فهذه النصوص قد وضحت لنا بأن الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي جمع الناس على الأربع ، رغم إرشاد الصحابة له بأن النبي صلى الله عليه وآله كبر سبعاً وخمساً وأربعاً ، فلا غرابة بعد هذا أن تنسب الأربع إلى أعيان الصحابة كابن عباس وزيد بن أرقم دعماً لموقفه !!
فقد نقل عن زيد بن أرقم وابن عباس وغيرهم قولان (الاربع والخمس ،) ، وبما أن النقل الأول (أي الأربع) يخاف ما جاء عنهم بطرق صحيحة أخرى ، وكان مما يفيد رأي الحليفة ، فنحن نرجح صحة الثاني عنهما ؛ لكونه من مذهبهما ، وهو مال يرتضيه نهج الاجتهاد والرأي ـ الحاكم على الفقه والحديث آنذاك ـ !!
فقد أخرج أحمد في مسنده عن عبد الأعلى ، قال : صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمساً ، فقام إليه أبو عيسى ـ عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ فأخذ بيده ، فقال : نسيت ؟ قال : لا ، ولكني صليت خلف أبي القاسم خليلي فكبر خمساً ، فلا أتركها أبداً (1).
وفي كلام زيد بن أرقم إشارة إلى عدم ارتضائه مذهب عبد الرحمن بن أبي ليلى المستمد عن فقه عمر بن الخطاب ، لأنه قد أصر على إتيان الخمس رغم أخذ ابن أبي ليلى ـ فقيه الدولة ـ بيده وقوله له :
نسيت.
فقال له : لا ، ولكني صليت خلف أبي القاسم ، خليلي ، فكبر خمساً فلا اتركها ابداً.
ففي الجملة الآنفة عدة نكات : اولها : قوله (لا) . ثانيها : صليت خلف أبي القاسم . ثالثها : فلا اتركها ابداً ، فتأمل جيداً في هذه المقاطع !!
وبعد هذا فلايصح انتساب الاربع لزيد بن ارقم مع وجود نقل الخمس عنه كذلك !.
ومثل ما نقل عن زيد هو النقل المنسوب إلى ابن عباس ، فالمعروف عن الطالبيين هو تكبيرهم على الميت خمساً ، وعدم ارتضائهم الأربع ، إذ جاء في مقاتل
_______________
(1) مسند أحمد 4 : 370 ، شرح معاني الآثار 1 : 494|2827.
(183)
الطالبيين : حدثني يحيى بن علي وغير واحد ، قالوا : حدثنا عمر بن شبه ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن أبي الكرام الجعفري ، قال :
صلى إبراهيم بن عبد الله بن الحسن على جنازة بالبصرة ، فكبر عليها أربعاً.
فقال له عيسى بن زيد : لم نقصت واحدة ، وقد عرفت تكبيرة أهلك ؟
قال : إن هذا أجمع للناس ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله تعالى ، ففارقه عيسى واعتزله ، وبلغ أبا جعفر [ المنصور ] فأرسل إلى عيسى يسأله أن يخذل الزيدية عن إبراهيم (1).
وجاء في مسند زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده علي (رضي الله عنهم) في الصلاة على الميت ، قال : تبدأ في التكبيرة الأولى بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ، وفي الثانية : الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله ، وفي الثالثة : الدعاء لنفسك والمؤمنين والمؤمنات ، وفي الرابعة : الدعاء للميت والاستغفار له ، وفي الخامسة تكبر وتسلم (2).
وجاء عن أئمة أهل البيت مثله (3).
فاتحاد موقف إبراهيم بن عبد الله ـ إذ قرر أن المفروض خمس تكبيرات لكنه ترك واحدة لجمع الناس ، وهو من ولد الحسن بن علي ـ وعيسى بن زيد وزيد ابن علي والباقر والصادق ـ وهم من ولد الحسين ـ ينبئ عن وحدة الفقه عندهم ، وأن مذهب علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهم من الطالبيين هو الخمس لا غير ، وقد قدمنا لك (4) أن فقه الطالبيين حسنيين كانوا أم حسينيّين هو واحد.
ونختم حديثنا بقضية منع الشيخين لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله ، مع بياننا لبعض ملابساته مع شيء من التفصيل ؛ لكون المعارضين لعثمان في الوضوء هم من المحدثين !!
إذ جاء عن الخليفة أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم ونهاهم عن التحديث بقوله : (فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله
_______________
(1) مقاتل الطالبيين : 335 و408 إلى 413.
(2) مسند الامام زيد : 149.
(3) الكافي 3 : 181|3 و183|2 و184|2 ـ 3 و185|6 والتهذيب 3 : 189|431 ، 191|435 ، 193|440.
(4) في مدخل الدراسة تحت عنوان : وحدة المرويات عند العلويين.
(184)
فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه) (1) ، وقد حرق بالفعل مدونته الحديثية والتي كانت خمسمائة حديثاً (2).
ومثله كان فعل الخليفة عمر بن الخطاب ، فإنه لما بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، استنكرهها وكرهها وقال : أيها الناس !! إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلا أتاني به ، فأرى فيه رأيي.
فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمرٍ لا يكون فيه أختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب (3).
وروي عن يحيى بن جعدة : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ، ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (4).
وقد كان عمر بن الخطاب قد استشار الصحابة في تدوين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله « فأشاروا عليه بأن يكتبها ، فطفق يستخير الله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له ، فقال : إني كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها ، فتركوا كتاب الله تعالى ،
وإني لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً » (5).
فهذه النصوص تؤكد على أن مذهب الشيخين كان هو النهي عن تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله لأسباب ذكرناها في كتابنا (منع تدوين الحديث) ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد أخبر بوقوع هذا الأمر من بعده بقوله (يوشك) الذي هو من أفعال المقاربة ، وقد تحقق بالفعل من بعده حيث أخرج أحمد في مسنده وابن ماجة وأبو داود والدارمي والبيهقي في سننهم : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : (يوشك الرجل متكئ على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدناه فيه من حلال
_______________
(1) تذكرة الحفاظ 1 : 2 ـ 3 ، حجية السنة : 394.
(2) تذكرة الحفاظ 1 : 5 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1 : 30 ، حجية السنة : 394.
(3) حجية السنة : 395 ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد 1 : 140 (مثناة كمثناة أهل الكتاب).
(4) تقييد العلم : 53 ، حجية السنة : 395.
(5) تقييد العلم : 49 ، حجية السنة : 395 عن البيهقي في المدخل وابن عبد البر.
(185)
أحللناه ومن حرام حرمناه) (1) وهذا بعينه ما قاله الخليفة ابو بكر بعد وفاة رسول الله.
نعم ، إن نهج الاجتهاد والرأى ـ وتصحيحاً لما ذهب إليه الشيخان ـ نسب كراهة التدوين إلى بعض أعيان الصحابة كابن عباس (2) وابن مسعود (3) وغيرهم ، لكن المراجع لسيرتهم ومواقفتهم يعرف سقم هذه النسبة إليهم . وأن اختلاف النقل عنهم يشير إلى هذه الحقيقة المرة.
فقد أخرج الخطيب بسنده إلى أبي رافع ، كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول : ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم كذا ؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم كذا ؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها (4).
وعن ابن عباس قوله : (قيدوا العلم ، وتقييده كتابته) (5) ، وفي آخر : (خير ما قيد به العلم الكتاب) (6) ، وفي ثالث : (قيدوا العلم بالكتاب ، من يشتري مني علماً بدرهم) (7) .
وعن معن ، قال : أخرج لي عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتاباً وحلف لي أنه خط أبيه بيده (8).
فالنصوص توضح أن ابن عباس وابن مسعود كانا من المدونين والمحدثين ، ولو راجعت كتابنا (منع تدوين الحديث) لوقفت على هذه الحقيقة.
فمما احتمل في ادعاء نهي عبد الله بن مسعود ومحوه لبعض الصحف ، ـ على تقدير صدورها عنه ـ هو لكونها قد أخذت من أهل الكتاب ، فلذاكره عبد الله النظر فيها ،
_______________
(1) مسند أحمد 4 : 133 ، سنن ابن ماجة 1 : 6|12 ، سنن أبي داود 4 : 200|4604 ، السنن الكبرى للبيهقي 9 : 331 ، دلائل النبوة 1 : 25 ، 6 : 549 ، الإحكام لابن حزم 2 : 161 ، الكفاية في علم الدراية : 9.
(2) تقييد العلم : 43.
(3) تقييد العلم : 38 ،53.
(4) تقييد العلم : 92.
(5) تقييد العلم : 92.
(6) تقييد العلم : 92.
(7) تقييد العلم : 92.
(8) جامع بيان العلم وفضله 11 : 72.
(186)
وهذا هو ما قاله ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1).
والحقيقة هي أن النهي عن تدوين الحديث هو مما شرعه الشيخان ، وكان مما يؤرق أنصارهم ويؤذيهم ، إذ كيف يمكن فرض الحصار على حديث رسول الله وهو صلى الله عليه وآله المبين لأحكام الله ؟
فمن أجل رفع هذا التنافي وضعوا أولاً أحاديث دالة على نهي رسول الله صلى الله عليه وآله عن كتابة حديثه ، ثم تشكيكهم بنسبة تلك النصوص الدالة على نهي الشيخين لحديث رسول الله . واخيراً نقل أقوال عن الخليفة الثاني دالة على لزوم الكتابة ، كقوله : (قيدوا العلم بالكتاب) (2) !!.
فالحضر على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ومنع الكتابة هو مما لا يقبله أحد ، فما جاء عن زيد بن ثابت قوله : ان رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه ، يخالف ما نقل عنه ، وكتابته للفرائض !!
قال جعفر بن برقان : سمعت الزهري يقول : لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس (3).
وقال ابن خير : كتاب الفرائض لزيد بن ثابت رحمه الله حدثني به ابو بكر ... عن خارجه بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت (4) . وقال الدكتور الاعظمي : ولا تزال مقدمة هذا الكتاب محفوظة في المعجم الكبير للطبراني (5).
وعن كثير بن أفلح : كنا نكتب عن زيد بن ثابت ...) (6) وروى قتادة عن كثير بن الصلت أنهم يكتبون عند زيد (7).
ومثله الحال بالنسبة إلى أبي سعيد الخدري ، فلو صح أن الخدري روى عن
_______________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1 : 77.
(2) تقييد العلم : 88.
(3) سير اعلام النبلاء 2 : 312 ، تاريخ دمشق لابن عساكر 5 : 448 كما جاء في هامش تقييد العلم : 99.
(4) فهرست ابن خير الاشبيلي : 263 كما في الدراسات 1 : 109.
(5) دراسات في الحديث النبوي 1 : 109.
(6) تقييد العلم : 102.
(7) تاريخ ابن أبي خيثمة 3 : 6 ب كما في دراسات الحديث النبوي 1 : 109.
(187)
النبي صلى الله عليه وآله قوله : لا تكتبوا عني إلا القرآن فمن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه (1) ، فكيف نراه يقول : ما كنا نكتب شيئاً غير التشهد والقرآن ؟! ، وفي آخر عن ابن مسعود : والاستخارة (2) . وهما غير القرآن ؟!
وجاء عنه قوله لأبي نضرة بانه سيكتب إلى ابن عباس أن لا يفتيه في مسألة الصرف (3) ، وهذان يشيران إلى كتابته غير القرآن.
وأما روايات أبي هريرة الناهية (4) فيعارضها قوله للحسن بن عمروبن أمية الضمري ؛ إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي ، فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتباً كثيرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ، فوجد ذلك الحديث ، فقال : قد أخبرتك إن كنت حدثتك به فهو مكتوب عندي (5).
وقول بشير بن نهيك : كنت آتي أبا هريرة فآخذ منه الكتب ، فأنسخها ، ثم أقرأها عليه ، فأقول : هل سمعتها منك ؟ فيقول : نعم (6).
وقد كتب عن ابي هريره مضافاً إلى بشير بن نهيك ، أبي صالح السمان (7) وسعيد المضري (8) وعبد العزيز بن مروان (9) ، وهمام بن منبه (10) ، وعبد الله
_______________
(1) صحيح مسلم : كتاب الزهد باب (16) التثبت في الحديث ح 72 ، مسند أحمد 3 : 21 و39 ، سنن الدارمي 1 : 98 رقم 456 ، تقييد العلم : 30 ـ 31.
(2) تقييد العلم : 93.
(3) مسند أحمد 3 : 60 صحيح مسلم المساقاة : 99.
(4) تقييد العلم : 33 ـ 35 ، مسند أحمد 3 : 12..
(5) جامع بيان العلم وفضله 1 : 74 فتح الباري 1 : 215 ط السلفية ، المستدرك للحاكم 3 : 511 وعلق عليه الذهبي بقوله : هذا منكر لم يصح.
(6) شرح العلل لابن رجب كما في دراسات في الحديث النبوي 1 : 97.
(7) الموضوعات لابن الجوزي 1 : 34 ، هدى الساري 1 : 23 ، مسند علي بن الجعد : 80 كما في الدراسات.
(8) تهذيب التهذيب 9 : 342.
(9) الطبقات الكبرى لابن سعد 7|2 : 157.
(10) طبعت هذه الصحيفة بتحقق الدكتور محمد حميد الله وترجمت إلى الانجليزيه كذلك انظر الدراسات 1 : 99.
(188)
ابن هرمز (1) ومروان بن الحكم (2) ومحمد بن سيرين (3) وعبيدالله ابن وهب القرشي (4) وعقبة بن أبي الحسناء (5).
كل هذه النصوص توضح بأن أمر التدوين كان جائزاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لم يحظر من قبله صلى الله عليه وآله ، بل كان النهي قراراً من الشيخين ، لقول الراوي (بداله) و(أراد) و(ثم كتب في الأمصار) وغير ذلك من العبائر الدالة على إرادته الخاصة ورغبته الشخصية.
وإذا كان الأمر كذلك فلابد من الوقوف عند أحاديث النهي الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله لمخالفتها لروح التشريع الإسلامي الدالة على كسب العلم والحاضة على الكتابة بقوله تعالى (فاكتبوه ولا تسئموا أن تكتبوه) و(الذي علم بالقلم) و ...
وعليه ، فيمكن عد أحد أسباب اختلاف النقل عن الصحابي الواحد هو محاولة النهج الحاكم ارجاع احد قولي الصحابي إلى ما قاله الخلفاء وشرعوه من احكام ، ولا يختص مدعانا هذا بما شرعه الشيخان ، بل يمكن تعميمه إلى غيرهما من الخلفاء ، كعثمان ومعاوية و... وحتى لعائشة ولابي هريره وغيرهم من أئمة الفقه الحاكم.
ونحن لو جمعنا هذه المفردات من كتب الفقه والحديث والتفسير لصار مجلداً ضخماً ، يوضح مسار انحراف كمٍّ ضخم من الأحكام الشرعية التي يعمل عليها كثير من المسلمين اليوم ، وهو ما نحيله على أصحاب الفكر والقلم لدراسته والكتابة فيه.
وبهذا ، فقد عرفنا وجود اتجاهين ، أحدهما يدافع عن قرارات الخليفة ويطلب لكلامه عذراً ، والآخر يصر على الأخذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وما جاء به الوحي لا غير . وقد سمينا سابقاً الاتجاه الأول بأصحاب الرأي والاجتهاد ، والثاني بالتعبد المحض ، وقد كان هذان الاتجاهان على تخالف وتضاد ، فما يذهب اليه الأول ينفيه الثاني لعدم تطابقه مع القرآن والسنة النبوية ، وما كان يذهب اليه الثاني لا يعمل به الأول لمخالفته
_______________
(1) مسند أحمد 2 : 531.
(2) سير اعلام النبلاء 2 : 431 ـ 432 ، البداية والنهاية 8 : 106.
(3) تاريخ الفسوي 3 : 14 ب ، الاملاء 173 ، الجامع كما في الدراسات 1 : 99.
(4) المجروحين 250 ب ، انظر ايضاً تهذيب التهذيب 11 : 253 كما في الدراسات 1 : 98.
(5) الميزان 3 : 85.
(189)
لاجتهاده ورأيه ، وقد مر عليك قبل قليل كلام الخليفة الأول (إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً) وقول عمر بن الخطاب (فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى فيه رأي).
فهذه النصوص توضح بأن الشيخين لم يرتضيا التدوين والتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأن الناس قد كرهوا التدوين ؛ لكراهة الشيخين له ، ثم أحبوه لحب عمر بن عبد العزيز له ، فقال الزهري : (كنا نكره التدوين حتى أكرهنا السلطان ـ ويعني به عمر بن عبد العزيز ـ على ذلك و...)
فالنهي إذاً لم يكن نهياً شرعياً عن رسول الله ، بل الاتجاه الفقهي للاجتهاد والرأي في الأزمنة اللاحقة هو الذي أراد تحديد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله بما عمل به في عهد أبي بكر وعمر لا غير.
فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ومسند أحمد : أن محمود بن لبيد قال سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحل لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (1).
وعن معاوية قوله : أيها الناس ! أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، إن كنتم تحدثون فحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر (2).
وفي رواية ابن عساكر : إياكم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا حديثاً ذكر على عهد عمر (3).
وهذه النصوص ـ عن هؤلاء الخلفاء ـ تؤكد مدعانا ، حيث ترى عثمان ومعاوية يؤكدان على عدم جواز نقل حديث لم يسمع به على عهد أبي بكر وعمر ، وهذا معناه إقرارهم لما شرع وعمل به في عهدهما والنهي عما نهيا عنه دون النظر إلى أصل الحديث صحة وسقماً ، وصدوره عن النبي.
والباحث في الفقه الإسلامي يوافقنا فيما قلناه لأنه غالباً ما يرى أن الفقه
_______________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2 : 336 ، وعنه في السنة قبل التدوين : 97.
(2) كنز العمال 1 : 291.
(3) تاريخ دمشق 3 : 160.
(190)
المطلوب والحديث المسموح به هو ما يوافق الاتجاه الحاكم « نهج الاجتهاد والرأي » لا غير ، فلو بحثت عما شرعه الخليفة عمر بن الخطاب أو نهى عنه مثلاً لرأيته مدوناً موجوداً في كتب الفقه والحديث ويعمل به اليوم طائفة من المسلمين ، وأما الفقه الآخر فلا ترى له عين ولا أثر على الصعيد العملي ، وقد مرت عليك بعض المفردات الفقهية والتي كان وراءها الخليفة عمر ، فترى ما شرعه عمر وأئمة الفقه الحاكم هو الشرعي ، وما نهى عنه هو المنهي عنه اليوم ، كالنهي عن المتعة ، ومشروعية صلاة التراويح ، والنهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر ، والقول بالمسح على الخفين ، وتربيع التكبيرات على الميت ، والنهي عن تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ، فتراها كما قالها عمر بن الخطاب من ناحية ، وملقاة على عواتق آخرين من ناحية أخرى.
نعم ، إن نهج التعبد المحض لم يستسلموا لقررات الخليفة وما شرعه وطبق الرأي فيه ، بل جدوا لتطبيق ما سنه الله ورسوله ، فترى علياً لا يرتضي الشرط الإضافي الذي أقحم متأخراً في الشريعة ـ يوم الشورى ـ من قبل عبد الرحمن بن عوف.
إذ جاء في التاريخ أن عبد الرحمن بن عوف قال لعلي : يا علي ، هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال علي : أما كتاب الله وسنة نبيه فنعم ، وأما سيرة الشيخين فلا.
فعلي لم يرتض الشرط الأخير ، ومعنى كلامه تخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله مع سيرتهما ـ على أقل تقدير من وجه نظر الإمام علي ـ لأنهما ـ [ أي السنة وسيرتهما ] لو كانتا متحدتين للزم عبد الرحمن أن يعطي الخلافة لعلي ؛ لعدم وجود شيء في سيرة الشيخين يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وما نزل به الوحي ، أو للزم علي الأخذ بسيرتهما ، ولما لم يسلم عبد الرحمن الخلافة ، علمنا أن هناك تنافيا بينهما وأنهما ليسا بشيء واحد ؟!
إن رفض علي للشرط المذكور وامتناع ابن عوف تسليم الخلافة له ليؤكدان على مخالفة سيرة الشيخين للكتاب والسنة.
حيث إن جعل هذا القيد بجنب الكتاب والسنة ليوحي بأنه هو المطلوب من العملية كلها ، لعدم اختلاف أحد في حجية الكتاب والسنة ، وأما حجية فعل الشيخين فهو المختلف فيه ، فإن قرار عمر وابن عوف بلزوم حسم القضية في ثلاثة أيام مع
(191)
حتمية موافقتهم على اجتهادات الشيخين ليشير إلى هذه الحقيقة.
أن اتجاه التعبد المحض لم يكن على وفاق مع نهج الاجتهاد والرأي فكرياً ، فابن عوف يريد تطبيق ما سن على عهد الشيخين ، ورجال التعبد لا يرتضون إعطاء الشرعية لهذه الاجتهادات ؛ لمخالفة بعضها لكتاب الله وسنة نبيه ، فكانوا يخالفون تلك المواقف ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيها ، وهذه هي التي كانت تؤذي الخليفة عمر بن الخطاب ، ولما ظهرت الأحاديث بيد الناس دعاهم عنده وقال لهم : (انكم أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله) أو قوله (افشيتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله) ثم أمرهم بالبقاء عنده حتى أصيب.
فانصار التعبد المحض كانوا يحدثون حتى لو وضعت الصمصامة على أعناقهم . وقد مر عليك ما قاله الصحابي الكبير ابو ذر الغفاري في مقدمة هذا المجلد (1).
فالاتجاه الحاكم كان لا يريد أن يتحدث ابو ذر وأمثاله بالأحكام التي قد لا توافق الخليفة ؛ لأن المشهد عظيم وهو (الحج) ، والمكان ـ الجمرة الوسطى ـ أكثرما يجتمع فيه الحجيج ، لكونه مجمع الصاعد منهم إلى العقبة ، والهابط إلى الجمرة الصغرى ، فكلام أبي ذر في هذا المشهد واجتماع الناس عليه يستفتونه هو ما لا يرضي الخلفاء ، وقد نهى عمر وعثمان ابا ذر عن هذا سابقاً وأن المعترض ذكره بقوله (ألم تنه).
فقد يكون النهي السابق هو إشارة إلى ما أخرجه الحاكم بسنده عن إبراهيم : إن عمر قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء : ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى اصيب (2).
ففي جملة (ما هذا الحديث) أو قوله في نص آخر (إنكم أفشيتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله) وفي ثالث (أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله) إشارة إلى أنه كان يرى في الإفشاء والإكثار ونقل الحديث ثقل المواجهة معه !
ولو تأنيت في موقف ابن عباس في التلبية لرأيته نفس موقف أبي ذر في رفض
_______________
(1) انظر صحيح البخاري 1 : 27 ، فتح الباري 18 : 170 ، سنن الدارمي 1 : 112 ، وحجية السنة وفي بعض النصوص ان المتكلم مع أبي ذر كان عثمان بن عفان.
(2) المستدرك على الصحيحين 1 : 110 ، مجمع الزوائد 1 : 149 ، قال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في ذيله على الكتاب.
(192)
الأخذ بمذهب الرأي ، فقد أخرج النسائي في المجتبى ، والبيهقي في السنن ، عن سعيد ابن جبير ؛ قال : كان ابن عباس بعرفة ، فقال : يا سعيد ، مالي لا أسمع الناس يلبون ؟
فقلت : يخافون معاوية.
فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، وإن رغم أنف معاوية ، اللهم العنهم ، فقد تركوا السنة من بغض علي (1).
وقوله في آخر : لعن الله فلاناً ، عمدوا إلى أعظم أيام الحج فمحوا زينته ، وإنما زينة الحج التلبيه (2).
فأنصار التعبد المحض لم يخضعوا إلى ما سنّة الخليفة عمر بن الخطاب من مخالفات لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وفعله ، بل إنهم كانوا يؤكدون على عدم تركهم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله لقول أحد (3) ، وفي آخر : إنها سنة أبي القاسم (4) وفي ثالث : سنة نبيكم وإن رغمتم.(5)
ونحن قد اطلنا الوقفة عند مفردة منع تدوين الحديث كي نوضح وجه الترابط ـ بل التمانع ـ بين المحدثين ، والمانعين ، فالاول يصر على التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن وضعت الصمصامة على عنقه ؛ وذلك لا يمانه بلزوم إبلاغ ما سمعه من رسول الله ، والآخر يرى لنفسه الاجتهاد قبال النص ويقول (رأى رايته) وقد عرفت سابقاً أن المخالفين لعثمان كانوا من المحدثين ، لقوله ـ كما في خبر مسلم ـ « إن ناساً يتحدثون عن رسول الله بأحاديث ، لا ادري ما هي ، الا اني ... »
بعد هذه المقدمة السريعة لابد لنا من الوقوف على موقف ابن عباس من الرأي عموماً ، ومن الخليفة عمر بن الخطاب على وجه الخصوص ، وإنه إلى أي الاتجاهين
_______________
(1) سنن النسائي (المجتبى) 5 : 253 ، السنن الكبرى للبيهقي 5 : 113 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1 : 360.
(2) مسند أحمد (1870) كما في جامع المسانيد والسنن 30 : 170.
(3) مسند أحمد 4 : 370 ، شرح معاني الآثار 1 : 494|2827 ، صحيح مسلم 2 : 899|168 شرحه للنووي 7 ـ 8 : 456.
(4) صحيح البخاري 1 : 199 كتاب الصلاة باب التكبير إذا قام من السجود ، سنن النسائي (المجتبى) 5 : 148.
(5) قاله ابن عباس انظر مسند أحمد (3181 ، 3183 ، 2013) ، جامع الاسانيد 32 : 364.
(193)
ينتمي : التعبد المحض أم الرأي والاجتهاد ؟؟ ومدى تقارب فقه ابن عباس مع فقه علي بن أبي طالب أو تخالفه معه ، وهما من الطالبيين !!
وقد مر عليك ما جاء في كنز العمال : عن إبراهيم التيمي ، وأنه قال : خلا عمر بن الخطاب ذات يوم فجعل يحدث نفسه ، فأرسل إلى ابن عباس فقال : كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ، ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟
فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل وإنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن لا يعرفون فيم نزل ، فيكون لكل قوم رأي ، فإذا كان لكل قوم رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا ، فزبره عمر وانتهره ، وانصرف ابن عباس ، ثم دعاه بعد ، فعرف الذي قال ، ثم قال : إيهاً أعد (1).
وجاء عنه تصريحه بأن الطلاق ثلاثاً لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بل هو من افتاء عمر (2) ، وإن ابن عباس كان يرى ان ذلك يقع واحداً (3). ابن عباس والخلافة
عرف عن العباس بن عبد المطلب ـ جد العباسيين ـ وابنه عبد الله أنهما كانا من المدافعين عن خلافة علي بن أبي طالب والمقرين بفضله.
لأن العباس قد تخلف عن بيعة أبي بكر ولم يشارك في اجتماع السقيفة مع جمع آخر من الصحابة ، بل بقي إلى جنب علي يجهزان رسول الله صلى الله عليه وآله حتى وري في التراب ، وإن في مواقف العباس في الشورى ـ بعد مقتل عمر بن الخطاب ـ وغيرها ما يؤكد هذه الحقيقة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى ابنه عبد الله ، فهو الآخر قد كان من المدافعين عن خلافة الإمام علي والمقرين بفضله ، وأنه هو وأولاده أحق الناس بالأمر بعد
_______________
(1) كنز العمال 2 : 333 ح 4167.
(2) رواه مسلم في الطلاق ح 17 من باب (طلاق الثلاث) والطبراني (10975) وأحمد في مسنده (2877) انظر جامع الاسانيد 30 : 512 ، 540.
(3) مسند الامام أحمد (2387) ورواه ابو يعلى (2500) واسناده صحيح ، إنظر جامع المسانيد 31 : 408 ، 419.
(194)
رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولو قرأت الحوار الذي دار بين المهدى العباسي وشريك القاضي (1) لصدقتنا فيما نقوله.
ومن ناحية أخرى نرى أن ابن عباس لم يشارك مع أبي بكر في حروبه ، وكانت له اعتراضات على مواقف أبي بكر الفقهية ، ومثل هذا كان حاله مع عمر بن الخطاب ، إذا اعترض على بعض اجتهاداته ولم يرتض أخذ القوم بتلك الاجتهادات لمخالفتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقوله لهم في المتعة : (أراهم سيهلكون أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، ويقولون قال ابو بكر وعمر).
وجاء عن عمر قوله لابن عباس يوماً : أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي ،
قال : وما هو ؟
قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منا حسداً وظلماً ... فأخذ ابن عباس يدافع عن أحقية أهل البيت بالخلافة ، ولم يتنازل لعمر ، فقال عمر له ـ عندما ذهب ـ : إني على ما كان منك لراع حقك (2).
وجاء عن ابن عباس إرادته القول لعمر لما علل سبب إبعاد علياً عن الخلافة بصغر السن : أفتستصغره أنت وصاحبك وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يبعثه في الكتيبة فينطح كبشها ... (3).
كل هذه تشير إلى تخالف ابن عباس مع رموز الخلافة فقهاً وسياسة.
نعم ، إن عمر بن الخطاب قد أعرض عن تولية بني هاشم أيام خلافته موضحاً سبب ذلك لابن عباس ـ لما أراد توليته على حمص بعد موت واليها ـ فقال له : يا ابن عباس ! إني خشيت أن يأتي عليّ الذي هو آت [ أي الموت ] وأنت على عملك ، فتقول : هلم إلينا ، ولا هلم إليكم دون غيركم (4).
_______________
(1) تاريخ بغداد 9 : 292.
(2) شرح النهج 12 : 46.
(3) الغدير 7 : 389 عن المحاظرات للراغب ، وقريب منه في شرح النهج 2 : 18 ، 20 : 185.
(4) مروج الذهب 2 : 353 ، 454.
(195)
فابن عباس في الوقت الذي لم يشارك ابا بكر في حروب الردة وعمر بن الخطاب في غزواته ، نراه يحارب في صف علي بن أبي طالب في حروبه الثلاثة ضد الناكثين (1) والقاسطين (2) والمارقين (3).
وقد اختاره الإمام علي للمحاججة مع الخوارج ، وقبله للتحكيم بين جيشه وأهل الشام ، لكن القوم لم يرتضوه !
وقد اعترض ابن عباس على عثمان ومعاوية وابن الزبير وعائشة يوم الجمل ، وجاء عنه قوله لعائشة ؛ لما لم ترض أن تدفن الإمام الحسن بن علي عند جده الرسول : يا عائشة واسوأتاه ، يوم على جمل ويوم على بغل !! هذا المعنى الذي أخذه الشاعر فخاطب عائشة قائلاً :
تجمـلـت ، تبغـلــت
*
ولو عشــت تفيلــت
لك التسـع من الثمــن
*
وبالـكل تصـرفــت
إشارة منه إلى سماحها بدفن الشيخين بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله ومنعها من دفن الحسن وهو ابن بنته ، وبهذا فقد تصرفت بأضعاف من حصتها من الإرث على القول بتوريثها منه.
هذا ، ولولا خوف الإطالة في التحقيق لتوسعنا في الموضوع ، ولكنا رأينا الرجوع إلى تقديم بعض النماذج الحية على وحدة الفقه بين علي بن أبي طالب وعبد الله ابن عباس ، ـ وأن كليهما من نهج التعبد المحض المدافع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وما نزل به الوحي ، والمخالف لنهج الاجتهاد والرأي ـ لكونه الاولى بهذا المقام. الوحدة بين علي وابن عباس
مرت عليك في الصفحات السابقة بعض المواقف الفقهية لابن عباس واتحادها مع فقه علي بن أبي طالب ، كالتلبية والمتعة ، وعدم جواز المسح على الخفين ، ولزوم
_______________
(1 ـ 3) انظر المصادر التاريخيه كالطبري وغيره.
(196)
تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله و ... ، والآن مع بيان مفردات أخرى نوضح على ضوئها استقاء النهجين من معين واحد ، ألا وهو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وليس هذا باجتهاد من قبلهم بل هو اتباع للنصوص ، وإليك بعض تلك الموارد : 1 ـ البسملة
اتفق فقه ابن عباس مع علي بن أبي طالب على جعل البسملة آية من كتاب الله ، ولزوم الجهر بها في الصلوات الجهرية.
فجاء عن ابن عباس قوله : أعقل الناس آية من كتاب الله تعالى لم تنزل على أحد سوى النبي صلى الله عليه وآله إلا أن يكون سليمان بن داود ، بسم الله الرحمن الرحيم (1).
واخرج الطبراني بسنده إلى يحيى بن حمزه الدمشقي أنه قال : صلى بنا المهدي فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقلت له في ذلك : فقال : حدثني ابي ، عن ابيه ، عن جده ، عن ابن عباس : أن رسول الله كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (2) وجاء عن أولاد علي ـ الباقر والصادق والرضا ـ قولهم : اجتمع آل محمد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (3).
وعن الباقر قوله : لا ينبغي الصلاة خلف من لا يجهر (4).
وعن السجاد قوله : اجتمعنا ولد فاطمة على ذلك (5).
هذا ، وإن الجهر بالبسملة قد عد في أخبار وفقه آل البيت من علائم المؤمن ، وهو ما يؤكد وحدة الفقه عند الطالبيين في البسملة وتخالفه مع فقه النهج الحاكم « نهج الاجتهاد والرأي » ، إذ جاء عن شعيب أنه طلب من سفيان الثوري أ، يحدثه بحديث السنة ، فقال الثوري في حديث طويل ، منه : ... اكتب ـ وعد أشياء كثيرة ـ إلى أن
_______________
(1) الدر المنثور 1 : 7 ، الاتقان 1 : 268 ، والبيهقي في شعب الايمان.
(2) في هامش جامع المسانيد 32 : 135 رواه الطبراني (10651) واسناده صحح.
(3) احكام البسملة ، للفخر الرازي : 40 ، تفسير ابي الفتوح الرازي 1 : 20 كما في مستدرك وسائل الشيعة 4 : 189 ح 5 ، دعائم الاسلام 1 : 160.
(4) احكام البسملة ، للفخر الرازي : 40.
(5) دعائم الاسلام 1 : 160.
(197)
قال : وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر (1).
نعم ، إن أبا هريرة صرح بأن الناس هم الذين تركوا البسملة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لقوله : كان رسول الله صلى الله عليه وآله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم تركه الناس (2). 2 ـ الخمس
المعروف عن ابن عباس إيمانه بكون الخمس لبني هاشم خاصة ، خلافاً للنهج الحاكم ، فمن ذلك قوله لنجدة الحروري لما سأله عن ذوي القربى ، لمن هو ؟
قال : قد كنا نقول إنا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : قريش كلها ذووا قربى (3).
وقوله في نص آخر : ... فلما قبض الله رسوله رد ابو بكر نصيب القرابة في المسلمين ، فجعل يحمل به في سبيل الله (4).
وقد جاء هذا المعنى في كلام الامام علي وفاطمة الزهراء وغيرهما من آل الرسول . فقد روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي يعلى ، قال : لقيت علياً عند أحجار الزيت ، فقلت له : بأبي أنت وأمي ، ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس ؟ ـ إلى أن يقول ـ :
قال علي : إن عمر قال : لكم حق ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم ، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم ، فأبينا عليه إلا كله ، فأبى أن يعطينا كله (5).
وقد كان عمر بن الخطاب قد قال مثل هذا الكلام لابن عباس ، وأجابه ابن عباس بمثل جواب الإمام علي بن أبي طالب.
وهذه النصوص تؤكد وحدة المواقف والفقه بين علي بن ابي طالب وابن عباس ،
_______________
(1) تحفة الاحوذي في شرح جامع الترمذي (المقدمة) : 352.
(2) احكام البسملة : 45 عن الدار قطني 1 : 307 ، والحاكم في مستدركه 1 : 232 ـ 233.
(3) تفسير الطبري 10 : 50 ، مسند أحمد 1 : 248 ، 294 ، أحكام القرآن 3 : 62 ، والأموال لأبي عبيد.
(4) تفسير الطبري 10 : 6 ، وانظر باب قسمة الخمس من أحكام القرآن للجصاص 3 : 60.
(5) السنن الكبرى للبيهقي 6 : 344 ومسند الإمام الشافعي|باب الفي.
(198)
خصوصاً في المسائل الفقهية التي ذهبت الخلافة فيها إلى غير مذهب أهل البيت ونهج التعبد. 3 ـ التكبير لكل رفع وحفض
جاء عن مطرف بن عبد الله قوله ك صليت خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنا وعمران بن الحصين فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر ، وإذا نهض من الركعتين كبر ، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن الحصين ، فقال : قد ذكرني هذا صلاة محمد أو قال : لقد صلى بنا محمد صلى الله عليه وآله (1).
وعن عكرمة قوله : صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبير ، فقلت لابن عباس : إنه أحمق !
فقال ابن عباس : ثكلتك أمك سنة أبي القاسم (2).
وفي آخر عن عكرمة قال : رأيت رجلاً يصلي في مسجد النبي ، فكان يكبر اذا سجد واذا رفع واذا خفض ، فانكرت ذلك ، فذكرته لابن عباس ؟ فقال : لا ام لك ! تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله (3).
وعن النضر بن كثير أنه قال : صلى إلى جنبي عبد الله بن طاووس في مسجد الخيف فكان إذا سجد السجدة الاولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه ، فانكرت ذلك ، فقلت لوهيب بن خالد ، فقال له وهيب بن خالد : تصنع شيئاً لم أر أحداً يصنعه ؟
فقال ابن طاووس : رأيت أبي يصنعه ، وقال أبي : رأيت ابن عباس يصنعه ، ولا أعلم إلا أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وآله يصنعه (4) _______________
(1) اخرجه البخاري في صحيحه 1 : 209 ، ومسلم 1 : 295|33 ، أبي داود 1 : 221|835 ، النسائي (المجتبى) 2 : 204 مسند أحمد 4 : 428 ، 429 ، 444.
(2) صحيح البخاري 1 : 199 كتاب الصلاة باب التكبير إذا قام من السجود.
(3) مسند الامام أحمد (3016 ، 3101) ورواه الطبراني (11933) واسناده صحيح اعتماداً على هامش جامع المسانيد 31 : 343.
(4) النسائي في الصلاة ، باب رفع اليدين بين السجدتين تلقاء الوجه وابي داود في باب افتتاح الصلاة ورواه ابو يعلى في مسنده (2704).
(199)
نعم ، إن نهج الاجتهاد والرأي لم يرتض التكبير لكل رفع وخفض ، فقد أخرج الشافعي في كتاب الأم من طريق عبيد بن رفاعة : إن معاوية قدم المدينة فصلى بهم فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع ، فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار : أن يا معاوية ! أسرقت صلاتك ؟! أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت ؟!
فصلى بهم صلاة أخرى ، فقال : ذلك فيها الذي عابوا عليه (1).
وروى الشافعي قبل الخبر آنف الذكر خبراً عن أنس بن مالك ، فيه : صلى معاوية بالمدينة صلاة ، فجهر فيها بالقراءة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة ، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة ، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان : يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت ؟
فلما صلى بعد ذلك ، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجداً (2). 4 ـ دية الاصابع
عن مروان أنه أرسل إلى ابن عباس ، فقال : أتفتي في الأصابع عشر عشر وقد بلغك عن عمر أنه يفتي في الإبهام بخمسة عشر أو ثلاثة عشر ، وفي التي تليها اثنتي عشر ـ وفي آخر : عشر ـ وفي الوسطى بعشرة ، وفي التي تليها بتسع ، وفي الخنضر بست.
فقال ابن عباس : رحم الله عمر ، قول رسول الله صلى الله عليه وآله أحق أن يتبع من قول عمر
_______________
(1) الأم 1 : 108 ، التدوين في أخبار قزوين 1 : 154 ، سنن الدار قطني 1 : 311 ، المستدرك للحاكم 1 : 233 ، السنن الكبرى للبيهقي 2 : 50.
(2) الأم 1 : 108 ، السنن الكبرى للبيهقي 2 : 49 ، تاريخ الخلفاء : 200 ، نيل الاوطار 2 : 266 عن سعيد بن المسيب أنه قال : اول من نقص التكبير معاوية ! وعن الزهري : اول من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم سراً بالمدينة عمرو بن سعيد بن العاص (انظر السنن الكبرى للبيهقي 2 : 50).
(200)
رضي الله عنه (1).
وقد أخرج عبد الرزاق ، عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم ابن ضمرة ، عن علي قال : وفي الأصابع عشر عشر (2).
وجاء عن الصادق أن دية الإصبع عشرة ، وفي آخر : هن سواء في الدية (3).
وقد خفي على مروان حين اعتراضه على ابن عباس رجوع عمر عن حكمه الأول ؛ لما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن ابن المسيب ، قال : قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء ، ثم أخبر بكتاب كتبه النبي صلى الله عليه وآله لآل حزم : في كل إصبع مما
هنالك عشر من الإبل ، فأخذ به وترك أمره الأول (4) !! 5 ـ الجمع بين الصلاتين
أخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر (5).
وعن علي وأهل بيته نقلهم نفس الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبذلك فقد اتفق فقه الطالبيين ـ حسنيين كانوا أم حسينيين ـ على جواز الجمع بين الصلاتين ، وقد مرت عليك نصوصهم في ذلك في مدخل هذه الدراسة. 6 ـ عدم جواز تطيب المحرم
عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن المحرم يموت كيف يصنع به ، فحدثني أن عبد الرحمن بن علي مات بالأبواء مع الحسين بن علي [ صاحب
_______________
(1) الأم 1 : 58 ، 134 ، الرسالة : 113 ، السنن الكبرى للبيهقي 8 : 93.
(2) المصنف لعبد الرزاق 9 : 383 ح 17693 والسنن الكبرى للبيهقي 8 : 92.
(3) التهذيب 10 : 259|1023 ، والاستبصار 4 : 291|1101 ، الفقيه 4 : 102|340.
(4) المصنف لعبد الرزاق 9 : 385 ح 17706.
(5) مسندأحمد 1 : 221 ، 283| صحيح البخاري 1 : 143 و147 ، صحيح مسلم 1 : 489|49 و490|54 ، شرح معاني الآثار 1 : 160 ح 966 و967 ، الموطأ 1 : 144|4 ، سنن أبي داود 2 : 6|1210.
(201)
فخ ] وهو محرم ، ومع الحسين عليه السلام عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر ، فصنع به كما صنع بالميت وغطى وجهه ولم يمسه طيباً ، قال : وذلك في كتاب علي (1). 7 ـ مسائل في الارث
قال عمر : والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر ، وما أجد شيئاً هو أوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص.
فقال ابن عباس : وأيم الله لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من آخر الله ما عالت الفريضة (2).
وأخرج الطحاوي ، عن طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال : حدثت أن علي بن أبي طالب كان ينزل بني الأخوة مع الجد منزلة آبائهم ، ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره (3).
وعن ابن عباس : إن علياً كتب إليه أن اجعله كأحدهم وامح كتابي (4).
فالنهج الحاكم (الخلفاء) لم يقض بما قضى به علي ؛ لقول الراوي للباقر ـ وفي آخر الصادق ـ إن من عندنا لا يقضون بهذا القضاء ، ولا يجعلون لإبن الأخ مع الجد شيئاً ، فقال أبو جعفر : أما إنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي من فيه ليده (5).
وإن علياً كان قد أمر ابن عباس أن يتقي من شيوع حكمه في الجد وقوله له (وامح كتابي ولا تخلده) !!
كانت هذه مفردات عابرة عن فقه علي وابن عباس نقلناها كشاهد على وحدة الفقه عند الطالبيين ، ولو شئنا لأفردنا مجلداً في ذلك.
_______________
(1) تهذيب الأحكام 5 : 383 كتاب الحج.
(2) السنن الكبرى للبيهقي 6 : 253.
(3) فتح الباري 12 : 17 ، مصنف عبد الرزاق 10 : 269 ح 19066.
(4) المصدر السابق.
(5) الكافي 7 : 112 ح 1 و113 ح 5 ، التهذيب : 308 ح 1104|25.