جـ ـ ما رواه حبّة العرني عنه

الإسناد
قال ابن جرير الطبري : حدّثني محمد بن عبيد المحاربي (1) ، قال : حدّثنا ابو مالك الجنبي (2) ، عن مسلم (3) ، عن حبّة العرني (4) ، قال : رأيت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه شرب في الرحبة قائماً ، ثمّ توضّأ ومسح على نعليه ، وقال هذا وضوء من لم يحدث هكذا رأيت رسول الله صنع (5).

المناقشة
يغمز في هذا الطريق من عدة جهات :
الأولى : من جهة أبي مالك الجنبي ، فهو وإن لم يجرح بما يسقط الاحتجاج به مطلقاً إلاّ أنّ أهل العلم ليّنوه إلى مرتبة تكون أحاديثه حساناً لا صحاحاً :
فقد قال أحمد بن حنبل : صدوق (6).
وقال البخاري : فيه نظر (7).
____________
(1) هو المحاربيُّ ، ابو جعفر النحاس الكوفي ، روى له ابو داود والترمذي والنسائي (انظر تهذيب الكمال 26 : 70 ، تهذيب التهذيب 9 : 332 ، الثقات لابن حبان 9 : 108) وغيرها من المصادر.
(2) هو عمرو بن هاشم ، ابو مالك الجنبي الكوفي ، روى له ابو داود والنسائي (انظر تهذيب الكمال 22 : 272 ، تهذيب التهذيب 8 : 111 ، التاريخ الكبير للبخاري 6 : الترجمة 2702) وغيرها من المصادر.
(3) هو مسلم بن كيشان الضبّي الملائي البرّاد ، أبو عبد الله الكوفي الأعور ، روى له الترمذي وابن ماجة (انظر تهذيب الكمال 27 : 530 ، تهذيب التهذيب 10 : 135 ، التقريب 2 : 246 ، التاريخ الكبير للبخاري : 7 الترجمة 1145) وغيرها من المصادر.
(4) هو حبة بن جوين بن علي العرني البجلي ، أبو قدامة الكوفي ، روى له النسائي (انظر تهذيب الكمال 5 : 351 ، تهذيب التهذيب 2 : 176 ، تاريخ بغداد 8 : 274) وغيرها من المصادر.
(5) تفسير الطبري 6 : 86.
(6 ـ 7) تهذيب الكمال 22 : 274 ، التاريخ الكبير للبخاري : 6 الترجمة 2702.

(303)

وقال ابو حاتم : ليّن الحديث يكتب حديثه (1).
وقال النسائي : ليس بالقويّ (2).
وقال ابو أحمد بن عديّ : صدوق إن شاء الله (3) ، وقال أيضاً : إذا حدّث عن ثقة فهو صالح الحديث (4).
الثانية : من جهة مسلم الأعور ، الذي تكلّم فيه أئمة الرجال بما يوجب ضعفه وعدم إمكان الاحتجاج به ؛ فقد قال إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين : لاشيء (5).
وقال ابو زرعة : ضعيف الحديث (6).
وقال ابو حاتم : يتكلّمون فيه ، وهو ضعيف الحديث (7).
وقال البخاري : يتكلّمون فيه (8).
وقال ابو داود : ليس بشيء (9) ، وقال الترمذيّ : يضعف (10).
وقال النسائي : ليس بثقة (11).
وقال ابو حاتم ابن حبّان : اختلط في آخر عمره وكان لا يدري ما يحدّث به (12).
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : غير ثقة (13).
وقال ابن حجر : ضعيف.
الثالثة : من جهة حبّة العرني ، فقد قال عباس الدوري ، عن يحيى بن معين : حبة
____________
(1) الجرح والتعديل 1 الترجمة 1478 ، تهذيب الكمال 22 : 274.
(2) تهذيب الكمال 22 : 274.
(3 ـ 4) الكامل ، لابن عدي 5 : 143.
(5 ـ 6) تهذيب الكمال 27 : 532 ، الجرح والتعديل 8 الترجمة 844.
(7) الجرح والتعديل 8 الترجمة 844.
(8) التاريخ الكبير للبخاري : 7 الترجمة 1145 ، وتاريخه الصغير 2 : 93 ، وضعفائه الصغير الترجمة 343.
(9 ـ 10) تهذيب الكمال 27 : 533.
(11) تهذيب الكمال 27 : 534.
(12) المجروحين لابن حبان 3 : 8.
(13) تهذيب الكمال 27 : 534 ، عن أحوال الرجال الترجمة 47.

(304)

العرني ليس بثقة (1).
وقال ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني : غير ثقة (2).
وقال عبد الرحمن بن يوسف بن خراش : ليس بشيء (3).
وقال النسائي : ليس بالقويّ (4).
وقال صالح بن محمد البغدادي : حبّة العرني من أصحاب علي ، شيخ وكان يتشيع ، ليس هو بمتروك ولا ثبت ، وسط (5).
وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كوفيّ ، تابعيّ ، ثقة (6).
وقال يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه : ما رأيت حبّة العرني قط إلاّ يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله اكبر ، إلاّ أن يكون يصلّي أو يحدّثنا (7).
وذكره ابو موسى المدني في الصحابة (8).
وقال ابن عدي في الكامل : ما رأيت له منكراً جاوز الحدَّ إذا روى عنه ثقة ، وقد أجمعوا على ضعفه إلاّ أنه مع ذلك يكتب حديثه (9).
وقال ابن حجر : صدوق له أغلاط ، وكان غالياً في التشيّع (10).
وقال المزي : كان من شيعة علي ، وشهد معه المشاهد كلّها (11).
وقال الذهبي : حبّة هو الذي روى أنّ مع عليّ في صفين ثمانين بدرياً وهذا محال (12).
هذه أهم الاقوال التي وردت في حبّة العرني ، وها أنت ترى أنّ تليينه يأتي لكونه من شيعة علي ومن الّذين شهدوا معه جميع المشاهد ، ولأنهّ روى أنّ هناك
____________
(1 ـ 4) تهذيب الكمال 5 : 352 ، 353.
(5) تاريخ بغداد 8 : 276.
(6) تهذيب الكمال 5 : 353.
(7) تاريخ بغداد 8 : 286 ، تهذيب الكمال 5 : 353.
(8) هامش تهذيب الكمال 5 : 353.
(9) الكامل في الضعفاء 2 : 430 ، ميزان الاعتدال 1 : 450 الترجمة 1688.
(10) تقريب التهذيب 1 : 148.
(11) تهذيب الكمال 5 : 352.
(12) ميزان الاعتدال 1 : الترجمة 1688.

(305)

ثمانون بدرياً في صفين مع عليّ بن أبي طالب.
والحاصل : فإنّ هذا الطريق وعلى أسوأ التقارير لو قيل بضعفهِ فإنّه ممّا يمكن المتابعة عليه لتصحيحه بما تقدّم من الأحاديث المسحيّة الصحيحة.
وأما المسح على النعلين ، فهو يعني المسح على القدمين ، أمّا على تفسير الشيعة فواضح وأمّا على تفسير أهل السنّة ؛ فلأن معنى « هذا وضوء من لم يحدث » عندهم هو الوضوء على طهارة ـ كما أشرنا سابقاً ـ وهذا يؤدي عندهم إلى أنّ فرض الرجلين هو المسح أيضاً ، فالشيعة إذن تتفق كلمتها مع السنة في أن الرواية يستفاد منها ومن غيرها المسح على القدمين ولكنهم إختلفوا في تفسير معنى الحدث في قول علي : هذا وضوء من لم يحدث.
وسيأتي قريباً توضيح معنى هذا العبارة بشيء من التفصيل.

د ـ ما رواه ابو مطر عنه :

الإسناد
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثني أبي ، حدثنا محمد بن عبيد (1) ، حدثنا مختار (2) ، عن أبي مطر ، قال : بينا نحن جلوس مع أميرالمؤمنين علي في المسجد على باب الرحبة جاء رجل ، فقال : أرني وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وهو عند الزوال ـ فدعا قنبر ، فقال : ائتني بكوز من ماء ، فغسل كفيه ووجهه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاً ، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً ، وغسل ذراعيه ثلاثاً ، ومسح رأسه واحدة ، فقال : داخلها من الوجه وخارجهما من الرأس ، ورجليه إلى الكعبين ثلاثاً ، ولحيته تهطل على صدره ، ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ، ثمّ قال : أين السائل عن وضوء
____________
(1) يحتمل كونه محمدبن عبيد بن أبي أميّة الطنافسي ، ابو عبيدالله الكوفي الأحدب ، مولى أياد ، ثقة ، روى له الجماعة (انظر تهذيب الكمال 26 : 54 ، سير أعلام النبلاء 9 : 436 ، تهذيب التهذيب 9 : 327) وغيرها من المصادر.
(2) هو مختار بن نافع التيمي ، ابو اسحاق التمار الكوفي ، روى له الترمذي (انظر تهذيب الكمال 27 : 320 ، تهذيب التهذيب 10 : 69 ، التاريخ الكبير للبخاري : 7 الترجمة 1679) وغيرها من المصادر.

(306)

رسول الله صلى الله عليه وآله ، كذا كان وضوء نبيّ الله صلى الله عليه وآله (1).

المناقشة
يضعّف هذا الطريق من جهتين :
الأولى : من جهة مختار بن نافع ، لجرح غالب أهل العلم له.
فقد قال ابو زرعة : واهي الحديث (2).
وقال البخاري (3) ، والنسائي (4) ، وابو حاتم (5) : منكر الحديث.
وقال النسائي في موضع آخر : ليس بثقة (6).
وقال ابن حبان : كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنّه كان المتعمّد إلى ذلك (7).
وقال ابن الحكم ابو أحمد : ليس بالقويّ عندهم (8).
وقال ابن حجر في التقريب : ضعيف (9).
الثانية : من جهة أبي مطر ، وذلك لجهالته.
قال المزيّ : ابو مطر ، ولا يعرف اسمه (10).
وقال الذهبي : ابو مطر الجهني ، عن علي عليه السلام ، وعنه مختار مجهول (11).
وقال ابن حجر : ابو مطر عن سالم بن عبد الله بن عمر في القول عند الرعد (12).
____________
(1) مسند أحمد 1 : 158.
(2) تهذيب الكمال 27 : 322.
(3) الضعفاء الصغير للبخاري : 227 ترجمة 357.
(4) تهذيب الكمال 27 : 322.
(5) الجرح والتعديل 8 : الترجمة 1440.
(6 ـ 7) تهذيب الكمال 27 : 323 ـ 324.
(8) تهذيب الكمال 27 : 323.
(9) تقريب التهذيب 2 : 234.
(10) تهذيب الكمال 34 : 298.
(11) ميزان الاعتدال : 4 الترجمة 10610.
(12) روى ابو مطر عن سالم عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا سمع صوت

=


(307)

وعنه الحجّاج بن أرطأة وعبد الواحد بن زياد ، والصحيح عن عبد الواحد عن حجاج عنه ، ذكره ابن حبان في الثقات (1).
وقال في التقريب : ابو مطر ، شيخ الحجّاج بن أرطاة ، مجهول من السادسة (2).
نعم ، ذكره ابن حبّان في الثقات (3) ، وتوثيقه لا يمكن الاعتماد عليه لإدخاله كثيراً من المجاهيل في كتابه الثقات.
وأمّا احتجاج الترمذيّ به فلا يعني أنّه مكشوف الحال عنده ؛ لكون الترمذي متساهلاً جداً في التصحيح والتحسين ، فكم من ضعيف أو مستور الحال احتجّ به ، أو روى له ، فلا يعبأ أهل العلم باحتجاج الترمذي في خصوص هكذا موارد.
والحاصل :
إنّ هذا الطريق لا يمكن الاحتجاج به إلاّ على فرض دلالته على المسح ؛ لوجود أكثر من تابع صحيح له مما رواه عبد خير أو النزّال بن سبرة عن علي عليه السلام. ولمتابعة حبّة أيضاً.

هـ ـ ما رواه معقل الجعفي عنه :

الإسناد
قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا محمد بن أبي إسماعيل عن معقل الجعفي ، قال : بال علي في الرحبة ثمّ توضأ ومسح على نعليه (4).
____________

=

الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. (اخرجه البخاري في الادب المفرد : 721 ، والترمذي ح 3450 والنسائي في اليوم والليلة).
(1) تهذيب التهذيب 12 : 228.
(2) تقريب التهذيب 2 : 472.
(3) الثقات لابن حبان 7 : 664.
(4) طبقات بن سعد 6 : 239.

(308)

و ـ ما رواه الحصين عنه :

الإسناد
قال ابن سعد : أخبرنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا حنش بن الحارث عن قابوس بن حصين بن جندب عن أبيه ، قال : رأيت علياً يبول في الرحبة حتى أرغى بوله ، ثمّ يمسح على نعليه ويصلي. (1)

المناقشة
نحن بغض النظر عن البحث السندي لهذين الحديثين اللّذين أخرجهما ابن سعد في طبقاتهِ يمكننا تصحيحهما بالمتابعات المتقدمة ، وهذا لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ولكننا نقول ـ ومن جهة الدلالة ـ : أن المسح هنا لا ينبغي أن يتردد في أنّه محمول على مسح القدمين ؛ إذ قد مرّ عليك سابقاً أن النّعل العربي لا يمنع من تحقق المسح الشرعي ، ومرّ عليك أيضاً في الإسناد السادس من أسانيد عبد خير وغيره من الأسانيد أنّ علياً قال : لولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فعل... لرأيت أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ، وهذا القول ظاهر في أن ما مسح عليه علي إنّما هو القدم لا النعل وإن كانت الرواية قالت إنّ علياً توضأ ومسح على النعلين ، فلو كان الممسوح عليه هو النعل لصار قول علي : «... لولا... » لغواً ، وهذا محال في حق علي وهو رأس الفصاحة وسنامها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ إذ كيف يذكر ظاهر وباطن القدمين مع أنّه مسح على النعلين ؟!.
إذن فلابد من حمل المسح على النعلين أنّه إنّما كان على القدمين لا غير.
____________
(1) طبقات بن سعد 6 : 241.

(309)

البحث الدلالي

بعد أن عرضنا الروايات المسحيّة ، وخصوصاً الصحاح منها في مرويات عبد خير والنزّال بن سبرة ، نقول :
إنّ الصفحات السابقة أوضحت لنا عدم صمود الروايات الغسليّة عن عليّ بن أبي طالب أمام ما صح عنه من مرويات المسح ، إذ كان أحسن ما فيها إسناد عبد خير عن عليّ ، وقد أثبتنا ضعفها في الغسل ـ وأنّها معلولة ـ وقوتها في المسح ، فتقدم روايته للمسح عن علي و.
وإذا تنزلنا وقلنا بقوّة رواية الغسل فهي معارضة برواية المسح عنه ، ولو تعارضتا تساقطتا ، فلا تبقى رواية غسلية حجة بعدها إذن ، وعند ذلك تبقى روايات النزال بن سبرة المسحيّة هى الصحيحة في الباب ، فالأسانيد الأربعة الأوائل بعضها صحيحة بنفسها وبعضها صحيحة بغيرها.
وكذا الحال بالنسبة إلى متونها ، فهي ظاهرة وصريحة الدلالة على المسح ، وأمّا جملة : « وذكر رأسه ورجليه » في خبر البخاري ، فهي الأخرى دالة على مسح القدمين ، وإن كان الراوي لم يصرّح بحكم الرأس والرجلين فيهما ، لأنّ الفصل في كلامه « وذكر رأسه ورجليه » عمّا في الوجه واليدين ، يعني تغيّر الحكم فيهما ، وقد أراد الكرمانيّ الإجابة عن هذا الإشكال فقال :
إن قلت : لِمَ فصَل الرأس والرجلين عمّا تقدم ولم يذكرهما على وتيرة واحدة ؟
قلت : حيث لم يكن الرأس مغسولاً بل ممسوحاً فصَلَهُ عنه ، وعطف الرجل عليه ، وإن كانت مغسولة على نحو قوله تعالى (وأرجلكم) أو كان لابس الخفّ فمسحه أيضاً (1).




وهذا التأويل من الكرماني باطل ولا يسكن إليه قلب الحر ، لعدة جهات :
____________
(1) شرح الكرماني على صحيح البخاري 1 :

(310)

الأولى : إنّ المورد هو بيان صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله من قبل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فلا معنى لإجماله في هذا المورد ، وكذا الحال بالنسبة إلى الراوي ، فلو كان قد اطمأنّ بأنّ علياً غسل رجليه لحكى الوضوء عنه كما حكى عن عثمان وغيره من أنّه مسح رأسه ثمّ غسل رجليه ، وحينما لم يوضح الحكم فيهما بل تركهما مجملين عرفنا أنّ حكمه هو المسح ، وهو يخالف حكم اليدين والوجه بقرينة فصلهما عما قبلهما.
الثانية : إنّ اضطراب الكرمانيّ في كلامه يعرّفنا بأنّ الفصل ممّا يؤكد المسح ولامعنى لتأويله ، والتردّد بمثل قوله : (.. أو كان لابس الخف فمسحه)!!
الثالثة : لو قبلنا جدلاً أنّ قراءة النصب تدلّ على غسل الرجلين ، فإننا نقول أنّ من غير المعقول تصوّر الإجمال في السنّة وبيان مراد الرسول ، إذ اللازم حكاية ما يصدر عنه واضحاً صريحاً لا مبهماً ومجملاً ، وإلاّ لما كانت للإجابة فائدة.
الرابعة : إنّ ممّا يُخطّئ نقل البخاري (وذكر رأسه ورجليه) هو ما ورد في المتون المنقولة بالأسانيد الأخرى عن النزال ، وخصوصاً السند الأوّل منها ، ففيه تصريح بأنّ حكم الرجلين هو المسح لا غير ، وهذا دليل قويّ لإثبات مدّعانا وبطلان رأي الكرماني وغيره.
الخامسة : بما أنّ الحكّام قد استقبحوا المسح ، فلا يستبعد أن يكون هذا النص من البخاري وما جاء في النصوص الأخرى عن غيره من الاضافة والتغيير قد جاء لإرضاء الحاكم ، أو أنّهم استقبحوه لكراهته له!!
ثمّ إنّ الأدهى من ذلك هو أنّ البخاري لم يتعرض إلى جملة (هذا وضوء من لم يحدث) الثابتة في نهاية الحديث ، والتي تقتضي مسح القدمين على أي نحو فسّرت.
قال ابن حجر وهو في معرض الحديث على السند الثاني :... وقد ثبت في آخر الحديث قول علي : هذا وضوء من لم يحدث.
وقال القسطلاني في إرشاد الساري : وقد ثبت في آخر الحديث قول علي رضي الله عنه : وهذا وضوء من لم يحدث.
وقال العيني في عمدة القاري : وقد ثبت في آخر الحديث قول عليّ رضي الله عنه : هذا وضوء من لم يحدث. وفي أحكام القرآن قريب منه فراجع.
والذي يشدد عجبنا أنّ الطحاوي أخرج عن شعبة كالذي أخرجه النسائي وفي


(311)

ذيله « هذا وضوء من لم يحدث » وقال بعده : وليس في هذا الحديث عندنا دليل على أنّ فرض الرجلين هو المسح ، لأنّ فيه أنّه قد مسح وجهه ، وكان ذلك المسح هو غسل ، فقد يحتمل أن يكون مسحه برجله غسلاً أيضاً ».
ونحن وإن كنا سنبين بطلان دعواه هذه في الجزء الثالث من كتابنا إن شاء الله ، لكننا نقول هنا : إنّ حمل المسح في الوجه واليدين على الغسل ، استظهار صارف عن معنى المسح فيهما ، بخلاف حمله على ذلك في الرجلين ، وهما محل النزاع فيكون ادعاؤه مصادرة صريحة.

تفسير قوله
« هذا وضوء من لم يحدث »

وردت هذه الجملة في الإسناد الرابع من طرق عبد خير ، وكذا في بعض أسانيد النزال بن سبرة ، وقد اختلف الأعلام في معناها ، فقال بعض : إنّ المقصود منها هو توضيح حكم الوضوء للمكلّفين وأن المسح على القدمين جائز لمن حافظ على الوضوء ولم يحدث حدثاً ناقضاً له ، وأما الذي أحدث بما يوجب الوضوء مرة أخرى من خروج ريح أو بول أو غائط أو نحوها ـ فوظيفته غسل القدمين لا المسح.
وذهب آخرون إلى أنّ معناها الإحداث في الدين لما شرحوه في بحوثهم ، لكننا قبل ترجيح أحد الرأيين لابدّ لنا من الإشارة إلى أن كلمة (يحدث) من المشتركات اللفظية ، فيمكن إطلاقها على الناقض للطهارة كما يمكن إطلاقها على الابتداع في الدين ، ولا تخالف في الظهور والإطلاق على كلّ واحد منهما.
فممّا يدلّ على الأوّل قوله صلى الله عليه وآله : (لا وضوء إلاّ من حدث) ونحوها.
وعلى الثاني قوله صلى الله عليه وآله (من أحدث في المدينة حدثاً فعليه لعنة الله).
وقوله (كل محدثة في الدين بدعة) وغيرها.
وعلى ذلك فإن تعيين أحد المعنيين يستوجب الوقوف على القرائن والشواهد في


(312)

الباب ، فإنّ قوّت القرائن إرادة معنى الناقضيّة فهو ، وإن دلّت على إرادة الإحداث في الدين فنأخذ به ، فلا محيص عن أن نبحث على ما يعيّن لنا المراد من اللفظ ، وقد تتبعنا القرائن والشواهد ، فرأيناها كالتالي :
الأوّلى : إنّ جملة « هذا وضوء من لم يحدث » لم ترد على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله [ أو أحد من الصحابة غير عليّ بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ] (1) ، وهذا يدلّنا على عدم فصل النبيّ صلى الله عليه وآله بين حكم المحدث وغيره ؛ لكون الوضوء من الأمور المبتلى بها في الحياة اليوميّة ومما يتوقف عليه الكثير من العبادات والقربات الإلهيّة ، فلو كان حقاً هناك فصل في حكم هذه المسألة للزمه صلى الله عليه وآله أن يبيّنه ويوضّحه للمسلمين لكونه رسول رب العالمين والمبلّغ لأحكامه تعالى ، فعدم بيانه لهذا الحكم يرشدنا إلى عدم ثبوت هذا الحكم في الشرع المبين ، إذ أنّ ترك بيان مثل هذا الأمر ـ وضوء المحدث ، ووضوء غيره ـ يعني كتمان رسول الله صلى الله عليه وآله لبعض أحكام الله تعالى والعياذ بالله.
أو إحراجه صلى الله عليه وآله المسلمين بإيجاب إتيانهم بأمور « كغسل الرجلين » مع إمكانهم أدائها بطرق شرعية سهلة لمن حافظ على وضوئه الغسليّ « كمسح الرجلين »!!
وعليه فعدم وجود مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أو موقوف على صحابي آخر غير علي وعمر فيه هذه الجملة ، يرشدنا إلى عدم صحّة ما افترضوه في كلامة عليه السلام من كونه متعلقاً بوضوء من لم يحدث حدث الطهارة.
الثانية : من الثابت في الشرع لزوم نسبة الأحكام إلى الله ورسوله ، فتراهم يقولون : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله قال كذا ، أو خطبنا صلى الله عليه وآله في المسجد فقال ، أو : فعلنا كذا بمحضر الرسول ولم يمنعنا ، أو : ألا أريكم وضوء نبيكم ، أو غير ذلك ممّا جرت به سيرتهم في رفع الأحكام إلى الشارع المقدس ، والوضوء لم يخرج عن هذه القاعدة العامة الشرعية ، ولو تتبّعت المرويات فيه لرأيت أنّ من روى فيه قد رفع حديثه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، لكن لنا سؤال وهو : لماذا لم يرفع الإمام علي جملة « هذا وضوء من لم يحدث » إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في حين نجده ـ في نفس الرواية ـ يرفع قضية شرب فضلة الوضوء وهو قائم إليه صلى الله عليه وآله ؛ فيقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فعل ، أو : إنّي
____________
(1) سيأتي الحديث عن رواية عمر تحت عنوان ما رواه « الصحابة الرواة للمسح ».

(313)

رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فعل كما فعلت ، فما يعني هذا ؟ ولماذا أوقف الجملة الأولى « هذا وضوء من لم يحدث » على نفسه ورفع الثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله « هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فعل » ؟!
ألا يدلّنا هذا على أنّ جملة « هذا وضوء من لم يحدث » ليس لها دلالة على الناقضيّة ، بل فيها إشارة إلى أمرٍ خارجيّ يتعلّق بإِحداث مَنْ قَبله في الوضوء ؟ إذ تراه ينسب الشرب قائماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ـ وهو ليس بأهم من بيان حكم من لم يحدث ـ ويوقف جملة « من لم يحدث » على نفسه ، مع معرفتنا بأنّ الفرض الأصلي هو بيان أحكام الوضوء ، والشرب من قيام أمرٌ متفرع عنه ، فعلى أي شيء يدلّ هذا ، ألا يدل على التخالف بين الفهمين ؟.
الثالثة : إنّ رفع الإمام كلامه في قضية الشرب قائماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يوضّح لنا وجود فكر سائد عند جمع من الناس ؛ مفاده عدم جواز الشرب قائماً ؛ لقوله : (إنّ ناساً يكرهون أن يشربوا وهم قيام...)
فالإمام لمّا رأى اعتقاد هؤلاء بعدم جواز شرب فضلة الوضوء واعتباره (1) شرعاً عاماً عندهم بادعاء نهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن الشرب واقفاً ، جاء ليوضح لهم أنه صلى الله عليه وآله مع نهيه عن الشرب قائماً قد أجاز شرب فضلة الوضوء بالخصوص ، وهذا هو التقييد بعد الإطلاق ، فالناس بنسبتهم إلى النبيّ صلى الله عليه وآله المنع من شرب فضلة الوضوء ، أتوا بأشياء منكرة وأدخلوا في الدين ما ليس منه ، وهو الإبداع والإحداث المنهيّ عنه بعينه ، فالإمام أراد بفعله إبعادهم عمّا تصوروه وأنّ ذلك من الإبداع والإحداث في الدين ، فلا يجوز لهم جعله شريعة يتعبدون بها.
وعليه فيمكن أن يكون الإمام عليّ قد أراد بفعله أن يوضّح أمرين قد خفيا على بعض المسلمين :
الأوّل : إنّ غسل القدمين ليس بشرعيّ وأنّه وضوء من أحدث في الدين ، بخلاف المسح الذي هو وضوء من لم يحدث.
الثاني : جواز شرب فضلة الوضوء وهو قائم ، ومن يعتقد بعدم جوازه فقد أبدع
____________
(1) انظر الناسخ والمنسوخ : 258.

(314)

وأحدث في الدين.
فالإمام قد أوقف الأمر الأوّل على نفسه ؛ لوقوفه على حقيقة تاريخية وبدعة ظاهرة جاءت بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وقبل خلافته ، ورفع الأمر الثاني ـ وهو الشرب واقفاً ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ليزيل عن الناس ما تصوّروه خطأ من عدم جواز فعل ذلك.
الرابعة : إنّ القول بكون جملة « هذا وضوء من لم يحدث » حكماً لمن لم ينقض وضوءه بحدث! يدعونا للقول بوجود حكمين لمتعلّق واحد.
1ـ حكم وضوء من أَحْدَثَ = غسل الرجلين.
2ـ حكم وضوء من لم يحدث = جواز المسح على القدمين.
وهذا لغو وباطل ، ولو صحّ للزم أن يدلّ عليه دليلٌ من الذكر الحكيم أو السنّة المطهرّة ، ولجاء في كلام الصحابة ، وحيثما لم نجد ذلك عرفنا أنّ مقصود الإمام هو الابتداع والإحداث في الدين ، وأنّه قصد بكلامه مَن سبقه في طرح هذه الرؤية المغلوطة وهو الخليفة عثمان بن عفان!
الخامسة : لا يشك احد من المسلمين بان الوضوء مندوب في الشريعة سواء احدث ام لم يحدث ، الا أن بعض المسلمين في الصدر الاول تصور ضرورة الوضوء لكل صلاة ، فقد روى عبد الرزاق بسنده عن حِطّان بن عبد الله الرقاشي ، قال : كنا مع ابي موسى الاشعري في جيش على ساحل دجلة اذا حضرت الصلاة ، فنادى مناديه للظهر ، فقام الناس إلى الوضوء فتوضوا ، فصلى بهم ثمّ جلسوا حلقاً ، فلما حضرت العصر نادى منادي العصر ، فهب الناس للوضوء أيضاً ، فامر مناديه فنادى : إلا ، لا وضوء الا على من أحدث ، قد اوشك العلم أن يذهب ، ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل (1) وروى أيضاً بسنده عن المسدد بن مخرمة ، قال لابن عباس... عبيد بن عمير اذا سمع النداء خرج فتوضا ، قال ابن عباس : هكذا يصنع الشيطان ، إذا جاء فآذنوني ، فلما اخبروه قال : ما يحملك على ما تصنع ؟
قال : أن الله يقول (اذا قمتم إلى...)
____________
(1) مصنف عبد الرزاق 1 : 55 ح 159.

(315)

قال ابن عباس : ليس هكذا اذا توضأت فانت طاهر ما لم تحدث (1).
وروي ايضاً عن ابن جريح أنّه سئل عطاء : الوضوء لكل صلاة ؟
قال عطاء : لا.
قلت : فانه يقول (اذا قمتم...)
قال عطاء : حسبك الوضوء الاول ، لو توضأت للصبح لصليت الصلاة كلها به ما لم احدث.
قلت : فيستحب أن أتوضا لكل صلاة ؟
قال : لا (2).
فهذه النصوص تؤكّد وجود فكرة خاطئة يحملها بعض المسلمين ، وهي الذهاب إلى لزوم الوضوء لكل صلاة أو القول باستحباب ذلك ومحبوبيته ، وهذا القول يدعوهم أن يجعلوا للوضوء عنوانين :
احدهما : التوضا بسبب الحدث الناقض للطهارة ، وثانيهما : التوضا على الطهارة ومن غير حدث باعتباره سنة!!
فابو موسى الاشعري وضّح سقم هذه الفكرة وأن التركيز على شيء اسمه وضوء من لم يحدث بهذا الشكل امر لا علاقة له بالشريعة ، ويزيد الامر وضوحاً لو تاملنا في ذيل كلام ابي موسى « أو شك العلم أن يذهب ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل امه بالسيف من الجهل » فلماذا قال لهم هذا ؟!
ألان أبا موسى ينهاهم عن شيء مشروع ؟ وهذا غير معقول لكونه صحابي كبير!
بل لماذا ؟! ألتفشي الجهل بينهم ؟ فعدم ردّ واحد منهم عليه ليكشف عن قبولهم بخطأهم.
بل أن جسامة القضية هي التي دعت ابي موسى أن يقول مقولته لانه فشا فيهم الجهل إلى حد يؤدي بهم إلى أن يضرب أحدهم امه بالسيف! ومثله الحال بالنسبة لابن عباس ووصفه لوضوء عبيد بن عمير : بأنه من صنع الشيطان ، فلا يعقل
____________
(1) مصنف عبد الرزاق 1 : 57 ح 167.
(2) مصنف عبد الرزاق 1 : 57 ح 165.

(316)

أن يصف ابن عباس فعل مسلم مباح بانه من صنع الشيطان ؟ اذاً هناك امر من وراء الكواليس.
فلم يبق لنا بعد كل هذا إلاّ أن نقول : إنّ ما فعله عبيد إنما كان بدعة لا يتماشي مع ثوابت الوضوء في الاسلام.
ومن اجله وقف ابن عباس امامه لاعتقاده بكون هذا الامر أحدوثة ، وهذا هو الذي اجاز له أن يصف فعل ظاهره الندب بانه من صنع الشيطان لوقوفه على تبنى اشخاص لهذا الراي وخلق منه اتجاه في التشريع الاسلامي.
وما جواب عطاء بنفى الاستحباب الا ليؤكد على هذه الحقيقة كذلك.
ولم يقف ردع التابعين لهذه الفكرة الخاطئة عند عطاء حتى شمل سعيد بن المسيب كذلك ، فقد أخرج ابن ابي شيبة بسنده عن سعيد بن المسيب أنّه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء (1).
فلو تساءلنا : احقا أن وضوء غير المحدث اعتداء ؟ مع ثبوت اباحته عند كل المسلمين ، ام أن وراء هذه المقولة شيء آخر ؟
لكان جوابنا : أنّ سعيد بن المسيب لا يعنى بقوله : إنّ الوضوء المندوب هو اعتداء ، بل كان يريد الاشارة إلى أنّ التعمق في الدين والتعدي عما شرعه الله هو الابتداع وهذا ما يريده هؤلاء لانه التزام بما لم يلزمنا الله ورسوله به ، وهو فعل أهل الجهل حسب وصف أبي موسى الاشعرى لهم ولكونه فهم متاخر من عهد التشريع ـ وأنت ترى ـ أن موقف سعيد بن المسيب لا يقل في الشدة عن موقف أبي موسى وابن عباس وغيرهما ، وقد ذكرنا لك بان هذه النصوص والشدة والحدة التي فيها كافية للدلالة على أنّ هناك نهج اسمه (وضوء من لم يحدث) ، بدءاً بأهل الجهل في زمن أبي موسى الاشعري إلى يومنا هذا.
اقول وبعد كل ما مر من أنّ وضوء من لم يحدث هو من صنع الشيطان ، وأنّه من اهل الجهل ، وأنّه اعتداء في الدين وأنّه ليس بمستحب اذ وقفت على نص الإمام علي وشربه كل ماء واقفا واتيانه بالمسح بعد أنّ بال وحين كان طاهراً.
____________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 1 : 34 ح 295 ، تفسير طبري 6 : 71.

(317)

فمن هنا يمتنع أن يفسر الحدث الوارد في قول على « هذا وضوء من لم يحدث » بما قالوه لان تفسيرهم لكلام الإمام يجعلنا أن نقول بوجود وضوءين احدهما لمحدث والآخر لغيره ، وهذا لم يثبت.
هذا وإنّ فكرة التقسيم هذه ظهرت متاخراً ولم ترد على لسان الصحابة ـ لا صغارهم ولا كبارهم ـ ولا حتى على لسان التابعين ، بعكس موقف النفي والتخطئة والذي ورد على لسان الصحابة والتابعين ، وهذا يكشف على أنّ الوضوء النبوي واحد ـ مع الحدث وبدونه ـ ، وهو الأخر يكشف على ان الذاهبين إلى القول السابق هم الذين اعتدوا على الاحكام بالزيادة فيه وهم الذين رماهم أبو موسى الأشعري بالجهل ، وابن عباس بانه من صنع الشيطان.
وهل تتصور خفاء مثل هذا الامر على صحابه امثال علي بن أبي طالب وهو باب علم رسول الله أو خفائه على ابن عباس وهو حبرالامة أو أبي موسى الاشعري وأنس ابن مالك أو على ابن المسيب و....
فاستبان مما تقدم إنّ قول علي ابن أبي طالب (هذا وضوء من لم يحدث) لا يفيد ما يدّعونه بل هو صريح بنظرنا في الاحداث في الدين وذلك بعد ابطالنا دلالتها على الناقضيه ، واليك كلام ابن عمر كدليل آخر ؛ فقد اخرج الطبري بسنده عن أبي غطيف قال : صليت مع ابن عمر الظهر فاتى مجلساً في دار. فجلس وجلست معه فلما نودي بالعصر دعا لوضوء فتوضأ ثمّ خرج إلى الصلاة ثمّ رجع إلى مجلسه فلما نودى بالمغرب دعا بوضوء فتوضا ، فقلت : أسنة ، ما اراك تصنع ؟
قال [ يعنى ابن عمر ] : لا وإن كان وضوئي لصلاه الصبح كاف للصلوات كلها ما لم احدث (1).
فاذا لم يكن هذا الوضوء سنة فهل تصدق أن يأتي صحابي كعلي ويعلم الناس ماهو ليس بسنة ؟!
والذي يظهر لنا من مجموع الروايات أنّ بذرة الخلاف وارتكاز امثال هذا الفكرة انما كان موجوداً ومنذ عهد رسول الله عند بعض الصحابة فقد اخرج الطبري بسنده
____________
(1) تفسير الطبري 6 : 73.

(318)

عن سفيان بن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن ابيه قال : صلى رسول الله الصلوات كلها بوضوء فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنع ، فقال صلى الله عليه وآله : عمداً فعلته يا عمر (1).
فيشعر هذا النص بان رسول الله كان يتخوف من اتخاذ بعض الصحابة حالة الوضوء لكل صلاة من دون حدث سنة يلتزم بها ، ولهذا قال لعمر : عمداً فعلته.
وروى ابن جرير بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أنه سئل عن وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة ـ طاهراً أو غير طاهر ـ فقال : قالت : اسماء ابنة زيد بن الخطاب ، إنّ عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثنا أنّ النبي أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فامر بالسواك ورفع عنه الوضوء الا من حدث (2).
فهذا النص يوضح أنّ الوضوء لكل صلاة كان مما أمر به النبي ونسخ دفعاً للمشقة ، فقد يكون بعض الصحابة أدخلوا هذا الامر في التشريع اجتهاداً واستحساناً من أنفسهم له أو أنهم لم يقفوا على نسخه.
فنتسائل بعد هذا هل يعقل أن يكون هذا الحكم والذي رفعه الله عن امة النبي تفضلاً أن يعمل به من قبل علي بن أبي طالب وفي ايام خلافته في رحبة الكوفة ، والذي قال عنه النبي ما قال ؟؟!
السادسة : من الثابت كون الإمام عليّ بن أبي طالب من قادة التعبد المحض ؛ إذ كان لا يرتضي الاجتهاد ، بل كان يجدّ لتصحيح ما فتقه من سبقه من الخلفاء ، بخلاف عثمان بن عفان الذي اجتهد في تقديم الخطبة قبل الصلاة في العيدين ، وإتمام الصلاة بمنى ، وعفوه عن عبيدالله بن عمر ، وغيرها... ، وقد رماه الصحابة بالإحداث والإبداع ، فقال له طلحة : إنك قد أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها (3).
وقال الزبير في حقه : اقتلوه فقد بدّل دينكم (4).
____________
(1) تفسير الطبري 6 : 73.
(2) تفسير الطبري 6 : 72.
(3) انساب الاشراف 5 : 29.
(4) شرح نهج البلاغة ، بن أبي الحديد 9 : 36.

(319)

وقال سعد بن أبي وقاص : غيّر وبدّل (1).
وقالت عائشة : اقتلوا نعثلاً فقد كفر (2).
وقال ابن مسعود : ما أرى صاحبكم إلاّ غيّر وبدّل (3).
وقال عمار بن ياسر : قتلناه لإحداثه (4).
وغيرها من النصوص التى مرت عليك وكان الإمام علي قد أنبأ بوقوع ذلك يوم الشورى حيث قال :
« أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنك ، وإنّ قتل أو مات ، ليتداولها بنوأميّة بينهم ، وإن كنت حياً لتجدُنِّي حيث تكرهون ».
هذا ، وقد كان الناس يكررون الطلب من عليّ بن أبي طالب أن يكلم الخليفة في إحداثاته المتكررة ، فدخل عليه وقال : إنّ الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، ووالله ما أدري ما أقول لك ؟ ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على شيء تعرفه ، إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وشيجة رحم منهما... إلى آخره.
فعلي بن أبي طالب حمل في الواقع مهمّة التصحيح على عاتقه فضلاً عن إمامته وخلافته على المسلمين ، وبما أنّ الوضوء كان من الأحكام التي منيت بالتحريف على عهد عثمان بن عفان كان لزاماً عليه عليه السلام أن يقيم أودها ويجبر كسرها ، وذلك بتوضيحه وضوء من لم يحدث في الرحبة !
كانت هذه مجموعة القرائن التي يترجح بها إرادة معنى الإحداث والإبداع في الدين على إرادة الناقضية ، ومما يزيد هذا الاستظهار قوة هو عدم وجود حكم خاصّ
____________
(1) الإمامة والسياسة 1 : 48.
(2) الفتوح لابن الاعثم.
(3) انساب الاشراف 5 : 36 ، شرح النهج 3 : 43 ، حلية الأولياء 1 : 138.
(4) كتاب صفين : 319 ، تاريخ الطبري 4 : 230.

(320)

لغير المحدث في الإسلام ولا عند المسلمين للأدلة التالية :
الأول : ثبت عن ابن عباس قوله (الوضوء غسلتان ومسحتان) و(أبي الناس إلاّ الغسل) و(لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح) ، وثبوت هذا عنه يؤكد على أنّ ما افترضه الله هو المسح لا غير ، دون تفصيل بين من يحدث وبين من لم يحدث !
ثمّ إنّ جملة (أبي الناس) في الخبر الثاني عنه تشير إلى أنّ المعارضين للغسل كانوا تيّاراً حكومياً أحبّوا الغسل لاحقاً لما فيه من الإنقاء والنظافة ، واستجابوا لما دعت إليه الحكومه الأمويّة في أواخر عهد معاوية بن أبي سفيان حسبما اتّضح في مدخل الدراسة ، ويكون قول ابن عباس (أبي الناس إلاّ الغسل) عبارة أخرى عن الوضوء المحدَث في زمن عثمان والذي امتدّ وبقي حتى العصر الأموي ، فحاربه ابن عباس أيضاً ، ودلل على أنّ الوضوء الصحيح الذي ليس فيه إحداث وابتداع هو غسلتان ومسحتان لا غير.
ثمّ إنّنا نعلم أنّ القول بالمسح لغير المحدِث متفرّع على القول بالغسل ، وذلك لأنّ القائلين بالغسل حينما لم يستطيعوا ردّ الروايات المستفيضة عن عليّ في أنّ مذهبه المسح ، عمدوا إلى تغيير معنى الإحداث الديني إلى الناقضية ، لكنّ نفي ابن عباس وجود حكم غسليٍّ للوضوء يُصرّح بعدم وجود حكم اسمه « وضوء من لم يحدث » ـ بمعنى الناقضية ـ في الشريعة الإسلامية.
الثاني : قد ثبت في رواية المسيء أن رفاعة بن رافع ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وآله : (لا يتم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين).
وفي هذا دلالة على أنّ ما فرضه الله تعالى للمتوضئ هو مسح القدمين لا غير. وذلك لأنّه صلى الله عليه وآله كان في مقام بيان ما فرضه الله من أحكام الوضوء للمسلمين عموماً ، وللمسيء الذي كان يجهلها خصوصاً ، فلو كان ثمة رخصة أو شيء اسمه وضوء من لم يحدث لبيّنه النبيّ صلى الله عليه وآله في تعاليمه ولذكره له.
وأمّا جملة (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله) في هذه الرواية ففيها إشارة إلى دحض مسلك الرأي ، واستغلالهم مفهوم الإسباغ للإكثار من الغسلات ، وللتدليل على غسل الأرجل ؛ لما مرّ عليك من قول عائشة لعبد الرحمن (اسبغ الوضوء ، فإني


(321)

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ويل للأعقاب من النار) وتعليل الحجّاج بأنّه أقرب للخبث.
فالرواية تدل على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أراد بقوله الإشارة إلى تحقق الإسباغ في الأعضاء المغسولة والممسوحة سواء بمرّة أو مرتين ، إذ الإسباغ ليس ناظراً إلى التعدّد ، بل هو يتحقق في كيفية الغسل والمسح ، فرُبّ غسلة واحدة مسبغة ، ورب ثلاث أو أربع غسلات غير مسبغات ، وكذلك المسحات ، ويـؤكد ذلك أنّ الرواية مع ذكرها للمسح وعدم ذكرها لتكرار الغسل ، ذكرت إسباغ الوضوء ، إذ لا ملازمة ولاربط بين الإسباغ والتعدّد كما لا يخفى ، فلا وجه لتعميمه إلى الثلاث والاستفادة منه في إيجاب غسل الأرجل.
وأمّا قوله صلى الله عليه وآله : « لا تتمّ صلاة لأحد » فانّه صلى الله عليه وآله أراد منها التأكيد على لزوم التعبّد بما أمر به الله ، لا استخدام الرأي والاستحسان للإكثار من الماء والإسراف فيه ، وبما أنّ حكم الرأس والرجلين كان المسح ، فلابد من الالتزام بأوامر النبيّ صلى الله عليه وآله وعدم إبدالها تبرّعا بالغسل.
الثالث : إنّ ما رواه أوس بن أبي أوس من أنّه رأى النبيّ صلى الله عليه وآله أتى كظامة قوم بالطائف فبال.... ثمّ توضّأ ومسح على قدميه ، يؤكّد على عدم وجود حكم وضوء من لم يحدث ، لأنّه قال : (بال ، ومسح على قدميه) ، وفي هذا دلالة على أنّ المسح حكمٌ لمن أحدث لا لمن لم يحدث !
وأمّا ما ادّعاه هشيم في آخر الخبر بقوله : كان هذا في أوّل الاسلام ، يعني بكلامه أنه نسخ لاحقاً ، فهو كلام مردود ، وادعاء محض سنجيب عنه في آخر هذا القسم وندلّل على عدم وقوع النسخ.
والحاصل : فإن هذه الرواية دليل آخر على نفي وجود حكم الغسل لمن أحدث ، واختصاص المسح بغير المحدث ، بل هي صريحة في أنّ المسح هو حكم ابتدائي لمن أحدث.