وقفة مع قوله « لرأيت »

مر عليك خبر عبد خير عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، وأنّه رأى الإمام يمسح ظهور قدميه ويقول : لولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله مسح على ظهورهما لظننت أن بطونهما أحقّ. وقد كنّا أثبتنا في مدخل الدراسة انقسام المسلمين إلى نهجين في الوضوء ، وأنّ دعاة الغسل كانوا من أصحاب الرأي ومن الذين ينظرون إلى الأحكام من زاوية استحسانية ذوقية ، لا تعبديّة شرعيّة.
وأنّ دعاة المسح كانوا من المتعبّدين بفعل وقول رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ وقد شهد لهم بذلك الخليفة عثمان بقوله : (إنّ ناساً يتحدثون بأحاديث لا أدري...)
فالإمام علي أراد بقوله هذا إلزام اتّجاه الرأي بما ألزموا به أنفسهم ـ مثلما فعل ابن عباس معهم ـ فقال لهم ـ ما معناه ـ : لو كان المسح من الأمور العاديّة ومن المستحسنات النفسيّة لكنت أرى مثل ما ترون ـ أنّ مسح باطن القدم أولى من مسح ظاهرها ـ لكنّي بما أني من المتعبدين بقول وفعل النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكون الوضوء من الأمور الشرعيّة لا العرفيّة والإجتماعيّة. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على ظهورهما فألزمت نفسي بالمسح وترك الاجتهاد مقابله.
ومثله قوله في خبر عبد خير (السند الثالث والخامس) : كنت أرى باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح ظاهرهما...
ومجيء هذا النص عنه في تلك الفترة من تاريخ الإسلام يؤكّد مدّعانا من أنّ النهج الحاكم كان وراء تطبيق الغسل والدفاع عنه بالاستحسان والذوق الشخصي ، وأنّهم استغلّوا مفهوم (اسبغوا الوضوء) و(ويل للأعقاب من النار) وما شابهها مماصدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله للتدليل على ما يريدون ، والمطالع في أبواب الفقه والحديث في كتب أهل السنة والجماعة يرى تصدّر أحاديث (ويل للاعقاب من النار) لأبواب غسل الرجلين ، في حين أنه لا دلالة لها عليه ، وإنّ الحكم مختصّ بالعقب


(323)

لتعرضه للنجاسة في غالب الأحيان ، فلو صحّ عندهم خبرٌ دالّ على مشاهدة حسيّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله لاستدلّوا به على غسل الرجلين ، ولما اكتفوا بهذه الجملة للتدليل على الغسل ، مع أنك عرفت سقم محكيات الصحابة وطرقهم الغسليّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله .
وإليك الآن ما أخرجه مسلم في صحيحه ـ باب غسل الرجلين ـ بسنده إلى سالم مولى شدّاد ، قال : دخلت على عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله يوم توفي سعد بن أبي وقاص ، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فتوضّأ عندها ، فقالت : يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ويل للأعقاب من النار (1).
وفي مسند أحمد :... فأساء عبد الرحمن ، فقالت عائشة : يا عبد الرحمن ، أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : ويل للأعقاب يوم القيامة من النار (2). فهذان النصان يوضّحان لنا أن وضوء عبد الرحمن يغاير وضوء عائشة ، لقول عائشة له : (أسبغ الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ويل للأعقاب من النار) ، ولِما نقله الراوي (فأساء عبد الرحمن ، فقالت عائشة....) فإن عائشة لو كانت قد رأت رسول الله صلى الله عليه وآله قد غسل رجليه للزمها أن تقول : يا عبد الرحمن اغسل رجلك ، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يغسل رجليه ، وحيث لم تر رسول الله صلى الله عليه وآله يغسل رجليه استدلّت على وجوب الغسل بقوله صلى الله عليه وآله : ويل للأعقاب من النار ، لا برؤيتها.
والبصير العالم يعلم بأنه لا دلالة في (أسبغ الوضوء) و(ويل للاعقاب من النار) على غسل الأقدام ، بل إنّ لكلّ واحدة من الجملتين مفهوماً يختص بها حسبما سنوضحه في المجلد الثالث من هذا الكتاب « الوضوء في الكتاب واللغة ».
نعم ، إنّ الرأي قد استخدم لترسيخ وضوء الخليفة عثمان بن عفان ، ومما يؤيّد ذلك ما أخرجه الطبري بسنده إلى حميد ، قال : قال موسى بن أنس لأنس ـ ونحن عنده ـ : يا ابا حمزة إنّ الحجّاج خطبنا بالأهواز ونحن معه نذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وإنه ليس من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
____________
(1) صحيح مسلم 1 : 213|25.
(2) مسند أحمد بن حنبل 6 : 112.

(324)

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى (وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم ) (1) ‌.
فترى الحجّاج ـ في هذا النص ـ استخدم الرأي في إلزام الناس بغسل أرجلهم معلّلاً بأنه أقرب شيء إلى الخبث ، فجملة الإمام علي عليه السلام المارة آنفاً « لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أول من ظاهره ، إلاّ أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على ظاهره » ناظرة إلى دحض مثل هذا الاتجاه الدخيل المتولّد في خلافة عثمان بن عفان ، ومثلها جملة أنس بن مالك ، فهي ناظرة إلى دحض امتداد ذلك الاتجاه الذي شجّعه الحجّاج وأتباع السلاطين ، ولا يفوتك أنّ قول أنس ـ وهو خادم النبيّ صلى الله عليه وآله في زمن متأخر جدّاً يدلّ دلالة واضحة على بطلان ما ادعي من نسخ حكم المسح بالغسل ، إذ لو كان ثمة نسخ لما خفي على أنس بن مالك ، وهو هو في قربه من النبيّ صلى الله عليه وآله.
ومن هنا نفهم مقصود الرسول صلى الله عليه وآله حيث قال : تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ، ثمّ تعمل برهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثمّ تعمل بالرأي ، فإذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا (2).
____________
(1) تفسير الطبري 6 : 82 ، تفسير ابن كثير 2 : 44 ، الجامع لاحكام القرآن 6 : 92 ، الدر المنثور 2 : 262.
(2) كنز العمال 1 : 180|915.

(325)

نسبة الخبر إليه

لا ينكر احدٌ استمرار النزاع بين قريش وبني هاشم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتأثير هذا النزاع على فقه المسلمين من بعد ؛ لانقسامهم إلى نهجين فكريّين في الشريعة ، فبعض الصحابة ـ وعلى رأسهم أكثر المهاجرين ـ قد شرّعوا الرأي وأخذوا به قبال النص ، بخلاف بني هاشم وجمع آخرين من الصحابة الذين أكّدوا على لزوم إستقاء الأحكام الشرعيّة من القرآن والسنة المطهرة ، ولم يعطوا للرأي قيمةً أمام النصّ القرآني والنبوي.
وقد شرح الإمام عليّ بن أبي طالب هذا الانقسام موضّحاً دور قريش في بدء الدعوة وسعيها لاستئصال الدين ودفنه عند منبته ، مشيراً إلى دور بني هاشم وأنّهم الذين دافعوا عن الإسلام ، ووقوه بأموالهم وانفسهم ، حتى قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله (.. إنّهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد ، وشبّك بين أصابعه) (1).
وبما أنّ قريشاً لم يمكنها الوقوف بوجه الدّعوة ، انضوت تحت لوائه مرغمة ، منتظرة أن يأتي اليوم الموعود ـ وهو رحيل الرسول الأعظم ـ كي يحققوا ما يهدفون إليه ، وقد أخبر سبحانه بوقوع هذا الانقلاب بقوله (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم).

إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بالفتنة
وجاء في كلام للإمام علي مخاطباً (أهل البصرة) حين قام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنها ؟
فقال عليه السلام : إنّه لما أنزل الله سبحانه قوله (الم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون ) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرنا ، فقلت :
____________
(1) سنن النسائي 7 : 131 ، سنن أبي داود 3 : 146|2980.

(326)

يا رسول الله : ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها ؟
فقال : يا عليّ إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي.
فقلت : يا رسول الله : أو ليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استشهد ، من استشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة ، فشق ذلك عليّ ، فقلت لي : أبشر ، فإنّ الشهادة من ورائك ؟ فقال لي صلى الله عليه وآله : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذن ؟.
فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ، ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر.
وقال صلى الله عليه وآله : يا علي إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع.
قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة ؟
فقال : بمنزلة فتنة (1).
وأخرج الحكيم الترمذي عن عمر بن الخطاب ، قال : أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أعرف الحزن في وجهه ، فأخذ بلحيتي ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أتاني جبريل آنفاً فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون.
قلت : أجل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فممّ ذاك يا جبرائيل.
فقال : إنّ أمتك مفتتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير.
قلت : فتنة كفر أو فتنة ضلالة ؟
قال : كلّ ذلك سيكون.
قلت : ومن أين ذاك ، وأنا تارك فيهم كتاب الله ؟
قال : بكتاب الله يضلّون ، وأوّل ذلك من قبل قرّائهم وأمرائهم ، يمنع الأمراء حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ، وتتّبع القراء أهواء الأمراء فيمدّونهم في الغي ثمّ
____________
(1) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 220 ضمن ط 156 ، خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.

(327)

لايقصرون.
قلت : يا جبرئيل ، فبم يسلم من سلم منهم ؟
قال : بالكف والصبر ، إن أُعطوا الذي لهم أخذوه ، وإن منعوه تركوه (1).

تحذير عليّ بن أبي طالب الناس من الفتنة
وقال لما بويع في المدينة : ذمّتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ، إنّ من صرحت له العِبر عمّا بين يديه من المَثُلات ، حجزته التقوى عن تقحّم الشبهات ، ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله ، والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنَّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ، ولتُساطن (2) سَوْطَ القِدْرِ ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنَّ سابقون كانوا قصَّروا ، وليُقصِّرنَّ سبَّاقونَ كانوا سبقوا ، والله ما كتمت وشمة (3) ، ولا كذبت كذبة ، ولقد نُبئت بهذا المقام وهذا اليوم ، ألا وإنّ الخطايا خيل شُمس (4) حمل عليها أهلها ، وخلعت لُجُمُها (5) فتقحمت (6) بهم في النار ، ألا وإنّ التقوى مطايا ذلل (7) ، حُمل عليها أهلها ، وأُعطوا أزمّتها ، فأوردتهم الجنة. حق وباطل ، ولكلٍّ أهلٌ ، فلئن أمِرَ الباطل لقديماً فعل ، ولئن قلَّ الحق فلربّما ولعلَّ ، ولقلَّما أدبر شيء فأقبل ! (8)
موقف قريش مع الرسول والرسالة
نعم ، إنّ قريشا أردات قتل الرسول واجتياح أصل الإسلام ، بعكس بني هاشم
____________
(1) الدر المنثور 3 : 155 عن الترمذي.
(2) لتساطن : من السوط ، وهو أن تجعل شيئين في الاناء وتضربهما بيديك حتى يختلطا فينقلب اعلاها اسفلها ، وهو حكاية عما يوولون إليه من الاختلاف وفساد النظام.
(3) الوشمة : الكلمة.
(4) الشُمُسُ : جمع شموس وهى من شَمَسَ كنصر : أي منع ظهره أن يركب.
(5) جمع لجام ، وهو عنان الدابة التي تلجم به.
(6) تقحمت به في النار : أي أردته فيها.
(7) الذلل : جمع ذلول ، وهي المروضة الطائعة.
(8) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 57.

(328)

الذين دافعوا عنه وجادوا بأنفسهم لحماية دينه.
فقريش ـ مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقي أصحابه بأهل بيته ـ كانوا ينقلون عنه عكس ذلك ، والمطالع في كتب الإمام علي لمعاوية يقف على حقائق كثيرة في تاريخ الإسلام واختلاف المسلمين ، وإليك هذا المقطع من أحد كتبه عليه السلام لمعاوية وفيه :
.... فأراد قومنا قتل نبيّنا ، واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا العذب ، وأحَلُّونا الخوف ، واضطرونا إلى جبل وعر ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، فعزم الله لنا على الذبّ عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، مؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل ، ومن أسلم من قريش خلوٌ مما نحن فيه بحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه ، فهو من القتل بمكان آمن (1) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا احمرّ البأس ، وأحجم الناس ، قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ الأسنّة والسيوف ، فقتل عبيدة بن الحارث [ وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله ] يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أُحد ، وقتل جعفر يوم مؤتة ، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة ، ولكنّ آجالهم عُجِّلت ومنيّته أجّلت ، فيا عجباً للدهر ؛ إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي ، ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها إلاّ أن يدّعي مدّعٍ ما لا أعرفه ولا أظنّ الله يعرفه (2).
ثمّ كشف عليه السلام في خطبة أخرى سرّ مخالفة قريش لهم وأنه يرجع إلى تفضيل الله لأهل البيت دونهم ، فقال : مالي ولقريش ! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين ، وإنّي لصاحبهم بالأمس ، كما أنا صاحبهم اليوم ! والله ما تنقم منّا قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا (3).
وفي كلام له عليه السلام بعد أن وعظهم وحذّرهم من الشيطان ، ودعاهم للاعتبار بالأمم السالفة ، وذكرهم النعمة برسول الله صلى الله عليه وآله ثمّ قال : (ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ، بأحكام الجاهلية ، فإن الله سبحانه
____________
(1) علق محقق النهج بقوله : كان المسلمون من غير آل البيت آمنين على انفسهم ، إمّا بتحالفهم مع بعض القبائل أو بالاستناد إلى عشائرهم.
(2) نهج البلاغة : 368|9.
(3) نهج البلاغة : 77|ضمن ط33.

(329)

قد امتنَّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلها ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوفين لها قيمة لأنّها أرجع من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ حظٍّ.
واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ، ما تنطقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه إلى أن يقول : ألا وقد قطعتم قيد الاسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتّم أحكامه ، ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي ، والنكث والفساد في الأرض.
ثمّ أخذ يصف حاله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسبقه إلى الاسلام ، بقوله : (أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب ، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر ، وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ؛ يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ؛ ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحِراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة : وأشمّ ريح النبوة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله) (1).

المُتقون والفساق وبعض صفاتهم
ثمّ ذكر عليه السلام في آخر النص السابق عتوّ قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله ، وطلبهم منه أن يدعو لهم شجرة كانت أمامه صلى الله عليه وآله أن تأتيه ، فلما أتاهم بها أعرضوا كفراً وعتواً. والإمام في خطبة أخرى نقل لنا صفات المتّقين والفساق ممّا يمكن أن يكون فيهما إشارة إلى الصنفين في عهده ، فقال عليه السلام في صفة المتقين :
____________
(1) نهج البلاغة : 298|ضمن ط192.

(330)

(... فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الجبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه ، وتصيير كلّ فرع إلى أصله).
ثمّ وصف الفساق بقوله :
(وآخر قد تسمّى عالماً وليس به ، فاقتبس جهائل من جهال وأضاليل من ضلال ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه ، وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمن الناس من العظائم ، ويهوّن كبير الجرائم ، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع ، ويقول : أَعتَزِل البدع وبينها اضطجع) (1).

مكانة أهل البيت في الأمة والتشريع
ثمّ أخذ عليه السلام يصف عترة النبيّ صلى الله عليه وآله بقوله : فأين تذهبون وأنى تؤفكون ، والأعلام قائمة والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ، وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.
أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين « إنّه يموت من مات منا وليس بميت ، ويبلى من بلي منّا وليس ببال » فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإن أكثر الحقّ فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجة لكم عليه ، وهو أنا ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ! قد ركزت فيكم راية الإيمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام ، وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ، ولا تتغلغل إليه الفكر (2).
وفي آخر (... لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحدٌ ، ولا يسوّى بهم من جرت
____________
(1) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 118|87 ، |ضمن 87.
(2) نهج البلاغة : 120.

(331)

نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة. وكان قد قال قبلها عن آل النبيّ صلى الله عليه وآله : هم موضع سرّه ولجأُ أمره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه) (1).
وفي كلام آخر له يذكر فيه آل محمد : (هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حِكَم منطقهم ، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحق إلى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل) (2).
وفي آخر : (انظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم واتّبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا) (3).

حال الأمّة في عهد عليّ بن أبي طالب
وقال عليه السلام في بيان الأسباب التي تهلك الناس : (وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ! لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المهمات على آرائهم ، كأن كلّ امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات ، وأسباب محكمات) (4).
وقد قال عليه السلام لمّا انصرف من صفين :
(... والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين ، وتزعزعت سواري اليقين ،
____________
(1) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 47.
(2) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 358.
(3) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 143.
(4) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 121|87.

(332)

واختلف النجر وتشتت الأمر ، وضاق المخرج ، وعمي المصدر ، فالهدى خامل والعمى شامل ، عُصي الرحمن ، ونُصر الشيطان ، وخُذل الإيمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكّرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفت شُرُكُه ، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله ، بهم سارت أعلامه وقام لواءه ، في فتن داستهم بأخفافها ، ووطئتهم بأظلافها ، وقامت على سنابكها ، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون...).
ومنها قوله : (أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله ؛ فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل ـ إلى أن يقول ـ أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التيه) (1).
وقال في نص آخر : (أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة...) (2) وفي آخر : (قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السنن وأرز المؤمنون ، ونطق الضالّون المكذّبون ، نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سُمِّي سارقاً) (3).
وفي آخر : وأخذوا يميناً وشمالاً ، طعناً في مسالك الغي وتركاً لمذاهب الرشد.
ومن وصيته للحسن عند انصرافه من صفين : (.. وان أبتدئَكَ بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ، ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة) (4).
وفي كلام له في سحرة اليوم الذي ضرب فيه :
(ملكتني عيني وأنا جالس ، فَسَنَح لي (5) رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت : يا رسول الله ، ماذا لقيت من أمتك من الأود والّلدد ؟
____________
(1) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 319.
(2) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 52.
(3) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 208.
(4) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 394.
(5) مرّ بي كما تسخ الظبا والطير.

(333)

فقال : ادعُ عليهم.
فقلت : أبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً لهم منّي) (1).
وفي كلام له :... وإنّما الأئمة قوّام الله على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، ولا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه...) (2).
توضح لنا هذه النصوص امتداد النهجين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتصدّر قريش المعارضة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، بعد أن عارضته في حياته ، وقد مرّ عليك حكاية الإمام علي عليه السلام طلبهم من رسول الله صلى الله عليه وآله أن يأتيهم بالشجرة التي أمامه ، ولما أتاهم بها قالوا إنّه ساحر.
نعم إنّ قريشا قد نقضت البيعة ، وثلمت حصن الله بأحكام الجاهلية ، وفي عهدهم أرز المؤمنون ونطق الضالّون المكذّبون وتصدّر الجهّال لأمور الدين ، وحكّموا العصبية والقبليه في الشريعة ، وعملوا بغير علم « فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلاّ بعداً من حاجته ، لأنّ العامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح ، فلينظر ناظر ، أسائر هو أم راجع » (3).
وقد وضّح الإمام بخطبه ورسائله انحراف الأمّة عن الشريعة ، وتحكيم الرأي والبدع والأهواء فيها ، مؤكّداً عليه السلام لزوم اتّباع أهل البيت ، لأنّ الابتعاد عنهم يعني الخروج عن الجادّة والسير على غير هدى ، وقد صنف الإمام الناس إلى رجلين : متّبع شرعة ، ومبتدع بدعة ليس معه من الله سبحانه برهان سنة ولا ضياءُ حجّة.
في آخر عرّف أهل البيت بأنهم « الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولاتوَتى البيوت إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً »
« وإنّ من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التيه ». وكان قد قال قبلها « أيّها الناس لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلة أهله ، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل ».
كل ذلك وهو يؤكد على مكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنه كان يتّبعه اتّباع الفصيل
____________
(1) نهج البلاغة : 99.
(2) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 212.
(3) نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح : 216.

(334)

لأمّه ، وأنّه صلى الله عليه وآله كان يمضغ الشيء ثمّ يلقمه اياه ؛ كنايةً عن قربه منه واهتمامه به ، وقد شمّ ريح النبوّة ورأى نور الوحي. وقد كان عليه السلام قد أكد مراراً على لزوم اتباع أهل البيت وأخذ سمتهم واتّباع أثرهم « لأنّهم لم يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى »
وفي قول آخر « فأين تذهبون ، وأنى تؤفكون ، والأعلام قائمة والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم ، وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم ، هم أزمّة الحق وأعلام الدين » وفي قول ثالث : « وإنّه لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه ».
وهذه النصوص توضح مراد الإمام وأن هناك نهجان : نهج الرأي والاجتهاد ، الذي قد تصدرته قريش والامويون ، ونهج التعبد المحض المتمثل بأهل بيت الرسالة والمتعبّدين من الصحابة.
نعم ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخبر بأن أمّته تعمل برهة بكتاب الله ، ثمّ برهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ثمّ تعمل بالرأي ، فاذا عملوا بالرأي فقد ضلّوا وأضلوا (1).
وإنّ في نهي أهل بيت النبوة عن العمل بالرأي وتأكيدهم على لزوم استقاء الأحكام من الكتاب العزيز والسنة ، لتصريح وتلويح إلى وجود النهج المقابل لهم (2).
ونحن بتقديمنا ما مر كنا نبغي ايقاف القاري العزيز على أنّ الخلاف السياسي قد اثر على الاختلاف الفقهي بين المسلمين ، وهو الاخر قد وضّح لنا اهداف بعض الجهات في التشريع الاسلامي.
وقد كنا بينا سابقاً ـ في نسبة الخبر إلى ابن عباس ـ بعض الشيء في سبب اختلاف النقل عن الصحابي الواحد والدواعي والاسباب الكامنه وراءه ، والان مع بيان أمر آخر وهو دور الرأي والاجتهاد في الانحراف الفقهي بعد رسول الله ، لاعتقادنا بأن في تبيين هكذا امور ـ غير مطروحه لحد اليوم ـ المعين الصافي والمنبع الدافق لتفهم تاريخ التشريع الاسلامي.
____________
(1) كنز العمال 1 : 180|915.
(2) لو اردت المزيد فيمكنك مراجعة كتابنا (منع تدوين الحديث) ففيه ما يوضح انقسام المسلمين بعد رسول الله.

(335)

نعم ، قد شرّع التحريف لاحقاً وقد كان للامويين والقرشيين الدور الاكبر فيه ، وإنّ رسول الله وبتأكيده على العترة كان يريد ارشادهم ـ وإيانا ـ إلى أن الخلاف السياسي بين الصحابة سيوصل الامة إلى الابتعاد الفقهي عن العترة ، وهذا يسبب لهم الابتعاد عن سبيل الرسول ، لانا نعلم بان السنه هي الطريقة ، في اللغة ، والاضلال معناه الابتعاد عن الدرب ، فقد يكون صلى الله عليه وآله اراد بكلامه في حديث الثقلين (ما إن اخذتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا) الاشارة إلى لزوم استقاء الاحكام عنهما وعدم التأثر بالمؤثرات السياسيه ، لان في ذلك الابتعاد عن نهج رسول الله وسنته.
هذا وإنا كنا بينا في نسبة الخبر إلى ابن عباس بعض الجهات في التشريع ، والان مع بيان جذور تشريع الرأي والاجتهاد قبال النص وملابسات هذا الامر عند المسلمين لان فيه الخبر الكثير لتفهم تاريخ التشريع الاسلامي وما جرى عليه من أمور.

الامة بين الرأي والاجتهاد
عن الباقر عليه السلام أنّه قال لجابر : يا جابر ! لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُفتيهم بآثار من رسول الله صلى الله عليه وآله وأُصول عنه ، نتوارثها كابر عن كابر ، نكنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم (1).
وسأل رجل الصادق عن مسألةٍ فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرايت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟
فقال له : مَه ! ما أجبتك فيه شيء فهو عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، لسنا من (أرأيت) في شيء (2).
عن سعيد الأعرج ، قال : قلت لأبي عبد الله (الصادق) إنّ من عندنا ممّن يتفقّه ، يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنّة نقول فيه برأينا.
فقال أبو عبد الله : كذبوا ، ليس شيء إلاّ قد جاء في الكتاب وجاءت به السنّة (3).
____________
(1) بصائر الدرجات : 300 و299.
(2) الكافي 1 : 58.
(3) مستدرك وسائل الشيعة 17 : 258 ، اختصاص المفيد : 281.

(336)

وعن الباقر قوله : ما أحد أكذب على الله وعلى رسوله ممّن كذّبنا أهل البيت أوكذب علينا ، لأنّا إنّما نحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن الله. فإذا كُذّبنا فقد كُذّب الله ورسوله (1).
وقال : لو أنّا حدّثنا برأينا ضللنا كما ضلّ من كان قبلنا (وفي آخر : فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس) (2) ولكنّا حدّثنا ببيّنة من ربّنا بيّنها لنبيّه فبيّنها لنا (3).
وفي خبر آخر عنه عليه السلام : إنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله عليّاً وعلّمنا والله الحديث (4).
وعن الصادق أنّه قال : إنّ الله بعث محمّداً فختم به الأنبياء فلا نبيَّ بعده ، وأنزل عليه كتاباً فختم به الكتب فلا كتاب بعده ـ إلى أن قال ـ : فجعله النبيّ صلى الله عليه وآله علماً باقياً في أوصيائه فتركهم الناس ـ فهم الشهداء على أهل كلّ زمان ـ حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر ، وطلب علومهم ، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه تأويله ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره إذ لم يأخذوا عن أهله فضلّوا وأضلّوا (5).
وقال النبيّ صلى الله عليه وآله : من أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (6).
وعن محمد بن حكيم قال قلت للصادق : إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم ، فقال : لا ، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه (7) !
وقد جاء هذا الكلام بنحو آخر عن الباقر ، وذلك حينما ذكر له عن عبيدة
____________
(1) جامع احاديث الشيعة 1 : 181.
(2) بصائر الدرجات : 301.
(3) بصائر الدرجات : 299.
(4) جامع أحاديث الشيعة 1 : 184 عن الكافي.
(5) جامع أحاديث الشيعة 1 : 220 عن تفسير العيّاشي.
(6) جامع أحاديث الشيعة 1 : 153.
(7) المحاسن : 212.

(337)

السلمانيّ أنّه روى عن عليّ بيع أُمّهات الأولاد ، فقال الباقر : كذبوا على عبيدة أو كذب عبيدة على عليّ ، فما حدّثناكم به عن عليّ فهو قوله ، وما أنكرناه فهو افتراء عليه ، ونحن نعلم أنّ القياس ليس من دين عليّ ، وإنّما يقيس من لا يعلم الكتاب والسنّة ، فلا تضلّنّكم روايتهم ، فإنّهم لا يَدَعون أن يضلّوا... (1) وعن أبي بصير ، قال : قلت للصادق : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّة فننظر فيها ؟ قال : لا ، أمّا إنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على الله عزّ وجلّ (2).
وعن عليّ بن الحسين : أنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ولا يصاب إلاّ بالتسليم ، فمن سلّم لنا سلم ، ومن اقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه شيئاً ممّا نقوله أو نقضي به حرجاً كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم (3).
ومن أوضح مواطن العمل بالرأي هو نهي قريش عن تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده صلى الله عليه وآله ، فقد صحّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال : كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله أريد حفظه ، فنهتني قريش ، فقالوا : إنّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله صلى الله عليه وآله بشر يتكلّم في الغضب والرضا ، فأمسكت (4).
واستمر ذلك الخطّ الناهي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال ابو بكر القرشي « لا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً » (5) ، وكتب عمر بن الخطّاب إلى الامصار « من كان عنده منها شيء فليمحه » (6) ، وقوله « فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه
____________
(1) مستدرك وسائل الشيعة 17 : 254.
(2) الكافي 1 : 56.
(3) جامع أحاديث الشيعة 1 : 334.
(4) تقييد العلم ، المستدرك على الصحيحين 1 : ، مسند أحمد : 162 وقريب منه في عوالي اللئالي 1 : 68|120.
(5) تذكرة الحفاظ 1 : 2 ـ 3 ، حجية السنة : 394.
(6) تقييد العلم : 53 ، حجية السنة : 395.

(338)

رأيي... فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار » (1).
وقد حدّد عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان الأحاديث النبوية بالتي عُمل بها في زمن عمر بن الخطّاب.
قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحل لاحد أن يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (2).
وعن معاوية أنه قال : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن كنتم تحدّثون فحدّثوا بما كان يُتحدّث به في عهد عمر (3).
وفي رواية ابن عساكر : إياكم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ حديثاً ذكر على عهد عمر (4) ، وقد مر عليك كل هذا سابقاً.
بلى إنهم وبتشريعهم الرأي اتخذوا الاجتهاد مطيّة يحملون عليها آثار ومساوئ الرأي ، وإنّ عليّ بن أبي طالب كان قد أكّد بأنّ بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأن الكثير من الاجتهادات ما هي إلاّ آراء شخصية ومصالح ارتضاها النهج الحاكم ، وإليك بعض كلامه عليه السلام :
(... وإنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع وأحكام تبتدع ، يُخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجالٌ رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خَلَصَ لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يَخْفَ على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغث ، فيمزجان فيجعلان معاً ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة ، فإذا غُيّر منها شيء قيل : قد غُيّرت السنة وقد أتى الناس منكراً ؟! ثمّ تشتد البليّة وتسبى الذرّية ، وتدقّهم







____________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 1 : 140 ، حجية السنة : 395.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 2 : 336 ، وعنه في السنة قبل التدوين : 97.
(3) كنز العمال 1 : 291.
(4) تاريخ دمشق 3 : 160.

(339)

الفتنة كما تدقّ النار الحطب ، وكما تدقّ الرحا بثِفالها (1) ، ويتفقّهون لغير الله ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.)



ثمّ أقبل بوجهه ، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته ، فقال : قد عملتِ الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيِّرين لسنّته ، ولو حملتُ الناس على تركها وحوَّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرّق عنّي جندي ، حتى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله. أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله (2) ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة (3) ، ورددتُ صاع رسول الله صلى الله عليه وآله كما كان (4) ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله لأقوام لم تُمضَ لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (5) ، ورددت قضايا من الجور قضي بها (6) ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهن إلى أزواجهن (7) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري بني تغلب (8) ، ورددت ما قسّم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا (9) ، وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي بالسويّة ،
____________
(1) الثفال بالكسر جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق ، ويسمى الحجر الأسفل : ثفالاً بها.
(2) انظر الغدير وغيره :
(3) قصة فدك مشهورة لا حاجة لبيانها ، وللاعلام فيها كتب كثيرة.
(4) انظر الخلاف للشيخ الطوسيّ لتعرف حقيقة الأمر.
(5) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.
(6) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث و...
(7) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر ، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته : ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج... إلخ ، وانظر نهج البلاغة 1 : 42 خ 14.
(8) لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة ، فيحلّ سبي ذراريهم ، قال محي السنّة البغويّ : روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية ، فقالوا : نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم ، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض ، بعنوان الصدقة. فقال عمر : هذا فرض الله على المسلمين. قالوا : فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية ، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
(9) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم

=


(340)

ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة (1) وسوّيت بين المناكح (2) ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفرض (3) ، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما كان عليه (4) ، وسددت ما فتح فيه من الابواب (5) ، وفتحت ما سُدّ منه ، وحرّمت المسح على الخفين (6) ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين (7) ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (8) ، وألزمتُ الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم (9) ، وأخرجت من أُدخل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممّن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه ، وأدخلت من أُخرج بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ممّن كان رسولالله صلى الله عليه وآله أدخله (10) ، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة (11) ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (12) ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (13) ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم (14) ،
____________

=

والولاة والجند ، بمنزلة الزكاة المفروضة ، ودوّن دواوين ، فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.
(1) راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى.
(2) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة ، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.
(3) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خمسهم.
(4) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.
(5) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسد الابواب إلاّ باب عليّ.
(6) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين ، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا.
(7) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.
(8) لما كبّر النبيّ صلى الله عليه وآله في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.
(9) والجهر بالبسلمة مما ثبت قطعاً عن النبي صلى الله عليه وآله في صلاتهِ وروى الصحابة في ذلك اثاراً صحيحة مستفيضة متظافرة ، فاُنظر صحيح....
(10) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا من المسجد في حيث إنّهم كانوا مقرّبين عند رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإنّه عليه السلام يخرج من أخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله ، كالحكم بن العاص وغيرهم.
(11) كما مرّت عليك الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاثاً.
(12) أي من أجناسها التسعة ، وهي : الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر.
(13) وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد وضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا هذا.
(14) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.

(341)

ورددت سبايا فارس وسائر الأُمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه.. إذن لتفرّقوا عنّي.
والله لقد أُمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الإسلام ! غُيّرت سنّة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري.
ما لقيت من هذه الأُمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار !! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزّ وجلّ (إنّ كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (1) ، فنحن والله عنى بذي القربى الذين قرننا الله بنفسه وبرسوله صلى الله عليه وآله فقال تعالى (فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ، وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب...) (2).
وروى الطوسيّ في « التهذيب » عن الصادق قول أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قدم الكوفة وأمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس : (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة) ، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ صاحوا : واعمراه ! واعمراه ! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له : ما هذا الصوت ؟
فقال : يا أمير المؤمنين ! الناس يصيحون : واعمراه ! واعمراه ! فقال أمير المؤمنين عليه السلام : قل لهم : صلّوا (3).
وعنه عليه السلام : يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا ، اياكم واصحاب الرأي فانهم اعداء السنن تفلتت منهم الاحاديث أن يحفظوها ، واعيتهم السنة أن يعوها فاتخذوا عباد الله خولا ، وماله دولا ، فذلت لهم الرقاب واطاعهم الخلق اشباه الكلاب ، ونازعوا الحق اهله ، وتمثلوا بالائمة الصادقين ، وهم من الكفار الملاعين.
فسئلوا عما لا يعلمون فانفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون فعارضوا الدين
____________
(1) الأنفال : 41.
(2) انظر روضة الكافي : 8: 58 ح 21. والآية : 7 من سورة الحشر.
(3) تهذيب الأحكام 3 : 70|ح 27.

(342)

بارائهم فضلوا واضلوا ، أمّا لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من ظاهرهما... (1)
عرفنا من مجمل الخبرين الاولين عدّة أُمور :
1ـ إنّ هناك سنناً قد شرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها عليّ ؛ لمخالفتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله.
2ـ سعي عليّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها ؛ لقوّة التيّار المدافع عن عمر ، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.
3ـ إنّ الخلاف بين عليّ وعمر ليس على موضوع الخلافة وحده ، بل على الفقه والشريعة كذلك وهو المشاهد في تخطئات الصحابة للخليفتين ، بل يمكن ترجيح جانب الفقه ـ في غالب الأحيان على غيره ـ وهذا ما نقوله كذلك في سبب منع عمر للتدوين !
وعليه فان هذه النصوص وضّحت لنا حقائق كثيرة في تاريخ التشريع الإسلامي وعرفتنا بتغيير أحكام كثيرة في الإسلام ، وذلك بتحكيم الرأي في الشريعة ، وأنّ الإمام عليّاً لم يكن الوحيد من الصحابة الذين اعترضوا على المحاولين لتحريف الشريعة بإدخال الأهواء فيها ، بل كان هناك صحابة آخرون ـ توفي بعضهم في عهد الشيخين ـ قد بينوا آفاق هذا الانحراف وبكوا على الاسلام ، فخذ موضوع الصلاة مثلاً وهو أمر عبادى يمارسه المسلم عده مرات في اليوم ، لتعرف سعة الاختلاف فيه.

الصحابة وأسفهم على تلاعب الحكّام بالأحكام
فعن حذيفة بن اليمان قوله : ابتلينا حتى جعل الرجل لا يصلّي إلاّ سراً (2).
وعن عبد الله بن مسعود. إنّها ستكون أئمّه يؤخّرون الصلاة عن مواقيتها فلا تنتظروهم واجعلوا الصلاة معهم سبحة (3).
____________
(1) بحار الانوار 2 : 84.
(2) صحيح المسلم 1 : 91 ، وشرحه 5 : 18 ، صحيح البخاري 2 : 116.
(3) مسند أحمد 1 : 455 ، 459.

(343)

وفي آخر.. نظر عبد الله بن مسعود إلى الظلّ فرآه قدر الشراك ، فقال : إن يصب صاحبكم سنّة نبيكم يخرج الآن ، قال : فوالله ما فرغ عبد الله من كلامه حتى خرج عمّار بن ياسر يقول الصلاة (1).
وعن عمران بن حصين ، قوله لمطرف بن عبد الله لما صلّيا خلف عليّ بن أبي طالب عليه السلام : لقد صلّى صلاة محمد ، ولقد ذكّرني صلاة محمد (2) .
ومثله قول أبي موسى الاشعري لما صلى خلف الإمام علي عليه السلام.
روى الطحاوي عن أبي موسى الأشعري ، قال : ذكَّرنا عليّ صلاةً كنا نصليها مع النبيّ صلى الله عليه وآله إمّا نسيناها وإمّا تركناها عمداً ، يكبّر كلّما خفض وكلّما رفع ، وكلما سجد (3).
ويقول الزهري : دخلنا على أنس بن مالك بدمشق وهو وحده يبكي قلت : ما يبكيك ؟
قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة وقد ضُيّعت (4). وأخرج البخاري بسنده عن أمّ الدرداء ، قالت : دخل عليَّ ابو الدرداء وهو مغضب ، قلت : ماأغضبك ؟
فقال ابو الدرداء : والله لا أعرف فيهم من أمر محمّد شيئاً إلاّ أنهم يصلّون جميعاً (5).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لو أنّ رجلين من أوائل هذه الأمة خلوا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية ، لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا
____________
(1) مسند أحمد 1 : 459.
(2) مسند أحمد 4 : 428 ، 429 ، 441 ، 444 ، 400 ، 415 ، كنز العمال 8 : 143 ، السنن الكبرى 2 : 68.
(3) صحيح البخاري 2 : 209 وصحيح مسلم 1 : 295 وسنن النسائي 1 : 164 وسنن أبي داود 5 : 84 ، سنن ابن ماجة 1 : 296 ،
فتح الباري 2 : 209 والمصنف لابن أبي شيبة 1 : 241. شرح معاني الآثار 1 : 130 الروض النصير 1 : 638 كما في الموسوعة 376.
(4) جامع بيان العلم 2 : 244 الطبقات الكبرى ترجمة أنس صحيح البخاري 1 : 141 ، الجامع الصحيح للترمذي 4 : 632.
(5) مسند أحمد 6 : 244 ، البخاري 1 : 166 ، فتح الباري 2 : 109.

(344)

عليه (1) .
وفي المحلّى وغيره : أنّ عثمان اعتلّ وهو بمنى ، فأتى عليّ فقيل له : صلِّ بالناس ، فقال : إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله ـ يعنى ركعتين ـ قالوا : لا ، إلاّ صلاة أميرالمؤمنين ـ يعني عثمان ـ أربعاً ، فأبى (2).
وروى الإمام مالك ، عن عمّه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت الناس إلاّ النداء بالصلاة (3).
وأخرج الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثمّ قال : كلّ سنن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غُيّرت ، حتّى الصلاة (4).
وقال الحسن البصريّ : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ما عرفوا منكم إلاّ قبلتكم (5).
وعن الصادق : لا والله ما هم على شيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ استقبال الكعبة فقط (6).
وممّا يجب الإشارة إليه هنا أنّ ابن الزبير لما استولى على مكة والحجاز بادر عبد الملك بن مروان إلى منع الناس من الحجّ ، فضجّ الناس عليه فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ، وليستعطف قلوبهم ، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة ، وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم.
قال الجاحظ «... حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجّاج ومولاهما يزيد بن أبي مسلم ، فأعادوا على البيت بالهدم ، وعلى حرم المدينة بالغزو فهدموا الكعبة ، واستباحوا الحرمه وحولوا قبلة واسط ». إلى أن قال : «... فأحسب
____________
(1) الزهد والرقائق : 61 كما في الصحيح من سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله 1 : 144.
(2) المحلى 4 : 270 كما في موسوعة علي : 336.
(3) الموطا (المطبوع مع تنوير الحوالك) 1 : 93 ، جامع بيان العلم 2 : 244.
(4) الام ، للشافعي 1 : 208 ، والغدير 8 : 166 عنه.
(5) جامع بيان العلم 2 : 244.
(6) البحار 68 : 91 ، قصار الجمل 1 : 366.

(345)

أن تحويل القبلة كان غلطاً ، وهدم البيت كان تأويلاً ، وأحسب ما رووا من كلّ وجه : أنهم كانوا يزعمون...الخ ».
ثمّ يقول الجاحظ : وتفخر هاشم بأنهم لم يهدموا الكعبة ولم يحولوا القبلة ولم يجعلوا...
وممّا يدل على تحويل قبلة واسط : أنّ أسد بن عمرو بن جاني قاضي واسط (قد رأى قبلة واسط رديئة فتحرّف فيها فاتهم بالرفض) فأخبرهم أنّه رجل مرسل من قبل الحكّام ليتولى قضاء بلدهم.
وهذا يعني أنّ الشيعة رفضوا قبلة واسط بعكس غيرهم الذين قبلوا بالأمر الواقع ، حتى أصبح تحرّي القبلة مساوقاً للاتهام بالرفض ، وقد يمكن أن يكون أمر الأئمة من أهل البيت باستحباب التياسر لأهل العراق جاء من هذا الباب.
وبهذا فقد عرفنا أنّ التلاعب بالدين وتحكيم الهوى في الشريعة لم يكن وليد عهد معاوية والأمويين ، بل كانت له جذور سبقت ذلك العهد ، لأنّ ابن مسعود مات في خلافة عثمان ، فكلامه ناظر لعثمان ومن سبقه بالخلافة ، وكذلك كلام حذيفة بن اليمان ، فإنه قد مات بعد مقتل عثمان وبعد أربعين يوماً من خلافة الإمام علي ، ومثله كلام أبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وغيرهم ، فهي ترجع إلى ماقبل الأمويين ، وفي كلام ابن أبي الحديد إشارة إلى تحكيم المصلحة على النصوص عند غالب الصحابة في الصدر الأول ، اذ قال في شرحه للنهج : قد أطبقت الصحابة إطباقاً واحداً على ترك الكثير من النصوص لمّا رأوا المصلحة في ذلك (1).
وقال في مكان آخر : «.... وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه ، سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن ، ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدّي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها ممّا يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله إلى الانتظام أقرب » (2).
وهذه النصوص وغيرها أوقفتنا على وجود انحراف في الشريعة قبل عهد الإمام علي عليه السلام ، وأنّ الإمام كان من الذين لا يرتضون هذا الانحراف ، وفي كلامه آنف
____________
(1) شرح نهج البلاغة 12 : 83.
(2) شرح نهج البلاغة 1 : 28.

(346)

الذكر (لم يبق من الإسلام إلاّ اسمه ومن الإيمان إلاّ رسمه) إشارة إلى عظم المصيبة على الدين ، وتردّي حال الأمّة خلال عقدين ونصف من الزمن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، بحيث طمست معالم الدين ومحقت أحكام الشريعة.
ولمخالفة عليّ لذلك النهج وجدنا الاتجاه الحاكم ينسب إلى عليّ وغيره من أعيان الصحابة ما أفتى به الخليفة عمر بن الخطّاب وغيره من أئمة النهج الحاكم وما ذهب إليه من رأي ، كي يعززوا موقعية الخليفة وغيره بنسبة هذه الأقوال إلى هؤلاء ، فلننظر مثلاً (مشروعية الطلاق ثلاثاً) و(صلاة التراويح) و(النهي عن المتعتين) و(جواز المسح على الخفين وأنه للمسافر ثلاثاً وللمقيم يوم وليلة) و(النهي عن الصلاة بين طلوع الشمس وغروبها) ، وما أفتى به عمر في الجدة وغيرها فقد نسبت كل هذه الأقوال إلى الإمام عليّ بن أبي طالب ، مع علمنا ـ وعلم الجميع ـ بأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان وراءها لا غير ؛ ويرشدك إلى ذلك أنّهم عللوا صحّة الطلاق ثلاثاً بأنّ الناس في عهده استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى الخليفة من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم (1).
ومثله الحال بالنسبة إلى صلاة التراويح ، فقد شرعها عمر بن الخطّاب ودافع عنها بقوله : نعمت البدعة هذه.
ولا ينكر أحد نهي الخليفة عن المتعة وتهديده وتوعّده لمن فعلها ؟ بعكس الإمام علي الذي أصرّ على كونها سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ودافع عنها.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمور الشرعية الأخرى ؛ فقد نسبت مسائل كثيرة قهراً إلى علي ، مع أنّ الثابت عنه عليه السلام هو عكس ما قالوه ، وسيتحقق للباحث ذلك لو درسها دراسة علميّة متأنية ونحن قد تعرصنا ـ على عجل ـ في نسبة الخبر إلى ابن عباس لبعض نماذجه وها هنا نحن نوكد تارة اخرى على لزوم الوقوف على جذور كل مسألة ، ومعرفة من هو وراء هذه الأحكام ؟ ومن هو المستفيد منها ؟
فلو عرفنا أنّ القائل الأوّل هو الخليفة أو من له شخصية اجتماعية عالية بحيث يجب تأييد رأيه ، فلا يستبعد أن تنسب هذه الأقوال إلى علي أو غيره من أعيان
____________
(1) اجتهاد الرسول : 240 ، اثر الادلة المختلف فيها : 277.

(347)

الصحابة لتصحيح ما ذهب إليه الحاكم أو تلك الشخصية ، لأن أنصار الاتجاه المعاكس ، وتصحيحاً لموقف زعيمهم ينسبون هذه الأقوال إلى هذا أو ذاك دون أيّ مهابة أو محاشاة.
والآن مع دراسة إمكان نسبة الغسل أو المسح إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد أن عرفنا كليّات هذه الأمور ، وهل أنّ هذا المنسوب إليه يتفق مع مدرسته الفكرية والفقهية ، ومع نُقُول تلامذته وأهل بيته ، واتجاهه العلمي ، أم لا يتفق ؟
وهل يمكننا بمجرّد نسبة نقل أو رأي لشخص مّا تثبيت ذلك في أرقامه العلميّة ؟ إنّ هذا ما سنبحثه هنا للوقوف على النقل الصحيح عن علي وابن عباس وغيرهما.

علي والمرويّات الوضوئية

اختلف النقل في الوضوء عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
فأبو حية الوادعي ، وزر بن حبيش ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم ، رووا عنه انّه غسل رجليه. وأمّا النزّال بن سبرة وحبة العرني وابو مطر الوراق وغيرهم فقد رووا عن علي مسحه على قدميه.
فأما روايات عبد خير فهي متعارضة ، فبعضها مسحيّ والآخر غسلي. ونحن تكلمنا عن قيمة تلك المرويات الغسليّة والمسحيّة سنداً ودلالة ، فلابد لنا بعدها من التعرّف على قرب كل من النسبتين إلى سلوكه وسيرته ، وإن كنّا قد أعطينا صورة إجماليّة عن المسارات الفكرية في صدر الإسلام ، ووقفنا على ملابسات بعض الأمور في الشريعة ، وجذور الاختلاف بين المسلمين ، وأنّ القرشيين منعوا تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده ؛ لقول عبد الله بن عمرو بن العاص : « نهتني قريش أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وآله » ، ومواصلتهم لهذا النهج من بعده ، في عهد الشيخين وعهد عثمان ومعاوية و... وأنهم قد سدّوا فراغ عدم التحديث والتدوين بتشريعهم الرأي والاجتهاد وذهابهم إلى أنّ ما يقولونه هو الشرع ؛ لقياسهم الأشياء بأمثالها !! وأنهم يعرفون ملاكات الأحكام الشرعيّة و !!!


(348)

مع أنّ الإمام علي وجمع من الصحابة لم يستسيغوا هذا النمط من التفكير وتحكيم قول الرجال على النص في الشريعة ، وعدّوا هذا العمل خارجاً عن التعبّد المحض بأقوال الله وسنة رسوله ، فتراهم يعترضون على اتجاه الرأي وتحكيم قول الرجال في الشريعة !
وبما أنّ الخليفة عثمان بن عفان كان من دعاة الرأي والاجتهاد على ما صرح هو بذلك لمّا اعتُرِض عليه لإتمامه الصلاة بمنى ، فقال : « رأي رأيته » ، وقال لعلي عند اعتراضه عليه في نهيه من الإقران بين الحج والعمرة « ذلك رأي » (1) وغيرها.
وقد ثبت لديك أنّ المعارضين لعثمان في الوضوء كانوا من المحدثين ؛ لقوله : (إنّ ناساً يتحدثون) ، وبعد هذا فنحن ـ حسب ألادلة والقرائن ـ أن يكون الوضوء مما تصرف فيه الرأي وأثر فيه الإجتهاد ، حتى تحول مسح الرجلين فيه إلى غسل ، وقد مر عليك تعليل الحجّاج لذلك حين قال : ليس لابن آدم أقرب إلى خبثهِ من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فإن هذا النص وغيره من النصوص شاهد على أن مسالة غسل الرجلين اجتهادية محضة ، والا فما كان للحجاج أن يستدل بالرأي لو كان عنده نصاً نبوياً ثابتاً في الغسل.
وقبله الحال بالنسبة لأنس بن مالك فا.نه كان لا يرتضي تعليل الحجّاج في الغسل ، ويستشهد بالقرآن على كذبه ؛ بقوله « صدق الله وكذب الحجاج ، قال تعالى (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) (2) ، ومثله موقف ابن عباس من الربيّع وقوله : إنّ الناس أبوا الا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح » (3).
فان في تعليل ابن عباس « أبى الناس إلاّ الغسل » وكذا قول الإمام علي « هذا وضوء من لم يحدث » ، وقوله « لرأيت أنّ باطن القدم أولى بالمسح من ظاهرها » ، دلالات على أنّ الإمام علياً وابن عباس كانا لا يرتضيان ما رُسم للناس من
____________
(1) الموطا 1 : 336|40.
(2) الجامع لاحكام القرآن 6 : 92 ، تفسير الطبري 6 : 82 ، تفسير ابن كثير 2 : 44 ، الدر المنثور 2 : 262 ، تفسير الخازن 1 : 435.
(3) سنن ابن ماجة 1 : 156|458.

(349)

مشروعية الغسل ، فأرادا بكلامهما إلزام الآخرين بما ألزموا به أنفسهم ، لا اعتقاداً منهم بمشروعية الرأي والاستحسان.
ومع أننا نلاحظ وحدة المنقولات عن علي وابن عباس نلاحظ العكس في مرويات الإتجاه المقابل.
فعثمان وأنصاره ـ من أنصار الغسل ـ قد اختلفوا في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأحدهم يروي عنه صلى الله عليه وآله أنه مسح رأسه ثلاثاً ، والآخر يقول أنّه صلى الله عليه وآله مسحه واحدة ، وثالث يزيد قيد « مقبلاً ومدبراً » فيه ، ورابع يجعل باطن الأذن في الوجه وظاهرها من الرأس ، وخامس ينقل عنه صلى الله عليه وآله قوله : الأذنان من الرأس ، وسادس يفرّق عدد الغسلات للأعضاء فيجعل عدد غسل الوجه ثلاثاً واليدين مرّتين والرجل واحدة ـ كما فيما روى عن عبد الله بن زيد بن عاصم ـ والآخر يجعلها ثلاثاً في الكل ، وهكذا دواليك إلى ما شاء الله من الاختلافات.
فهذا الاختلاف في النقل ينبئُ عن تحكيم الرأي وتعدّده فيه ، فرسول الله إمّا أن يكون مسح رأسه مقبلاً ومدبراً ثلاثاً ، أو مسح ببعض الرأس ولا غير. وهكذا الحال بالنسبة إلى غسل اليدين ؛ فهل السنة عنه صلى الله عليه وآله هي المرتان ـ كما روي عن عبد الله ابن زيد بن عاصم ـ أم الثلاث ـ كما نقل عن الاخرين ـ ؟؟
إنّ كثرة الاختلاف تنبئ عن تعدّدية الرأي واختلاف المشارب والاتجاهات ، وأنّ كلاًّ يريد تحكيم رأيه بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومما تجب الإشارة إليه هنا هو إنّ أكثر الصحابة إن لم نقل كلهم ـ من رواة الغسل ـ كانت الأسانيد اليهم ضعيفة والطرق اليهم واهية ، وبخاصة لو لاحظنا معارضتها للطرق المسحية الصادرة عنهم ، وإنّا إن شاء الله سنثبت بأن الغسل موقوف على عثمان بن عفان وقد فهمه برأيه الخاص ، وهو من قبيل ما قاله في : (رأي رأيته) ، وذلك عند مناقشتنا لمروياته ، وأنه ليس في مرويات الآخرين ما يؤكد رفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله لثبوت ضعف النسبة اليهم.
وعلى ذلك فقد يكون عثمان بن عفان قد التبس عليه أمر الوضوء ، فاعتبر ذي المقدمة هو المقدمة ، وأكّد على كونه السنة المفروضة ، وأنّه من أجزاء الوضوء وهذا هو الذي كان يتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله منه على أمّته من بعده ، حيث صح عنه قوله


(350)

لعلي عليه السلام : قاتلت على التنزيل وتقاتل على التأويل (1).
كل هذا ما سنبحثه لاحقاً عند مناقشتنا لمرويات عثمان بن عفان إن شاء الله تعالى.
وبذلك فقد عرفنا وجود نهجين في الوضوء.
الأوّل : النهج الحاكم = نهج الوضوء الثلاثي الغسلي ، فهؤلاء قد منعوا من تدوين الحديث وشرّعوا الرأي = (الوضوء الثلاثي الغسلي).
الثاني : غيرهم من الناس = (الوضوء الثنائي المسحي) وهؤلاء قد دونوا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده وأصروا على التحديث به وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم في عهد عثمان بالذات.

وحدة الآراء والفقه عند الطالبيين
أشرنا في نسبة الخبر إلى ابن عباس وفي مدخل هذه الدراسة إلى وحدة الفكر والهدف بين ابن عباس وعليّ بن أبي طالب ، وتخالفهما مع الاتّجاه الحاكم ، وأكدنا كذلك على أنّ النهج الحاكم وتصحيحاً لما يذهبون إليه راحوا ينسبون أقوالاً إلى علي وابن عباس وغيرهم من أعيان الصحابة مع أنّ الثابت عنهم غير ذلك ، ومن تلك المفردات هي مفردة الوضوء :

أ ـ ابن عباس والوضوء
لا ينكر أحد بأنّ ابن عباس كان من دعاة المسح والمنكرين للغسل ، وقد مر عليك اعتراضه على الربيع وقوله لها : « لا أجد في القرآن إلاّ غسلتين ومسحتين » ، والمطالع في كتب الفقهاء والمحدثين يعلم بان الثابت عندهم من مذهب ابن عباس هو المسح لا الغسل.
____________
(1) المستدرك للحاكم 3 : 123.