مخالفة النهج الحاكم مع علي وابن عباس
نقلنا سابقاً موقف ابن عباس من الخلافة ومخالفته مع بعض رموزها ، وهذا هو الذي دعا الخلفاء لاحقاً لتشديدهم على الناس بمخالفة فقه ابن عباس وعلي ابن ابي طالب ، لأن المعروف عند المحققين أن النزاع بين بني هاشم وبني أمية لم يكن وليد يومه ، إذ كان قبل الإسلام ، ثم انتقل بعد الإسلام ، وإن معاوية وأضرابه لم يسلموا إلا تحت ضلال السيوف وأسنة الرماح ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فتح مكة أطلق سراحهم وعفا عنهم بقوله : أنتم الطلقاء.
وأن الله ورسوله كانا قد خصا بني هاشم بخصائص ، وذلك لصمودهم ودفاعهم عن الدعوة الإسلامية أبان ظهورها ، فجاء في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وعبد المطلب ـ أيام غزوة خيبر ـ فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لهما صلى الله عليه وآله : إنا بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد (1).
وفي رواية النسائي : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد ، وشبك بين أصابعه (2).
فالأمويون لم يذعنوا لقرار الله ورسوله في ذي القربى ، واعترضوا على هذا الحكم الإلهي ، وهم يضمرون العداء لبني هاشم وخصوصاً لعلي ؛ لأنه الرجل الأول المنصوب للخلافة ، وهو الذي قتل صناديد قريش!
وهذا النمط منهم هو الذي رفض خلافة علي بن ابي طالب بعد عثمان ، ثم حاربه بدعوى المطالبة بدم عثمان ، ولما استقر الأمر لمعاوية سن لعن علي على المنابر ودبر كل صلاة (3) ، حتى قيل بأن مجالس الوعاظ بالشام كانت تختم بشتم علي (4) وان معاوية
_______________
(1) صحيح البخاري 5 : 174 ، هذا الخبر وما يليه في الاموال لابي عبيد : 341 كذلك.
(2) سنن النسائي (المجتبى) 7 : 131 ، سنن أبي داود 3 : 146|2980.
(3) النصائح الكافية : 86 ـ 88.
(4) النصائح الكافية : 87 وابن عساكر في تاريخه.

(203)

كان قد أمر أعوانه بمحو أسماء شيعة علي من الديوان (1) ، وأصدر مراسيم حكومية بأن لا تقبل شهادة لأحد من شيعة علي وأهل بيته.
وكان ابن عباس غير مستثنى من هذه القاعدة ، حيث أسقط معاوية عطاءه ، وكان يلعنه في القنوت بعد علي بن ابي طالب.
وقد بسطنا القول عن اتجاهي الرأي والتعبد على عهد رسول الله سابقاً ، وأن القرشيين كانوا من اهل الرأي وأن ابن عباس وعلي وغيرهم من التعبد ،
فجاء عن ابي عباس قوله : ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وآله ، (2)
وقوله : ألم يقل الله عز وجل ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، قلت : بلى ، قال : الم يقل الله وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، قلت : بلى . قال : أشهد ان نبي الله صلى الله عليه وآله نهى عن النقير والمزفت والدباء والحنتم (3)
وقوله في آخر : الا تنتهوا عما نهاكم عنه رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ (4)
وقد ثبت عنه رحمه الله أنه كان يصحح المفاهيم الخاطئة التي وقع فيها الناس ، فعن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وآله رمل بالبيت ، وأن ذلك سنة ؟
فقال : صدقوا وكذبوا !
قلت : وما صدقوا وكذبوا ؟!
قال : صدقوا ، رمل رسول الله صلى الله عليه وآله بالبيت ، وكذبوا ، ليس بسنة ، إن قريشاً قالت زمن الحديبيه : دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف ، فلما صالحوه على أن يقدموا من العام المقبل ويقيموا بمكة ثلاثة أيام ، فقدم رسول الله ، والمشركون من قبل قعيقعان ، فقال رسول الله لأصحابه : ارملوا بالبيت ثلاثاً ، وليس بسنة
_______________
(1) النصائح الكافية : 88.
(2) رواه الطبراني (11941) وقال الهيثمي 1 : 179 ، رجاله موثقون ، انظر جامع المسانيد والسنن 32 : 26.
(3) رواه النسائي في الاشربه (باب ذكر الدلالة على النهي للموصوف من الاوعية).
(4) اخرجه الامام أحمد في مسنده (2772) واسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد 30 : 223.

(204)

قلت : ويزعم قومك أنه طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وأن ذلك سنة ؟
فقال : صدقوا وكذبوا !
فقلت : وما صدقوا وكذبوا ؟!
فقال : صدقوا ، قد طاف بين الصفا والمروة على بعير ، وكذبوا ليست بسنة ، كان الناس لايدفعون عن رسول الله ولا يصدفون عنه ، فطاف على بعير ، ليسمعوا كلامه ولا تناله أيديهم ... (1)
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن مولاك إذا سجد وضع جبهته وذراعيه وصدره بالأرض ، فقال له ابن عباس : ما حملك على ما تصنع ؟
قال : التواضع.
قال : هكذا ربضة الكلب ، رأيت النبي صلى الله عليه وآله إذا سجد رؤي بياض إبطيه .(2)
فنهج الخلفاء كان يخالف ابن عباس ، لتعبده ولمواقفه السياسيه.
نعم ، إن الأمويين أرادوا إبعاد الإمام علي عن الخلافة ، ثم تحكيم خلافتهم وإعطاءها الشرعية وعبر مراحل ذكرناها في المدخل (3).
وإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد أخبر علياً بما تصنع الأمة معه وبالأحكام الشرعية من بعده (4)،
وجاء عن أبي عثمان النهدي قوله : أخذ علي يحدثنا ، إلى أن قال : جذبني رسول الله صلى الله عليه وآله وبكى فقلت : يا رسول الله ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلا بعدي ، فقلت : بسلامة من ديني ؟ قال : نعم بسلامة من دينك (5).
ومن هذا المنطلق أخذ أجلة الصحابة يعترضون على معاوية والخلفاء من بعده لتلاعبهم بالدين واتّخاذهم الشريعة سلماً لأهدافهم ، باكين على الإسلام وأمور
_______________
(1) مسند أحمد (2707 ، 2708 ، 3534 ، 3535 ، 2029 ، 2843 ، 2220 ، 2077 ، 3492) كما في جامع المسانيد والسنن 31 : 28.
(2) مسند الامام أحمد (2935) كما في جامع المسانيد والسنن 30 : 474.
(3) وضوء النبي صلى الله عليه وآله|المدخل : الباب الثاني الوضوء في العهدين الاموي والعباسي.
(4) انظر شرح نهج البلاغة ، للتستري 4 : 519.
(5) تاريخ بغداد للخطيب 13 : 398.

(205)

المسلمين.
فقد صح عن أبي سعيد الخدري قوله : خرجت مع مروان وهو أمير مدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ؛ فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجذبت ثوب مروان فجذبني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتمّ والله . فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم.
فقال مروان : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (1).
وروى الزهري أنه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟
قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت (2).
وأخرج البخاري عن غيلان أنه قال : قال أنس : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله ! قيل : الصلاة !
قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها (3).
وأخرج البخاري ، عن الأعمش ، قال : سمعت سالماً ، قال : سمعت أم الدرداء تقول : دخل عليّ ابو الدرداء وهو مغضب ، قلت : ما أغضبك ؟
فقال : والله ما أعرف من أمة محمد إلا أنهم يصلون جميعاً (4).
وعن ابن مسعود قوله : صلِّ مع القوم واجعلها سبحة (5) ، إلى غير ذلك من أقوال الصحابة.
نعم ، إن البعض من الصحابة قد أيد موقف الأمويين تصريحاً أو تلويحاً وأكد على لزوم متابعة امرائهم قولاً وفعلاً حتى لو خالف القرآن والسنة ؛ لأن ذلك بزعمهم هو الدين.
_______________
(1) صحيح البخاري 2 : 22 باب الخروج إلى المصلى بغير منبر.
(2) البداية والنهاية 9 : 94.
(3) صحيح البخاري 1 : 140.
(4) صحيح البخاري 1 : 166 باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري 2 : 109.
(5) مسند أحمد.

(206)

ففي طبقات الفقهاء : عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عمر عن الإيلاء ؟
قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر ؟
قال : نعم ، ونرضى بقولك.
فقال ابن عمر : يقول في ذلك أولوا الأمر ، بل يقول في ذلك الله ورسوله (1).
وعن ابن المسيب ، قال : كان إذا جاء الشيء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السنة فيدفع إلى الأمراء فيجمع أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق (2).
وعن ابن عمر قوله لما سئل : من نسأل بعدكم ؟
قال : إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه (3).
وعن جرير بن حازم قال : سمعت نافعاً يقول : لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرا لكتاب الله من عبد الملك (4).
فترى ابن عمر يرشد الناس إلى الأخذ بقول عبد الملك بن مروان ، الذي بني القبة فوق الصخرة والجامع الأقصى وجعلها بمثابة الكعبة يطوفون حولها وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم ، ـ وذلك بعد أن صاح الناس به ، حينما منع من حج بيت الله الحرام ، لأن ابن الزبير كان يأخذ البيعة لنفسه منهم ـ (5).
وهو القائل : من قال برأسه هكذا قلنا بسيفنا هكذا (6).
والداعي إلى الأخذ بفقه عثمان بن عفان بقوله :
(... فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الإمام المظلوم ، وعليكم والفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله فإنه قد استشار في ذلك
_______________
(1) طبقات الفقهاء.
(2) اعلام الموقعين 1 : 84.
(3) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 ، تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم 6 : 39.
(4) المصدر السابق.
(5) البداية والنهاية 8 : 283.
(6) البداية والنهاية 9 : 68.

(207)

زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله فأحكما ما أحكما واستقضيا ما شذ عنهما (1) ) .
ومن هذا المنطلق كان عمر بن عبد العزيز يركز على الأخذ بأقوال الشيخين وترك أقوال علي وابن عباس وغيرهما ممن ينتهج نهج التعبد ، حيث خطب فقال : ألا وإن ما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سن سواهما فإنا نرجئه (2).
هذا ، وإن العباسيين لم يكونوا بأقل وطأة على فقه علي وابن عباس من الأمويين ، فعن المنصور العباسي أنه طلب من الإمام مالك أن يكتب له الموطأ بقوله : يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه وتجنب فيه شواذ عبد الله بن مسعود ، ورخص ابن عباس ، وشدائد ابن عمر ، واقصد إلى أوسط الأمور ، وما اجتمع عليه الأئمة والأصحاب ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها (3).
وفي آخر قول مالك للمنصور : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تفرقوا في البلاد ، فأفتى كل في مصره بما رأى ، وإن لأهل البلد ـ يعني مكة ـ قولاً ، ولأهل المدينة قولاً ، ولأهل العراق قولاً تعدوا فيه طورهم.
فقال المنصور : أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، وأما العلم عند أهل المدينة فضع للناس العلم (4).
وفي نص آخر قال المنصور لمالك : يا مالك ، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فقال : يا أمير المؤمنين إنه آخر من بقي عندنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فاحتاج الناس إليه ، فسألوه وتمسكوا بقوله.
فقال : يا مالك ، عليك بما تعرف إنه الحق عندك ، ولا تقلدن علياً
_______________
(1) المصدر السابق.
(2) تاريخ الخلفاء : 241 ، كنز العمال 1 : 332.
(3) الإمامة والسياسة 2 : 150.
(4) انظر الإمام مالك للدكتور مصطفى الشكعة : 133 عن ترتيب المدارك : 30 ـ 33.

(208)

وابن عباس (1).
وفي آخر قال له المنصور : هل أخذت بأحاديث ابن عمر ؟
قال : نعم ،
قال المنصور : خذ بقوله وإن خالف علياً وابن عباس (2).
فترجيح رأي ابن عمر مع وجود كثير من الصحابة كان من سياسة الدولة العباسية ، ومثله الحال بالنسبة إلى الأخذ بموطأ مالك.
نعم ، إن السياسة هي التي سمحت للناس في الاعتراض على ابن عباس وعدم الأخذ بقوله ، فجاء في جامع المسانيد والسنن : أن أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة طافت ثم حاضت ؟ فقال لهم : تنفر ، قالوا : لا نأخذ بقولك وندع قول زيد ، قال : إذا قدمتم المدينة فاسألوا ، فقدموا المدينة فسألوا ، فكان فيمن سألوا أم سليم ، فذكرت حديث صفيه .(3)
وقد كان زيد قد سأل ابن عباس عن ذلك ، إذ أخرج أحمد في مسنده عن طاووس قوله : كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها اليت ؟
قال : نعم.
قال : فلا تفت بذلك ‍!
فقال له ابن عباس : إما لا ، فسل فلانه الانصارية : هل أمرها بذلك النبي صلى الله عليه وآله ؟
فرجع اليه زيد بن ثابت يضحك ويقول : ما أراك إلا قد صدقت (4) . وليت من خالف ابن عباس من الصحابة لا يدعي أن ما عنده من قول أو فعل هو الصواب ، مشعراً بذلك أنه عن الله ورسوله وملوحاً أن ما عند ابن عباس وأمثاله ـ ممن لا يحكي إلا عن الله والرسول والقرآن ـ خطأ ، فمن هاهنا ضاع ما ضاع من السنة.
_______________
(1) راجع الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الاربعة 1 : 504.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 4 : 147.
(3) رواه البخاري في الحج 2 : 220 باب (اذا حاضت المرأة بعد ما افاضت) والطبراني (11867) ، انظر جامع المسانيد 31 : 321.
(4) مسند الامام أحمد (3256) ، (1990) جامع المسانيد والسنن 30 : 521.

(209)

فقد صح عن طاووس ـ تلميذ ابن عباس ـ عن ابن عباس ، قال : رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت ، قال : وسمعت ابن عمر يقول أنها لا تنفر.
ثم سمعته يقول بعد : إن النبي صلى الله عليه وآله رخَّض لهن (1).
فلماذا وصل الامر بالناس إلى هذا ؛ وإني اترك القارئ ليحكم فيما أدعيناه !!
وعن ابن عباس قال : جاء رجل من الاسبذيين من أهل البحرين ، ـ وهم مجوس أهل هجر ـ ، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فمكث عنده ثم خرج فسألته : ما قضى الله ورسوله فيكم ؟ قال : شر ، قلت : مه ؟ قال : الاسلام أو القتل ، قال : وقال عبد الرحمن : قبل منهم الجزية ،
قال ابن عباس : فأخذ الناس بقول عبد الرحمن بن عوف وتركوا ما سمعت أنا من الاسبذي (2).
هذا وقد يمكننا عزو سبب إرجاع العباسيين الناس إلى الأخذ بقول مالك ، هو مالكاً بكون الشيخين ـ ومن بعدهما عثمان ـ أفضل الخلفاء الراشدين ، وأن علياً ليس رابعا لهم ، إذ جاء في البداية والنهاية لابن كثير ان مالك بن انس دخل على المنصور العباسي ، فسأله المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فقال مالك : أبو بكر
قال : ثم من
قال : عمر
قال : ثم من
قال : عثمان
وقال صاحب كتاب (موقف الخلفاء العباسيين من أئمة المذاهب الأربعة) : (... فإذا تأملنا آراء مالك فيما يتعلق بقضية التفضيل بين الخلفاء الراشدين ، نجد الإمام ينفرد عن غيره ، فهو يرى أنهم ثلاثة لا أربعة ، وهو يجعل خلافة الراشدين في أبي بكر وعمر وعثمان ، ويجعلهم في مرتبة دونها سائر الناس ، وأما علي فإنه في نظره
_______________
(1) صحيح البخاري 2 : 220 باب إذا احاضت المرأة بعد ما أفاضت.
(2) رواه ابو داود في الخراج ، ح (3044) في باب (اخذ الجزية من المجوس).

(210)

واحد من جملة الصحابة ، لا يزيد عنهم بشيء) (1).
وهذا يعرفنا أن الخلفاء ـ أمويين كانوا أم عباسيين ـ يشتركون في نقطة واحدة وهي حمايتهم لفقه الشيخين ، وترك فقه علي بن أبي طالب وابن عباس ، أي أخذهم بسيرة الشيخين وإن خالفت السنة النبوية ، وبمعنى آخر أخذهم باجتهاداتهم المقابلة للنص بجنب مروياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله ،
وإذا اتضحت لك آفاق السياسة الحاكمة في لزوم الأخذ بفقه ابن عمر وإن خالف علياً وابن عباس نقول :
إن ابن عمر وإن خالف أباه في مفردات فقهية كثيرة ، ودعا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وترك كلام أبيه المخالف لسنة رسول الله ، لكنه في الوقت نفسه كان قد دافع عن خلافة معاوية ويزيد وبقية الخلفاء الأمويين ، وسن أصولاً كان لهم الاستفادة منها كقاعدة (من غلب) ولزوم اتباع الحاكم وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك و ...
فالنهج الحاكم وإن كان يريد تشريع ما سنه الشيخان وإبعاد من عارضهم في اجتهاداتهم ، لكنه كان يتخوف ممن لا يتفق معهم في أصول الخلافة والإمامة أيضاً ، وأما الذين يذهبون إلى ما يذهب إليه الخلفاء فلا مانع من نقل كلامه ـ الذي يخدمهم في الغالب ـ وخصوصاً لما رأوا في ابن عمر من مؤهلات يمكن الاستفادة منها.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الخلافة العباسية ، فقد دعت إلى الأخذ بفقه ابن عمر مع أنه كان مدافعاً عن الأمويين في السابق ، وذلك لوحدة النهج والفكر بينهم ، وإن كان اثبات هذا المدعى يحتاج إلى مزيد بيان ليس هنا محل بحثه.
كانت هذه مؤشرات صريحة وضحت لنا بأن التشريع قد امتزج بالسياسة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخذ طابعاً خاصاً ، وأن الملك والسلطان كان له أعظم التأثير في ترسيخ بعض المفاهيم والأفكار الشائعة اليوم ، ثم اشتداد هذا الأمر في العصور اللاحقة.
ولو طالع الباحث في سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي مثلاً لعرف اتجاه الحجاج
_______________
(1) موقف الخلفاء العباسيين : 170.

(211)

في ترسيخ فقه الأمويين ومذهب الخليفة وهو يؤكد دور السياسة في الفقه ، إذ جاء عنه انه أرسل إلى الشعبي ليسأله عن الفريضة في الأخت وأم الجد ؟
فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها : عثمان ، زيد ، ابن مسعود ، علي ، ابن عباس ، ثم بدأ يشرح كلام ابن عباس ، فقال له الحجاج : فما قال فيها أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ ؟ فذكرها له.
فقال الحجاج : مر القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أميرالمؤمنين عثمان (1).
ومثل هذا الموقف جاء عن الحجاج في الوضوء ، فقد خطب في الأهواز وأمر الناس بغسل الرجلين (2) ، ولما سمع بذلك أنس بن مالك اعترض عليه قائلا : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) (3).
وبعد هذا يحق لنا أن نقول أن بكاء أنس بن مالك جاء لتلاعب أمثال الحجاج بالصلاة والوضوء و ....
هذا ، ويمكننا الاشارة إلى حقيقة أخرى قد تكون خافية على البعض ، وهي : أن نهج الخلفاء ـ وكما عرفت ـ كان لا يرتضي الأخذ بفقه علي وابن عباس ، فنتساءل : لو صح هذا وكان فقه علي بن ابي طالب وابن عباس منهياً عنه ، فكيف نقل عنهما مالك في موطئه ؟
إن اللب السليم يحكم بأن ما نقله مالك صيغ ليكون موافقا لفقه الخلفاء . إذ لم ينقل مالك الوجه الحقيقي لما يلتزمه على وابن عباس من الشرع ، وذلك يعني أن غالب ما نهت عنه الحكومة هو الفقه المستقل ، (أعني فقه التعبد المحض) ، لا ما أريد له أن يكون موافقا للفقه الاجتهادي السلطوي !! ، وإلا فإن مالكاً لم يكن ليجسر على تخطي أمر المنصور بعدم الأخذ عن علي وابن عباس.
وهكذا الحال بالنسبة إلى أمهات المسانيد والصحاح التي أريد لها أن تكون كما هي عليه اليوم.
اذ لم يهتم ويعتنى بما يروى عن ابن عباس وأمثاله مما يؤيد مدرسة الاجتهاد
_______________
(1) حلية الأولياء 4 : 325.
(2) الجامع لأحكام القرآن 6 : 92.
(3) المصدر السابق.

(212)

والرأي ، ولا يلتفت ويتأمل في المنقول الثابت عن علي وابن عباس في هذه الأمهات من المسانيد والصحاح.
ولماذا لا يذكر مالك القول الآخر عن علي وابن عباس والموافق لمدرسة أهل البيت ؟‍‍!
ألا يعني هذا أن الخلافة تريد نقل فقه علي وابن عباس الموافق لفقه الشيخين وما يؤيد مذهب الخلفاء ، وترك المخالف لهم ؟
وكيف يمكنك ترجيح احدى النسبتين إلى علي وابن عباس ، مع كل هذه الملابسات !.
وهل حقاً أنهما نهيا عن المتعة أم سمحا بها ؟
وما الذي يصح عنهم في المسح على الخفين ؟ هل أنهما قالا : للمقيم يوم وللمسافر ثلاثاً ، أم أنهم نهوا عن المسح على الخفين عموماً ؟
وما هو المحفوظ عن علي وابن عباس في كتب الصحاح والسنن والفقه والتفسير ؟ ـ هل هو المسح أم الغسل ؟!
بل بم يمكننا ترجيح أحد النسبتين إلى إمثال هؤلاء الصحابة ـ على فرض التكافؤ الإسنادي ـ بعد أن عرفنا ملابسات الأحكام ؟
ولماذا نرى وجود ما يوافق الخلفاء فقط ، في الموطأ وغيره وعدم وجود النقل الآخر فيه ـ أو وجوده وطرحه بشتى التقولات ـ ؟ وما يعني هذا ؟
كل هذه تشككنا في صحة نسبة النقل الحكومي عن علي وابن عباس ومن شابههما ، وخصوصاً حينما عرفنا أن ائمة نهج الاجتهاد والرأي لا يستسيغون المروي بواسطة أصحاب التعبد ـ وعلى رأسهما علي وابن عباس ـ إلا ما يوافق رغباتهم.
فعلى هذا لايمكن الركون إلى ما يروى عن علي وابن عباس في الغسل ، لأنه قد ثبت لدينا من جهة أخرى بأسانيد أصح أن مذهب أهل التعبد ـ هو روايتهم عن النبي في الوضوء ـ المسح لا الغسل.
فالعقل طبقاً لما تقدم لا يقبل أي نسبة أو أي رواية مروية إلى علي وابن عباس توافق نهج الخلفاء وخصوصاً إذا عارضها منقول آخر عنهما في الصحاح والمسانيد ، لأن الأرجح في النقلين هو ما يخالف نظرة الخليفة دائماً ، بل وحتى لو كان مرجوحاً


(213)

سنداً فانه يبقى هو الأولى في مقام الأخذ ، وللامور التالية (التي هي خلاصة لما تقدم) :
1 ـ استفادة النهج الحاكم من نقل ما يفيدهم.
2 ـ تخالف المنقول في الموطأ وغيره مع روايات مدرسة أهل البيت او التي توارثوها كابراً عن كابر.
3 ـ إصرار نهج الاجتهاد والرأي على عدم الأخذ بفقه علي وابن عباس وفرض الحصار عليهم فقهياً وسياسياً ، وكل هذا يدعونا للقول بعدم صحة المنسوب في الصحاح والمسانيد إلى هؤلاء ؛ لتخالفه مع الفقه الثابت عنهم ، لما يؤيد ذلك من نقاط :
الأول : مخالفة الموجود مع الثابت عن أهل البيت عليهم السلام في مروياتهم.
الثاني : اتحاد أحد النقلين عن علي بن ابي طالب وابن عباس مع مرويات مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
الثالث : المحفوظ ـ فيما نحن فيه ـ عن علي بن ابي طالب وابن عباس في كتب الفقه والتفسير والحديث هو المسح على الأقدام وهو يوافق الثابت عنهم في مرويات أهل البيت عليهم السلام.
وبذلك يتأكد بأن مرويات الغسل منسوبة إليهما بخلاف المسح والذي رواه الفريقان عنه.
وتلخص مما مر أن نهج الاجتهاد والرأي كان يؤكد على لزوم الأخذ بفقه أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وبقية « أولي الأمر » !! ، والمخالفة مع فقه علي وابن عباس ومن نهج نهجهما وأن وجود مفردات تؤيد ما يذهب إليه هؤلاء المجتهدين عن أعيان الصحابة المتعبدين يدعونا للقول بأن الحكومتين الإموية والعباسية ومن قبلهما الصحابة الحاكمون من نهج الاجتهاد كان لهم أكبر الأثر في ترسيخ ما ذهب إليه هؤلاء ، وخصوصاً حينما لم نر ما يوضح الوجه الآخر لفقه علي بن أبي طالب وابن عباس في أصول القوم.
وعليه فنحن نرجح أن تكون النسبة التي لا توافق الخلفاء في صحاح القوم هي الاقرب إلى فقه علي بن ابي طالب وابن عباس ، للعوامل التي قلناها ، ولوجودها في مدونات أهل البيت والتي توارثوها كابراً عن كابر ، وهذا الفهم والتحليل يوضح لنا


(214)

مقصود الإمام في قوله (خذوا بما خالف العامة فإن الرشد في خلافهم).

ابن عباس والمرويات الوضوئية

اختلف النقل عن ابن عباس في الوضوء غسلاً ومسحاً
أما الطرق الغسلية إليه فتنتهي إلى تابعيين
الأول : عطاء بن يسار
الثاني : سعيد بن جبير
ونحن قد أعللنا الطريق الأول منه بالانقطاع ، لكون زيد قد عنعن عن عطاء وهو ممن يدلس ، والثاني بعدم ثبوت الطريق إلى سعيد بن جبير وعدم اعتماد الأعلام على هذا الطريق.
وأما الطرق المسحية فهي الأكثر عنه.
1 ـ إذ جاء عن الربيع بنت المعوذ ان ابن عباس اعترض عليها لروايتها الغسل في الرجلين ، وتأكيده . أنه لا يجد في كتاب الله إلا المسح ، وإن حكاية الربيع اعتراض ابن عباس عليها ، لمحمد بن عبد الله بن عقيل هو اعتراف منها بعدم قبول الطالبيين نقلها للغسل عن رسول الله.
2 ـ ما رواه جابر بن زيد عنه
3 ـ ما رواه عكرمة عنه
4 ـ ما رواه يوسف بن مهران عنه
وبما أنا قد فرغنا في الصفحات السابقة من بيان النكات السندية والدلالية فلابد إذن من إيضاح المزيد مما يرجح أحد النسبتين إليه ، فنقول :
ان الإخبار الغسلية عن ابن عباس ـ حسبما وضحناه سابقاً ـ لا يمكنها أن تعارض الأخبار المسحية ـ بل هي مرجوحة بالنسبة إليها ـ لعدة جهات :
الأولى : كثرة الرواة عن ابن عباس في المسح وكون أغلب هؤلاء من تلاميذ ابن عباس والمدونين لحديثه بخلاف رواة الغسل ، الذين هم الأقل عدداً وممن لم يختصوا به كرواة المسح عنه وهذا ما سنوضحه بعد قليل إن شاء الله تعالى


(215)

الثانية : وحدة النص المسحي عن ابن عباس وهو (الوضوء غسلتان ومسحتان) وبخلاف النصوص الغسلية فهي مختلفة النص والمعنى ، فإن اتحاد النص المنقول بطرق متعددة كالمشاهد في الإسناد الأول المسحي عن ابن عباس ، ورواة ثلاثة من اعلام التابعين عنه ، كمعمر بن راشد ـ كما في اسناد مصنف عبد الرزاق ، ـ وروح بن القاسم ـ كما في إسناد ابن ماجة وابن أبي شيبة ، ـ وسفيان بن عيينة ـ كما في إسناد الحميدي والبيهقي ، لقرينة على صدور المسح عن ابن عباس لا محالة.
الثالثة : وجود قرائن كثيرة دالة على كون الغسل قد شرع لاحقاً لقول ابن عباس (أبي الناس إلا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح) واعتراضه على الربيع بنت المعوذ ...
الرابعة : إن في كلام ابن عباس إشارة إلى حقائق كثيرة ، منها دلالة القرآن على المسح لقوله : (لا أجد في كتاب الله إلا المسح) ، وثانياً دلالة السنة عليه كذلك لا عتراضه على الربيع بنت المعوذ لما سمع حكايتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الغسل ، وثالثاً : استفادة ابن عباس من قاعدة الإلزام لإقناع من يعتقد بصحة استدلال هكذا أمور في التشريع ؛ لقوله لهم في خبرٍ آخر (ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين).
ومجيء هذه النصوص عنه تشير إلى أن ابن عباس كان يرى الغسل ظاهرة حكومية عمل بها الناس لاحقاً وليس في القرآن والسنة النبوية ما يدل عليه.
الخامسة : إن المحفوظ عن ابن عباس في كتب الحديث والتفسير والفقه هو المسح ، وأما حكاية الغسل عنه فمختلف فيه ، وإن اعتبرنا صحتها ـ تنزلاً ـ فستكون شاذة بالنسبة إلى المحفوظ عنه من ذهابه إلى المسح.
السادسة : إن النصوص التي جاءت عن ابن عباس وابن عقيل وعلي ابن أبي طالب وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق لتؤكد على أن مذهب الطالبيين كان المسح ، وقد أكدنا على أن علي بن الحسين لما أرسل عبد الله بن محمد بن عقيل إلى الربيع كي يسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعني بفعله الاستنكار لا الاستفهام.
فظاهرة الاستنكار على الوضوء الغسلي كانت ظاهرة في العصر الأول


(216)

الإسلامي ، ويرشدنا إلى ذلك ما فعله ابن عباس وابن عقيل مع الربيع ، وقد فهمت الربيع من ابن عقيل أنه جاءها مستنكراً لا مستفهماً إذ قالت له (وقد جاءني ابن عم لك) تريد بذلك ابن عباس.
وإن ابن عقيل بسؤاله إياها : (فبأي شيء كان الاناء) ؟ أراد إرشادها إلى سقم حكايتها إذ أن ما تنقله لا يتفق مع الثابت عن رسول ، وأنه صلى الله عليه وآله كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ، وهو الآخر لا يتفق مع غسل الأعضاء ثلاثاً ، لأن تثليث الأعضاء يحتاج إلى أضعاف ما في المد من ماء ، وأن المد هو الذي يتفق مع غسل الأعضاء مرة أو مرتين وبعد ذلك فلا يبقى ماء كي تغسل به الرجلان ، ويتعين بذلك المسح فيه . وبعبارة أخرى : إن ابن عقيل أراد أن ينقد كلامها عملاً ويوضح لها عدم تطابق ما تحكيه مع ما تفرضه في عدد الغسلات ، وغسل الممسوحات.
ويؤيد هذا ما حكاه ابن جريح عن عبد الله بن ابي يزيد عن ابن عباس قال : قال رجل : كم يكفيني من الوضوء ؟
قال : [ ابن عباس ] : مد
قال : كم يكفيني للغسل ؟
قال : [ ابن عباس ] : صاع.
قال : فقال الرجل : لا يكفيني !
قال : [ ابن عباس ] لا ام لك ! قد كفى من هو خير منك رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
وفي آخر عن ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال : سأل رجل ابن عباس ما يكفي من الغسل ؟ قال : صاع ، ومد للوضوء ، فقال رجل : ما يكفيني !
قال : لا ام لك فيكفي من هو خير منك رسول الله. (2)
ونحن لو أردنا التأكد من صحة ما توصلنا إليه فلابد من الوقوف كذلك على مرويات ابن عباس الوضوئية الأخرى ومدى تطابق مروياته مع مرويات أهل بيت النبوة على نحو العموم وفقه علي بن ابي طالب على وجه الخصوص . فمثلاً نرى علياً
_______________
(1) تفرد به الامام أحمد في مسنده (2628) ورواه الطبراني (11258) واسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد والسنن 31 : 141.
(2) رواه الطبراني (11646) واسناده صحيح ، كما في هامش جامع المسانيد والسنن 31 : 545.

(217)

وابن عباس وغيرهم من شخصيات أهل البيت يتحدون في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه توضأ المرة والمرتين (1) ، وأما الثلاث فلا يرتضيانها وماجاء عنهما فهو المنسوب إليهما.
وكذا يتحدون في نقل المضمضة والاستنشاق عن رسول الله صلى الله عليه وآله (2) وقد صرح ابن عباس بأن القبلة غير ناقضة للوضوء (3) مثل ما يذهب إليه أهل بيت النبوة (4) خلافاً لعمر بن الخطاب الذي كان يرى الوضوء فيها (5).
وقوله بجواز الوضوء بماء البحر (6) ، وهو الموافق لما جاء عن أهل البيت عليهم السلام.
وروايته جواز المسح بالمنديل بعد الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وآله (7) ، وهو الآخر الموافق لما جاء عن أهل بيت النبوة (8)
وفي المقابل لم نره يقول بما قاله البعض من أن مس الذكر ينقض الوضوء (9) ، كما ذهب إلى ذلك مروان بن الحكم (10).
ولم ير ابن عباس نتف الإبط ناقضاً للوضوء كما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص (11).
_______________
(1) سنن النسائي 1 : 62 ، سنن الترمذي 1 : 30 ، 31 ، سنن الدارمي 1 : 177 ، سنن الدار قطني 1 : 92 ، سنن أبي داود 1 : 34 ، وفي وسائل الشيعة 1 : 438 أبواب الوضوء ب 31 ح 10 ، 11 ، 6 ، 7 ، 21 ، 26 ، و1 : 439 أبواب الوضوء ب 31 ح 15 ، 16 ، 19 ، 23 ، 28.
(2) وسائل الشيعة 1 : 430 أبواب الوضوء ب 29 ح 1 ، 2 ، 4 ، سنن الدار قطني 1 : 85 ، 101 ، سنن الترمذي 1 : 22.
(3) سنن الدار قطني 1 : 143 ، سنن أبي داود 1 : 45.
(4) وسائل الشيعة 1 : 270 أبواب نواقض الوضوء ب 9 ح 2 ، 3 ، 625.
(5) سنن الدار قطني 1 : 144.
(6) سنن الدار قطني 1 : 144.
(7) سنن الدارمي 1 : 180.
(8) وسائل الشيعة 1 : 473 أبواب الوضوء ب 45 ح 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9.
(9) انظر سنن النسائي 1 : 100 سنن الدارمي 1 : 184 ، سنن أبي داود 1 : 46 وانظر وسائل الشيعة 1 : 271 أبواب نواقض الوضوء ب 9 ح 7 ـ 8.
(10) سنن النسائي 1 : 100 ، سنن الدارمي 1 : 184 ، سنن أبي داود 1 : 46.
(11) سنن النسائي 1 : 105 ، سنن الدارمي 1 : 185 ، سنن الترمذي 1 : 52.

(218)

كما أنه لم يذهب إلى الوضوء مما مسته النار (1) ومن أكل لحوم الابل (2) ، بل كان يرى الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل (3) حيث روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ (4) ، وفي آخر : انتهش من كتف ثم صلى ولم يتوضأ (5) .
وكان ابن عباس يرى جواز استعمال الرجل فضل وضوء المرأة (6) وهو الموافق لمذهب أهل بيت الرسالة.
وكان لا يقول بأن النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء (7).
ولم يرد عنه كراهة رد السلام لغير المتوضى (8) ، ووكان لا يرى مسح الرأس مقبلاً ومدبراً (9) ، ولا الوضوء بالثلج (10) ولا رواية « إنك لا تدري أين باتت يدك » ولا الوضوء من الدم (11) إلى غير ذلك.
نعم جاءت عنه روايات في المسح على الخفين والتوقيت فيه وغسل الارجل ، ومسح الاذنين ظاهرهما وباطنهما وقد وضحنا حال الأولين منها ، وأما حديث مسح الأذنين (12) فهو الآخر باطل النسبة إليه لوجوه.
أولها : انها تماثل وضوء الربيع بنت المعوذ ، الذي لم يفعله ابن عباس نفسه بل اعترض عليه.
_______________
(1) المصادر السابقة ، وانظر جامع المسانيد والسنن لابن كثير 31 : 451 ، 491 و32 : 128 ، 437 ، 341 ، 526.
(2) انظر سنن أبي داود 1 : 47.
(3) سنن الدار قطني 1 : 151.
(4) سنن أبي داود 1 : 48 ح 187.
(5) سنن أبي داود 1 : 49 ح 190.
(6) سنن الدار قطني 1 : 52 ، سنن الدرمي 1 : 187 ، سنن الترمذي 1 : 43.
(7) انظر سنن الدار قطني 1 : 70 ـ 76 وفيه ان هذا القول هو من قول عكرمة ، سنن أبي داود 1 : 21.
(8) انظر سنن الترمذي 1 : 61.
(9) انظر سنن الترمذي 1 : 25.
(10) انظر سنن النسائي 1 : 50.
(11) انظر سنن أبي داود 1 : 50.
(12) سنن الترمذي 1 : 27.

(219)

ثانيها : عدم اشتهار هذا الأمر عنه.
ثالثها : الإسناد هو عبد الله بن ادريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن اسلم عن عطاء عن ابن عباس ، وقد تقدم كلامنا عنه سابقاً.
وبهذا فقد اتضح لنا ان عبد الله بن عباس يتحد مع علي وأهل بيته في الكثير من المسائل ويخالف النهج الفقهي الحاكم في مسائل كثيرة أخرى.
المدونون وأخبار الوضوء عن ابن عباس
سبق منا القول في انقسام المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى نهجين
أحدهما : يدعو إلى تدوين الحديث ، والآخر لا يرتضي ذلك.
وقد اثبتنا أن المعترضين على الخليفة عمر بن الخطاب كانوا من أهل التدوين والتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنهم اعترضوا عليه لمخالفة أقواله مع ما ثبت عندهم في المدونات عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومن أجل هذه الامور قال الخليفة لهم (ائتوني بكتبكم) فلما أتوه بها أمر بحرقها ، وأمر بحبس الصحابة لإشاعتهم الحديث ؛ لقوله (انكم أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله) وفي آخر (أفشيتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله)
وهذه المضادة من قبل النهجين هي التي جعلت لكل منهما أنصاراً ، فالبعض ينتصر للخليفة . والآخر لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وغالب أصحاب التدوين كانوا من الشق الثاني.
وقد مر عليك عن ابن عباس أنه من نهج التحديث والتدوين ومن المعارضين لاجتهادات الشيخين المعارضة للكتاب والسنة النبوية ، فثبت عنه قوله (أراهم سيهلكون ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله ويقولون قال : ابو بكر وعمر).
وأنت لو تدبرت في كلام عثمان بن عفان لعرفت بأن جل المعارضين له في الوضوء كانوا من أصحاب التدوين والتحديث لقوله (إن ناساً يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله بأحاديث لا أدري ما هي ...) . فالخليفة عبر عن معارضيه بـ (ناساً) مما يرشدنا إلى أن الامتداد المعارض له كبير وأنه يمثل شريحة اجتماعية مهمة ،


(220)

هذا ، ونحن لو أردنا تطبيق ما قلناه عن النهجين سابقاً على ما نحن فيه لأمكننا القول بأن أغلب رجال الأسانيد المسحية عن ابن عباس هم من أصحاب المدونات ، بعكس رجال الأسانيد الغسلية فلم يكونوا كذلك ، وهذه الحقيقة ترشدنا إلى أن المدونين رغم كل الضغوط المفروضة وعوامل التحريف قد حافظوا على مدوناتهم ، وهذا القول منا لا يعني بأنا نعتقد بوجود جميع ما قاله الرسول في الصحاح والسنن ، بل في اعتقادنا أن ظاهرة منع تدوين الحديث قد ضيع الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله في الصحاح والسنن ، وروج الوضع والتحريف فيه الحديث ، وهذا مما يجب علينا توضيحه وبيانه.
فنحن لو طالعنا أسماء رواة الغسل والمسح لعرفنا أن غالب رواة المسح ـ وفي كل الطبقات ـ هم من أصحاب المدونات ، بخلاف رواة الغسل ، فالمدونون منهم قلة قليلة وقد دونوا بعد فتحه من قبل عمر بن عبد العزيز ، فإليك رواة الوضوء عن ابن عباس غسلاً ومسحاً.
رواة الغسل عن ابن عباس
الإسناد الاول
البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، قال : أخبرنا أبو سلمة الخزاعي (منصور بن سلمة) ، قال ابن بلال ـ يعني سليمان ـ عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس.

الإسناد الثاني
ابو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ...

الإسناد الثالث
النسائي : أخبرنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، قال : ثنا ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ...


(221)

الإسناد الرابع
النسائي : أخبرنا الهيثم بن أيوب ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، قال حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ...

الإسناد الاخير
هو ما رواه أبو داود : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عباد بن منصور ، عن عكرمة بن خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ...
ولم يشاهد في رواة هذه الأسانيد اسم أحد من المدونين من الصحابة والتابعين إلا سعيد بن جبير وعبد الله ابن عباس ، والأول لم يثبت الطريق اليه ولم يعتمده الأعلام في خبر الوضوء عن ابن عباس لوجود عباد بن منصور المضعف عند الجميع فيه،
أما الثاني ـ أي ابن عباس في مورد النزاع ـ فقد ثبت في الصفحات السابقة أن نسبة الغسل إليه غير صحيحة ؛ لعدم إمكان الاعتماد على ما روي عن سعيد بن جبير المار ذكره ، ولاتحاد الطرق الغسلية الأربع الأخرى في زيد بن أسلم عن عطاء وهو ممن يدلس.
فها أنت لو لاحظت رواة الغسل فلا ترى بينهم من أصحاب المدونات الذين دونوا الحديث قبل عمر بن عبد العزيز ، وإن ورد اسم أحد منهم فأولئك من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي ، وهو لا يخدمنا في توضيح ما نحن فيه ، لأن التدوين في عهد عمر بن عبد العزيز لم يكن كالتدوين في عقد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية والمانعين له ، ونحن مع أخذنا هذه النكتة بالاعتبار لم نر اسم أحد من رواة الغسل ضمن المدونين من التابعين وتابعي التابعين ، فإن سليمان بن بلال (1) ـ الموجود
_______________
(1) انظر مصادر ذلك في دراسات في الحديث النبوي ، للاعظمي 1 : 263.

(222)

في السند الأول ـ وعبد الله بن إدريس (1) ومحمد بن عجلان (2) ـ كما في السند الثالث ـ وعكرمة بن خالد (3) وسعيد بن جبير ـ كما في السند الأخير ـ وإن كانوا من المدونين لكنهم من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي وهو ليس محل النزاع ، ومثله حال البخاري وأبي داود والنسائي والآخرين الذين رووا لنا الغسل عن ابن عباس وغيره ، فهم وإن كانوا من المدونين لكن تدوينهم جاء في العصور المتأخرة عن عصر التدوين الحكومي فلا يدخلون ضمن النزاع.
هذا والذي يجب الاشارة إليه هو أن عطاء ـ والذي اتحدت الطرق فيه ـ لم يكن من المدونين عن ابن عباس والمختصين به ، وأنت لو بحثت عن الكتاب المدونين عن ابن عباس لا ترى اسمه ضمن أولئك كابن أبي مليكة (4) ، والحكم بن مقسم (5) ، وسعيد بن جبير (6) وعلي بن عبد الله بن عباس (7) وعكرمة (8) وكريب (9) ومجاهد (10) ونجدة الحروري (11) وعمرو بن دينار (12).
وهذا بعكس الطرق المسحية عن ابن عباس ، فقد حكى عكرمة المسح عن ابن عباس وكان من المدونين عنه ، وعنه عمرو بن دينار وهو الآخر من المدونين ومن
_______________
(1) انظر مصادر ذلك في دراسات في الحديث النبوي ، للاعظمي 1 : 289.
(2) انظر مصادر ذلك في دراسات في الحديث النبوي ، للاعظمي 1 : 307.
(3) انظر مصادر ذلك في دراسات في الحديث النبوي ، للاعظمي 1 : 191.
(4) انظر مقدمة صحيح مسلم : 13 ، صحيح البخاري كتاب الرهن : 6 ، الشهادات : 20 ، مسند أحمد 1 : 143 ، 351 ، السنن الكبرى للبيهقي 6 : 83.
(5) فتح المغيب 2 : 138.
(6) العلل 1 : 50 ، الطبقات الكبرى لابن سعد 6 : 179 ، تقييد العلم : 102 ـ 103 ، تاريخ أبي زرعة.
(7) الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 216.
(8) الفهرست لابن النديم : 34.
(9) الطبقات الكبرى لابن سعد 5 : 216.
(10) الفهرست : 33.
(11) مسند أحمد 1 : 224 ، 248 ، 294 ، 308 ، مسند الحميدي 1 : 244 ، الجهاد ، الاصابة 2 : 234.
(12) تاريخ الفسوي 3 : 5 ، تاريخ أبي زرعة كما في الدراسات للاعظمي 1 : 118.

(223)

المختصين به ؛ حتى قال سفيان ، قال لي عمرو بن دينار : ماكنت أجلس عند ابن عباس ، ما كتبت عنه إلا قائماً.
ونقل ابن عيينة عن سفيان قوله : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عباس رضي الله عنه من عمرو بن دينار ، سمع ابن عباس رضي الله عنه وسمع أصحابه ، وسيتح لك هذا الأمر بالأرقام حين بحثنا عن رواة المسح عن بن عباس.
رواة المسح عن ابن عباس
الإسناد الاول
عبد الرزاق ، عن ابن جريح ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس ...
ورواة هذا الإسناد أئمة حفاظ ، وقد احتج بهم الناس فضلاً عن أئمة الصحاح والسنن ، فعبد الرزاق قد احتج له الجماعة (1) ومثله ابن جريح (2) وعمرو بن دينار (3) وعكرمة (4) وبما أن الجماعة قد روت لهؤلاء وثبت لكل واحد منهم ملازمة طويلة لمن يروى عنه وفيهم من هو أعلم بعلم ابن عباس من غيره ، فلماذا لا تروى روايتهم عن ابن عباس « الوضوء غسلتان ومسحتان » في صحاح الجمهور؟
ألم يقعوا في أسانيد البخاري ومسلم في روايات أخرى ؟
وإذا حصل ذلك فلم لا يأتي البخاري بخبرهم في المسح عن ابن عباس ؟ مع أنهم قد أتوا بأحاديث أخرى تحتاج إلى تابع كخبر سليمان بن بلال ؟
وعليه ففي السند الأول :
1 ـ عبد الملك بن جريح وهو من المدونين ، وقد كان أول من جمع الحديث بمكة المكرمة (5) ، كما ألف كتباً عدة حتى أنه لما قدم على أبي جعفر قال له : جمعت حديث
_______________
(1) انظر تهذيب الكمال 18 : 57.
(2) انظر تهذيب الكمال 18 : 338.
(3) انظر تهذيب الكمال 20 : 264.
(4) فقد احتج به الجميع إلا مسلماً فقد قرنه بغيره ثم رجع . انظر تهذيب الكمال 20 : 264.
(5) ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ 1 : 160 ، وابن حجر في مقدمة فتح الباري وابن كثير في اختصار

(224)

ابن عباس ما لم يجمعه أحد فلم يعطه شيئاً (1) ، وقد كانت كتبه تحتل مكاناً رفيعاً عند المحدثين ، حتى قال يحيى بن القطان : كنا نسمي كتب ابن جريح كتب الأمانة (2) لصحة ما فيها.
2 ـ وعمرو بن دينار قد مر الكلام عنه ، وأنه ما جلس عند ابن عباس وما كتب عنه إلا واقفاً.
3 ـ وعكرمة ، مولى ابن عباس ، هو من كبار تلامذة ابن عباس والمدونين عنه ، وإن ابن عباس كان يعتني به كثيراً ، حتى قال عكرمة : كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلمني السنة (3)
وكانت عنده كتب ، فقيل أنه نزل على عبد الله الأسوار بصنعاء ، فعدا ابنه [ أي عمرو بن أبي الأسوار ] على كتاب لعكرمة فنسخه ، وجعل يسأل عكرمة ، ففهم أنه كتبه من كتبه ...) (4) وقد روى عن ابن عباس في التفسير (5) ، فترى جميع هؤلاء من أصحاب المدونات.
أما الإسناد الثاني
وهو عبد الرزاق ، عم معمر ، عن قتادة ، عن جابر بن يزيد [ زيد ] أو عكرمة ، عن ابن عباس ...
1 ـ ففيه معمر بن راشد ، وهذا قد كتب الأحاديث وصنف الكتب ، وعد من أوائل من جمع الحديث باليمن (6) ، قال ابن النديم : ... له من الكتب كتاب المغازي (7) ، وآخر في التفسير ، رواه عنه عبد الرزاق وابن المبارك وآخرون ، وكان له كتاب
_______________
علوم الحديث.
(1) تاريخ بغداد 10 : 400 ، شرح علل الترمذي : 67.
(2) دراسات في الحديث النبوي 1 : 286 عن العلل وتاريخ بغداد 10 : 404.
(3) تاريخ الفسوي 3|5 ، تاريخ أبي زرعة كما في الدراسات للاعظمي 1 : 118.
(4) الميزان 3 : 295 ، الجرح والتعديل ، تهذيب التهذيب 8.
(5) الفهرست : 34 كما في الدراسات.
(6) انظر كتاب (أبو جعفر الطحاوي) لعبد المجيد محمود : 152.
(7) الفهرست : 94 كما في الدراسات للاعظمي 1 : 312.

(225)

مشهور آخر باسم الجامع (1).
وعن هشام بن يوسف أنه قال : جاء مطرف بن مازن ، فقال : أعطني حديث ابن جريح ومعمر حتى أسمعه منك ، فأعطيته ، فكتبها ، ثم جعل يحدث بها عن معمر نفسه عن ابن جريح (2).
2 ـ وقتادة بن دعامة ، وهو أحد الاعلام الذين كتبوا الأحاديث وله من الكتب : تفسير القرآن (3) والناسخ والمنسوخ في القرآن (4) وعواشر القرآن (5).
قال أبو هلال ، قيل لقتادة : يا ابا الخطاب أنكتب ما نسمع ؟ قال : وما يمنعك أحد أن تكتب ؟ وقد أنبأك اللطيف الخبير أنه قد كتب ، وقرأ (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) ، قال : كنت أنظر إلى فم قتادة ، فإذا قال : حدثنا كتبت ، وإذا لم يقل لم أكتب (6).
3 ـ جابر بن زيد [ أو يزيد ] والأول هو الصحيح ، قال الرباب : سألت ابن عباس عن شيء ، فقال : تسألوني وفيكم جابر بن زيد (7).
وكان الحسن البصري إذا غزا أفتى الناس جابر بن زيد (8).
وجاء عن تلاميذه أنهم يكتبون عنه ؛ روى حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، فقال : قيل لجابر بن زيد : إنهم يكتبون عنك ، ما يسمعون ، فقال : إنما لله يكتبون (9).
وعكرمة قد مر الكلام عنه ، وابن عباس من أئمة المدونين
_______________
(1) الرسالة المستطرفة للكتاني : 41 كما في الدراسات.
(2) المجروحين : 34 ، الجرح والتعديل 4|1 : 314 ، كما في الدراسات 1 : 196.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد 7|2|23 ، الفهرست لابن النديم : 34 ، كما في الدراسات 1 : 196.
(4) توجد منه نسخة بالظاهرية ، انظر الدراسات للاعظمي 1 : 196.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد 7|2|2 كما في الدراسات.
(6) مسند علي بن الجعد : 118 ، الكفاية : 164 ، انظر الدراسات 1 : 196.
(7) تهذيب التهذيب 2 : 38 كما في الدراسات للاعظمي 1 : 145.
(8) تهذيب التهذيب 2 : 38 نقلاً عن ابن أبي خيثمة كما في الدراسات 1 : 145 وانظر ص 162 منه كذلك.
(9) الطبقات الكبرى 7 : 181.

(226)

أما الإسناد الثالث
وهو ما أخرجه عبد الرزاق عم معمر ، عن عبد الله بن محمد عقيل عن الربيع ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله غسل قدميه ثلاثاً ، ثم قالت لنا : إن ابن عباس قد دخل ... الخبر.
فقد تكلمنا عن معمر ، وبقي عبد الله بن محمد بن عقيل وهو من المدونين كذلك ؛ لقوله : كنت أنطلق أنا ومحمد بن علي ـ أبو جعفر ـ ومحمد بن الحنفية إلى جابر عبد الله [ الأنصاري لنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن صلاته ، فنكتب عنه ونتعلم منه (1) ].
أما الإسناد الرابع
وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ...
ففيه ابن علية ، وهو إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، وكان من الكتبة ، له من المصنفات كتاب الطهارة ، الصلاة ، المناسك ، التفسير (2) ، وقد كتب عن أيوب السختياني (3) ، وكتب عنه علي بن أبي هاشم بن الطبراخ (4) ، وقد مر الكلام عن عبد الله بن محمد بن عقيل.
أما الإسناد الخامس
وهو الحميدي قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ ...
1 ـ ففيه سفيان ابن عيينة ، الإمام الكبير ، وقد بدأ بكتابة الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة ، قال علي بن الجعد : كتبت عن ابن عيينة سنة ستين ومائة
_______________
(1) تقييد العلم : 104 ، الكامل لابن عدي 2 : 113 ، الميزان 2 : 484.
(2) ذكره ابن النديم في الفهرست : 227 كما في الدراسات 1 : 230.
(3) تاريخ أبي زرعة 76 كما في الدراسات 1 : 230.
(4) تاريخ بغداد 12 : 10 كما في الدراسات 1 : 230.

(227)

بالكوفة ، يملي علينا من صحيفة (1).
قال العجلي : كان حديث ابن عيينة نحواً من سبعة الآف ولم يكن له كتب (2).
وقد علق الدكتور الأعظمي على كلام العجلي بقوله : ولا ندري كيف تأول ، علماً بأننا أنه أملى من صحيفة وكتب لأيوب ، وكتب عن عمرو بن دينار وآخرين . وكتابته عن الزهري مشهورة معروفة (3).
قال ابن عيينة ، قال لي زهير الجعفي : أخرج كتبك ، فقلت له : أنا أحفظ من كتبي (4)
وله من المؤلفات : التفسير (5) ، روى عنه جمع أحاديثه المكتوبة ، منهم الحميدي صاحب المسند (6).
2 ـ وعلي بن الحسين هو الإمام السجاد وقد كان من المدونين (7).
أما الإسنادان السادس والسابع فهما اجترار لهذا الإسناد ، لرواية سفيان ابن عيينة الخبر عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، وأن علي بن الحسين قد أرسله إلى الربيع ....
وأنت ترى رجال هذه الأسانيد وأنهم كانوا أئمة حفاظاً ، وقد دونوا الحديث في كتبهم وفي جميع الطبقات ، ولا يهمنا وجود بعض المدونين بعد عصر التدوين بينهم ، فالقيمة في وجود رجال كعلي بن الحسين ، وعكرمة ، وعمرو بن دينار ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وجابر بن زيد ، بين هؤلاء ، وقد كانوا قد دونوا الحديث قبل عصر التدوين الحكومي ، ولذلك تكون لمروياتهم قيمة أكثر من مرويات رواة الغسل ، ولو عاودنا أسماء رواه الغسل عن ابن عباس لعرفت المائز بين الطريقين ، وذلك لعدم وجود مدونين قبل عصر التدوين الحكومي بينهم ، فغالبهم ليسوا من
_______________
(1) تاريخ بغداد 11 : 362.
(2) تاريخ بغداد 9 : 179.
(3) دراسات في الحديث النبوي 1 : 262.
(4) تهذيب التهذيب 4 : 121.
(5) الدراسات ، للاعظمي 1 : 262 عن التهذيب 4 : 121 الانساب ، للسمعاني 5 : 439.
(6) انظر مسند الحميدي ، وعنه في الدراسات للاعظمي 1 : 262.
(7) انظر منع تدوين الحديث ، لنا : 409 ـ 411.

(228)

أصحاب المدونات ، وإن كان أحد منهم فهو غالباً من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي ، فلا مزية لنقلهم ، لاحتمال تأثره بمطامع الحكام.
ورواة الغسل هم :
1 ـ محمد بن عبد الرحيم
2 ـ منصور بن سلمة (أبو سلمة الخزاعي)
3 ـ سليمان بن بلال ـ وهو من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي ـ
4 ـ زيد بن أسلم
5 ـ عطاء بن يسار
6 ـ عثمان بن أبي شيبة
7 ـ محمد بن بشر
8 ـ هشام بن سعد
9 ـ الحسن بن علي الخلال الحلواني
10 ـ يزيد بن هارون
11 ـ عباد بن منصور
12 ـ عكرمة بن خالد (وهو غير مولى ابن عباس المدون لحديثه)
13 ـ سعيد بن جبير ـ من المدونين لكن لم يثبت الطريق إليه ـ
14 ـ مجاهد بن موسى
15 ـ عبد الله بن إدريس ـ من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي ـ
16 ـ محمد بن عجلان ـ من المدونين بعد عصر التدوين الحكومي ـ
17 ـ الهيثم بن أيوب الطالقاني
18 ـ عبد العزيز بن محمد
وبهذا فقد اتضح أن الطرق المسحية عن ابن عباس هي أقوى سنداً وأنقى دلالةً ، وقد رويت بطرق متعددة وفي جميع الطبقات عن المدونين ، بخلاف الغسلية التي لم يروها أحد من المدونين قبل عصر التدوين الحكومي ، وهذا ما يؤكد أن استقرار الوضوء المسحي عن ابن عباس ثبت بجهود المدونين على مر الأجيال . وهو الاخر يؤكد امتداد نهج التعبد المحض في العصور اللاحقة.