استنكارية فيها إشارة إلى موقف ابن عباس الاعتراضي على ثقل الاتجاه المقابل ، ومثله الحال بالنسبة إلى خبر ابن عقيل ، فإن علي بن الحسين حينما أرسله إلى الربيع لم يكن لأخذ الحكم عنها ، بل جاء ليسألها عن ادعائها لوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكيف بهم ـ وهم أهل بيت النبوة ـ لا يعرفون ما تحكيه عنه صلى الله عليه وآله ؟!
نعم ، جاءها كي يثبت لها مخالفة ما تدعيه للثابت المقطوع عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، حيث تواترت الأخبار عنه صلى الله عليه وآله أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ، وهذا لا يتطابق مع ترويه عنه صلى الله عليه وآله.
وقد فهمت الربيع غرض ابن عقيل الاستنكاري فقالت له : (وقد جاءني ابن عم لك) تعني به ابن عباس ، فلمحت بقولها إلى أن الطالبيين لا يرتضون نقلها لمخالفته ما عرفوه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله والقرآن الحكيم.
فابن عقيل أكد إشكاله وسؤاله بصورة أخرى فقال ، فقلت لها : فبأي شيء كان الإناء ؟.
قالت : قدر مد أو مد وربع.
فجملة (فبأي شيء كان الإناء) أراد بها ابن عقيل بيان أمرين :
أولهما : إرشادها إلى سقم رؤيتها ، لإنه صلى الله عليه وآله لو كان يمسح رأسه مقبلاً ومدبراً ، ويغسل رجليه ثلاثاً لا حتاج إلى أكثر من مد ؛ لعدم كفاية المد لغسل تمام أعضاء الرضوء ، وهذا التشكيك من ابن عقيل هو الذي حدا بالربيع أن تزيد في قدر المد !!
فقالت : قدر مد بالهاشمي أو مد وربع.
فإنها انتبهت إلى عدم إمكان إيفاء المد من الماء بمسح الرأس كله مقبلاً ومدبراً مع غسل الرجلين وبقية الأعضاء ثلاثاً ، فأتت بتلك الزيادة كي تعذر نفسها !!.
وثانيهما : إن ابن عقيل أراد أن يرى الإناء الذي كانت تصب فيه الماء لرسول الله كي يوضح لها على ضوئه بأن ما تقوله لا يلائم ما ـ تفرضه من حجم الماء الذي فيه ـ ، لان الماء الموجود في هذا الظرف الصغير لا يمكنه غسل الرجلين ثلاثاً !! أي أن ابن عقيل أراد أن يوضح لها كذب كلامها على وجه الدقة والتحقيق لا الحدس والتخمين !!
وسيأتيك بسط الكلام في البحث الدلالي لمرويات عثمان بن عفان وأن وضوءه


(151)

لا يلائم الثابت المقطوع عن رسول الله صلى الله عليه وآله من أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.
كان هذا مجمل القول في الروايات المسحية عن ابن عباس ، وقد عرفت أنها ترجح على الغسلية ، بكثرة الطرق ، ووحدة النص وعدم الاضطراب فيها و ... بعكس الطرق الغسلية.
والذي يجب التنبيه عليه هنا هو أن جمعاً من تلامذة ابن عباس كانوا قد دونوا أحاديثه ، منهم : ابن أبي مليكة (1) والحكم بن مقسم (2) وسعيد بن جبير (3) وعلي بن عبد الله بن عباس (4) وعكرمة (5) وكريب (6) ومجاهد (7) ونجدة الحروري (8) وعمرو بن دينار (9) ولم نر بين هؤلاء اسم عطاء بن يسار ـ راوي الغسل عن ابن عباس ـ ولم يصح طريق سعيد بن جبير إلى ابن عباس لوجود عباد بن منصور فيه ، بعكس الطرق المسحية عن ابن عباس فقد ثبت ذهاب عكرمة إلى المسح ، ونقل عمرو بن دينار : أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : (الوضوء غسلتان ومسحتان) ، وهما ممن اختصوا بابن عباس ورووا أحاديثه في المدونات.
قال سفيان : قال لي عمرو بن دينار : ما كنت أجلس عند ابن عباس ، ما كتبت عنه إلا قائماً.
نقل ابن عيينة عن سفيان قوله : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عباس
____________
(1) مقدمة صحيح مسلم : 13 ، صحيح البخاري الرهن 6 ، الشهادات 20 ، مسند أحمد 1 : 243 ، 351 ، السنن الكبرى 6 : 83.
(2) فتح المغيث 2 : 138.
(3) العلل 1 : 50 ، الطبقات لابن سعد 6 : 179 ، تقييد العلم : 102ـ 103 ، تاريخ أبي زرعة : 119 ـ أ.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 216.
(5) الفهرست ، لابن النديم : 34.
(6) الطبقات الكبرى 5 : 216.
(7) الفهرست : 33.
(8) مسند أحمد 1 : 224 ، 248 ، 294 ، 308 ، مسند الحميدي 1 : 244 ، صحيح مسلم ، الجهاد 137 ـ 141 ، الاصابة 2 : 234.
(9) تاريخ الفسوي 3 : 5 ب ، تاريخ أبي زرعة 78 ب كما في الدراسات للاعظمي 1 : 118.

(152)

رضي الله عنه من عمرو بن دينار ، سمع ابن عباس وسمع أصحابه.
فاستبان إذن أن خبر المسح هو الأرجح نسبةً إلى ابن عباس بخلاف الغسل ، ويؤكده جردنا لرواة أسانيد الغسل والمسح عنه ـ في نسبة الخبر إليه ـ إذ ترى غالب الذين رووا عن ابن عباس المسح ـ وفي جميع الطبقات ـ كانوا من أصحاب المدونات ، بعكس رواة الغسل فلم يكن فيهم إلا سعيد بن جبير ـ الذي لم يثبت الطريق إليه ، لوجود عباد بن منصور المضعف عند الجميع في خبره ـ وسليمان بن بلال ومحمد بن عجلان وعبد الله بن إدريس ، وهؤلاء كانوا من المدونين إلا أنهم من المدونين في عصر التدوين ـ أي بعد عمر بن عبد العزيز ـ فلا أهمية لمدوناتهم ، بعكس رواة المسح ، فإنهم أئمة متقدمين ، كعلي بن الحسين (زين العابدين) ، وعكرمة ، وعمرو ابن دينار ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وجابر بن زيد وغيرهم ، فهؤلاء قد دونوا الحديث قبل عصر التدوين الحكومي ، ولذلك تكون لمدوناتهم قيمة أكثر ومنزلة أعظم.
وبهذا اتضح أن الطرق المسحية عن ابن عباس هي أقوى سنداً ودلالة ، وقد رويت بطرق متعددة وفي جميع الطبقات عن المدونين ، وهذا يؤكد أن استقرار الوضوء المسحي ثبت بجهود المدونين القدماء على مر الأجيال.


(153)

وقفة مع رجوع ابن عباس إلى الغسل
وردت نصوص ادعي فيها ـ إشارةً أو تصريحا ـ رجوع ابن عباس ـ وغيره ـ إلى غسل القدمين ـ بعد أن كان يذهب إلى مسحها ـ وإليك تلك النصوص :

الإسناد الأول (1)
قال ابن أبي شيبة (2) : حدثنا ابن المبارك (3) ، عن خالد (4) عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأ (وأرجلكم) ، يعني رجع الأمر إلى الغسل.

المناقشة

1 ـ في رجال هذا الطريق ابو بكر بن أبي شيبة ، وهو أحد الائمة بصناعة الحديث ، قوي الحافظة فيه ، سراد له.
قال عمرو بن علي : ما رأيت أحفظ من ابن أبي شيبة ، قدم علينا مع علي ابن المديني ، فسرد للشيباني أربع مائة حديث حفظاً وقام.
وقال أبو عبيد ـ وهو القاسم بن سلام ـ انتهى الحديث إلى أربعة : إلى أبي بكر ابن أبي شبية ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، فأبو بكر أسردهم له ، وأحمد أفقههم فيه ، ويحيى أجمعهم له ، وعلي أعلمهم به.
2 ـ وخالد بن مهران الحذاء ، الذي وردت لأهل العلم فيه عدة أقوال ، إليك
____________
(1) المصنف لابن أبي شيبة 1 : 22.
(2) هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي ، أبو بكر بن أبي شيبة روى له الجماعة سوى مسلم ، (انظر تهذيب الكمال 16 : 34 وسير أعلام النبلاء 11 : 122).
(3) هو عبد الله بن المبارك بن واضح ، التميمي ، مولاهم ، أبو عبد الله المروزي روى له الجماعة وغيرهم (أنظر تهذيب الكمال 16 : 5 ، وسير أعلام النبلاة 8 : 336).
(4) هو خالد بن مهران الحذاء ، أبو المنازل البصري ، مولى قريش ، روى لها الجماعة (انظر تهذيب الكمال 8 : 177 ، وسير أعلام النبلاء 6 : 190).

(154)

أهمها :
قال أبو بكر الأثرم ، عن أحمد بن حنبل : ثبت (1).
وقال إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين ، وأبو الرحمن النسائي : ثقة (2).
وقال ابن حجر : ثقة يرسل (3).
وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به (4).
وقال العقيلي : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال حدثني أبي ، قال : قيل لابن علية في هذا الحديث ، فقال : كان يرويه فلم نكن نلتفت إليه ، ضعف أمره ـ يعني خالد الحذاء (5) ـ.
وقال يحيى بن آدم : قلت لحماد بن زيد : ما لخالد الحذاء في حديثه ؟ قال : قدم علينا قدمةً من الشام فكنا أنكرنا حفظة (6).
وقال معتمر بن سليمان : سمعت أبي ذكر خالد الحذاء فقال : ما عليه لوضع ما صنع طاووس ، كان يجلسل فإذا أتي بشيء أخذه وإلا سكت (7).
وقال عباد بن عباد : أراد شعبة أن يضع من خالد الحذاء ، فأتيته أنا وحماد بن زيد ، فقلت له : مالك أجننت ! أنت أعلم . وتهددناه فأمسك (8).
وقال عبد الله بن نافع القرشي ـ مولى لآل عمر ـ أبو شهاب : قال لي شعبة : عليك بحجاج من أرطاة ومحمد بن إسحاق ، فإنهما حافظان ، واكتم عليّ عند البصريين في خالد وهشام (9).
وقال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : داود (10) أحب إليك
____________
(1ـ2) تهذيب الكمال 8 : 180 ، الجرح والتعديل 3 : الترجمة 1593.
(3) تقريب التهذيب 1 : 219.
(4) تهذيب الكمال 8 : 180 ، الجرح والتعديل 3 : الترجمة 1593 ، تهذيب التهذيب 3 : 121 ، سير أعلام النبلاء 6 : 191.
(5) الضعفاء للعقيلي 3 : 5 ، سير أعلام النبلاء 6 : 192.
(6) الضعفاء للعقيلي 3 : 4.
(7) سير أعلام النبلاء 6 : 191.
(8 ـ 9) الضعفاء ، للعقيلي 3 : 4 ، سير أعلام النبلاء 6 : 191.
(10) انظر تهذيب الكمال 8 : 461.

(155)

أو خالد ؟ قال : داود ـ يعني ابن أبي هند ـ (1).
وقال محمد بن سعد : استعمل على القبة ودار العشور بالبصرة ، وتوفي في خلافة أبي جعفر المنصور (2).
والذي يتحصل من هذه الأقوال أن سبب الكلام في خالد هو سوء حفظه ، ويحتمل أن يكون خالد غير محمود الحال وغير نقي السريرة عند أهل البصرة لعمله عند السطان ؛ لأن الثابت بين الأتقياء والمحدثين الزهاد أنهم يمقتون من هو قريب من السلطان ، وعليه فيحتمل أن يكون قربه إليهم ـ فضلاً عن سوء حفظه ـ هو الذي دعا شعبة لان يطلب من عبد الله بن نافع كتمان أمره مع خالد.
هذا وإن شعبة كان قد قرن خالداً بهشام بن حسان (3) ، والأخير متكلم في حفظة ، وهذه قرينة أخرى على صحة دعوى سوء حفظ خالد.
والعجيب أن الذهبي علق على كلام شعبة مع عبد الله بن نافع القرشي بقوله : هذا الاجتهاد من شعبة مردود لا يلتفت إليه (4) ...
وكلامه هذا واضح البطلان ؛ لأن الذهبي هو المجتهد في المقام لا شعبة ، لأن احتمال اجتهاد شعبة في أمر خالدٍ وهشامٍ بعيد ، وليس بوجيه ، فهو إنما حكم عليهما بعد لقياه لهما ، وهذا يعني أنه حكم عليهما عن حسٍ ويقين لا عن اجتهاد وحدس وتخمين كما هو عند الذهبي !
ولقد أجاد الحافظ ابن حجر حينما افاد بقوله : « ..‎. والظاهر أن كلام هؤلاء فيه من أجل ما أشار إليه حماد بن زيد من تغير حفظه بأخرة ، أو من أجل دخوله في عمل السلطان » (5) . على أن ابن حجر ادعى التغير بأخرة مع أن الأقوال كما رأيتها مطلقة من حيث سوء حفظه ، إذا لم يدل دليل على تحديد تاريخ تغيره !!.
____________
(1) تهذيب الكمال 8 : 180.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 7 : 259.
(3) انظر تهذيب الكمال 20 : 181.
(4) سير أعلام النبلاء 6 : 191.
(5) تهذيب التهذيب 3 : 122.

(156)

وسنتكلم عن قيمة هذا النص وأمثاله في البحث السندي والدلالي لا حقاً.

الإسناد الثاني
قال أبو عبيدة (1) ، حدثنا هشيم (2) ، قال : أخبرنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأها ( وأرجلكم ... ) بالنصب ، وقال : عاد إلى الغسل (3).

المناقشة
1 ـ القاسم بن سلام ، أبو عبيد الفقيه ، القاضي ، الأديب المشهور ، صاحب التصانيف المشهورة ، لم يتعرض له أحد بجرح ما.
2 ـ هشيم بن بشير ، وهو وإن كان محدثاً كبيراً إلا أنه يؤخذ عليه تدليسه وإرساله الخفي ، فضلاً عن تلبسه بأشياء من السلطان !
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن خالد الطحان وهشيم ، فقال : خالد أحب إلينا ، لم يتلبس من السلطان شيئاً (4).
وقال العجلي : هشيم واسطي ثقة كبير الحديث ، ثبتاً ، وكان يدلس كثيراً (5).
وحسبك أن ترجع إلى علل أحمد بن حنبل لترى كثيرة الرواة الذين دلس عنهم . وإن قيمة هذا الإسناد وأمثاله سيظهر لك في البحث السندي والدلالي لاحقاً إن شاء الله تعالى.
____________
(1) هو القاسم بن سلام البغدادي ، ذكره البخاري في القراءة خلف الغمام وابو داود في تفسير اسنان الابل (انظر تهذيب الكمال 23 : 354 ، تاريخ بغداد 2 : 401 ، الطبقات لابن سعد 7 : 355) وغيرها.
(2) هو هشيم بن بشير السلمي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 30 : 272 ، تهذيب التهذيب 11 : 59 ، سير أعلام النبلاء 8 : 278 التاريخ الكبير ، للبخاري 8 : الترجمة 6867) وغيرها.
(3) الطهور ، لابي عبيد : 392.
(4) العلل ومعرفة الرجال 1 : 643.
(5) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 7 : 313.

(157)

الإسناد الثالث
أخرج الطحاوي بسنده إلى سعيد بن منصور (1) ، قال : سمعت هشيماً يقول : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك ، وقال : عاد إلى الغسل (2).

المناقشة

فيه سعيد بن منصور ، وهو ثقة ، ولم يلين بشيء سوى ما ورد عن الحميدي ـ صاحب المسند ـ وسليمان بن حرب (3) من أنه يخطىء في الشيء بعد الشيء من رواية ما يروي عن سفيان (أي ابن عيينة) (4).
والكلام عن هذا الإسناد سيتضح لاحقاً.

الإسناد الرابع
أخرج الطحاوي بسنده إلى عبد الوارث (5) ، عن علي بن زيد (6) ، عن يوسف بن مهران (7) ، عن ابن عباس ، مثل ما تقدم من أنه قرأها بالنصب (8).
____________
(1) هو سعيد بن منصور الخراساني ، أبو عثمان المروزي ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 11 : 77 ، سير أعلام النبلاء 10 : 586 ، تهذيب التهذيب 4 : 89) وغيرها.
(2) شرح معاني الآثار 1 : 40.
(3 ـ 4) انظر تهذيب الكمال (الهامش) 11 : 81.
(5) هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان ، التميمي ، العنبري ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 18 : 478 ، تهذيب التهذيب 6 : 441 ، والتاريخ الكبير للبخاري 6 : الترجمة 1891) وغيرها من المصادر.
(6) هو علي بن زيد بن جذعان ، القرشي ، التيمي ، أبو الحسين البصري (انظر تهذيب الكمال 20 : 434 ، سير أعلام النبلاء 5 : 206 ، تهذيب التهذيب 7 : 322) وغيرها من المصادر.
(7) لعله البصري (انظر تهذيب الكمال 32 : 463 ، تهذيب التهذيب 11 : 424 ، والطبقات الكبرى لابن سعد 7 : 222).
(8) شرح معاني الآثار 1 : 40.

(158)

المناقشة
1 ـ عبد الوارث ، وثّقة غير واحد من أئمة أهل العلم ، إلا أنه كان يرى القدر ويظهره (1).
وقال الذهبي ، قال يزيد بن زريع : من أتى مجلس عبد الوارث فلا يقربني (2) ، وقال أيضاً : (... قدري متعصب ...) (3) .
وقال الساجي : الذي وضع منه القدر فقط (4) ، وقال أيضاً : كان صدوقاً متقناً ، ذم لبدعته (5).
وقال عبد الله : لو لا الرأي لم يكن به بأس (6).
وقد ذكره البخاري في ضعفائه الصغير (7) ، والعقيلي في ضعفائه الكبير (8).
2 ـ وأما علي بن زيد فهو ممن لا يحتج به على ما هو صريح كلام الأعلام :
قال ابن سعد : ولد أعمى ، كان كثير الحديث ، وفيه ضعف ، ولا يحتج به (9).
وقال أحمد بن حنبل : ليس بالقوي (10) ، وقال أيضاً : ليس بشيء (11) ، وقال ثالثةً : ضعيف الحديث (12).
وقال عثمان بن سعيد الدارمي ، عن يحيى بن معين : ليس بذلك القوي (13).
وقال معاوية بن صالح ، عن يحيى بن معين : ضعيف (14).
____________
(1) تهذيب التهذيب 6 : 443.
(2 ـ 3) ميزان الأعتدال 2 : الترجمة 7 : 53.
(4 ـ 6) تهذيب التهذيب 6 : 443.
(7) ضعفاء البخاري الصغير : الترجمة 240.
(8) الضعفاء ، للعقيلي 3 : 98.
(9) الطبقات الكبرى لابن سعد 7 : 252.
(10) الجرح والتهديل 6 : الترجمة 1021 ، وتهذيب الكمال
(11) الكامل في الضعفاء 5 : 196.
(12) تهذيب الكمال 20 : 437.
(13) تهذيب الكمال 20 : 438 عن تاريخ الدارمي الترجمة 473.
(14) تهذيب الكمال 20 : 438 عن الضعفاء الكبير للعقيلي 3 : 231.

(159)

وقال النسائي : ضعيف (1).
وقال الجوزجاني : واهي الحديث ، ضعيف ، فيه ميل عن القصد ، لا يحتج بحديثه (2).
وقال العجلي : يكتب حديثه وليس بالقوي (3).
وعن ابن معين أيضاً : إنه ليس بحجة (4).
وقال أبو زرعة : ليس بالقوي (5).
وقال أبو بكر بن خزيمة : لا أحتج به لسوء حفظه (6).
وقال سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد : حدثنا علي بن زيد ، وكان يقلب الأحاديث (7).
إلى أقوال أخرى مثل هذه.
وهذه الأقوال صارفة عن الأخذ بكلامه والاحتجاج به.
3 ـ وأما يوسف بن مهران ، فلعله مجهول الحال غير معروف (8) ، لكن أبا زرعه (9) وابن سعد وثقاه ، وجعله الأخير في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال عنه : كان ثقة قليل الحديث (10).
وقال ابن حجر : لين الحديث (11).
ومهما يكن من شيء فإن هذا الطريق لا يمكن تصحيحه بحال لضعفه بعلي بن زيد !.
____________
(1) تهذيب الكمال 20 : 439.
(2) تهذيب الكمال 20 : 438 ، عن أحوال الرجال الترجمة 185.
(3) تهذيب الكمال 20 : 428 ، عن ثقات العجلي الورقة 40.
(4) تهذيب الكمال 20 : 428 ، عن تاريخ الدوري 2 : 417.
(5) الجرح والتعديل 6 : الترجمة 1021 ، تهذيب الكمال 20 : 439.
(6) تهذيب الكمال 20 : 439.
(7) الضعفاء الكبير للعقيلي 3 : 232.
(8 ـ 9) حسبما نقله أبي الحسن الميموني عن أحمد بن حنبل فيه (انظر تهذيب الكمال 20 : 463).
(10) الطبقات الكبرى 7 : 222 ، تهذيب الكمال 20 : 464.
(11) تقريب التهذيب 2 : 383.

(160)

الإسناد الخامس
أخرج الطحاوي بسنده إلى عبد الوارث بن سعيد ، ووهيب بن خالد (1) ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك (2).

المناقشة
في هذا الطريق وهيب بن خالد الذي وثقه أهل العلم وروت له الجماعة ، أنه تغير بأخرة (3) ؛ ولعل سماعة من الحذاء كان بعد تغيره !
____________
(1) وهو وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي ، مولاهم ، أبو بكر البصري ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 31 : 164 ، سير أعلام النبلاء 8 : 198 ، تهذيب 11 : 169) وغيرها من المصادر.
(2) شرح معاني الآثار 1 : 40.
(3) تقريب التهذيب 2 : 329.

(161)

البحث السندي
لخبر رجوع ابن عباس إلى الغسل
هذه هي مجوعة من الأسانيد التي تمسك بها المستدل على رجوع ابن عباس إلى الغسل (1) ، وهي غير كافية لإثبات الدعوى ؛ لعدم إمكان الاعتماد عليها سنداً ودلالة.
أما سنداً ، فإن هذه الطرق تنتهي إلى طريقين :
الأول منهما : هو ما وقع في طريق الطحاوي إلى ابن عباس ، والذي رواه (عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران) وهؤلاء الثلاثة متكلم فيهم ، خصوصاً علي بن زيد الضعيف ، ولا أحسب أن أحداً احتج بروايةٍ فيها علي هذا ، أضف إلى ذلك أن ابن كثير أخرج الرواية في تفسيره بنحو آخر وهو : حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) قال : هو المسح . وهذا النص في تفسير ابن كثير يسقط خبر الغسل عن الحجية والاعتبار لمعارضته لها.
وعلى كل حال ، فالطريق الأول ضعيف لا يمكن الاحتجاج به كما عرفت.
وأما الطريق الثاني : وهو الذي رواه خالد عن عكرمة عن ابن عباس (2) ، فإن خالداً فيه شيء ـ كما مر عليك من غمز شعبة له وتكلمه فيه ـ بل تخوفه من أن يذكر معه في روايةٍ ما عند أهل البصرة الذين لا يعتبرونه ولا يأخذون بما يرويه . وقد عرفت إن إعراض أهل البصرة عنه ليس لمجرد سوء حفظه بل لأمور أخرى قد عرفت بعضها ؛ لأن سوء الحفظ لوحده لا يوجب الإعراض عنه ، فأهل البصرة قد حدثوا عن عدد كثير ممن تكلم في حفظهم وضبطهم من الرواة !!
____________
(1) وحكي مثلها من صحابه آخرين.
(2) والذي وقع في الطرق الثلاث الأول.

(162)

وكذلك لا يختص الإعراض عنه بمجرد كونه يلي بعض أمور السلطان ، فهذا الزهري ـ وكثير غيره من كبار المحدثين ـ كانوا ممن يلي للسلطان بعض الاعمال مع أن الصحاح مشحونة بمروياتهم!
فالمعقول أن يقال هنا : أن خالداً كان غير محمود السيرة مع الناس ، بمعنى أنه كان يظلم من تولى عليهم ، في أنفسهم وأموالهم أو يقهرهم على ما لا يريدونه ، وهذا هو الجرح المتصور لمن يلي للسلطان بعض أعماله . وعليه فالاحتجاج بخالد لا يخلوا من مجازفات شديدة.
والحاصل : فإن من يدعي رجوع ابن عباس إلى الغسل ليس لديه سوى هذين الطريقين ، وكلاهما غير معتمد عليه سنداً حسبما عرفت.


(163)

البحث الدلالي
لخبر رجوع ابن عباس إلى الغسل
بعد أن عرفت عدم إمكان الاحتجاج بهذه المرويات سنداً ، لابد من القول بأن الاحتجاج بمتونها أشد إشكالاً ، لعدة أمور :
الاولى : إن النصوص الحاكية لرجوع بعض الصحابة والتابعين ـ كعبد الله ابن عباس وابن مسعود وعروة بن الزبير (1) ـ إلى الغسل ، أو إرجاعهم الأمر ـ في قوله تعالى ( وأرجلكم إلى الكعبين ) ـ إلى الغسل ؛ ـ لكون المعنى فيه ـ حسب تأويلهم ـ على التقديم والتأخير (2) ـ ، أنها اقوال واستنتاجات للرواة ولم يصرح احد من اولئك بذلك ، بل حكى عكسه (أي المسح) عن عروة بن الزبير (3) !!
ولو ثبت رجوع ابن عباس مثلاً إلى الغسل وصح لتهادت إليه آذان المحدثين وتناقلته عنه ، ولحدث عنه ذلك تلامذته ، ولجاء ـ هذا التصريح ـ في ألسن المتشرعة كما جاء تصريحه صلى الله عليه وآله بالمسح.
والثابت أن هذا الاستنتاج لا يمكنه أن يعارض الثابت المحفوظ عن ابن عباس في المسح سيرةً وقولاً ؛ لكون الرجوع دعوى محضة لا دليل عليها.
الثانية : عرفنا سابقاً أن النصوص الحاكية لرجوع ابن عباس هي دعاوي للرواة ، فنتساءل الان من هو المدعي ؟
أهو عكرمة ؟
وهذا غير معقول ، لأنه كان من الدعاة إلى المسح والذابين عنه إلى آخر حياته ؟
____________
(1) انظر صحيح ابن خزيمة 1 : 85 رقم (128)
(2) انظر صحيح ابن خزيمة 1 : 85 رقم (128)
(3) انظر شرح معاني الآثار 1 : 35|162.

(164)

ولو صح صدور الغسل عن ابن عباس ، فلم لا يرجع عكرمة إليه رغم قربه من ابن عباس ؟!!
أم هو يوسف بن مهران ‎؟ الذي أخرج له ابن كثير عن ابن عباس عكس خبر الرجوع ، حيث قال في قوله تعالى (أرجلكم) : هو المسح.
أم هو عمرو بن دينار ؟ الذي روى خبر المسح عن ابن عباس كذلك ـ كما مر في الصحفات السابقة ، أم غيرهم ؟!
فثبوت النصوص المسحية عن هؤلاء ، والسيرة العملية عن ابن عباس فيه ، تشككنا في قبول القول بالرجوع ، وذهابه إلى الغسل.
الثالثة : المعروف عن ابن عباس كونه من بني هاشم ، ومن أهل البيت ، ومن المقربين للرسول ، حتى كان من أمره أنه يبيت مع النبي صلى الله عليه وآله في بيته في غرفة واحدة ـ لكون زوجة الرسول ميمون بنت الحرث الهلالية هي خالته ـ وقد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله نافلة الليل (1) وصلواته الأخرى ، فلا يعقل أن لا يعرف مثل هذا الوضوء حتى يجتهد فيه في أخريات حياته فيرجع إلى الغسل ـ بسبب قراءةٍ ، المفروض أنه كان قد سمعها من النبي صلى الله عليه وآله من ذي قبل ، وعرف دلالتها ـ فالوضوء إذن مسألة من المسائل التي فهمها ابن عباس وأدركها حق الإدراك باعتباره أمراً عملياً فعله النبي صلى الله عليه وآله بمرأى ومسمع منه ، ولم يكن بالشيء الخافي والمبهم الذي يمكن إكثار وجوه التفسير والتأويل فيه.
نعم ، قد أدركه ابن عباس بحسه ، ورآه بعينه ، ووعاه بقبله ، لأنه ليس حديثاً أو كلاماً يحتمل فيه سوء الفهم أو الاختلاف في الدلالة.
ومعنى كلامنا : أن ما قاله ابن عباس لا يمكن تصور الاجتهاد فيه ؛ لأنه كاشف عن يقينه بما قاله وأنه مستند إلى العلم لا الظن والتخمين ؛ لوقوفه على أن حكم
____________
(1) صحيح البخاري : 1 : 57 ، صحيح ابن خزيمة 1 : 66 ، سنن ابن ماجه 1 : 147 وفيه (فقام النبي فتوضأ من شنه وضوءاً يقلله)

(165)

الارجل في القرآن والسنة النبوية هو المسح ، لكن الناس أبوا غير ذلك ؛ لقوله (أبي الناس إلا الغسل ...) وإن هذا الإباء أخذ شكله المتكامل في آخر عهد معاوية وما بعده حسبما وضحناه في مدخل الدراسة.
والذي نميل إليه هنا من القول هو : أن خالد بن مهران الحذاء هو الذي قال ذلك لا تحاد غالب أسانيد رجوع ابن عباس عنده.
الرابعة : المدقق في هذه المرويات يرى أن نسبة الرجوع إلى الغسل هي اجتهادية محضة من الرواة لا أنها نقل لكلام ابن عباس ، فإنهم استوحوا الرجوع ، من قراءة ابن عباس (وأرجلكم) بالنصب ، لكون الأمر فيه يرجع إلى الغسل ، فتصير معطوفة على الوجوه والأيدي لا على الرؤوس.
والمعلوم أن كلمة (يعني) و(عاد) ـ من الرواة ـ تستعمل للاستنتاجات الحدسية التي يمكن أن تصيب كما يمكنها أن تخطىء.
فإذا كان الأمر كذلك ، فمن السخافة أن يستدل أحد على رجوع ابن عباس إلى الغسل بواسطة اجتهاد راوٍ يخطىء ويصيب ، قد فهم الغسل من قراءة النصب ، والتي هي محل للبحث والمناقشة عند الأعلام.
الخامسة : لا ملازمة بين قراءة النصب والغسل ، ولا بين قراءة الجر والمسح ، فأما أولاً : فلأن أغلب أساطين المحققين من المفسرين قد ذكروا أن الىية دالة بنفسها على المسح سواء قرئت بالنصب أو الجر وهذا يخالف ما ادعوه في فهم القراءة ، وسيأتي توضيح ذلك في بحث دعاوى وردود من هذا القسم من الدراسة ، وفي البحث القرآني « الوضوء في الكتاب واللغة ».
وأما ثانياً : فلأن كثيراً من القائلين بالغسل قد اعترفوا بأن المسح حكم قد افترضه الله في كتابه ، لكنهم في الوقت نفسه يقولون : إلا أنه نسخ ، وفي نقل آخر عنهم : (إلا أن السنة جاءت بالغسل) ، وهذا الفهم منهم يرشدنا إلى أنهم لا يشككون بتواتر القراءتين ـ النصب والجر ـ ومعنى كلامهم هو صحة القراءتين ، وهذا صريح في نفي الملازمة بين الغسل أو المسح ، وبين القراءتين المذكورتين.


(166)

فجمهور أهل السنة يقرؤون بهما جميعاً ، مع أنهم يغسلون الأقدام ، ومثله موقف الشيعة الإمامية ، فإنهم يقرؤون بهما مع أنهم يمسحون الأقدام.
ولا يخفى عليك أن الذي أوردناه هنا من قولهم بالنسخ ، أو أن السنة جاءت بالغسل !! إنما هو نقض عليهم لا التزام منا به ، لأننا سنثبت عدم إمكانية نسخ الكتاب بخبر الواحد في آخر هذا القسم :
فتلخص من كل ما ذكرنا أن الروايات المدعية لرجوع ابن عباس إلى الغسل غير ناهضة بالمدعى سنداً أو متناً ، ـ في إثبات ذلك عن ابن عباس ـ ، هذا إذا لاحظناها بنفسها ، ولو وضعناها بجانب الثابت والمحفوظ عن ابن عباس كانت النتيجة هو بعد هذا الادعاء عن الصواب بعد الأرض عن السماء.
مضافاً إلى ما تقدمت الإشارة إليه من أن ادعاء رجوعه فرع ثبوت المسح عنه ، فيبقى المسح ثابتاً قطعياً ، والرجوع دعوى بلا دليل.