ب ـ الإمام السجاد والوضوء

قد مر عليك في خبر عبد الله بن محمد بن عقيل ـ من أسانيد ابن عباس المسحيّة
ـ أنّ الإمام علي بن الحسين السجاد قد أرسل عبد الله بن محمد إلى الربيع بنت المعوذ
ليسألها عمّا تدّعيه من وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله ، وهذا يعني أن سؤاله إياها كان استنكاريّاً
لا حقيقياً ؛ إذ لا يعقل أن لا يعرف علي بن الحسين الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وآله حتى
يأتي ليسأل الربيع عن ذلك.
جـ ـ عبد الله بن محمد بن عقيل والوضوء

أخرج الحميدي بسنده إلى عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنّه جاء إلى الربيع ليسألها
عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ، فذكرت له أنه صلى الله عليه وآله غسل رجليه ، ثمّ قالت : وقد أتاني ابن عم
لك ـ تعني ابن عباس ـ فأخبرته ، فقال : ما أجد في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين.

وهذه الجملة من الربيع تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّها علمت مغزى سؤال
ابن عقيل وكونه استنكارياً وليس بحقيقيّ ، فأرادت أن تفهمه بأنّها ثابتة على رأيها
رغم عدم استساغة الطالبيّين لهذا النقل.
د ـ اطباق ائمة أهل البيت على نسبة المسح لعلي

إنّ الخبير بالروايات الحديثية عند مدرسة أهل البيت يقرّ بأنّ الثابت عندهم
عن عليّ هو المسح ، ونحن سنثبت في القسم الثالث من البحث الروائي لهذه الدراسة ،
وحين مناقشتنا لما رواه أهل البيت في صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله بأنّ نقل أهل البيت هو
الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، لكونه صلى الله عليه وآله امر علياً بكتابة حديثه ، وأنّ الأئمة من ولده قد
تداولوا كتاب علي بينهم ، واعتبروه وديعة رسول الله صلى الله عليه وآله عندهم ، فكانوا يكنزونه
كمايكنز الناس الذهب والفضة.

بخلاف أهل السنة والجماعة الذين منعوا من تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله لمدة
قرن أو أكثر من الزمن ، وشرّعوا الرأي والاجتهاد في الاحكام بجنبه ، ثمّ دونوا سنة
(352)
رسول الله صلى الله عليه وآله مخلوطة بأفهام وآراء الآخرين في كتاب اعتبروه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله.
هـ ـ جزومات العامة على أن مذهب الباقر هو المسح

والمراجع لكتب التفسير والفقه يرى اسم الإمام الباقر فيمن ذهب إلى المسح ،
وأنّه فِعْلُ رسول الله صلى الله عليه وآله ، دون ما يُدَّعى من الغسل.
قال الفخر الرازي في تفسيره : (المسألة الثامنة والثلاثون) :
اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما ، فنقل القفّال عن
ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبيّ وأبي جعفر محمد
ابن علي الباقر أنّ الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية من
الشيعة (1).

فإن ثبوت المسح عن الباقر في الصّحاح والمسانيد الحديثية ، لدليل صحّة خبر
المسح عنه في مرويّات مدرسة أهل البيت وأنّه ليس بدعاً من الأمر ، وهذا
ماسنوضّحه لاحقاً عند مناقشتنا لمرويات أهل البيت إن شاء الله تعالى.
و ـ جزومات العامة بأنّ مذهب عليٍّ عليه السلام هو المسح

لفقهاء العامة نصوص كثيرة تدلّ على أنّ مذهب الإمام عليّ بن أبي طالب هو
المسح ، وهو الذي يتّفق مع ما نقله أهل بيته عنه ، وإليك بعض النقول كي تقف على
حقيقة الأمر :

قال ابن حجر :
... ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك [ أي الغسل ]
إلاّ عن علي وابن عباس وأنس (2).
وقال ابن حزم : وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من
السلف منهم : عليّ بن أبي طالب وابن عباس (3).
____________
(1) التفسير الكبير ، للرازي 11 ـ 12 : 161. تفسير غرائب القرآن (تفسير الطبري) 6 : 73 ـ 74.
(2) فتح الباري 1 : 213 ونحوه عن الشوكاني في نيل الاوطار 1 : 209.
(3) المحلى 1 ـ 2 : 56 م 200.
(353)
وقال موفق الدين ابن قدامة : ولم يعلم من فقهاء المسلمين من
يقول بالمسح غير من ذكرنا (1). وكان عليّ بن أبي طالب
وابن عباس ممّن ذكرهم.

وقد نسب أهل العلم المسح إلى علي كابن جرير الطبري في تفسيره
(2)
والجصاص في احكامه
(3) وابن كثير في تفسيره
(4) والمتقي الهندي في كنزه
(5) وغيرهم.

وقد جزم العيني بثبوت القول بالمسح عن علي وابن عباس وأنس بن مالك في
عمدة القارىء
(6).

ونسبة هؤلاء الأعلام المسح إلى عليّ بن أبي طالب تدلّنا بصراحة على أنّ
مذهبه كان المسح لا غير ، وأنّ نسبة الغسل إليه ما هي إلاّ أكاذيب ، وافتراءات
وضعت من قبل الاتجاهات المخالفة لتصحيح مذهب عثمان بن عفان ؛ لأنّه قد ثبت أنّ
علياً وأهل بيته كانوا من المعارضين للرأي ومن المدوّنين لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله ،
وثبوت هذان الأمران عنه ينافي ما وضحناه للقارئ من تحكيم الرأي في الوضوء
الغسلي ، إذ وقفت على نصوص علي الزارية بهم ؛ كقوله (لرأيت) و(هذا وضوء من
لم يحدث) ؛ كل هذه النصوص ترجّح أن يكون مذهب الإمام هو المسح لكونه
لايرتضي الغسل بل يعتبره بدعة وإحداثاً قد أُدخل في الدين ، هذا من زاوية.

ومن زاوية أخرى نلاحظ في الروايات التي نسبت الوضوء الثلاثي الغسلي لعلي
وابن عباس أنّها تدّعي الابتداء منهم تبرُّعاً بإرائة الوضوء دون سؤال مسبق ، بخلاف
روايات المسح التي تنقل عنهما ، فإنّها جاءت بعد سؤالٍ من سائل ، أو بصيغة اعتراض
على خطأ وإحداث عندَ الناس يراد رفعه.

ففي الروايات الأربع الغسليّة التي رواها عطاء عن ابن عباس ، وجدنا ادعاء
____________
(1) المغني 1 : 151 م 175.
(2) تفسير الطبري 6 : 86.
(3) احكام القرآن للجصاص 2 : 346 ـ 347.
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 : 45.
(5) كنز العمال 9 : 439.
(6) عمدة القاري 2 : 21.
(354)
ابن عباس دون أيّ مبرر بقوله «أتحبّون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتوضّأ» ؟ ،
وفي الروايات التي تدعي الوضوء الثلاثي الغسلي لعلي ، تجد عشر روايات منها تدعي
الابتداء التبرّعي بمثل قوله «أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وآله » و«مَن
سرّه أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله فهو هذا» و«هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله » و«هكذا
كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله » و«من سرّه أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وآله فهذا طهوره»
وما قاربها من العبارات ، التي تستبطن أنّ المدَّعي يريد إثبات شيء في عقله وإشاعته
بين المسلمين ، وإلاّ فإن الوضوء من الأمور البديهيّة التي لا معنى للإصرار والتأكيد
على الابتداء بها ، وقد سبق أن ذكرنا في المدخل أنّ عثمان قد استعمل نفس هذه
الاساليب ، فقال في أحد نصوصه : كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف
توضأ النبيّ صلى الله عليه وآله
(1) وفي آخر : هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله أحببت أن أريكموه
(2).

وهذا بخلاف روايات المسح التي تنقل وجود ناس يكرهون أن يشربوا فضل
الوضوء قياماً ، وأنّ علياً حُدِّث بذلك ، فأراد إيضاح بطلان ذلك التوهّم للمسلمين ،
فيكون من المنطقي جدّاً أن يأتي بالوضوء فيشرب بعده من فضل وضوئه ويقول
بلسان قاطع : أين الذين يزعمون أنّه لا ينبغي لأحد أن يشرب قائماً ؟! مضافاً إلى
أنّها تنقل لنا حضور الصلاة (صلاة العصر) التي أراد أن يصليها علي في الرحبة ، وهي
تستدعي الوضوء ـ وجوباً أو استحباباً ـ فيكون من الملائم جدّاً أن يأتي علي
بالوضوء أمام الملأ من المسلمين.

بل الذي في رواية أبي مطر الوراق التصريح بأنّ رجلاً طلب من علي أن يريه
وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله عند الزوال ، أي في وقت يناسب التعلّم ، وعند ذاك يستجيب
الإمام علي فيدعو قنبراً مولاه ليأتيه بماء للوضوء ، فيتوضّأ أمام المسلمين ثمّ يقول :
اين السائل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ، كذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله.

فإذا أردنا تطبيق المدّعى من الوضوءين مع منطق وقوع الحدث وملابساته
وجدنا روايات المسح أولى وأوفق من روايات الغسل التي تبتدىء بطرح أفكار أقل
____________
(1) سنن الدار قطني 1 : 93|8.
(2) سنن الدار قطني 1 : 91|4.
(355)
ما يقال في حقها : أنها متنازع فيها في تلك الفترة ، فيكون ادعاؤهم مصادرة
بالمطلوب.
الروايات الوضوئية وما تحمل من شواهد :

وفي تتبّع آخر للمرويات الوضوئية انفرجت لنا زاوية جديدة وظهرت لنا
حقيقة قيّمة ، هي أنّ الروايات المسحيّة تنقل عن الماسحين ـ إلى هذا الموطن من
البحث ـ أنّهم لم يدّعوا الوضوء المسحيًّ مجرّداً عن الدليل ، أو بادّعاء محض الرؤية ،
لأنّ التمسك بمجرّد ادعاء رؤيتهم للنبي قد يُعارض بادّعاءٍ مقابل من الغاسلين ، أو
يُؤَوَّل بتأويلات مختلفة ، فمن هنا جاءت مرويّاتهم المسحيّة مقرونة بالدليل الدامغ من
الكتاب ومن السنة ، وبردِّ الوجوه المرتأَة والأدلة الاستحسانية ، وهذه الجهات خلت
عنها الروايات المدّعية للغسل.

فروايات ابن عباس مشحونة بقوله : «افترض الله غسلتين ومسحتين» وقوله :
«لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح» و«نجد في كتاب الله المسح» وما شاكلها من العبائر
التي تصرّح بان كتاب الله نزل بالمسح لا غير ، وأنّ من ذهب إلى غير المسح ، فقد
خالف الظهور القرآني وترك العمل بكتاب الله.

ونفس هذه النبرة تجلّت في كلام أنس بن مالك في ردّه للحجّاج حيث أعلن
أنس احتجاجه بكتاب الله فقال : صدق الله كذب الحجاج ، قال تعالى (
وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم) كان يقول : نزل القرآن بالمسح.

وفي نفس الوقت رأيناهم يعرّضون بأصحاب الرأي ويضربون بآرائهم عرض
الجدار ، فيقول ابن عباس : «أبى الناس إلاّ الغسل» ، و«يأبى الناس إلاّ الغسل» ، كما
يقول أنس في ردّ تعليل الحجّاج الغسل بأنّ الرجل اقرب أعضاء الإنسان للخبث ،
«كذب الحجّاج» ؛ لأنّ دين الله لا يصاب بالرأي ، وإذا سلمنا حجية الرأي فليس
على إطلاقه ، إذ ما قيمته بعد وضوح وظهور قوله تعالى (
وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم) ؟!

وجاء الإمام علي بنص يحمل في ثناياه الاستدلال بالكتاب وبالسنة ويفند
الرأي في آن واحدٍ ، لأنّه عليه السلام قال : «لولا إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله مسح على ظهورهما
(356)
لظننت أنّ بطونهما أحقّ» فأرسل الإمام ظهور المسح من كتاب الله ارسال المسلّمات ،
ولم يجعل مجالاً لاحتمال الغسل أبداً فيه ؛ لظهور المسح في قوله : (
وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم ) فأراد أن يوضح هذا الامر الثابت بقوله : إنّ هذا المسح الظاهر من
أمر الله في القرآن يختص بمسح ظاهر القدمين فقط ؛ لأنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله مسح
ظهورهما فقط دون بطونها ، أي أنّه احتج بالسنة النبوية المباركة مع القرآن ، ثمّ
فنّد عليه السلام ثالثاً الرأي ، فقال ما معناه : لو كان للرأي حجية في مقابل فعل النبيّ صلى الله عليه وآله لكان
باطن القدمين أحقّ بالمسح من ظاهرهما لقربه من الخبث. وهو ما استدل به الحجّاج
على الغسل لاحقاً !!

فيكون ملخّص كلام الإمام علي هو : أنّ الكتاب أمر بالمسح بالأرجل ، لاغير ،

ومعناه لا فرق في المسح بباطن القدمين أو ظهورهما ، وإن كان مسح بطون
القدمين أولى من ظهورهما حسب الرأي ، لكنه لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله مسح ظهورهما
تعبد بذلك ولم يتجاوز إلى غيره.

ولا يخفى عليك أنّ هذا النص يدلّ على أنّ الباء في الآية القرآنية للتبعيض ـ
لاكما يزعمه المالكية من أنّها للإلصاق ـ لأنّ الأمر بالمسح جاء من خلال نص الآية
الشريفة ، وقد مسح النبيّ صلى الله عليه وآله بظاهر قدميه لا باطنها ، إذ قال علي عليه السلام : أنّه لولافعل
النبيّ صلى الله عليه وآله لكان باطنها أحق بالمسح ، لانه صلى الله عليه وآله المبين لاحكام الله تعالى.

وعلى كلا الوجهين يكون النبيّ صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام قد بينا البعضية من الباء ، لأنّ
النبيّ صلى الله عليه وآله مسح بظاهر قدميه ـ وهو بعض القدم ـ والإمام عليّ عليه السلام قرّر أولولية الباطن ـ
لولا مسح النبيّ صلى الله عليه وآله الظهر ـ بالمسح ، والباطن بعض القدم أيضاً.

وعلى كل حال فإنّ النقولات المسحيّة عن عليّ وابن عباس وأنس بن مالك
حملت معها أدلّتها القوية من القرآن والسنة وردّ الرأي ، بعكس الطرف المقابل ، أعني
روايات الغسل ، فإنها لم تجرؤ أن تقدّم سوى ادّعاء لا يُعلَمُ مدى مصداقيته ووثاقته ،
وانّ الأدلة التعضيديه كقوله صلى الله عليه وآله «ويل للاعقاب من النار» و«أسبغوا الوضوء» هي
أجنبيّة عما نحن فيه ؛ لعدم إمكان الاستفادة منها لمشروعية غسل الأرجل ، بل الأوّل
منه ما هو إلاّ حكم يتعلق بالعقب الذي هو معرض للنجاسة ، فلا يمكن الاستدلال به
على أنّه فعل الرسول وحكم القرآن ، ومثله الحال بالنسبة إلى الإسباغ فهو حكم
نعم ، إنّ الأعلام قد جدّوا لتعضيد الغسل بصرف الظهور القرآني. تارة بقراءة
(357)
كمالي للوضوء ولا يدل على غسل الأرجل.

نعم ، إن الأعلام قد جدّوا لتعضيد الغسل بصر الظهور القرآني ، تارة بقراءة
النصب واخرى بادعاء النسخ ، وثالثه بادعاء أنّ القرآن نزل بالمسح وجاءت السنّة
بالغسل ، وما ضارعها من وجوه ، حتى قال ابن حزم في بعض مواطن ردّه على
أبي حنيفة ومالك : وأبطلتم مسح الرجلين ـ وهو نص القرآن ـ بخبر يدّعي مخالفنا
ومخالفكم أننا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه ، وأنّه لا يدلّ على المنعِ من مسحها ،
وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
(1).

واخرى بروايتهم عن رسول الله : أنّه غسل رجليه !!
الوضوء والتعليم غير المعقول :
ومن طرائف ما وقع في روايات الغسل أنّها تدعي في بعضها أن عليّاً دخل على
حبر الأمّة ابن عبّاس ، وفاجأه مبتدئاً بقوله : «ألا أريك كيف كان يتوضّأ
رسول الله صلى الله عليه وآله ؟...» ثمّ سرد له الوضوء الغسلي ، مشعرة بأنّه ارتضى ذلك الوضوء
وتلقاه تلقيا عاديّاً !!

وهذا من غرائب الطرائف ، لأنّ ابن عباس كان يجاهر بالمسح حتّى بعد
استشهاد الإمام علي كما في خبر الربيّع ، فالخبر مصرّح بأنّ ابن عباس بقي على موقفه
المسحي إلى آخر حياته ، مع أنّك قد عرفت أنّ أحداً لم يدّع الإخبار عن حسٍّ في
رجوع ابن عباس ، بل الثابت عنه البقاء على المسح حتى النهاية ، فكيف سكت عن
الوضوء الغسلي المدّعى.

وإذا صرفنا النظر عن ذلك ، فإنّنا لا نستطيع التصديق بأنّ حبر الأمة الذي كان
يبيت مع النبيّ صلى الله عليه وآله في غرفة واحدة ، يبقى ردحاً من الزمن منتظراً أن يجيئه الإمام
علي عليه السلام فيعلمه الوضوء تبرّعاً وبدون سابق سؤال من ابن عباس ؟!

وهل يخفى على الإمام علي أنّ ابن عباس كان يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله ، أم أنّ
ابن عباس كان مخطئاً طيلة عمره في وضوئه حتّى علّمه الإمام علي.

إنّنا لا نفهم من هذا النص إلاّ تحشيد النهج الحاكم أكبرَ عدد من الصحابة
____________
(1) المحلى 2 : 61.
(358)
استنصاراً للوضوء الغسلي ، وأن يلقي تبعة ما استحدثه عثمان على عاتق علي
وابن عباس وغيرهما من أعيان الصحابة ، وإلاّ فإنّ ما ينقله هذا النص غير معقول
لامن جهة جهل ابن عباس ولا من جهة تعليم علي إيّاه ، لكون الوضوء أوّل أوليات
العبادات.

ومثله النصّ الآخر الذي ادُّعي فيه أن علياً علّم الحسين الوضوء في وقت
متأخّر.

فهل كان الحسين جاهلاً بوضوء جدّه وهو ريحانته وسبطه ؟!

أم أنّه لم ير النبيّ صلى الله عليه وآله قطّ يشرب فضل وضوئه قائماً مع أنّه من ألصق الناس به
وأقربهم منه منزلة مادية ومعنوية ؟

وكيف يتلائم هذا النص مع النصّ الآخر الذي فيه أنّ الحسين هو وأخوه الحسن
علّما الشيخ الذي لا يحسن الوضوء ، وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله.

فعن الروياني : أنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يُحسن ، فأخذا في
التنازع ؛ يقول كلُّ واحد منهما : أنت لا تحسن الوضوء ، فقالا : أيّها الشيخ كُن حكماً
بيننا ، يتوضّأ كلُّ واحد منّا ، فتوضَّئآ ، ثمّ قالا : أيّنا يُحسن ؟ قال : كلاكما تحسنان
الوضوء ، ولكنّ هذا الشيخ الجاهل [يعني نفسه] هو الذي لم يكن يُحسن ، وقد تعلّم
الآن منكما ، وتاب على يديكما ، ببركتكما وشفقتكما على أمّة جدِّكما
(1).

وقد أغرقت الرواية الغسليّة في النزع بادّعائها أنّ السجّاد ، والباقر رويا الوضوء
الغسلي عن الحسين ، وأنّ أباه عليّاً علّمه إيّاه ، مع أننا علمنا أنّ السجاد أرسل
عبد الله بن محمد بن عقيل إلى الربيع منكراً عليها وضوءها ، وأنّ المحفوظ عنه وعن
ابنه الباقر هو المسح ، وقد مرّ عليك تصريح الفخر الرازي بأنّ مذهب الباقر محمد
ابن علي هو وجوب المسح في الرجلين
(2).

وهذه اللفتة أيضاً تجدها في مرويات عثمان الوضوئية ، فإنها تحاول تسطير أكبر
عدد من أسماء الصحابة لمساندة الوضوء الغسلي ، فتدّعي أن عثمان استشهد على
____________
(1) مناقب آل أبي طالب 3 : 400.
(2) التفسير الكبير 12 : 161.
(359)
وضوئه الغسلي جماعة من الصحابة ، فدعاهم ليريهم وضوءه ، وحمد الله على موافقتهم
له
(1) وتسكت الرواية عن ذكر أسمائهم ، وتجيء رواية أخرى فتذكر أسماء صحابة
مخالفين لعثمان فقهاً وفكراً وسياسة لتحشرهم معه في الوضوء فتدعي وجود طلحة
والزبير وعلي وسعد
(2) هما ممن أيداه ، مع أننا نعلم أنّ طلحة والزبير من أشدّ المخالفين
لعثمان ولم يثبت عنهم وضوء غسلي عند العامة ، وكذلك سعد ، وأمّا علي فهو عَلَمٌ في
الوضوء المسحي ، ومن أوّل المعارضين للوضوء الغسلي ، وقد مرّ عليك في المدخل
مواقف الصحابة الفقهية المخالفة لعثمان.

فلماذا تفترض هذه الرواية استشهاد عثمان لهؤلاء لا غيرهم ، مع أنّ الثابت عنهم
خلاف عثمان أو عدم موافقته على أقل تقدير ؟!

إنّ هذه النكتة تدلّنا على وجود أصابع تريد التلاعب بالوضوء ، لتنتصر لرأي
الخليفة والسائرين غلى نهجه.

وهذه اللفتة إذا بحثناها في الوضوء المسحي وجدناها تنسجم تماماً مع منطق
الأحداث والحالة الطبيعية التي تنبثق عنها نصوص الأحكام والتعاليم الدينية ، لأنّ
الروايات المسحيّة الصادرة عن عليّ تكاد تتّفق على صدور الوضوء عنه في الرحبة
وفي أيّام خلافته ، وأنّه علّم أبناء الكوفة لسؤال منهم ، وأن الذي طلب توضيح
الوضوء كان من التابعين ، فلم نجد في تلك الروايات عليّاً علّم صحابيا جليلاً
كابن عباس ، أو سبطا من الأسباط كالحسين ، حكماً من الأحكام الأوّلية التي يعرفها
أبسط المسلمين !!

فتكون خلاصة هذه الفقرة أنّنا وجدنا في الروايات المدّعية لغسل لعلي ، أنّ
صحابيا يعلّم صحابيّاً أوضح الواضحات ، ولم نجد مثل هذه الزلة في روايات المسح ،
بل كلّها تتماشى مع حالة التعليم والتعلّم الطبيعية.

وبنظرة عجلى في أبواب الفقه يستطيع القارئ أن يدرك أنّ الحالة الطبيعية في
كتب الفقه هي أن يسأل التابعيُّ الصحابيَّ عمّا خفي عليه من أحكام ، باعتباره
____________
(1) انظر كنز العمال 9 : 441|26883 ، عن الدار قطني 1 : 85|9.
(2) كنز العمال 9 : 447|26907.
(360)
لم يتشرف بلقيا رسول الله صلى الله عليه وآله ، أو أن يسأل الصحابيُّ صحابيّاً آخر عن واقعة شهدها
المسؤول ولم يشهدها السائل ، أو أن يختلف صحابيّان أو أكثر في فرع من الفروع التي
يمكن خفاء أحكامها عليهم.

وأمّا أن يسأل صحابي جليل قوي الصحبة ، قريب من النبيّ صلى الله عليه وآله ، صحابيّاً آخر
عن أمر مثل الوضوء فهو من غير المعقول ومن البعيد عن سير الفقه ، وهل بإمكاننا
مثلاً أن نصدِّق أنّ عمار بن ياسر سأل عليّاً أو غيره عن عدد ركعات الصلاة اليومية ،
أو أنّ علياً ابتدأه بتعليمه ذلك ؟!

إنّ هذا ما يأباه العقل والمنطق والوجدان.
روايات الوضوء وأطراف النزاع :

ثمّ إنّنا لو دققنا في روايات الماسحين وجدناها تحدّد أطراف النزاع بجلاء
ووضوح ، بعكس روايات الغاسلين فإنّها تُبهم التيّار المعارض ولا تصرّح بأسمائهم ،

فها هي رواية عبد الله بن محمد بن عقيل ، تحدد أطراف النزاع ، فتذكر إرسال
السجّاد عبد الله إلى الربيع لينكر عليها وضوءها الغسلي ، فالخبر ينقل لنا أنّ عبد الله
أيضاً من أطراف النزاع ، فهؤلاء في كفّة والربيع في كفّة ، والرواية تنقل أيضاً بأمانة
تكذيب ابن عباس للربيع عبر قوله : «ما أجد في كتاب الله إلاّ مسحتين وغسلتين»
فإن معناها رفض ما ترويه الربيع أو ترتأيه من الوضوء الغسلي.

ومثل ذلك ما جاء في رواية أنس بن مالك ، فإنّها حدّدت أنّ الحجّاج بن يوسف
كان داعية الغسل بحجّة أقربية الرجل للخبث ، وصرّحت بأنّ أنساً كذّب الحجّاج
جهرة في دعواه تلك مع جبروت الحجّاج وطغيانه ، ولا يفوتك أنّ الحجّاج حين أمر
الناس بغسل القدمين لم يجسر على ادعاء أنّه نص القرآن أو سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله أو سيرة
الصحابة ، ذلك ؛ لأنّ القرآن ظاهر في المسح ، وأمّا سنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسيرة الصحابة
فكانا غير مدوّنين على عهد الحجّاج ، بل الحكومة كانت آنذاك ما زالت جاهدة في
اكتساب التابعين وتابعي التابعين والفقهاء ليقولوا بما تريده ، فمن رافضٍ لذلك ومن
منخرط معها ، والتدوين لم تفتح أبوابه عند الحكام بعد ، فلذلك لم يدّع الحجّاج أنّ
الغسل سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله ولا سيرة الصحابة بل ادّعى فيها الرأي ، وإنّ الرجل اقرب
(361)
للخبث ! وهذا فيه أوضح إشارة إلى أنّ هذا الوضوء استحكم بعد التدوين في زمن
ابن عبد العزيز ولم يكن له ماله الآن من مرويات وأتباع...

وعلى أيّ حال فإنّ روايات المسح فيها تحديدٌ لأطراف النزاع ، وهذا التحديد
يخدمنا في معرفة رموز الطرفين ، فإن الربيع والحجّاج من سلك الاجتهاد والرأي ومن
المعدودين في جانب الحكومات ، وأما ابن عباس وأنس بن مالك والسجاد ،
وابن عقيل فهم من سلك التعبد المحض ـ في هذه المفردة ـ ومن المضطهدين من قبل
السلطات.

وهذا التصريح لا نجده أبداً في روايات الغسل ، فإنّها تنقل الغسل ساكتة غير
مصرّحة بالمخالفين لذلك ، بل الذي رأيناه في روايات عثمان هو تعمّد الإبهام للمخالفين
بمثل قولهم : «إنّ ناساً» و : «حُدّثت أن عثمان اختلف في خلافته في الوضوء». وأما
روايات الإمام علي فإنها أكّدت على جملة «وهذا وضوء من لم يحدث» ، وهي وإن
كانت شاملة لكلّ المحدثين في الوضوء ، إلاّ أنّها ربّما يظهر منها التعريض
بعثمان بن عفان ؛ لأنّه أوّل من سنّ الخلاف في الوضوء كما عرفت ، فتكون رواية الإمام
محدِّدة لمنشأ الوضوء الغسلي المحدَث ، وأنّه عثمان بن عفان ، والتعريض هنا أبلغ من
التصريح كما لا يخفى ؛ لاقتضاء المقام البلاغي ذلك حفاظاً على وحدة المسلمين.
نصوص الوضوء والسير الطبيعي :

وفي مماشاة لسير الأحداث الوضوئية يتبين لنا صدق انسجام الوضوء المسحي
مع سير السيرة النبوية في الوضوء ، ونفار الوضوء الغسلي عن هذه السيرة وبروزه
بشكل مفاجئ في غير مقطعه الزمني ، ممّا يدل على حداثته وبروزه في وقت متأخّر.

ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله علّم المسلمين جميع ضروريات دينهم ، وما مات حتّى بيّن لهم
معالم دينهم ، فعَلِمَ الصحابة ذلك وكانوا يُعلمون من لم يَرَ النبي أيضاً ، وبقي هذا المجتمع
الذي بناه النبيّ صلى الله عليه وآله بلا نزاع ولا خلاف في الوضوء ، فعبرت الأحداث زمان ولم يستجدّ
ما يوجب الاختلاف سوى حروب الردّة التي سرعان ما انتهت واندثرت.

ثمّ جاء زمن خلافة عمر بن الخطّاب ، فكثرت الفتوح بشكل غيّر مجرى
التاريخ ، فافتتح المسلمون بلاد فارس وبلاد الروم ، وتوسّعت رقعة الدولة الإسلامية ،
(362)
فصار الناس من سائر الأمم يدخلون في دين الإسلام أفواجاً أفواجاً ، وجيء
بالأسارى الذي صاروا موالي للمسلمين واختلطوا معهم ، وأسلم الكثير منهم بعد
اطّلاعهم على دين الإسلام.

فكان منطق الأحداث يقتضي هنا بروز وشيوع أحاديث الوضوء التعليمي ، لأنّ
الداخلين الجدّد في الإسلام كان لا بدّ لهم من الصلاة ، ولا صلاة إلاّ بطهور ، فمن
المقطوع به أن يسألوا الصحابة عن كيفية الوضوء وتفاصيله وجزئياته ، ليؤدّوا
فرائض الله ، وهنا لا بدّ أن يتجلّى دور الصحابة في روايات الوضوء ، وكان المفروض
أن يبرز الخلاف بينهم لو كان ثمّة خلاف بينهم فيه ، ولكننا ما رأينا قطّ وقوع خلاف
وضوئي آنذاك ، ممّا يعني أنّ الداخلين الجدد كانوا قد تلقّوا وضوءاً واحداً لاخلاف
فيه وإلاّ لبرز.

وما أن تسلّم عثمان أزمّة الأمور حتّى برز الوضوء الثلاثي الغسلي مقروناً
بصرخات الاختلاف من أناس لم يرتضوه ، فكأنّه وُلِدَ معارضاً من أناس أثبتنا أنهم
من علّيّة الصحابة ، وهذا الانبثاق المفاجئ المعارض بنقول صحابة آخرين وبنص
القرآن الكريم ، لا يتلائم مع سير الاحداث كما عرفت. لأنّ الوضوء ليس بالأمر
الخفي ولا بالحكم المجهول.

هذا الإحداث والإبداع للوضوء الجديد خلق حالة ارتباك في ذهنية المسلمين ،
فانشطروا إلى مثلِّثين غاسلين تبعاً لعثمان ، ومثنين ماسحين بقاءً على ما كان ، وبما أنّ
الكوفة كانت ـ لقربها من بلاد فارس ولاتخاذ علي لها عاصمة لخلافته ـ مشحونة
بالعجم والموالي والمسلمين الحديثي عهد بالاسلام الذين التبس عليهم أمر الوضوء
نتيجة الملابسات التي خلقها عثمان ، وجدنا النصوص التعليمية عن علي بن أبي طالب
في الكوفة وفي الرحبة ، وعند الصلاة ، وبعد سؤال سائل ، وكلّها تحمل ردوداً على
إعمال الرأي في الوضوء ، وتؤكّد أنّ المسح هو السنّة النبويّة ، كما أنّها تعرّض بالمحدِث
لهذا الخلاف وهو عثمان بن عفّان ، فجاءت النصوص عن علي في وقتها الطبيعي وبعد
حدوث الاختلاف قطعاً في زمان عثمان ، وهذه الحالة طبيعية جدّاً ومتماشية مع سير
الأحداث.
(363)

فهذا الانسجام في روايات المسح ، والشذوذ في روايات الغسل يرجّح نسبة
الخبر المسحي إلى علي ويحكم بصحته وملائمته للوقائع ولرفض الاجتهاد والرأي ،
كمايحكم بصحّة انتساب الوضوء الغسلي إلى عثمان بن عفان فقط ، لشذوذه عن السير
الطبيعي للحدث الوضوئي ولفقه المسلمين ، ولملائمته لمدرسة عثمان القائلة بـ«رأي
رأيته» ، كما أنّه يلائم نفسيته التي نُصَّ عليها ، حيث كان متنظّفاً حتى أنّه كان يتوقَّى
وصول غبار بناء مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله إلى أنفه في المدينة
(1).
الوضوءان بين الاضطهاد والانفراج :

وهناك نكتة أخرى تؤيّد صحة انتساب الوضوء المسحي إلى علي بالخصوص ،
وابن عباس وأنس بن مالك ، وأنّ الوضوء الغسلي نشأ وترعرع تحت أنظار سلطة
عثمان والسلطة الأمويّة والعباسية من بعد ، تلك النكتة هي أنّ المسحيّين عاشوا
مرحلة الاضطهاد ، لانّهم لم يكونوا على وفاق مع السلطة في تفكيرهم وسياستهم ،
وآثار هذا الضغط السلطوي لم تنفكَّ عنها نصوص الوضوء المسحي ولا روّاده ، لأنّ
الكثير من الصحابة كانوا لا يجرؤون على التصريح بما أَثرُوهُ عن النبيّ صلى الله عليه وآله ، كما في خوف
عمّار من عمر في التيمّم ، وكما في ضرب عثمان لعمار وابن مسعود ، فمن المحتمل جدّاً أن
يكون الكثير من المسحيين قد قضوا أعمارهم ولم تصل أصواتهم إلينا ، يؤيّد ذلك أنّ
أشهر ثلاثة أعلام من عظماء الصحابة الذين حملوا لواء مدرسة المسح ، كانوا ممّن امتدّ
بهم العمر وانفسح لهم المجال لنشر التحديث بالوضوء.

فروايات علي عليه السلام المسحيّة صادرة في زمان خلافته وفي رحبة الكوفة ، بعد أن
كان مبسوط اليد ، مرفوعاً عنه الحصار الفكري ، فراح يقوّم الاعوجاج الحاصل في
الوضوء ، ويروي للناس وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله ، ويفنّد الرأي وما اخترعه الرأي من
محدثات.

وعين هذا الكلام يأتي في مرويّات ابن عباس ، فإنّها كانت صادرة بعد استشهاد
الإمام علي وقبل استشهاد الإمام الحسين كما أثبتنا ذلك في المدخل
(2) ، وهي حالة
____________
(1) العقد الفريد
(2) انظر وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله|المدخل : 196 ـ 197.
(364)
الانفتاح التي حصلت بعد أن قضى معاوية على خصومه واستتب له الحكم ، فراح
ابن عباس يطارح ويفنّد وينشر آراءَهُ بلا خوف من السلطات.

وهكذا رواية أنس بن مالك فهي متأخّرة جدّاً إذا قيست بالنصوص الصادرة
عن علي وابن عباس ، وقد ساعد على تصريح أنس بمعارضة الحجّاج ومن ثمّ وصولها
إلينا هو الغطاء والحماية السياسية المحدودة التي حصل عليها أنس من
عبد الملك بن مروان ، باعتباره خادم النبيّ صلى الله عليه وآله وله القدسية عند المسلمين مما تتحاشى
السلطة عادةً الإيقاع به وتثوير الرأي العام ضده ، الّلهم إلاّ إذا اقتضت ذلك ضرورة
ملحّة لإدامة حكومتهم.

اي أنّ المعارضة لوضوء عثمان بدءت في عهده من قبل (الناس)
(1) بعده من قبل
الإمام علي وبعد علي واصل ابن عباس المسيرة وتبعه في ذلك أنس بن مالك في عهد
الحجّاج بن يوسف الثقفي ، أي أنّ المعارضة مع وضوء عثمان بدءت في حياته واستمرت
وحتى اواخر عهد الصحابي أنس بن مالك ! لما جاءت به النصوص.

فلو افترضنا استشهاد الإمام علي في إحدى حروبه تحت لواء النبيّ صلى الله عليه وآله كحمزة
وجعفر ، وموت ابن عباس أو مقتله أو اغتياله في زمن معاوية ، وموت أنس قبل
إدراكه إعلان الحجّاج لاختلف وضع الوضوء اختلافاً جذرياً عما هو عليه الآن ،
ولضاع الكثير من عيون رواياته.

ومما يحتمل في هذا الأمر أنّ بكاء أنس في دمشق وقوله (غيرتم كلّ شيء حتى
الصلاة) كان من جملته بكاوئه على الوضوء المغيّر من قبل الحكّام ، لأنّك ترى
الحجّاج يسعى لتحكيم الوضوء الغسلي المخالف للقرآن الحكيم ، وأنس يرى هذا
التغيير جهراً وليس له قوة يصحّح بها الوضع إلاّ الوقوف بوجه الحجّاج وتكذيبه
موضحاً سقم ما ذهب إليه.

فتأخُّر النصوص جميعاً عن زمن عثمان ، وصدورها عن أصحاب التعبد ، وفي
أزمنة الانفراج التي حصل عليها هؤلاء الأعلام الثلاثة ، كلّها تؤكّد على أن الوضوء
الغسلي عثمانيّ حكوميّ ، وأنّ الوضوء المسحي أصيل نبويّ.

ويعضّد هذا الكلام أننا نرى أكثر مرويات الوضوء عند الشيعة إنّما صدرت عن
____________
(1) كما في خبر مسلم1 : 207|8 وعنه في الكنز 9 : 324|26797.
(365)
الإمام محمد الباقر ، حتى تناقل الأعلام في المدرسة المقابلة ثبوت المسح عنه ، إذ مر
عليك كلام الفخر الرازي في تفسيره ، وغيره من أعلام العامّة ، وذلك لأنّ الإمام الباقر
عاش في فترة انفتاح علمي وارتفاع الضغط عنه ؛ لإشراف الحكومة الأموية على
نهاياتها وانشغالها بالحروب والانقسامات ، وكذلك صدرت روايات أخرى عن
الإمام الصادق لنفس السبب ، فعدم اتقاء الإمام الباقر الأمويون في الوضوء والتقاء
الإمام الصادق اولئك ـ كما في بعض الاخبار ـ تؤكّد سير المسالة.

فمن كلّ هذه الدلالات والقرائن والإشارات والتّتبعات نعلم بلا شك
ولاارتياب ، أنّ نسبة الوضوء المسحي إلى عليّ بن أبي طالب هو الأصحّ والأثبت
والأوفق بالسير الطبيعي ، والأنسب بمواقف علي وحياته العلميّة والعمليّة ، لروائيته
عنه عند الفريقين وكذلك ابن عباس ، وأنّ الوضوء الغسلي المنسوب إليه لا يتلائم مع
شخصيته ولا منهجيته العلميّة ولا العمليّة ، وإنّما هو أنسب بعثمان والأمويين ومَن
تابعهم من أصحاب الرأي والاجتهاد ، الّذين راحوا ينسبون آراءهم إلى الطرف
المقابل لهم في الفكر والمباني ليوفّروا لآرائهم الغطاء الشرعي.