً يخالفه عشية (2) .
7 ـ عن القاسم بن معن ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّث عكرمة بحديث ، فقال : سمعت ابن عباس يقول كذا وكذا ، فقلت : يا غلام هات الدواة والقرطاس ، فقال : أعجبك ؟ قلت : نعم ، قال : إنّما قلته برأيي (3).
8 ـ وقال فطر بن خليفة : قلت لعطاء : أنّ عكرمة قال : قال ابن عبّاس : سبق الكتاب المسح على الخفين ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عباس يقول : امسح على الخفين وإن خرجتَ من الخلاء (4).
9ـ وسئل ابن سيرين عنه فقال : ما يسوءُني أنّه يكون من أهل الجنة ، ولكنّه كذّاب (5).
10ـ ونقل الربيع بن سليمان عن الشافعي أنّه قال : وهو ـ يعني مالك بن أنس ـ سيء الرأي في عكرمة ، قال : لا أرى لأحد أن يقبل حديثه (6).
أقول : أكّد المدافعون عن عكرمة بأنّ هذه الأقوال المتقدّمة لا تثبت كذباً عليه ، ولا يصحّ الاستدلال بها على تكذيبه ، لأنّ المروي عن ابن عمر غير صحيح ، لوجود يحيى البكاء في الرواية عنه ، وهو متروك الحديث ؛ إذ قال ابن حبّان عنه : كان يتفرد بالمناكير عن المشاهير ، ويروي المعضلات عن الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به (7).
____________
(1) سير أعلام النبلاء 5 : 22.
(2) تهذيب الكمال 20 : 286 ، سير أعلام النبلاء 5 : 28.
(3) سير أعلام النبلاء 5 : 29 ، تهذيب الكمال 20 : 286.
(4) سير أعلام النبلاء 5 : 24 ، تهذيب الكمال 20 : 281.
(5) تهذيب الكمال 20 : 282 ، سير أعلام النبلاء 5 : 25.
(6) تهذيب الكمال 20 : 283 ، سير أعلام النبلاء 5 : 26.
(7) الضعفاء لابن الجوزي 2 ـ 3 : 193 ، ميزان الاعتدال 4 : 409.

( 121 )

وأمّا ما ورد عن علي بن عبد الله بن عباس في عكرمة ، فهو الآخر لا يمكن الاستدلال به ؛ لوجود يزيد بن أبي زياد في سنده ، ويزيد ضعيف لا يحتج به (1).
وأمّا ما حكي عن سعيد بن المسيب من أنّه قال لبرد مولاه : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس ، فهو من رواية إبراهيم بن سعد عن أبيه ، وإبراهيم فيه شيء (2) ، ولو قلنا بصحّة الرواية فهي لا تنفع في تكذيب عكرمة وتضعيفه ، لأنّه جرح غير مفسّر السبب ، وهو لا يعارض تعديلات الأئمّة من أهل العلم له (3) ، ونحن إنّما قلنا أنّه غير مبيَّن السبب باعتبار أنّ تكذيب ابن المسيّب له كان مستنداً على إجتهاد قد أخطا فيه.
وأمّا ما روي عن سعيد بن المسيب أنّه قال : كذب مخبثان ، فهو على فرض ثبوته عن ابن المسيب ، فإنّه قد أخطأ قطعاً باتّهام عكرمة بالكذب ؛ لأنّ هناك طرقاً كثيره تروي أنّ ابن عبّاس قال : تزوّج النبي صلى الله عليه وآله ميمونة وهو محرم ؛ فقد رواه عن ابن عباس سوى عكرمة : أبو الشعثاء (4) ، وسعيد بن جبير (5) ، ومجاهد
____________
(1) انظر تهذيب الكمال 32 : 137.
(2) لأنّه ليس بذاك الضابط في الحديث ، فلربما يغلط فيه ـ على ما هو صريح ابن سعد في الطبقات 7 : 322 ـ وقد لينه يحيى بن سعيد القطان لهذه العلة ـ على ما هو المحتمل قوياً ـ وأرده كل من الذهبي وابن عدي في الميزان 1 : 34 والكامل 1 : 246 ـ 250 ، ومما يدل على عدم ضبطه أنّ له أحاديث غير مستقيمة عن الزهري وعن غيره ، وقد استعرض بعضها ابن عدي في الكامل فراجع.
(3) كالبخاري وابن معين وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهوية وابو ثور وغيرهم ، قال ابن مندة : عدّله أمة من التابعين تزيد على سبعين رجلاً من خيار التابعين ، وهذه منزلة لا تكاد توجد لأحد من كبار التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه ولم يستغن عن حديثه ، وكان حديثه متلقى بالقبول قرناً بعد قرن إلى زمن الأئمة الذين أخرجوا الصحيح. حتّى أنّ مسلماً ـ وكان اسوأهم راياً فيه ـ أخرج له مقروناً بغيره. (انظر تهذيب الاسماء 1 : 341 ، تهذيب التهذيب 7 : 263 ومقدمة فتح الباري : 428 ، 424 ، 429. وأخيراً في الحديث والمحدثون : 178).
(4) انظر مسند أحمد 1 : 221 ، 228 ، 337.
(5) انظر مسند أحمد 1 : 221 ، 228 ، 337.

( 122 )

ابن الحجاج (1) ، وجابر بن زيد (2) ، وطاووس (3) و...
وتكثّر هذهِ الطرق عن ابن عباس ربّما يشعر بثبوت هذا المرويّ عنه في الجملة ، خاصّة لو علمنا أنّ بعض هذهِ الطرق صحيحٌ سنداً ، فتكذيب ابن المسيب لعكرمة ، لاوجه له إذن ، فإذا فهمت ذلك ، فاعلم أنّ عدم اطلاع ابن المسيب على باقي الطرق الّتي روت عن ابن عبّاس ذلك لعلّه هو الّذي دعاه للتكذيب ، وهذا هو الّذي عنيناه بما تقدم من قولنا أنّه جرح غير مفسر ؛ لأنّه لا يفسر لنا كذب عكرمة وإخباره بغير الواقع ، بل استقربنا من خلاله خطأ ابن المسيب واجتهاده ، على أنّ ما رواه عكرمة عن ابن عبّاس في هذهِ القضيّة ليس بهذا النحو النّاقص الموهم ، الّذي سبّب في أن يطعن ابن المسيب فيه ، فهناك طرق أُخرى عن عكرمة رواها عن ابن عبّاس فيها أنّ النبي صلى الله عليه وآله تزوّج بميمونة بعد تمام فريضة الحج أثناء رجوعهِ إلى المدينة.
روى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، قال : حدثنا إسماعيل (4) ، أخبرنا أيّوب (5) عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله نكح ميمونة وهو محرم ، وبنى بها حلالاً بسَرف (6).
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير (7) من أنّ عكرمة روى عن ابن عباس كراهة استئجار الأرض ، فلعلّها كانت في موارد مخصوصة لا يباح فيها الإجارة ، لأنّ كراء الأرض واستئجارها عنوان كلّيّ يدخل تحته موارد يصح فيها الاستئجار ، وموارد لايصح (8) ، واحتمال كون المكروه هي تلك الموارد ـ المخصوصة عند ابن عباس ـ له
____________
(1) انظر مسند أحمد 1 : 221 ، 228 ، 337.
(2) انظر مسند أحمد 1 : 285 ، 362.
(3) انظر مسند أحمد 1 : 252.
(4) وهو اسماعيل بن عليّه ، الذي احتج به الجماعة (انظر تهذيب الكمال 3 : 459).
(5) هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ، وثقه أهل العلم (انظر تهذيب الكمال 3 : 457).
(6) مسند أحمد 1 : 359 ، ومثله في صفحة 354 و 286.
(7) في مقدمة الفتح : 425 انه سعيد بن المسيب.
(8) انظر المجموع 15 : 13 ـ 14 ، المغني لابن قدامة 6 : 66 ، مغنى المحتاج 2 : 342 ، الشرح

( 123 )

وجه وجيه ، فلا يستقيم الطعن في عكرمة.
وأمّا ما رواه مسلم الزنجي ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير فلا يصح ، لكون الزنجيّ ضعيف ، كثير الأوهام ، منكر الحديث (1)
وأمّا ما رواه عثمان بن مرة من أن عكرمة كذب على ابن عباس في أنّ النبي صلى الله عليه وآله نهى عن المزفّت والنقير والدباء و...
ففيه أنّ هذا النهي قد صدر فعلاً وبطرق مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتكذيب عكرمة في نقله لهذا الحديث لازمه عدم الاطلاع على الطرق الأُخرى ، ولا لوم على عكرمة في ذلك.
وأمّا ما رواه القاسم بن معن في قضية الدواة والقرطاس ، فإنّه يوجب مدحاً لعكرمة لاذماً ، لأنّه يدل على صدقه ووثاقته وخوفه من اختلاط الحديث بالرأي ، قال ابن حجر : ففيها دلالة على تحرّيه فإنّه حدّثه في المذاكرة بشيء ، فلمّا رآه يريد أن يكتبه عنه شك فيه فأخبره أنّه إنّما قاله برأيه ، فهذا أولى أن يحمل عليه من أن يطعن به أنّه تعمّد الكذب على ابن عبّاس (2).
وأمّا ما قاله ابن سيرين ، فليس فيه طعن في عكرمة ووثاقته في الحديث ، فإنّ الجرح قد جاء لعدم ارتضاء ابن سيرين آراء عكرمة الفقهية ، لا لشكّه في وثاقته ؛ ويدلّ على ذلك أنّ ابن سيرين إذا قال « ثبتٌ عن ابن عباس » يعني به عكرمة (3).
وأمّا ذمّ الإمام مالك له بدعوى كونه من الخوارج ، فهو لم يثبت عنه ـ على ما
____________
الكبير 6 : 87 وغيرها من المصادر ، ومن تلك الموارد ما لو اشترط المؤجر من المستأجر أن يزرع فيها ويغرس ولم يبين مقدار كل واحد منهما ، ففي هذه الصورة لا تجوز الاجارة.
(1) هو مسلم بن خالد بن قرقرة الزنجي ، ابو خالد المكي ، أكثر أهل العلم على تضعيفه واستنكار مروياته (انظر تهذيب الكمال 27 : 508 ، التاريخ الكبير ، للبخاري 7 : الترجمة 1097 ، سير أعلام النبلاء 8 : 158 وغيرها من المصادر).
(2) مقدمة فتح الباري : 427.
(3) مقدمة فتح الباري : 426 و فيه (قال خالد الحذاء كل ما قال محمد بن سيرين (ثبتٌ عن ابن عباس) فانما اخذه عن عكرمة ، وكان لا يسميه لأنّه لم يكن يرضاه).

( 124 )

هو صريح ابن حجر (1) ـ وسيأتي توضيح ذلك.
وأمّا ما رواه فطر بن خليفة : قلت لعطاء أنّ عكرمة قال : قال ابن عباس سبق الكتاب المسح على الخفين ، فقال عطاء : كذب عكرمة ، بل سمعت ابن عبّاس يقول : امسح...
فالكاذب المخطيء هنا هو عطاء نفسه لا عكرمة ، لأنّ هذا القول ثابت عن ابن عباس بطرق مستفيضة ، والمسانيد والصحاح التي تذكر الناهين عن المسح على الخفين ، تعدّ ابن عباس في ضمن من نهى عن المسح على الخفين (2).
كانت هذه النقول أشدّ ما يستدل به على تكذيب عكرمة ، وقد استبان لك سقمها ؛ لكون غالبها دعاوى فارغة غير مبيّنة العلّة والسبب إلاّ في موردين أو ثلاث ؛ كزواج النبي صلى الله عليه وآله من ميمونة وهو محرم ، والنهي عن المزفّت والدبّاء ، وقد اتضح لك عدم صلاحها للطعن.
هذا وإنّ الإصرار على تكذيب عكرمة مع تغاضيهم عن أخطاء المحدثين الآخرين ليدلّ على أنّ وراء تكذيبه غرضاً شخصيّاً وهوى نفسيّاً.
ولعلّه لذلك نظر يحيى بن معين حيث قال : إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وحماد بن سلمة فاتّهمه على الإسلام (3).
وقد أراد عكرمة بقوله : أرايت هؤلاء الّذين يكذّبوني من خلفي ، أفلا يكذّبوني في وجهي (4) ، التنبيه على أن هؤلاء لا يبتغون العلم والحقيقة ، إذ لو أرادوا ذلك لجاءوا فسألوه عمّا يستنكرونه ، فلمّا لم يقابلوه بذلك علمنا بأنّهم مغرضون ، ولذلك وصفهم ابو جعفر الطبري بأنّهم من أهل الغباوة (5).
وقال ابن مندة في صحيحه بعد كلام طويل له في مدح عكرمة : أجمع الجماعة
____________
(1) مقدمة فتح الباري : 424.
(2) كعلي بن أبي طالب ، وعائشة بنت أبي بكر و...
(3) تهذيب الكمال 20 : 288.
(4) تهذيب الكمال 20 : 288 ، سير أعلام النبلاء 5 : 19.
(5) انظر هامش سير أعلام النبلاء 5 : 35.

( 125 )

على إخراج حديثه ، واحتجّوا به ، على أنّ مسلماً كان أسوأهم رأيا فيه ، وقد أخرج له مقروناً بغيره وعدّله بعد ما جرحه (1).
وقال أيضاً : من جرحه من الأئمة لم يُمسك من الرواية عنه (2).
الثاني : القول بأنّه يرى رأي الخوارج
قال ابن لهيعة : كان يحدّث برأي نجدة الحروري (3).
وقال سعيد بن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن أبي الأسود : كنت أوّل من سبّب الخروج إلى المغرب ، وذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة ، فلقيني عكرمة ، وسائلني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم ، وكان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفرية (4).
وقال يعقوب بن سفيان : سمعت يحيى بن كثير يقول : قدم عكرمة مصر ، وهو يريد المغرب ، ونزل هذه الدار ـ وأومأ إلى دار إلى جانب دار ابن بكير ـ وخرج إلى المغرب ، فالخوارج الّذين بالمغرب عنه أخذوا (5).
وقال ابو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيى بن معين يقول : إنّما لم يذكر مالك ابن أنس عكرمة ؛ لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (6).
وقال عمر بن قيس المكي ، عن عطاء : كان عكرمة اباضياً (7).
وقال الحسن بن عطية القرشي الكوفي : سمعت أبا مريم يقول : كان عكرمة بيهسياً (8).
وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الأباضية ؟ فقال : يقال : إنّه كان صفرياً ، قلت : أتى البربر ؟
____________
(1 ـ 2) انظر هامش سير أعلام النبلاء 5 : 35.
(3) تهذيب الكمال 20 : 277.
(4) تهذيب الكمال 20 : 277 ، سير أعلام النبلاء 5 : 20.
(5) تهذيب الكمال 20 : 277 ، سير أعلام النبلاء 5 : 21.
(6 ـ 7) تهذيب الكمال 20 : 278.
(8) والبيهسي : طائفة من الخوارج ينتسبون إلى أبي بيهس.

( 126 )

قال : نعم ، وأتى خراسان يطوف على الأمراء يأخذ منهم (1).
وهذه الأقوال لا تثبت كونه صفرياً لكون بعضها ، رواتها ضعاف ، فالّذي رواه أبو الأسود وابو مريم ضعيف بابن لهيعة (2) ، وما رواه يعقوب بن سفيان أنّه سمع ابن بكير... ، فهو كلام مبهم وادعاءٌ فارغ ؛ لأنّ يحيى بن بكير لم يبيّن النصوص الّتي أفادت الخوارج أو التي استفادوا منها وأماكن وردوها في كتبهم ، أو أقوال أئمّتهم ولم يوضح لنا اسم من التقى بهم من الخوارج ، حتّى صيّروهُ إماماً يأخذون معالم مذهبهم منه حسب هذا الزعم.
قال ابن جرير الطبري : لو كان كلّ من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادّعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك ، للزم ترك أكثر محدّثي الأمصار ، لأنّه ما منهم إلاّ وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه (3).
وأمّا ما رواه الجوزجاني عن أحمد بن حنبل فهو الآخر لا يثبت شيئاً ، لأنّ أحمد قد شكك في نسبة الصفريّة إليه ، ومجرّد ذهاب عكرمة إلى البربر لا يعني أنّه كان خارجيّاً ، هذا مع أنّ الّذي يظهر من أحمد تبرئته لعكرمة من هذه التهمة ، وخصوصاً حينما وقفنا على كلام أبي بكر المرُّوذِيِّ : قلت لأحمد بن حنبل : يحتج بحديث عكرمة ؟ فقال : نعم ، يحتج به (4).
وأمّا ما رواه بن أبي خيثمة عن يحيى بن معين من أنّ مالكاً إنّما لم يذكر عكرمة في الموطّأ لأنّه يرى رأي الصفرية ، فهو عجيب غريب ؛ لأنّ مالكاً قد احتج بعكرمة في الموطأ في كتاب الحجّ ، وقد صرح ابن حجر بذلك حيث قال : « وزعموا أنّ مالكاً أسقط ذكر عكرمة من الموطّأ ، ولا أدري ما صحّته ، لأنّه ذكره في الحجّ وصرّح باسمه ومال إلى روايته عن ابن عباس ، وترك عطاءً في تلك المسألة ، مع كون عطاء أجلّ
____________
(1) سير أعلام النبلاء 5 : 21.
(2) هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الاعدوليُّ. ضعّفه اكثر أهل العلم (انظر تهذيب الكمال 15 : 487 ، والضعفاء لابن الجوزي 2 : 136 ، والضعفاء للعقيلي 2 : 293) وغيرها من المصادر.
(3) مقدمة فتح الباري : 427.
(4) تهذيب الكمال 20 : 288.

( 127 )

التابعين في علم المناسك (1) ».
وأمّا ما رواه عمر بن قيس المكي عن عطاء ، فهو مجمل وادّعاء محض أيضاً. وممّا يؤيد سقم هذه الادّعاءات على عكرمة هو ثبوت المسح على القدمين عنده ، في حين أنّ المشهور عن الخوارج أنّهم يغسلون الأقدام.
ومثله الحال بالنسبة إلى الحكّام ؛ فالثابت عند الخوارج أنّهم يخرجون بالسيف عليهم (2) ، فلو كان عكرمة خارجيّاً فلم لا يشهر السيف بوجوههم ، بل نراه يقبل جوائز السلطان وصلاته ؟!!
هذا ، وقد برّأه من هذه التهمة بعض علماء هذا الفن :
فقال ابن حجر : لم يثبت عنه من وجه قاطع أنّه كان يرى ذلك (3).
وقال العجلي : عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مكّي ، تابعيّ ، ثقة ، بريء ممّا يرميه الناس به من الحروريّة (4). وقال ابن حجر : وقد برّأه الإمام أحمد (5).
الثالث : أنّه يقبل جوائز الحكّام والأمراء
أوضحنا لك قبل قليل أنّ قبول جوائز الحكام ينافي المبدأ الذي قام عليه مذهب الخوارج ، وحسب قول ابن حجر أنّه لا يعني قدحاً في الراوي ولا روايته ، فقال : « وأمّا قبوله لجوائز الأمراء فليس ذلك بمانع من قبول روايته ، وهذا الزهري قد كان في ذلك أشهر من عكرمة ، ومع ذلك فلم يترك أحد الرواية عنه بسبب ذلك » (6).
وقال ابن حجر في موضع آخر أيضاً : وأمّا قبول الجوائز فلا يقدح أيضاً إلاّ عند أهل التشديد ، وجمهور أهل العلم على الجواز كما صنف في ذلك ابن عبد البر (7).
____________
(1) مقدمة فتح الباري : 429.
(2) انظر قاموس الرجال ، للتستري 7 : 237.
(3) مقدمة فتح الباري : 424 ، 428.
(4) انظر ثقات العجلي كما في مقدمة الفتح : 427 وتهذيب الكمال 20 : 289.
(5) مقدمة فتح الباري : 427.
(6) مقدمة فتح الباري : 427.
(7) مقدمة فتح الباري : 424.

( 128 )

وإذ فرغنا من الجواب عما طُعن به عليه ، فلنذكر ثناء أهل العلم عليه :
فعن عثمان بن حكيم ، قال : كنت جالساً مع أبي أمامة بن سهل بن حنيف إذ جاء عكرمة ، فقال : يا أبا أمامة أذكّرك الله هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدّثكم عني عكرمة فصدّقوه فإنه لم يكذب عليّ ؟ فقال أبو أمامة : نعم (1). قال ابن حجر : وهذا إسناد صحيح (2).
وقال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : فعكرمة أحبّ إليك عن ابن عباس أو عبيدالله بن عبد الله ؟ فقال : كلاهما ، ولم يخير ، قلت : فعكرمة أو سعيد بن جبير ؟ فقال : ثقة وثقة ، ولم يخيّر (3).
وفي آخر : قلت ليحيى : كريب أحبّ إليك عن ابن عباس أو عكرمة ؟ فقال : كلاهما ثقة (4).
وقال حمّاد بن زيد : قال لي أيّوب : لو لم يكن [ عكرمة ] عندي ثقة لم أكتب عنه (5).
وقال أحمد بن زهير : عكرمة أثبت الناس فيما يروي (6).
وقال أحمد بن حنبل : يحتجّ به (7).
وقال ابن عدي : مستقيم الحديث إذا روى عنه الثقات (8).
وقال النسائي : ثقة (9) ، من أعلم الناس (10).
____________
(1) مقدمة فتح الباري : 427 ، تهذيب الكمال 20 : 271.
(2) مقدمة فتح الباري : 427.
(3) تهذيب الكمال 20 : 288.
(4) هامش تهذيب الكمال 20 : 288 عن (تاريخه الترجمة 604)
(5) مقدمة فتح الباري : 428.
(6) تهذيب الكمال 20 : 287.
(7) تهذيب الكمال 20 : 288.
(8) تهذيب الكمال 20 : 289 ، مقدمة فتح الباري : 429.
(9) تهذيب الكمال 20 : 289.
(10) المستخرج من مصنفات النسائي : 116 الترجمة 2190 ، سير أعلام النبلاء 5 : 31.

( 129 )

وقال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلاّ وهو يحتج بعكرمة (1).
وقال ابو حاتم : ثقة يحتجّ بحديثه إذا روى عنه الثقات (2).
وقال الحاكم : احتجّ بحديثه الأئمّة القدماء ، لكنّ بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيّز الصحاح (3).
وقال ابن حجر : قال ابن حبّان : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، ولا أعلم أحداً ذمه بشيء ، يعني يجب قبوله والقطع به (4).
والحاصل : أنّ عكرمة ثقة ـ وفق ما تقدم ـ ، وقد احتجّ به غالب الأئمّة.
قال البزّار : روى عن عكرمة مائة وثلاثون رجلاً من وجوه البلدان كلّهم رضوا به (5).
وقال ابو جعفر بن جرير : ولم يكن أحد يدفع عكرمة من التقدّم في العلم بالفقه والقرآن وتأويله وكثرة الرواية للآثار ، وإنّه كان عالماً بمولاه ، وفي تقريظ جلّة أصحاب ابن عبّاس إيّاه ، ووصفهم له بالتقدم في العلم ، وأمرهم الناس في الأخذ عنه ، ما بشهادة بعضهم تثبت عدالة الإنسان ويستحق جواز الشهادة ، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح ، وما يسقط العدالة بالظنّ وبقول فلان لمولاه : لا تكذب عليّ ، وماأشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعان غير الذي وجّهه إليه أهل الغباوة ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب (6).

***

____________
(1) مقدمة فتح الباري : 428 ، تهذيب الكمال 20 : 289 ، تاريخه الكبير 7 : الترجمة 218.
(2) الجرح والتعديل 7 : 7 الترجمة 32 ، سير أعلام النبلاء 5 : 32.
(3) الجرح والتعديل 7 : 7 الترجمة 32 سير أعلام النبلاء 5 : 32 ، مقدمة فتح الباري : 429.
(4) مقدمة فتح الباري : 429.
(5) مقدمة فتح الباري : 428.
(6) مقدمة فتح الباري : 429.

( 130 )

لطائف هذا الاسناد
1 ـ إنّ رواة هذا الطريق أئمّة ثقات ، ضابطون ، عدول ، حفاظ للحديث ، فقهاء في الشريعة ، علماء بالسنة ، لم يكونوا بالمغمورين المطمورين ، وقد تقدم ذكر تصريحات العلماء في حقّهم.
2 ـ إنّ رواة هذا الطريق هم مقصد البخاري في صحيحه ، لأنّهم بمثابة الطبقة الأولى من الطبقات التي تروي عن الزهري.
3 ـ إنّ لكلٍّ من رواة هذا الطريق ، ملازمة طويلة ـ لا تقلّ عن عدّة أعوام ـ كلٌّ عمن يروى عنه ، وهذا مما يجعل هذا الطريق أكثر قوّة وحجية.
4ـ إنّ بعض رواة هذا الطريق كان أعلم من غيره بعلم ابن عباس ، فعن ابن عيينة قال : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عباس رضي الله عنهما من عمرو بن دينار ، سمع من ابن عبّاس وسمع من أصحابه.
5 ـ إنّ رواية عكرمة عن ابن عبّاس في هذا الطريق لا تفيد الظنّ المعتبر فقط ، بل هي رواية محفوفة بالقرائن الخاصة التي تورث الاطمئنان ، لأنّ عكرمة كان قد اطّلع على حركات وسكنات ابن عباس عن حسٍّ ، وبما أنّ الوضوء من الأعمال المتكرّرة في اليوم عدّة مرات ، فإخبار عكرمة يأخذ مأخذاً آخر ، أعلى من محض الرواية بالسماع أو بالمشاهدة مرّة أو مرّات.
6 ـ إنّ الجماعة وطائفة من أهل العلم قد احتجّوا برواة هذا الطريق إلاّ مسلماً فإنّه توقّف في عكرمة ، لكنّه رجع فاحتج به ، وعليه فهذا الطريق حجّة عند الجميع.
7 ـ ومن خصائص هذا الإسناد أنّ فيه توثيق صحابيٍّ لتابعيٍّ ، فقد روي عن عثمان ابن حكيم قوله : كنت جالساً مع أبي أمامة بن حنيف إذ جاء عكرمة ، فقال : يا أبا أمامة ، أذكرك الله هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدّثكم عني عكرمة فصدقوه فإنّه لم يكذب عليّ ؟ فقال أبو أمامة : نعم. وهذا الإسناد صحيح على ما هو صريح ابن حجر.
والحاصل : إنّ طريق عبد الرزاق في هذا الحديث صحيح على شرط البخاري وغيره


( 131 )

من الجماعة ، بل غالب أئمّة أهل العلم ، وهو ما يفرض الأخذ به والاعتماد عليه.

الإسناد الثاني
قال عبد الرزاق ، عن معمر (1) ، عن قتادة (2) ، عن جابر بن يزيد (3) أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين ، وقال رجل لمطر الورّاق : من كان يقول : المسح على الرجلين ؟ فقال : فقهاء كثير (4).

المناقشة
رجال هذا الطريق أئمّة ثقات ، يظهر ذلك لمن تتـّبع تراجمهم في كتب الرجال ، إلاّ أنّه قد يُتكلّم في بعضهم من جهة الضبط ومقدار الحفظ.
وقد مر عليك الكلام في عبد الرزاق ،. وبقي أن نذكر خصوص روايته عن معمر.
فعن عبد الرزاق أنّه قال : جالسنا معمراً سبع سنين أو ثمان سنين (5).
وقال ابو بكر الأثرم ، عن أحمد بن حنبل : حديث عبد الرزاق عن معمر أحبّ
____________
(1) هو معمر بن راشد الازدي ، الحداني (انظر تهذيب الكمال 28 : 303 ، تهذيب التهذيب 10 : 243) وغيرهما من المصادر.
(2) هو قتادة بن دعامة الدوسي ، ابو الخطاب البصري (انظر تهذيب الكمال 23 : 499 ، سير أعلام النبلاء 5 : 269 ، تهذيب التهذيب 8 : 351) وغيرها من المصادر.
(3) الصحيح جابر بن زيد الازدي اليحمدي (انظر تهذيب الكمال 4 : 434) ؛ لان قتادة لا يروى عن جابر بن يزيد الجعفي و الاخير لا يروى عن ابن عباس (انظر تهذيب الكمال 4 : 465) ولو اردت التفصيل أكثر عن جابر بن زيد (أبي الشعثاء) فانظر البداية والنّهاية 10 : 93 وأجوبة ابن خلفون ص9 وغيره.
(4) مصنف عبد الرزاق 1 : 19 ح 54.
(5) تهذيب الكمال 18 : 56.

( 132 )

إليّ من حديث هؤلاء البصريين ، كان ـ يعني معمراً ـ يتعاهد كتبه وينظر فيها... (1)
وقال عباس الدُّوريُّ عن يحيى بن معين : كان عبد الرزاق في حديث معمر أثبت من هشام بن يوسف... (2)
وأمّا رواية معمر عن قتادة ، فقد قال معمر : جلست إلى قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فما سمعت منه حديثاً إلاّ كأنه مُنقش في صدري (3).
وقد وثّق معمراً كلٌّ من ابن معين والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي وابن حزم وابن حجر والدار قطني في السنن (4) إلاّ أنّه قال عنه في العلل : سيء الحفظ لحديث قتادة والأعمش (5).
وقال الذهبيّ في الميزان : أحد الأعلام الثقات ، له أوهام معروفة احتملت له في سعة ما أتقن (6). وقال ابن حجر في التقريب : « ثقة ثبت فاضل إلاّ أنّ في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً » (7) ، ولم يذكر فيه سوء حفظه لحديث قتادة.
وأمّا قتادة فقد وثّقه ابن معين وابن سعد والعجلي والدار قطني وابن حجر ، وقال ابو بكر الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئاً إلاّ حفظه ، وقُرىََ عليه صحيفة جابر مرّة واحدةً فحفظها (8).
وقال عبد الرحمن بن يونس عن سفيان بن عُيينة : كان قتادة يقص صحيفة جابر ، وكان كتبها عن سُليمان اليشكري (9).
____________
(1) تهذيب الكمال 18 : 57 وفي ص 58 عن ابي زرعة قريب منه.
(2) تهذيب الكمال 18 : 58.
(3) تهذيب الكمال 28 : 306.
(4) السنن 1 : 164 كما في هامش تهذيب الكمال 28 : 312.
(5) العلل (4 الورقة 39) كما في هامش تهذيب الكمال 28 : 312.
(6) ميزان الاعتدال4 : الترجمة 8682.
(7) تقريب التهذيب 2 : 266 ، تهذيب الكمال 28 : 309.
(8) تهذيب الكمال 23 : 515.
(9) تهذيب الكمال 23 : 508.

( 133 )

وقال علي بن المديني : سمعت يحيى بن سعيد يقول : قال سليمان التيمي : ذهبوا بصحيفة جابر إلى قتادة فرواها ، أو قال : فأخذها (1).
وعن يحيى بن معين أنّه شك في سماع قتادة من أبي قِلابة (2) وأبي الأسود الدؤلي (3) ص وسليمان بن يسار (4) ومجاهد (5) ، وقال عن قتادة : أنّه لم يدرك سنان ابن سلمة ، وعن أحمد بن حنبل قوله : قتادة لم يسمع عن رجاء بن حيوة ، وعن يحيى بن سعيد قريب منه.
وأنت ترى أنّ هؤلاء العلماء قد شكّكوا في رواية قتادة عن أولئك ولم يشكّكوا في روايته عن جابر بن زيد (يزيد) أو عكرمة.
هذا ، ويمكننا أن نجيب الدار قطني فيما ادّعاه في (العلل) على قتادة ، بأنّ مسلماً وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجة قد احتجوا بمرويات معمر عن قتادة في صحاحهم ، وهو مرجّح قوي للحديث (6).
وأما رواية قتادة عن جابر (7) وعكرمة (8) ، فقد احتجّ بها الجماعة أصحاب الصحاح ، اللّهم إلاّ مُسلماً من جهة عكرمة ـ على ما تقدم بيانه ـ ومهما يكن من شيء ، وعلى أسوأ تقدير ، فإنّ هذا الطريق صحيح ، لوجود التابع الصحيح له من رواية عبد الرزاق آنفة الذكر ـ الإسناد الأوّل ـ من وضوء ابن عباس المسحي.
وقال السيوطي : وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة مثله ، أي مثل حديث عبد الرزاق هنا (9).
____________
(1) تهذيب الكمال 23 : 508.
(2) تهذيب الكمال 23 : 510 عن تاريخ يحيى بن معين.
(3 ـ 5) تهذيب الكمال 23 : 513.
(6) تهذيب الكمال 18 : 204.
(7) تهذيب الكمال 23 : 499.
(8) تهذيب الكمال 23 : 501.
(9) الدر المنثور 2 : 262.