خلاصة البحوث السندية

قد عرفت ـ فيما مرّ ـ حال الأسانيد عن عبد الله بن عمرو غسلاً ومسحاً وأنّها ترجع في حقيقتها إلى ثلاثة أسانيد ، اثنان منهما غسلية والثالث مسحي ، أمّا الاثنان الغسليّة فهما :
1 ـ ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : وقد وضحنا سابقاً أقوال الأعلام فيه ، وأنّ جده هنا مردد بين جده الأدنى : محمد بن عبد الله بن عمرو ابن العاص ، وبين جده الأعلى : عبد الله بن عمرو بن العاص ، فلو كان المقصود من جده هو محمد فسيكون السند مرسلاً ، لأنّه لم يدرك النبي ، ولو كان المعني به عبد الله بن عمرو فإنّه على القول بصحة سماع شعيب من جده عبد الله فهو مما يتوقف فيه ؛ وذلك لأنّ بعض الأعلام وإن استظهر صحة سماع شعيب من جده ـ عبد الله ـ لكنهم لم يصححوا هذا السند ، لعدم تصريحه بأنّ الجد في السند هو عبد الله ،
فقال الدارقطني : لعمرو بن شعيب ثلاثة أجداد الأدنى منهم محمد ، والأوسط عبد الله ، والأعلى عمرو ، وقد سمع ـ يعنى شعيباً ـ من الأدنى محمد ولم يدرك النبي صلى الله عليه وآله (1) عبد الله ، فاذا بيّنه وكشفه فهو صحيح حينئذ...).




أمّا إذ أجمله ـ كما في مقامنا ـ فإنّه يبقى مردد يجب التوقف عنده.
وعلى أي حال فمجرد احتمال كون المعني بالجد هو محمد يسقطه عن الاحتجاج والاستدلال ، لثبوت عدم صحة سماعه من النبي صلى الله عليه وآله.
على إنّنا حكينا لك سابقاً قول ابن حبّان وغيره ممن لم يثبت لديهم ولم يصححوا سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو ، وخصوصاً حينما وقفنا على وجود أبي عوانة في سند أبي داود ، ويعلى في سند النسائي ، الملينين من قبل علماء الرجال.


(473)

وعلى هذا : فالسند منقطع وضعيف ولا يمكن الاحتجاج به ، وخصوصاً بعد معرفتنا بكون عمرو بن شعيب ناصبي ، والناصبي لا يأخذ بقوله عند جميع أئمة الدراية والرجال.
2 ـ ما رواه منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن أبي يحيى الأعرج عن عبد الله.
3 ـ وأمّا الثالثة المسحية فهي : ما رواه يوسف بن ماهك عن عبد الله ابن عمرو بن العاص في المسح.
وقد قلنا بأنّ هذا الطريق مخدوش بأبي عوانة إلاّ أنّ مرتبة ضعف أحاديث أبي عوانة مما تتدارك بالاعتبار والشواهد ، وهى ليست كأخواتها التي سبقت. وإذا اتفق الشيخان (مسلم والبخاري) على اخراجه ، فتصير حجة على من يعتقد بهذا المبنى !!

البحث الدلالي

بعد أن اتضح لديك عدم إمكان الاحتجاج بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، لابد من الكلام عن دلالة مرويات أبي يحيى الاعرج (مصدع) على المطلوب ، وهل أنّها تدل على الوضوء بالمنطوق أم بالمفهوم ؟ ولو كانت دلالتها بالمفهوم ، فالى أي حدٍ يمكن به إثبات المدّعى ؟
الحق : أنّ روايات أبي يحيى الأعرج مجملة من جهة بيان الوضوء ، فهي لم تبين أي شيء منه ، غاية ما فيها أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال : ويل للأعقاب (أو العراقيب) من النار.
فالاجمال واضح في رواياته لعدم صراحتها في شيء ، وقد ادعى البعض الاضطراب في متونها كذلك ؛ لأنّ بعض الطرق عن أبي يحيى الأعرج تذكر أنّ سبب قول النبي صلى الله عليه وآله هو : « أنّ قوماً تعجلوا عند العصر فتوضؤا وهم عجال ، ولمّا رأى أعقابهم تلوح لم يمسها ماء ، قال صلى الله عليه وآله : ويل للأعقاب من النار ». وهذا المتن هو من رواية جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو ،


(474)

وهذا غير ما رواه وكيع عن سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى ، الذي ليس فيه سوى : أسبغوا الوضوء.
أمّا في رواية سفيان وعبد الرحمن عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى هو مجيء قوله صلى الله عليه وآله ويل للأعقاب ؛ لأنّه صلى الله عليه وآله رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح.
وفي رواية غندر (محمد بن جعفر) عن شعبة عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى : أنّ النبي صلى الله عليه وآله أبصر قوماً يتوضؤون لم يتمّوا الوضوء فقال : أسبغوا ويل...
وفي رواية أبي كريب عن عبد الله عن إسرائيل عن منصور عن هلال عن أبي يحيى.... أنّه قال ويل للأعقاب ؛ لأنّه رأى أقدامهم بيضاء من أثر الوضوء.
وأنت تعلم بأنّ رواية وكيع عن سفيان... هي أرجح مما رواه غندر وجرير بن عبد الحميد عن أبي يحيى.
وكذا تعلم بأنّ فيما رواه وكيع عن سفيان عن منصور هو وجود جملة (أسبغوا الوضوء) ، وهذه الجملة لا دلالة لها على غسل الرجلين.
أمّا ما رواه سفيان وعبد الرحمن عن سفيان عن منصور ففيها جملة (وأعقابهم تلوح) وهذه الرواية ساكتة عن معنى اللّوح ـ وإن كانت قد وضحت في رواية جرير عن منصور عن أبي هلال عن أبي يحى بأنّ أعقابهم تلوح لم يمسها ماء لكنّها لم تكن هي العله : لاحتمال أن يكون اللّوح في الأقدام جاء لوجود نقطة يابسة لم تغسل في الرجل ، وقد تكون لأجل وجود نجاسة ظاهرة في الأعقاب ، أو لأوساخ ظاهرة لايمكن الوقوف معها على النجاسة في الرجل إلاّ بعد رفعه ، وقد تكون تلوح لكونها مغسولة.
ومع وجود هذه الاحتمالات المتساوية في القوة لا مجال لترجيح أحدها على الآخر ، وبذلك تبقى الرواية على إجمالها ولا يمكن الاستفادة منها في الاستدلال.
ولنرجع إلى ما احتملناه من أنّ النبي قد يكون رآها مغسوله فنهى عنها ، لعدم وجود حكم من الشارع للأعقاب بالخصوص لا غسلاً ولا مسحاً ، فما احتملناه وإن كان بعيداً عن فهم الاخرين إلاّ أنّ له وجهاً معقولاً ، وخصوصاً لو لاحظنا ما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله عن إسرائيل عن منصور : إنّ القوم توضؤوا


(475)

فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله فرأى أقدامهم بيضاً من أثر الوضوء.
وهذا النص يعنى أنّ الأقدام كانت مغسولة بما فيها الأعقاب والعراقيب ، لقول الراوي : إنّ النبي صلى الله عليه وآله رآها بيضاً ، والبياض يتناسب مع كونها مغسولة. ولا يمكن القول بأنّ جملة (فرأى أقدامهم بيضاء) تعني أنّ الأقدام كانت مغسولة دون العراقيب ولأجله قال صلى الله عليه وآله : ويل للعراقيب من النار ، لأنّ الاطلاق (أقدامهم) لا يفهم منه العقلاء إلاّ الاستيعاب حتى للعراقيب ، ويدل عليه ما استدل عليه مفسروا أهل السنّة والجماعة لقوله تعالى (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) هو استيعاب الغسل حتى للعراقيب.
وبهذا فقد عرفنا بأنّ أقوى الأسانيد الغسلية هي مجملة غير واضحة ، وهي ليست صريحة في بيان المطلوب والدلالة على الغسل ، لكن الأسانيد المرجوحة منها هي أكثر بياناً ، فما يعنى هذا ؟ وبأيّهما يُؤخذ ؟!
بقى الكلام عن مرويات يوسف بن ماهك ، وهذه الروايات وإن كانت مجملة أيضاً ـ في بيان تفاصيل الوضوء ـ إلاّ أنّها صريحة في زاوية واحدة منها ، وهي : أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله بأجمعهم مسحوا أقدامهم في الوضوء ، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله لم ينههم عن المسح بل ذكّرهم بأمر إضافي وهو ويل للأعقاب من النار ، قالها مرتين أو ثلاثاً.
أي أنّ النبي صلى الله عليه وآله أقرّ فعلهم [ أي المسح ]ثم أرشدهم إلى أمر اضافي وهو لزوم الحيطة من الأعقاب لكونها معرضة للنجاسة ، وإنّ وجود النجاسة في البدن أو الثوب وخصوصاً في الرجل يدعوا إلى الهلكة ،
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد اكّد بأنّ أكثر عذاب أهل القبور من رذاذ البول ، وهذا يتفق مع كون قوله صلى الله عليه وآله (ويل للأعقاب من النّار) هو تنبيه على وجوب طهارة العقب من النجاسة الخبثية.
فلو كان المسح باطلاً لقال لهم : لا تمسحوا ، ومن مسح فوضوئه باطل ، وحيث لم ينههم عن المسح ، بل أقرّ فعلهم بالسكوت ثم التنويه والإرشاد على أمرٍ يجب مراعاته للماسحين ، وهو الحيطة من رذاذ البول وما يتعلق بالاعقاب من النجاسة. عرفنا بأن جملة (ويل للأعقاب من النار) بنفسها لا تدل على الغسل الواجب للرجل.
ونحن كنّا قد وضحنا سابقاً أنّ روايات يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو


(476)

هي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر ، وقد كان هذا الطريق مخدوش بأبي عوانة ، فلو فرضنا أنّه معارض بما رواه منصور عن هلال بن يساف عن أبي يحيى الأعرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، فنحن نرجح ما رواه أبو عوانة على ذلك الطريق لمجموع الجهات الآتية :
الاُولى : إنّ متون جميع طرق أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو متحدة لا زيادة فيها ولا نقص ، بخلاف ما رواه ابو يحيى الأعرج فإنّ متونها مجملة مضطربة.
الثانية : هناك عدد من الحفاظ ، وهم مشايخ البخاري ومسلم وغيرهما كموسىالتبوذكي ، وشيبان بن فروخ ، وابو كامل الجحدري وعارم بن الفضل ، وعفان بن مسلم الصفار وحتى محمد بن جعفر (غندر) كلهم قد رووا عن أبي عوانة عين ما يرويه الآخر ، بخلاف تلك المرويات فإنّ الرواة اختلفوا في الرواية عن منصور.
الثالثة : إنّ البخاري لم يخرج في الوضوء عن عبد الله بن عمرو إلاّ ما رواه ابو عوانة وهذه ميزة أو مرجح لما في المقام.
الرابعة : إنّ رواية أبي عوانة متفق عليها حيث أخرجها الشيخان (البخاري ومسلم) بخلاف رواية أبي يحيى والتي هي من إفراد مسلم ، ولا يخفى عليك أنّ المتفق عليه عند الشيخين. يترجّح على ما يتفرد به أحدهما ، كما فيما نحن فيه.
وقد يقال : أنّ هناك مرويات وشواهد في هذه المسألة كويل للأعقاب من النار ، التي رويت عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله ، وهذا بحد ذاته دليل على عدم تفرد عبد الله بن عمرو بن العاص في هذه القضية.
قلنا : سنبين في البحث القرآني لهذه الدراسة أنّ مرويات (ويل للاعقاب) وإن ثبت صدورها عن رسول الله فهي غير دالة على شيء من أفعال الوضوء بالخصوص ، بل إنّها تدل على أمرٍ خارجي وهو لزوم طهارة الأعقاب ، علماً بأنّ روايات عبد الله بن عمرو ليس فيها تصريح سوى رواية يوسف بن ماهك عنه ، الدالة على المسح على الأقدام لقوله : (فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار) ونؤكد القول وللمرةالثانية : بأنّا لم نعثر على شيء في تلك الروايات يشير


(477)

إلى تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجوب الغسل بل إنّهم استفادوامن جملة (ويل للأعقاب من النار)للدلالةعلى الغسل ، ولادلالة فيهاعلى المطلوب.
ولاأدري كيف فهم الأعلام دلالتها على الغسل مع وضوح كونها مجملة جداً.
والإنصاف إنّ هذه الرواية لا يمكن الركون إليها من الناحية الاستدلالية وفي كلام أعلامهم مايشير إلى هذا وإليك بعض أقوالهم :
قال النووي :
وقوله صلى الله عليه وآله : (ويل للأعقاب من النار) ، فتواعدهما بالنار لعدم طهارتها ولو كان المسح كافياً لما تواعد على ترك غسل عقبيه ، وقد صح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رجلاً قال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله كيف الطهور.... ثم عقّب النووي الرواية بقوله : هذا حديث صحيح أخرجه ابو داود وغيره بأسانيدهم الصحيحة والله أعلم (1) :






وكلام النووي يشعر بأنّ « ويل للأعقاب من النار » لا تكفي للدلالة على وجوب غسل الرجلين لقوله : (وقد صح من حديث عمرو بن شعيب). وهذا يعني أنّه فسّر المجمل (ويل للأعقاب) بما هو مبين له وهو حديث عمرو بن شعيب ، ومنه نستشعر بأنّ (ويل للاعقاب) مجملة حتى عند النووي ، هذا شيء.
والشيء الآخر هو أنّ قوله (ولو كان المسح كافياً لمّا تواعد على ترك غسل عقبيه) يدل على مشروعية المسح ، لأنّه صلى الله عليه وآله حينما لم ينههم وقد رآهم قد مسحوا فهو تقرير منه صلى الله عليه وآله على مشروعية المسح ، أمّا قوله (ويل للأعقاب) فليس نهياً عن المسح بل إرشاد إلى الحيطة في الأعقاب ، لأنّها معرضه للنجاسة ، فتوعدهم بالنار لامكان بطلان صلاتهم لو لم يغسلوا تلك الأعقاب النجسة.
وهناك أمر ثالث أشار إليه النووي وهو صحة إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، فإنّا نتعجب منه كيف يحكم بصحة الإسناد إلى عمرو بن شعيب وقد عرّفناك بأنّ الحكم بصحة تلك الأحاديث أمر لا يساعد عليه البحث العلمي.
____________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي (3 ـ 4) : 131 ح 9 ، قاله في معرض شرحه لحديث عائشة.

(478)

فرواية أبي داود مخدوشة بأبي عوانة ، فضلاً عن عمرو بن شعيب والتردد في جده ، أمّا رواية النسائي فهي الاُخرى مخدوشة بيعلى بن عبيد الطنافسي الذي صرح يحيى بن معين بضعف حديثه في خصوص سفيان ـ كما فيما نحن فيه ـ وكذا بعمرو بن شعيب والتردد في جده.
ولا أدري كيف يحكم النووي بصحة حديث عمرو بن شعيب وأنت ترى حاله ؟
لا أحسب أنّ النووي فعل ذلك إلاّ لاعتقاده بعدم إمكان الاحتجاج بويل للأعقاب لكونها مجملة ، فلجأ إلى ما يبينها (وهي رواية عمرو بن شعيب) وإن كانت ضعيفة جداً.
قال ابن حزم ـ بعد ذكره رواية مصدع في مسلم ـ : فكان هذا الخبر ـ ويعني به رواية مصدع (أبي يحيى الأعرج) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ زائداً على ما في الآية وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخاً لما فيها ولما في الآية ، والأخذ بالزائد واجب (1).




وقد كان ابن حزم قد وضّح قبله دلالة الآية على المسح سواء قرئت بالخفض أم الفتح ، وهي على كل حال عطف على الرؤوس ، إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع كماهو صريحه (2).
أمّا قوله (وعلى الأخبار التي ذكرنا) فكان يعني بها روايات الصحابة التي دلت على مسح الرجلين كرواية علي ورفاعة بن رافع وابن عباس و...
ومثله قوله (وناسخاً لما فيها ولما في الآية) فكان يعني بها أنّ رواية مصدع ناسخة للآية الدالة على المسح ولأخبار المسح الصريحة.
لكن هذا الكلام غير صحيح لعدم وقوع النسخ في الوضوء في الشريعة المحمدية كما سيتّضح لاحقاً ، إذ لو كان النسخ واقعاً فعلاً لكان أول من علمه علي وابن عباس وأنس ، في حين نرى هؤلاء قد رووا المسح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وفعلوا به ، فلو كان المسح قد نسخ لما فعله صحابة أمثال هؤلاء. ولما اشتهر عنهم بأنّ مذهبهم المسح.
أضف إلى ذلك إنّ جمعاً من التابعين قد ذهبوا إلى المسح قولاً وفعلاً ، فلو كان
____________
(1) المحلى 2 : 57.
(2) اُنظر المحلى 2 : 56 وفيه عدة روايات وأقوال صريحة في المسح على القدمين.

(479)

النسخ ثابتاً عندهم لما فعلوا ذلك.
وعليه فيكون ادعاء النسخ أمر مشكوك فيه ، إذ لو كان لعلمه هؤلاء الصحابة والتابعين ، ونضيف إليه : إنّ القول بنسخ الكتاب القطعي بخبر الواحد الظني مما يضحك الثكلى ، وخبر مصدع هو خبر واحد ، بل إنّ جميع أخبار الغسل هي هكذا ، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.
وقد تبين مما تقدم : أنّ ابن حزم قد اعترف بكون المسح هي سيرة المسلمين في الصدر الأول. وأنّه المنزل من قبل الله في القرآن العظيم ، وأنّه فعل النبي صلى الله عليه وآله ، لما رواه عن جمع من الصحابة أمثال : علي بن أبي طالب وابن عباس ورفاعة بن رافع وأنس بن مالك وغيرهم.
قال ابن حجر ـ وهو في معرض شرح رواية موسى التبوذكي عن أبي عوانة في البخاري :
(قوله : ونمسح على أرجلنا) انتزع منه البخاري أنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل ، فلهذا ذكره في الترجمة (1) (ولا يمسح على القدمين) ، وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها ، وفي إفراد مسلم (فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء) فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح ويحمل الإنكار على ترك التعميم ، لكن الرواية المتفق عليها أرجح ، فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل ، فيحتمل أن يكون معنى قوله (لم يمسها الماء) أي ماء الغسل جمعاً بين الروايتين...) (2).







ولعمري أنّ ابن حجر قد أنصف هنا في عدة أمور :
الاُولى : الذهاب إلى أنّ رواية أبي عوانة عن يوسف بن ماهك هي أرجح من رواية مصدع عن عبد الله بن عمرو ، لكون الاُولى متفق عليها بخلاف رواية مصدع التي تفرد بها مسلم.
____________
(1) ويعني بالترجمة عنوان الباب في البخاري (غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين) ، وقد علق ابن حجر على (قوله : باب غسل الرجلين) : كذا للاكثر وزاد ابو ذر ولا يمسح على القدمين.
(2) فتح الباري 1 : 213.

(480)

الثانية : إنّ دلالة مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص ـ بعد الجمع بينهما ـ محتملة الدلالة ، وهذا يفهم من قوله المتقدم « فيحتمل أن يكون.... » فلو كانت دلالتها قطعية أو معتبرة لصرح بها كما هو عادته.
الثالثة : إنّ قوله (انتزع منه البخاري) يشعر ـ بل يكشف ـ عن عدم إقرار ابن حجر التام على هذا الانتزاع من البخاري ؛ فإنّ ابن حجر احتمل في المقام ـ كماوضحنا لك ـ ولكنّ البخاري كان قد انتزع ، وواضح جداً لأهل النظر أنّ الانتزاع والاحتمال اجتهاد يمكن الخطأ فيه.
وبعد هذا نتعجب من ابن حجر كيف جمع بين رواية مصدع المرجوحة وبين رواية يوسف بن ماهك الراجحة ـ المتفق عليها بما لا سبيل إلى قبوله ـ ونحن قد أوقفناك سابقاً على أنّ بعض روايات مصدع مخدوشة من جهتين :
1 ـ من جهة مصدع
2 ـ من جهة جرير بن عبد الحميد ،
فكيف يتصور بعدها إمكان معارضة هذا الخبر بما اتفق عليه الشيخان حتى تصل النوبة إلى أن يجمع بينهما ، أو أن يصير نتيجة الجمع بينهما هو الغسل ؟!!
والذي يهون الخطب : إنّ ما قاله ابن حجر هو مجرد احتمال ، فلو كان كذلك فنحن نحتمل قباله احتمال آخر وهو الذي مر عليك ؛ لأنّ روايات يوسف بن ماهك صريحة في المسح على القدمين ، وروايات مصدع مجملة الدلالة ، فيمكن ارجاع روايات مصدع المجملة إلى روايات يوسف بن ماهك التي فيها صراحة في المسح ، ويُحمل جملة (ويل للأعقاب من النار) على أنّه إشارة إلى أمرٍ خارجٍ عن حقيقة الوضوء من قريب ، وهذا الجمع هو الذي تقتضيه قواعد الجمع بين المتعارضين ، وهو ارجاع المجمل للمبين لا التخبط كما فعله ابن حجر ، فاحتمالنا يُرجّح على احتمال ابن حجر ، بل يمكننا القول بأنّ احتمال ابن حجر هو خطأ واضح ، لأنّه أرجع الأحاديث المجملة إلى رواية المسح ثم استنتج منها الغسل !! وهذا من أسخف الاستدلال.
أمّا ما ادعاه من أنّ (ويل للاعقاب) نهي عن مسح الرجلين ، فهي دعوى بلادليل ، بل الدليل عليها لا لها ، لأنّ ابن حزم وابن رشد وغيرهم عدّوا هذه الرواية


(481)

ـ المتفق عليها ـ من روايات المسح.
فقال ابن رشد :
(وقد رجّح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه صلى الله عليه وآله إذ قال في قومٍ : لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء (ويل للأعقاب من النار) ، قالوا : فهذا يدل على أنّ الغسل هو الفرض ، لأنّ الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ، وهذا ليس فيه حجه لأنّه إنّما وقع الوعيد على أنّهم تركوا أعقابهم دون غسل ، ولا شك أنّ من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم ، كما أنّ من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين ، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرّجه أيضاً مسلم أنّه قال : فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى (ويل للأعقاب من النار) ، وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح فهو أدل على جوازه منه على منعه ، لأنّ الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة ، بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازها ، وجواز المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة...) (1).











فأمّا قول ابن رشد : « لأنّ الوعيد إنّما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة بل سكت عن نوعها » يعني به أنّ على النبي ـ باعتباره المبلغ والمبين لأحكام السماء ـ أن يصرح بالغسل أو ينهى عن المسح حينما رآهم فعلوا ذلك ، فسكوت النبي صلى الله عليه وآله عن حكم المسح واكتفائه بجملة (ويل للأعقاب من النار) دون التصريح بالغسل يدل على جواز المسكوت عنه وهو المسح ، وعدم دلالة هذه الجملة على الغسل.
أمّا قوله (إنّما تعلق فيه بترك التعميم) فيمكن الإجابة عنه بأنّه لو أراده صلى الله عليه وآله لبينه ، كما تستدعيه وظيفته الإلهية ، فلمّا لم يبينه عرفنا أنّه لم يرد التعميم.
هذا وقد نقل العيني قول الطحاوي : لمّا أمرهم بتعميم غسل الرجلين حتى لايبقى منها لمعه ، دل على أنّ فرضها الغسل ، ثم نقل اعتراض ابن المنير : بان التعميم
____________
(1) بداية المجتهد 1 : 15.

(482)

لايستلزم الغسل ، فالرأس تعم بالمسح وليس فرضها الغسل (1) ،
وهذا ، الكلام من ابن المنير يؤكد اجمال ما يستدل به على الغسل ،
وعليه : فيكون ما اتفق عليه الشيخان ـ والدالة على المسح ـ هي الأرجح في المسألة سنداً.
وبعد ذلك وجب عليناالبحث عن أسباب صدور الغسل عن عبد الله بن عمرو ابن العاص ، وخصوصاً بعد وقوفنا على كون الروايات المنسوبة إليه ضعيفة وليست موضوعة ـ حتى يمكن لنا طرحها ـ وهذا هو الذي أوجب علينا اعطاء بعض الوجوه والأسباب في ذلك ، وإليك توضيح هذا الأمر في نسبة الخبر إليه.
____________
(1) عمدة القارئ 2 : 21.

(483)

نسبة الخبر إليه

عبد الله بن عمرو بن العاص كان من الصحابة الذين أسلموا قبل آبائهم (1) ، وهو أحد العبادلة الأربع الذين اشتهروا بالزهد والعلم !!
وقد ذكر الذهبي : أنّه هاجر بعد سنة سبع ، وشهد بعض المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وآله (2) ، وقد عُدّ من المدونين على ما هو صريح ابن سعد ـ وغيره ـ حيث قال : استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في كتابة حديثه فأذن له (3) ، واشتهر عنه معرفته بالسريانية كذلك (4).
« وكان عبد الله مع أبيه معتزلاً لأمر عثمان ، فلمّا خرج أبوه إلى معاوية خرج معه ، فشهد صفين ، ثم ندم بعد ذلك فقال : مالي ولصفين ، مالي ولقتال المسلمين ، وخرج مع أبيه إلى مصر ، فلمّا حضرت عمرو بن العاص الوفاة استعمله على مصر ، فأقره معاوية ثم عزله » (5).
هذا ، وبسط المؤرخون حالات عمرو بن العاص وابنه عبد الله ، وذكروا عمرواً فيمن نقم على عثمان ؛ لعزله إياه عن ولاية مصر أيام خلافته.
« وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين وكان يقول : والله إنّي كنت لألقي الراعي فأحرضه على عثمان ، وأتى علياً وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان ، فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد الله ، وسلامة بن روح الجذامي إذ مرّ به راكب من المدينة ، فسأله عمرو عن عثمان ، فقال : هو محصور ، فقال عمرو... » (6).
ولقد غيّر عمرو موقفه اتجاه عثمان بعد محاصرته وقتله ، فقال
____________
(1 ـ 2) اُنظر سير أعلام النبلاء 3 : 91.
(3) تقييد العلم ، الطبقات الكبرى 4 : 262.
(4)الطبقات الكبرى 2 : 189.
(5) الطبقات الكبرى 7 : 495.
(6) الكامل في التاريخ 3 : 163 في حوادث سنة خمس وثلاثين.

(484)

الدكتورحسن إبراهيم حسن : «... وهنا غيّر عمرو بن العاص سياسته دفعة واحدة ، وأصبح في حزب عثمان ، لأنّه كان ـ كما لا يخفى ـ من أشد الناس دهاء ، وكان لا يعمل عملاً إلاّ إذا تأكد من نجاحه ، يدلك على ذلك أنّه لم يسلم إلاّ بعد أن ظهر له ظهوراً بيناً أنّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف ينتصر ، وما كان ذهابه إلى الحبشة إلاّ ليرى ما يكون من أمر محمد وقريش ، فإن كانت الغلبة لقريش كان على أولى أمره مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن قد خذل قريشاً بالقعود عن نصرتها ، ولكنّه أسلم ودخل في الإسلام لمّا رأى أنّ أمر النبي صلى الله عليه وآله قريش لا محالة ، كذلك كان حاله في هذا الظرف ، فتبين له بثاقب رأيه وبعد نظره أنّ هذه الثورة لن تنتهي إلاّ بحدوث انقلاب في حالة الأمة العربية ، ولم يكن عمرو بالرجل الساكن الذي لا يلتزم الحيدة في مثل تلك الظروف ، بل لابد من دخوله في هذه الاضطرابات ، وأن يكون له ضلع فيها ، عسى أن يناله من وراء ذلك ما كان يؤمل منذ زمن طويل ، لأنّه كان طموحاً إلى العلا (1).
وقد نال ما كان يأمله من أمور الولاية والزعامة ، فقد ولي سرية (ذات السلاسل) من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقاد الجيش الإسلامى لفتح فلسطين على عهد أبي بكر ، ومنه افتتح مصر على عهد عمر بن الخطاب في سنة ثماني عشرة من الهجرة ، فقال الذهبي عنه «...وولى امرته (أي مصر) زمن عمر بن الخطاب وصدراً من دولة عثمان ، ثم أعطاه معاوية الأقاليم ، وأطلق مغله ست سنين ؛ لكونه قام بنصرته ، فلم يلي مصر من جهة معاوية إلاّ سنتين ونيفاً ، ولقد خلف من الذهب قناطير مقنطرة » (2).
وقال عنه أيضاً : « كان من رجال قريش رأياً ودهاءً وحزماً وبصراً بالحروب ، ومن أشرف ملوك العرب ، ومن أعيان الصحابة ، والله يغفر له ويعفو عنه ، ولولا حبه للدنيا ودخوله في أمورٍ لصلح للخلافة ، فإنّ له سابقة ليست لمعاوية ، وقد تأمّر على أبي بكر وعمر لبصيرتة بالأمور ودهائه » (3).
وقد شرح الدكتور حسن إبراهيم حسن نفسية عمرو بن العاص وحبه للإمارة
____________
(1) تاريخ عمرو بن العاص للدكتور حسن ابراهيم حسن : 240.
(2) سير أعلام النبلاء 3 : 58.
(3) سير أعلام النبلاء 3 : 58.

(485)

ومما قاله هو «.. وقد بلغ حب عمرو للإمارة أنّه حين أراد أن يعقد ابو بكر الألوية لحرب الشام ، كلّم عمرو بن العاص عمر بن الخطاب أن يخاطب ابا بكر في تأميره على جيوش المسلمين بدل أبي عبيدة ، وقد قدمنا أنّ عمرواً كان أميراً على أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم... » (1).
نعم كانت هذه هي نفسية عمرو بن العاص ، وقد عرفها الجميع عنه ، خصوصاً ولديه محمد وعبد الله ، والذي يحز في النفس أن نرى ابنه الزاهد العابد عبد الله !! يتبع والده على ما ساقه هواه ونفسه في حربه ضد علي بن أبي طالب ، إذ عرّفه ـ حينما استشاره ـ بأنّ الدنيا مع معاوية والآخرة مع علي.
فلو كان يعرف هذا فكيف به يدخل جيش معاوية ضد على ، وهل يصح ماعلله لفعله من سماعه لأمر الرسول باتباع أبيه ؟!!
مما لا نشك فيه أنّ الباري جل وعلا قد أمر الناس بإطاعة الوالدين ، وأنّ الرسول الأكرم قد دعا المسلمين بلزوم تلك الطاعة ، لكنّنا في الوقت نفسه لانصدق تعميم هذا الحكم حتى لو كانت في أوامر الوالدين معصية للخالق ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فمن جهة يع ـ لم عبد الله بأنّ علياً مع الحق وأنّ المحاربة معه محاربة للحق ـ لنهيه والده (2) ومن جهة أخرى نراه يصير قائداً من قواد جيش معاوية.
بلى ، إنّ عبد الله بن عمرو أكد في عدة نصوص بأنّ جبهة معاوية هي الفئة الباغية ، فقد حكى عبد الرحمن السُّلمي بقوله : لمّا قتل عمار دخلتُ عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا ، وكنّا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا اليهم ، فإذا معاوية ، وعمرو ، وأبو الأعور ، وعبد الله بن عمرو يتسايرون ، فأدخلت فرسي بينهم لئلاّ يفوتني ما يقولون.
قال عبدالله لأبيه : يا أبه ، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله (3)
قال : وما قال ؟
____________
(1) تاريخ عمرو بن العاص : 108.
(2) اُنظر الكامل في التاريخ 3 : 275 أواخر حوادث ست وثلاثين.

(486)

قال : ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي لبنة لبنة ، وعمار لبنتين لبنتين ، فغشى عليه ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول : ويحك يا ابن سمية ، الناس ينقلون لبنة لبنة ، وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر ، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية. قال عمرو لمعاوية : أما تسمع ما يقول عبد الله ؟
قال : وما يقول ؟
فأخبره ، فقال معاوية : أنحن قتلناه ؟ إنمّا قتله من جاء به ، فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون : إنمّا قتل عمار من جاء به ، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم...) (1).
وعليه ، فعبد الله كان يعرف بأنّ أباه ومعاوية هما ائمة الفئة الباغية وهما اللذان قتلا عماراً ؛ وإنّ اعتراضه عليهما يكشف عن ذلك ، فكيف يبقى معهم حتى آخر المطاف ؟! و يحضر مجلس يزيد (2) !!
وبم يمكننا أن نفسر هذه المشاركة منه ، وهل يصح ما علله من سبب لالتحاقه بجيش معاوية ؟!
ألم يكن موقفه هذا هو عون للظلمة المنهي عنه في الذكر الحكيم. وللتأكيد إليك خبراً آخر في هذا السياق.
جاء في الاستيعاب وأسد الغابة : أنّ الحسين بن علي مرّ على حلقة فيها ابو سعيد الخدري ، وعبد الله بن عمرو بن العاص فسلّم ، فردّ القوم السلام وسكت عبد الله حتى فرغوا ، ثم رفع صوته ، قال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
ثم أقبل على القوم وقال : ألا أخبركم بأحب أهل الارض إلى أهل السماء ؟
قالوا : بلى
قال : هذا هو الماشي ، ما كلمني كلمة منذ ليالي صفين ! ولإن يرضى عني أحب اليّ من أن يكون لي حمر النعم ؟
فقال ابو سعيد : إلاّ تعتذر إليه ؟
____________
(1) الكامل في التاريخ 3 : 311 ، وفي العقد الفريد 4 : 319 فلما بلغ علياً ذاك قال : ونحن قتلنا أيضاً حمزة لانا أخرجناه !! !
(2) اُنظر تاريخ الطبري وغيره.

(487)

قال : بلى ، وتواعدا أن يفدوا إليه ، فلمّا أتياه ، استأذن ابو سعيد فأذن له ، فدخل ، ثم استأذن لعبد الله فلم يزل به حتى أذن له ، فلمّا دخل أخبر ابو سعيد الحسين بما جرى من قبل ذلك ، فقال الحسين : أعلمت يا ابا عبد الله أنّي أحب أهل الأرض إلى أهل السماء ؟
قال : أي ورب الكعبة.
قال : فما حملك على أن تقاتلني وأبي يوم صفين ؟ فوالله لأبي كان خيراً مني !
قال : أجل ولكن أبي أقسم عليّ ـ وكان الرسول قد أمرني بطاعته ـ فخرجت ، أما والله ما اخترطت سيفاً ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ؟
فان قوله (ما اخترطت سيفاً و...) يوحي إلى أنّه كان يعلم بضلالة الفئة التي هو فيها ، فلو عرف حق الحسين وأنّه أحب أهل الأرض إلى أهل السماء ، وسعى إلى الاعتذار منه ، فكيف نراه يُلَوّح للفرزدق بن غالب ـ في الخبر الآتي ، وبعد تلك الواقعة ـ بأنّ خروج الحسين جاء للملك والسلطان لقوله ؛ (فو الله ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه).
وتمام هذه الحكاية في تاريخ الطبري ، فقد جاء في (حوادث سنة ستين) : عن عوانة بن الحكم عن لبطة بن الفرزدق بن غالب عن أبيه قال : حججت بأمي فأنا أسوق بعيرها حتى دخلت الحرم في أيام الحج ، وذلك في سنة 60 إذ لقيت الحسين بن علي خارجاً إلى مكة ، معه أسيافه وتراسُه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟
فقيل : للحسين بن علي ، فأتيته ، فقلت : بأبي وأمي يابن رسول الله صلى الله عليه وآله ماأعجلك عن الحج.
فقال : لو لم أعجل لأخذت.
قال ، ثم سألني : ممن أنت ، فقلت له : امرؤ من العراق ، قال[ الفرزدق بن غالب ] : فوالله ما فتشني عن أكثر من ذلك واكتفى بها مني.
فقال : إخبرني عن الناس خلفك.
قال ، فقلت له : القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، والقضاء بيد الله.
قال ، فقال لي : صدقت.
قال : فسألته عن أشياء فأخبرني بها من نذور ومناسك ، قال : وإذا هو ثقيل


(488)

اللسان من برسام أصابه بالعراق.
قال ، ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم وهيئته حسنة ، فأتيته فاذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فسألني فأخبرته بلقاء الحسين بن علي ،
فقال لي : ويلك فهلا إتبعته ، فوالله ليملكن ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه.
قال : فهممت والله أن ألحق به ، ووقع في قلبي مقالته ، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدني عن اللحاق بهم ، فقدمت على أهلى بعسفان قال : فوالله إنّي لعندهم إذ أقبلت عيرُ قد امتارت من الكوفة ، فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتى إذا اسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم ألا ما فعل الحسين بن علي.
قال : فردوا عليّ ألا قد قتل.
قال : فانصرفت ، وأنا العن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال : وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر وينتظرونه في كل يوم وليلة ، قال : وكان عبد الله بن عمرو يقول : لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر.
قال : فقلت له : فما يمنعك أن تبيع الوهط.
قال فقال لي : لعنة الله على فلان (يعني معاوية) وعليك.
قال : فقلت : لا بل عليك لعنة الله.
قال : فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمِه أحد ، فألقي منهم شراً.
قال : فخرجت وهو لا يعرفني (1)
كان هذا مجمل عن حياة عبد الله بن عمرو بن العاص ، فإنّه إن لم يكن من أعداء علي بن أبي طالب فقد كان من الذين رضوا بالضلال والباطل ؛ وذلك لمعرفته بمكانة علي بن أبي طالب والحسين بن علي وعمار بن ياسر ومظلوميتهم ثم ابتعاده عنهم.
فقبوله بولاية الكوفة ومصر من قبل معاوية وتأسّفِه عن ذهابهما عنه ، معناه عدم زهده في الملك والمال ، لأنّه لو كان زاهداً في أمور الدين والدنيا للزمه الاحتياط بأن يعتزل القتال ضد علي ، وعدم الدخول في جبهة معاوية ، ثم عدم رضاه بالولاية
____________
(1) تاريخ الطبري 4 : 291 حوادث سنة 60.
(489)

من قبله.
وكذا لزمه ترك القناطير المقنطرة التي ورثها من أبيه وإرجاعها إلى بيت المال لإعانة الفقراء والمعوزين ؛ وذلك لعلمه بأنّ غالب هذه الأموال كان قد حصل عليها عمرو بعد ولايته وإمرته وبدون استحقاق !!.
فعلام تدل هذه المواقف ؟! على الزهد أم على شيء آخر ؟ ؟!
ألم يدل قوله (أما والله على ذلك ، ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ، وما رجل أحوج مني من رجل لم يفعل ذلك) على أنّ معركة صفين كانت معركة باطلة باعتقاده ، وخصوصاً بعد وقوفنا على تصريحه لمعاوية وغيره بأنّهم هم الذين قتلوا عمار بن ياسر ـ وهو الذي تقتله الفئة الباغية ـ !!
وهل تصدق أن لا يضرب عبد الله بن عمرو بسيف ولا يطعن برمح وهو قائد ميمنة جيش معاوية (1) ، والمحرّض على الحرب ضد علي (2).
وهو من كبار رجال جيش معاوية ومن الذين شهدوا على وثيقة التحكيم عنه (3) وهو من الذين كان يستعين بهم عمرو بن العاص لتنظيم الصفوف (4).
وكيف بعبد الله لا يضرب بسيف ولا يطعن برمح وهو القائل :
وقالوا لنا إنّا نرى أن تبايعوا * علياً ، فقلنا : بل نرى أن نضاربُ (5)
وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة إحدى وأربعين : أنّ معاوية استعمل عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة ، فأتاه المغيرة بن شعبة فقال له : استعملت عبد الله على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميراً بين نابي الأسد ، فعزله عنها واستعمل المغيرة على الكوفة (6).
____________
(1) صفين ، لنصر بن مزاحم 206 ، تاريخ ابن الخياط : 118.
(2) صفين : 334 وفيه (وعبد الله يحرض الناس على الحرب) .
(3) الاخبار الطوال 196.
(4) صفين : 227.
(5) العقد الفريد 4 : 320.
(6) الكامل في التاريخ 3 : 413.

(490)

وعليه ، فعبد الله لم يكن بالزاهد العابد حسبما يصوره التأريخ ، بل كان حاكماً من قبل معاوية على الكوفة ومصر ، ولا يعقل أن يولي معاوية شخصاً لم يثبت ولائه واخلاصه له !!

عبد الله بن عمرو وإجتهاده بمحضر الرسول
عن ابن شهاب : أنّ سعيد بن المسيب وابا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبراه أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أُخبر رسول الله صلى الله عليه وآله إني لأقول لأصومن الدهر ولأ قومن الليل ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : أنت الذي تقول لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ؟
قال : قد قلت ذلك يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنّك لا تستطيع ذلك فافطر وصم ، ونم وقم ، وصم من الشهر ثلاثة أيام ، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر.
قال : قلت : إنّي أطيق أفضل من ذلك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : صم يوماً وافطر يومين.
قال : إنّي أطيق أفضل من ذلك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا أفضل من ذلك.
وعن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو. قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله ، يا عبد الله بن عمرو في كم تقرأ القرآن ؟
قال قلت : في يوم وليلة ، قال فقال لي : إرقد وصلّ وصلّ ، وارقد واقرأه في كلّ شهر ، فما زلت أناقضه ويناقضني حتى قال : إقرأه في سبع ليالٍ ، قال ثم قال لي : كيف تصوم ؟
قال قلت : أصوم ولا أفطر.
قال فقال لي : صم وأفطر ، وصم ثلاثة أيام من كلّ شهر. فما زلت أناقضه ويناقضني حتى قال لي : صم أحبّ الصيام إلى الله ، صيام أخي داود ، صم يوماً وافطر يوماً ، قال فقال عبد الله بن عمرو : فلإن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وآله أحب إليّ


(491)

من أن يكون لي حمر النعم حسبته (1).
وعن يحيى بن حكيم بن صفوان : أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جمعت القرآن فقرأته في ليلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله إنيّ أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تمل قراءته ثم قال : اقرأه في شهر ، قال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي قال : اقراه في عشرين ، قلت : أي رسول الله صلى الله عليه وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي قال : اقرأه في سبع ، قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وآله دعني استمتع من قوتي وشبابي ، فأبى (2).
وفي آخر : فغضب وقال : قم فاقرأ (3).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : زوجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت عليّ جعلت لا أنحاش لها ممّابي من القوة على العبادة ، من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن العاص إلى كنّته حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وجدت بعلك ؟
قالت : خير الرجال ـ أو كخير البعولة ـ من رجل لم يفتش لنا كنفاً ، ولم يقرب لنا فراشاً ، فأقبل عليّ فعذمني وعضني بلسانه ، فقال : أنكحتك إمرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت ، ثم إنطلق إلى النبي فشكاني ، فأرسل إليّ النبي فأتيته ، فقال لي : أتصوم النهار ؟
قلت نعم !
قال : أفتقوم الليل ؟
قلت : نعم
قال : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأمس النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ـ إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله ـ : إنّ لكل عابد شرة ، وإنّ لكل شرة فترة ، فإمّا إلى سنة ، وإمّا إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك (4) فهذه النصوص توضح بانّ عبد الله بن عمرو لم يتعبد بتعاليم
____________
(1) الطبقات الكبرى 4 : 264.
(2) البخاري في فضائل القرآن 9 : 84 ومسلم (1159) (184) كما في هامش سير أعلام النبلاء 3 : 83 ، واُنظر حلية الاولياء 1 : 285.
(3) حلية الاولياء 1 : 285.
(4) حلية الاولياء 1 : 286 ، واُنظر سير أعلام النبلاء 3 : 90 ومسند أحمد 158 والبخاري في فضائل القرآن 9 : 82.

(492)

النبي بل كان يجتهد أمامه ، راجياً التعمق في العبادة ، وأنّ رسول الله أخبره بعاقبة الزاهد المتعمق !!
هذا وقد بقى عبد الله مصّراً على ما رآه حتى أواخر حياته (1) مع وقوفه على نهي الرسول و سماعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا أفضل من ذلك) ، نعم إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بإمكان ضعفه وتكاسله عن العبادة عند الكبر لقوله (إنّك لعلك أن تبلغ بذلك سناً وتضعف) (2).
وفي نص آخر : يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل (3).
وجاء في سيرة ابن هشام أنّ عبد الله بن الحارث سأل عبد الله بن عمرو : هل سمع كلام ذو الخويصرة وقوله لرسول الله لم أرك عدلت ؟ فأجابه بالإيجاب ، ثم نقل له كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بأنّ له شيعة سيتعمقون في الدين (4).
بلى ، إنّ عبد الله تأسف في كبره على عدم استجابته لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (... فأدركني الكبر والضعف حتى وددت إنّي غرمت مالي وأهلي وإنّي قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وآله في كل شهر ثلاثة ايام...) (5).
وقد علّق الذهبي بعد كلام طويل له بقوله «.. فمتى تشاغل العامّة بختمة في كل يوم ، فقد خالف الحنفية السمحة ، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبّر ما يتلوه.
هذا السيد العابد الصاحب [ يعني به عبد الله بن عمرو ] كان يقول لما شاخ : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذلك قال له عليه السلام في الصوم ، وما زال يناقضه حتى قال له : صُم يوماً وأفطر يوماً ، صوم أخي داود عليه السلام ، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : أفضل الصيام صيام داود ، ونهى عليه السلام عن صيام الدهر (6) ، وأمر عليه السلام من
____________
(1) لقوله : فلان اكون قبلت رخصة رسول الله أحب إلي من أن تكون لي حمر النعم حسبه.
(2) الطبقات الكبرى 4 : 263.
(3) الطبقات الكبرى 4 : 265.
(4) سيرة ابن هشام 4 : 139.
(5) حلية الاولياء 1 : 284 ، سير أعلام النبلاء 3 : 91 ، مسند أحمد 2 : 200 ، الطبقات الكبرى 4 : 264.
(6) أخرجه البخاري : 195 في الصوم ، باب صوم داود ، ومسلم (1159) (187) في الصيام باب النهي عن صيام الدهر بلفظ (لا صام من صام الأبد) .

(493)

الليل ، وقال : (ولكنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس منّي)
وكل من لم يَزُمَّ نفسه في تعبده وأوراده بالسنّة النبوية ، يندم ويترهب ويسوء مزاجه ، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيّه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين ، الحريص على نفعهم ، وما زال صلى الله عليه وآله وسلم معلماً للأمة أفضل الأعمال ، وآمراً بهجر التبتل والرهبانية التي لم يُبعث بها ، فنهى عن سرد الصوم ، ونهى عن الوصال ، وعن قيام أكثر الليل إلاّ في العشر الأخير ، ونهى عن العُزبة للمستطيع ، ونهى عن ترك اللحم إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.
فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور ، والعابد العالم بالآثار المحمدية ، المتجاوز لها مفضول مغرور ، وأحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلّ ، الهمنا الله واياكم حسن المتابعة ، وجنبنا الهوى والمخالفة (1).
وبهذا فقد وقفنا على نفسية عبد الله بن عمرو بن العاص وأنّ روحية الاجتهاد كانت هي الحاكمة عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعده لا التعبد ، لأنّه لو كان متعبداً بقول رسول الله صلى الله عليه وآله لما جاز له أن يناقضه صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو يناقصه حسب تعبير الذهبي ـ في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كان عليه الامتثال والطاعة ، لقوله سبحانه (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) (2).
وإنّ ما قدمناه يدعونا للتشكيك فيما علله عبد الله في سبب خروجه على علي بن أبي طالب من أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمره بإطاعة أبيه (3) ، لأنّ وقوفه أمام أوامر الرسول ومناقضته له ، وثبوت تأسفه وتركه لتعاليم الرسول حتى آخر حياته ، كل هذه تخالف مقولته السابقة من أنّه قد تعبد بكلام رسول الله !!
وعليه ، فخروج عبد الله بن عمرو على علي بن أبي طالب ودخوله في جيش
____________
(1) سير أعلام النبلاء 3 : 85 ـ 86.
(2) سورة الاحزاب 3 ـ 36.
(3) اُنظر أعلام النبلاء 3 : 92 وقال في الهامش : إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن قدامة ضعفه أبو حاتم والدار قطني والنسائي وابن حبان وغيرهم.

(494)

معاوية لم يكن لتعبده بقول رسول الله صلى الله عليه وآله بل جاء اجتهاداً من عند نفسه ، ولما رجاه من فائدة ومصلحة في هذا الأمر !!

تأثر العرب بيهود الجزيرة
كل ما مر كان بمثابة المقدمة الاُولى لما نريد قوله هنا ، والآن مع مقدمة أخرى نأتي بها لتوضيح مانبغي إليه.
نحن قد وضّحنا في بحوثنا عن (السنّة بعد الرسول) أنّ عرب شبه الجزيرة لم تكن لهم مدنية راقية ولا ثقافة عالية قبل الإسلام (1) ، وأنّهم قد تأثروا كثيراً بالوافدين إليهم كيهود فلسطين و... ، إذ كانوا يرجعون إليهم في كثير من الأمور ، لكونهم قادمين من حضارات عريقة (كالروم والفرس و...) ويحملون معهم أخبار الديانات والمغيبات ، وأنّهم كانوا أصحاب كتب ومدوّنات ، فكان العرب ينظرون إليهم نظر التلميذ إلى معلّمه ، ويعدّوهم مصدر الثقافة الدينيّة والعمليّة لهم ، فما عُرضَ الإسلام على قبيلة أو عشيرة منهم إلاّ وهرعوا إلى مناطق اليهود يستفتونهم في قبول هذا الأمر أو ردّه.
و ممّا جاء في هذا الأمر
1 ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله دعا قبيلة كندة إلى الإسلام ، فأبوا قبوله ، فأخبرهم شخص أنّه سمع من اليهود أنّهم قالوا : إنّه سوف يظهر نبي من الحرم قد أطلّ زمانه وهذا الخبر دعاهم للتثبت أكثر في الأمر ، ثم قبوله.
2 ـ نجد قبيلة بكاملها تذهب إلى يهود فدك لتسألها عن قبول الإسلام أو ردّه (3).
3 ـ جاء في الاصابة : أنّ وفد الحيرة وكعب بن عدي أسلما على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولمّا توفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ارتابوا إلاّ كعباً






____________
(1) اُنظر مقالنا في مجلة تراثنا العدد 53 ـ 54 السنة الرابعة عشرة.
(2) دلائل النبوة لأبي نعيم : 113.
(3) البداية والنهاية 3 : 145 ، دلائل النبوة لابي نعيم 102.

(495)

فإنّه استدل على إسلامه بقوله : إنّي خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنّا لانقطع أمراً دونه... (1)
4 ـ نقل ابن عباس عن حيّ من الأنصار كانوا أهل وثن ، أنّهم كانوا يرون لليهود المجاورين لهم فضلاً عليهم في العلم ، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم (2).





إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على اعتقاد عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام باليهود ، وأنّهم أهل الفصل والعلم ، وممَّن يرجع إليهم في أمر الحياة والدين.
وقد حذّر الله ورسوله المؤمنين من اليهود في عدة آيات من الذكر الحكيم ، وعدّهم القرآن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا فقال تعالى (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا ...) (3) ، لأنّه سبحانه كان مطّلعاً على نواياهم وسرائرهم وأنّهم هم الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ولا يستقبحون الكذب والافتراء على الله ورسوله في حين أنّهم (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (4).
وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر زيد بن ثابت بتعلم السريانية خوفاً من اليهود ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لزيد : إنّي أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا فتعلم السريانية (5).
وروي عن عمر أنّه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنّا نسمع أحاديث من يهود ، تعجبنا ، أفترى أن نكتبها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية (6).
وروى الخطيب بسنده عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال : جاء
____________
(1) الاصابة 3 : 298.
(2) الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 109.
(3) سورة المائدة 5 : 82.
(4) سورة البقرة 2 : 146.
(5) تاريخ دمشق 6 : 280 ، الطبقات الكبرى 2 : 115.
(6) النهاية ، لابن الاثير 5 : 282 ، جحية السنة 317 ، جامع بيان العلم وفضله 2 : 42.

(496)

عمر بن الخطاب إلى النبي ومعه جوامع من التوراة ، فقال : مررت على أخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة أفلا أعرضها عليك ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال [ الأنصاري ] : أماترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله ؟!
فقال عمر : رضيت بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، فذهب ما كان بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى أصبح فيكم ثمّ اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنتم حظّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين (1).
فتلخص مما مر : هو تأثر العرب بيهود الجزيرة قبل الإسلام وحتى بعده ، إذ وقفت على نصوصهم في ذلك ، والآن مع

عبد الله بن عمرو وزاملة اليهود
سبق أن وضّحنا ارتباط بعض الصحابة باليهود واليهودية ، وقد مر عليك في مدخل هذه الدراسة اعتراض ابو ذر الغفاري على كعب الأحبار بحضور عثمان وقوله له : يا ابن اليهودية أتعلمنا ديننا ، وعدم ارتياح عثمان من كلام أبي ذر وتهديده له بالنفي.
وكذا جاء في كلام عائشة بنت أبي بكر ما يشير إلى قناعتها باتصال الخليفة عثمان باليهود لقولها عنه (اقتلوا نعثلاً (2) فقد كفر) فمن نسبة عثمان بنعثل وتصريحها بكفره ، نفهم برجوع عثمان إلى بعض أفكارهم بعد الإسلام.
ومن هذا المنطلق لزم علينا التعرف على عبد الله بن عمرو بن العاص وهل أخذ عن اليهودية واليهود أم لا ؟
مما لا يختلف فيه اثنان من أهل التحقيق هو عثور عبد الله بن عمرو بن العاص على زاملتين من كتب اليهود في معركة اليرموك ، وقد كانت صحيفته تلك تسمى أحياناً باليرموكية وأخرى بالزاملة ، وقد شك بعض العلماء في حجية مرويات عبد الله ؛ لاحتمال روايتها عن الزاملتين لا عمّا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله !.
____________
(1) مجمع الزوائد 1 : 174 ، المصنف لعبد الرزاق 10 : 313 وقريب منه في ج 11 : 111 ، مسند أحمد 3 : 38.
(2) وكان هذا رجلاً يهودياً.

(497)

هذا وقد أخرج أحمد في مسنده : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن واهب بن عبد الله المعافري ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : رأيت فيما يرى النائم كأنّ في أحد أصبعي سمناً ، وفي الأخرى عسلاً ، فأنا العقهما ، فلما أصبحت ذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ الكتابين التوراة والفرقان) فكان يقرأهما (1).
وقد علّق الذهبي على الخبر آنف الذكر بقوله (ابن لهيعة ضعيف الحديث ، وهذا خبر منكر ، ولا يشرع لأحد بعد نزول القرآن أن يقرأ التوراة ولا أن يحفظها ، لكونها مبدلة محرّفة ، منسوخة العمل ، قد اختلط فيها الحق بالباطل ، فلتجتنب ، فأمّا النظر فيها للاعتبار وللرد على اليهود ، فلا بأس بذلك للرجل العالم قليلاً ، والإعراض أولى.
فأمّا ما رُوي من أنّ النبي أذن لعبد الله أن يقوم بالقرآن ليلة وبالتوراة ليلة ، فكذب موضوع ، قبّح الله من افتراه ، وقيل : بل عبد الله هنا هو ابن سلام ، وقيل : إذنه في القيام بها ، أي يكرر على الماضي لا أن يقرأ بها في تهجده) (2).
وعجيب من الذهبي أن يقول هذا عن عبد الله ويتهم ابن سلام بدله ، وقد قال قبل قوله هذا بصفحات قليلة (... وقد روى عبد الله أيضاً عن أبي بكر ، وعمر ، ومعاذ ، وسراقه بن مالك ، وأبيه عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي الدرداء ، وطائفة ، وعن أهل الكتاب ، وأمعن النظر في كتبهم ، واعتنى بذلك (3).
ونحن لو قبلنا ضعف هذا الحديث بابن لهيعة ، فماذا نفعل بما اتفق عليه الجميع من عثور عبد الله على زاملتين يوم اليرموك وتحديثه عنها ، وعلى حسب تعبير الذهبي (...وأمعن النظر في كتبهم واعتنى بذلك).
ويضاف إليه : إنّ غالب الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير جاءت عن عبد الله بن عمرو بن العاص لا عن عبد الله بن سلام حتى يصح ما نقله الذهبي عن البعض إنّه عبد الله بن سلام !!
بل اعتقادنا إنّ رؤيا عبد الله ـ وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ـ ، كانت من الرؤى الصادقة والتي تُظهر مكنون عبد الله عند رسول الله صلى الله عليه وآله.
____________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2 : 222 ، حلية الاولياء 1 : 286 ، سير أعلام النبلاء 3 : 86.
(2) سير أعلام النبلاء 3 : 86 ـ 87.
(3) سير أعلام البنلاء 3 : 81.

(498)

هذا وقد توجه الدكتور محمد بن محمد ابو شهبة إلى خطورة رفع الإسرائيليات إلى النبي فقال :
« ولو أنّ هذه الإسرائيليات جاءت مروية صراحة عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه أو عبد الله بن سلام وأضرابهم ، لدلت بعزوها إليهم أنّها مما حملوه ، وتلقوه عن كتبهم ، ورؤسائهم ، قبل إسلامهم ، ثم لم يزالوا يذكرونه بعد إسلامهم ، وأنها ليست مما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وآله أو الصحابة ، ولكانت تشير بنسبتها إليهم إلى مصدرها ، ومن أين جاءت ، وإنّ الرواية الإسلامية بريئة منها.
ولكنّ بعض هذه الإسرائيليات ـ بل الكثير منها ـ جاء موقوفاً على الصحابة ومنسوباً إليهم ـ رضي الله عنهم ـ فيظن من لايعلم حقيقة الأمر ، ومن ليس من أهل العلم بالحديث أنّها متلقاة عن النبي صلى الله عليه وآله ، لأنّها من الأمور التي لا مجال للرأي فيها ، فلها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله ولم تكن مرفوعة صراحة » (1).
ثم جاء الأستاذ ليذكر شروط أئمة علم أصول الحديث في ذكر موقوفات الصحابة التي لها حكم المرفوع إلى النبي فقال : «...فمنشؤها في الحقيقة هو ما ذكرت لك ، وهي : التوراة وشروحها ، والتلمود وحواشيه ، وما تلقوه عن أخبارهم ، ورؤسائهم الذين افتروا ، وحرّفوا و بدّلوا ، ورواتها الأول ، هم : كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه وأمثالهما ، والنبي والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بريئون من هذا.
ويجوز أن يكون بعضها مما ألصق بالتابعين ، ونسب إليهم زوراً ، ولا سيما أن أسانيد معظمها لا يخلوا من ضعف أو مجهول ، أو متهم بالكذب أو الوضع ، أو معروف بالزندقة ، أو مغمور في دينه وعقيدته » (2).

















____________
(1) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 94 ـ 95.
(2) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 96 .

(499)

« ولعل قائلاً يقول : أمّا ما ذكرت من احتمال أن تكون هذه الروايات الإسرائيلية مختلقة ، موضوعة على بعض الصحابة والتابعين ، فهو إنّما يتجه في الروايات التي سندها ضعيف أو مجهول ، أو وضاع ، أو متهم بالكذب ، أو سيء الحفظ ، يخلط بين المرويات ، ولا يميز ، أو نحو ذلك ، ولكن بعض هذه الروايات حكم عليها بعض حفاظ الحديث بأنّها صحيحة السند أو حسنة السند ، أو إسنادها جيد ، أو ثابت ، أو نحو ذلك فما تقول فيها ؟
والجواب : أنّه لا منافاة بين كونها صحيحة السند أو حسنة السند أو ثابتة السند ، وبين كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم ، وأكاذيبهم ، فهى صحيحة السند إلى ابن عباس ، أو عبد الله بن عمرو بن العاص ، أو إلى مجاهد ، أو عكرمة ، أو سعيد بن جبير وغيرهم ، ولكنّها ليست متلقاة عن النبي ، لا بالذات ولا بالواسطة ، ولكنّها متلقاة من أهل الكتاب الذين أسلموا ، فثبوتها إلى من رويت عنه شيء ، وكونها مكذوبة في نفسها ، أو باطلة ، أو خرافة شيء آخر... » (1).












وقال في مكان آخر : « ويوغل بعض زنادقة أهل الكتاب فيضعون على النبي خرافات في خلق بعض أنواع الحيوانات التي زعموا أنّها مسخت ، ولو أنّ هذه الخرافات نسبت إلى كعب الأحبار وأمثاله أو إلى بعض الصحابة والتابعين لهان الأمر ، ولكن عظيم الإثم أن ينسب ذلك إلى المعصوم ، وهذا اللون من الوضع والدس من أخبث وأقذر الكيد للإسلام ونبي الإسلام » (2).
وقال عند بيانه الإسرائيليات في بناء الكعبة (البيت الحرام والحجر الأسود) وبعد نقله خبراً عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال :
(قال ابن كثير : إنّه من مفردات ابن لهيعة ، وهو ضعيف ، والأشبه والله أعلم أن يكون موقوفاً على عبد الله بن عمرو بن العاص ، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما
____________
(1) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 96.
(2) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 166 ـ 167.

(500)

يوم اليرموك ، ومن كتب أهل الكتاب ، فكان يحدث بما فيهما...) (1)
وعلى هذا فنحن لا يمكننا أن نحدد نقولات عبد الله بن عمرو بن العاص وإسرائيلياته بما تتعلق بالقصص وأخبار الفتحة والاخرة وما اشبهها فقط ، كما اراده لاستاذ ابو شهبه وغيره ـ بل نراها تسري إلى نقولاته في الأحكام الشرعية كذلك لورود هذا الاحتمال فيها ، وعليه فإن وافقت تلك الأحكام اليهود فقد تكون أخذت منهم ؛ لأنّ الإسرائيليات لا تنحصر بالقصص وأخبار الفتحة والآخرة ، وخصوصاً بعد معرفتنا بأنّ عبد الله كان من أهل الاجتهاد والنظر في الشريعة وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله.
فاذا عرفنا هذه الأمور فيمكننا أن نطرح احتمالاً فيما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وإنّها جاءت لإعذار أمثاله ممّن رووه عن بني إسرائيل ، إذ لايعقل أن يجيز النبي صلى الله عليه وآله ـ كما في رواية عبد الله ـ نقل الإسرائيليات ولا حرج ، ويحظر الآخرين من نقل روايته صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما جاء في نقل الآخرين عنه ـ
وكذا يمكننا طرح احتمال آخر في سبب تسمية عبد الله صحيفته بالصادقة وأنّها جاءت لرفع تشكيكات المشككين من الصحابة والتابعين ، وعدم اطمينانهم بنقولاته عن رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ لمخالفتها لما سمعوه وتلقوه عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكيد عبد الله باختصاصه بتلك الأحاديث دون المسلمين وقوله « هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وبينه فيها أحد » قد تكون جاءت لرفع هذا التشكيك.

وضوء اليهود
نقل الأستاذ كرد علي عن مخطوطة ألفها أحد كهان الطائفة السامرية في نابلس جاء فيه «... ويشترط أن يكون المصلي طاهراً ، والطهارة عندهم على نوعين ، الغسل أولاً والوضوء ثانياً.
فالطهارة من الحدث شروط أولى على كل موسوي ، حتى إن لمس الحائض
____________
(1) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير : 237 ، 169 عن تفسير ابن كثير والبغوي 1 : 316 ط المنار ، فتح الباري 6 : 31.
(501)

موجب للغسل ، وعلى الحائض أن تحضر ثلاثاً من النساء يقفن على رأسها حين اغتسالها.
وأمّا الوضوء ، فيغسل المتوضئ أولاً يديه ، وإذا كان من أصحاب الأعمال اليدوية فيغسل يديه إلى المرفقين والساعدين ثلاث مرات ، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يغسل وجهه ويمسح اذنيه ويغسل رجليه ثلاثاً ، ويتلون التوراة فى الصلاة باللسان.... » (1)

استنتاج
تحصل ممّا سبق : أنّ عرب شبه الجزيرة كانوا قد تأثروا بالحضارات المجاورة قبل الإسلام ، وبما أنّ اليهود كان لهم تاريخ ديني قديم عند بعض تلك الأمم ، فكانوا هم الأشد والأقدر تأثيراً على عرب الجزيرة.
ويمكن عزو سر استقطاب اليهود للعرب هو روايتهم الحكايات العجيبة في الكون والحياة عن أنبيائهم ، فمن البديهي أن يتأثر هؤلاء بأحبار اليهود لما حكوه لهم من قصص عجيبة وحكايات غريبة ، وليس من السهل ـ بعد مجيء الإسلام ـ أن يتخلص ه ـ ؤلاء من هذا التأثير عليهم ، إذ وقفت على نصوص لبعض الصحابة في ذلك.
ويضاف إليه هو اجتهاد بعض هؤلاء الصحابة بمحضر الرسول ، لأنّ بعض هؤلاء كانوا قد سمعوا عظيم الثواب في امتثال العبادات الإسلامية ، فأفرطوا في الاقبال عليها إلى حد الرهبانية التي نهى الاسلام عنها ، وكان هؤلاء بعملهم هذا قد خرجوا عن حدود الامتثال والتعبد الصحيح إلى الرهبنة المنهي عنه في الإسلام وهو الاجتهاد مقابل النص.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي أوقعت هؤلاء البعض في خلطهم للأصول والمفاهيم الشرعية ، إذ أنّ هذا الاعتقاد سيدعوهم لإدخال ما ليس من الدين فيه.
وعلى ضوء ما تقدم نقول : من غير المستبعد أن يكون عبد الله بن عمرو
____________
(1) خطط الشام ، لكرد علي 6 : 219.
(502)

ابن العاص ، ـ وأمثاله من الذين اجتهدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ـ ، وراء فكرة الوضوء الثلاثي الغسلي ، لوقوفنا على إصراره لصيام الدهر ، وقيام الليل وتطويله ، واعتزال النساء ، وختم القرآن في كل ليلة و...
فهذا الصحابي وأمثاله قد يكونوا أحبوا التقرب إلى الله فراءوا التعمق في العبادة هو الطريق الأمثل إلى هذا القرب الالهي فغسلوا أرجلهم بدل المسح ؛ لسماعهم قوله صلى الله عليه وآله (أفضل الأعمال أحمزها) !! مخالفين بذلك نص الرسول ونهيه على الرهبنة في الإسلام ، وإنّ الإسلام هو التسليم لا الاجتهاد الحر.
وقد يكونوا اجتهدوا على أنّ الغسل يكفي عن المسح ، لأنّه الأقرب إلى النفس ، متجاهلين أنّ الأحكام الشرعية أمور توقيفية لا يجوز فيها الزيادة والنقيصة ، بل الواجب فيها التعبد بما نزل به الوحي وعمل به الرسول.
وإنّا سنوضح لاحقاً بأنّ الغسل ليس هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، لعدم اجماع الصحابة عليه ، بل إنّ اختلافهم في النقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، وثبوت المسح عن رسولالله صلى الله عليه وآله كبار أمثال ابن عباس ، وعلي بن أبي طالب ، ورفاعة بن رافع و... لمؤشر على ذلك.
ومما يحتمل في الأمر كذلك هو تأثرهم بعمل اليهود ، لما عرفنا عن وضوئهم.
وعلى ضوء ما مر نرجح كون عبد الله بن عمرو بن العاص من دعاة فكرة الوضوء الثلاثي الغسلي ، للأسباب التالية.
أولاً : لملائمة الغسل لنفسيته المتعمقة في الدين
ثانياً : لتأثره ـ كبقية المتأثرين بأهل الكتاب وقصص اليهود ـ ، فقد مر قول الذهبي : (وأمعن النظر في كتبهم ، واعتنى بذلك).
ثالثاً : عثوره على زاملتين من اليهود وحكايته عنها ، فربّما يكون الوضوء الثلاثي الغسلي قد أخذ منهم ؛ لعمل اليهود به ، فلا يستبعد أن يكون موجوداً في الزاملتين كذلك.
منبهين على أنّ فى كلام عائشة وبعض الصحابة أشد ممّا قلناه (1) ، وسيتضح
____________
(1) اُنظر مقالنا المطبوع في ترثنا العددان 55 ـ 56 باسم (السنّة بعد الرسول) ص 64 وما بعده.
(503)

بعض آفاقه في نسبة الخبر إلى عثمان بن عفان.
وعليه فلا يستبعد أن يكون عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص هما اللذان أخذا بالوضوء الثلاثي الغسلي من اليهود اجتهاداً منهم بأنّه الأطهر والأنقى ، لعدم ثبوت الغسل عن رسول الله ـ لما تقدم ـ ، ولكون الروح الاجتهادية الموجودة عندهم قد تكون هي التي دعتهم لاتخاذ هكذا قرار في الوضوء.
والمتأمل فيما حكاه الأستاذ كرد علي من وضوء اليهود يقف على مسائل لم يتفق المسلمون عليها ، كلزوم الغسل على من لمس الحائض ، أو غسل المتوضىء يديه قبل الوضوء ، أو مسح الأذنين وغيرها ، و هذه المسائل موجودة اليوم في فقه بعض المذاهب الإسلامية ، وقد تكون قد دخلت من اليهود في الإحكام الشرعية ، واختلطت مع مسائل إسلامية أخرى فأخذت صورتها اليوم.
فإنّ تصريح ابن عبّاس بأنّه لا يجد في كتاب الله إلاّ المسح ثم مخالفته لنقل الربيع عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكذا ما نراه عن بعض التابعين و قوله : إنّ القرآن نزل بالمسح لكن السنّة جرت بالغسل ، كل هذه ترشدنا إلى وجود نهجين في الشريعة ، أحدهما يتعبد بالنصوص ـ قرآنية أم حديثية ـ والآخر يجتهد في معرفة الأحكام من عند نفسه.
هذا وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتخوف على أمته من شيوع هذه الروح الاجتهادية عندهم ، إذ كان يأمرهم مراراً بلزوم التعبد بأقواله ونصوصه ، ولو تأملت فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله لعمر بن الخطاب لمّا أتاه بجوامع التوارة : والذي نفسي بيده لو أنّ موسى عليه السلام أصبح فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، أنتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين.
ولفظة (وتركتموني لضللتم) تعني وبوضوح إنّ عدم الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله هو الابتعاد عن الدرب والطريقة المستقيمة ، لأنّ طاعة الله تتجلى في اتباع سنة نبيه وهو ما أمرنا به رب العالمين ، لا في اجتهادات الصحابة
وإنّ اجتهادات الصحابة المخالفة لظهور القرآن يبعدنا عن سنة الرسول لا محالة. ونحن قد وضحنا في كتابنا منع تدوين الحديث آفاق وجذور انقسام المسلمين إلى نهجين.


(504)

1 ـ التعبد المحض
2 ـ الرأي والاجتهاد
وأكدنا فيه بأنّ الفقه الحاكم كان يأخذ بالاجتهاد قبال النص بعكس التعبد المحض الذي لا يرتضي إلاّ التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قام الوزير اليماني بدراسة تتبع فيها أحاديث معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ـ وهم من النهج الحاكم ـ توصل من خلالها إلى أنّ الأحاديث المروية عن هؤلاء وحدة مترابطة تصب في هدف محدد واحد.
وتلخص مما سبق : إنّ الوضوء الغسلي هو الأقرب إلى نفسية عبد الله ابن عمرو بن العاص وإن لم يصح إسنادها إليه ـ حسبما قدمنا ـ طبق ضوابط المحدثين ، وإنّ المسح كان ممّا يعمل به عبد الله في عهد رسول الله لما حكاه عنه (كنا في غزوة فأرهقنا..)
وقد مر عليك قول الأعلام بأنّ هذا النص أدل على المسح من دلالتها على الغسل ، وبذلك فقد عرفنا أنّ المسح هو ما عمل به الصحابة على عهد رسول اللّه ومنهم عبد الله بن عمرو ، أمّا الغسل فهو أمر طارىَ حدث بعده صلى الله عليه وآله وسلم ولظروف شرحناها مفصلاً. وقد كانت للدولة الأموية يد في ذلك.
ولرب سائل يقول : إن اتحاد بعض الأحكام ـ بين اليهودية والإسلام ـ في الشريعة لا يعني اتخاذ هذه الأحكام منهم ، فقد تكون مشرّعة وممضاة من قبل الإسلام كذلك ، لعلمنا بأنّ الإسلام قد اقرّ أحكام كثيرة كانت في الأديان السابقة ، ومنها شريعة موسى عليه السلام ، فقد يكون الوضوء من تلك الأحكام الممضاة من قبل الشارع ؟ وبعد هذا لا يجوز حصر الوضوء الغسلي باليهود ، إذ أنّه إسلامي كذلك ، لإمضاء الله ورسوله له ؟

الجواب :
إنّ ما قلتموه صحيح ، لو ثبت صدور الغسل عن الله ورسوله ـ حسب القواعد العلميّة ـ لكنك قد عرفت سابقاً بأنّ مرويات الغسل مرجوحة بالنسبة الى مرويات المسح من جميع الجهات ، وسيأتي عليك في البحث القرآني بأنّ القرآن هو أدل على المسح من الغسل ، وعليه يكون المحفوظ عن الشرع هو المسح لا الغسل ، لكون


(505)

أسانيد الغسل مغلوبة كماً وكيفاً حسبما تقدم تفصيله.
هذه من جهة السند ، أمّا من جهة الدلالة فإنّ إصرار الصحابة الماسحين على المسح ونبذهم لمقولة الغسل ليوحى إلى ضياع معالم الدين ، فإنّ تباكي أنس بن مالك وقوله : ضَيّعتم كل شيء وحتى الصلاة ليؤكد هذه الحقيقة.
وعليه يسوغ للباحث الموضوعي المتعقل أن يحتمل احتمالاً ـ بشكل لا يخلو من نحو اعتبار ـ وخصوصاً حينما لم يقف على شرعية الغسل عن رسول الله أن يقول بأنّ الوضوء الغسلي لا يتفق مع تشريع الله ورسوله. لأنّ اعتراض حبر الأمة (ابن عباس) على الربيع ، وتخطئة خادم الرسول (أنس بن مالك) للحجاج ، واستدلال صهر الرسول وزوج بنته الإمام علي بالرأي ـ من باب الإلزام ـ وقوله (...لكان باطن القدم أولى بالمسح من ظاهره) ليرشدنا إلى سقم الروايات الغسلية عنه صلى الله عليه وآله ، بل إنّ هذه الاعتراضات والأقوال تضعّف ما ادعاه البعض من اجماع الصحابة والتابعين على الغسل ، بل إنّها تؤكد صدور العكس عنه صلى الله عليه وآله ، وإنّ ما جاء عنه صلى الله عليه وآله في الغسل قد كثر في عهد الأمويين بالذات ، وهذا ما نثبته بالأرقام في القسم الثاني من بحثنا الروائي.
نعم قد أجمعت المذاهب الأربعة على الغسل ، وأنت تعلم بأنّ اجماع هؤلاء لايمكن أن يرجح على ما جاء عن عهد الصحابة وثبوت اختلافهم في الوضوء.
وإنّ الباحث المحقق يعرف بأنّ الغسل جاء لاحقاً وتبعاً لمواقف الخلفاء (الأمويين والعباسيين) وإنّ الناس أبو إلاّ ذلك ؛ لقرب الغسل إلى الرأي والاستحسان.
وبعد هذا فلا يحق لنا ولا لغيرنا أن يدعي اجماع الأمة على الغسل أو المسح ـ أو القول بأنّ الغسل هو سنة رسول الله لا غير ـ لثبوت اختلاف الصحابة في ذلك ، ولمعرفته بعدم ثبوت الغسل عنه صلى الله عليه وآله ، فان جعل القائل المدعى دليلاً هو مصادرة بالمطلوب حسب تعبير الأصوليين ، ولا يمكن قبوله والركون إليه لعدم ثبوته عندنا.
وعليه فيكون ما ادعيناه هو الأقرب إلى نفسية عبد الله بن عمرو بن العاص ـ وإن كانت روايات الغسل عنه ضعيفة سنداً ـ وذلك لامتلاكه روحية الاجتهاد قبال النص ، وعثوره على زاملتين من اليهود ، وتحديثه بها ، ولما شرحناه من ملابسات أخرى في هذه الدراسة.