|
|||
(361)
وقد جاء في كتب التاريخ : أن ابن زياد كتب إلى يزيد بن معاوية رسالة يخبره فيها بقتل الإمام الحسين وأسر نسائه وعياله ، وتفاصيل أخرى عن الفاجعة.
فكتب يزيد في جواب رسالته : أن يبعث إليه برأس الحسين ورؤوس من قتل معه ، والنساء الأسارى. فاستدعى ابن زياد بـ « مفخر بن ثعلبة العائذي » و « شمر ابن ذي الجوشن » للإشراف على القافلة ومن معها من الحرس ، وسلم إليهم الرؤوس والأسرى ، وأمر بـ « علي بن الحسين » أن تغل يديه إلى عنقه بسلسلة من حديد ! فساروا بهن إلى الشام كما يسار بسبايا الكفار ، يتصفح وجوههن أهل الأقطار ! (1) 1 ـ كتاب « الملهوف » ص 208 ، و « الإرشاد » للشيخ المفيد ص 245. (362)
(363)
لا نعلم ـ بالضبط ـ كم طالت المدة التي تم فيها قطع المسافة بين الكوفة والشام ، ولكننا نعلم أنها كانت رحلة مليئة بالإزعاج والإرهاق وأنواع الصعوبات ، فقد كان الأفراد المرافقون للعائلة المكرمة قد تلقوا الأوامر بأن يعاملوا النساء والأطفال بمنتهى القساوة والفظاظة ، فلا يسمحوا لهم بالإستراحة اللازمة من أتعاب الطريق ومشاقه وصعوباته ، بل يواصلوا السير الحثيث ، للوصول إلى الشام وتقديم الرؤوس الطاهرة إلى الطاغية يزيد.
ومن الثابت ـ تاريخياً ـ أنه كان للسيدة زينب ( عليها السلام ) الدور الكبير في : إدارة العائلة ، والمحافظة على حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وحماية النساء والأطفال ، والتعامل معهم بكل عاطفة وحنان .. محاولة منها ملأ بعض ما كانوا يشعرون به من الفراغ العاطفي ، (364)
والحاجة إلى من يهون عليهم مصائب الأسر ومتاعب السفر.
وروي عن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) أنه قال : « إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها : الفرائض والنوافل .. من قيام ، عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام ! وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس ! فسألتها عن سبب ذلك ؟ فقالت : أصلي النوافل من جلوس لشدة الجوع والضعف ، وذلك لأني منذ ثلاث ليال ، أوزع ما يعطونني من الطعام على الأطفال ، فالقوم لا يدفعون لكل منا إلا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة !! (1) أجل .. وقد كانت الحكمة والمصلحة تقتضي أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يبقى بمعزل عن انتباه الأعداء والجواسيس المرافقين ، ولا يتكلم بأية جملة من شأنها جلب الإنتباه إليه. ولذلك فقد جاء في التاريخ : أن الإمام علي بن الحسين ما كان يكلم أحداً من القوم .. طوال الطريق 1 ـ كتاب « زينب الكبرى » للشيخ جعفر النقدي ، ص 59. (365)
إلى أن وصلوا إلى باب قصر يزيد بدمشق ! (1)
من هنا .. فقد كان الدور الأكبر ملقى على عاتق السيدة الكفوءة زينب العظيمة ( عليها الصلاة والسلام ). ورغم قلة المعلومات التي وصلتنا عما جرى على السيدة زينب في طريق الشام من الحوادث ، إلا أننا نذكر هذه المقطوعات والعينات التاريخية التي تعبر للقارئ المتدبر الذكي عن أمور كثيرة ، وعن الدور العظيم والمسؤوليات الجسيمة التي قامت بها السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) طوال هذه الرحلة : ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أن في طريقهم إلى الشام مروا على منطقة « قصر مقاتل » (2) وكان ذلك اليوم يوماً شديد الحر ، وقد نزفت القربة التي كانت معهم وأريق ماؤها (3) فاشتد بهم العطش ، وأمر عمر بن سعد جماعة من قومه أن يبحثوا عن الماء ، وأمر أن تضرب خيمة ليجلس 1 ـ كتاب « الإرشاد » للشيخ المفيد ، ص 245. 2 ـ قصر مقاتل : قصر كان بين « عين التمر » والشام. منسوب إلى مقاتل بن حسان. وقيل : كان ذلك قرب القطقطانة. كما في « مراصد الإطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع » للبغدادي. 3 ـ نزفت القربة : نفد ماؤها وجفت. (366)
فيها هو وأصحابه ، لكي تحميهم من حرارة الشمس ، وتركوا عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وجميع النساء والأطفال .. تصهرهم الشمس ، وأقبلت السيدة زينب ( عليها السلام ) إلى ظل جمل هناك ، وقد أمسكت بالإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو في حالة خطيرة .. قد أشرف على الموت من شدة العطش ، وبيدها مروحة تروحه بها من الحر ، وهي تقول : « يعز علي أن أراك بهذا الحال يا بن أخي » !
وذهبت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى ظل شجرة كانت هناك ، وعملت لنفسها وسادةً من التراب ونامت عليها ، فما مضت ساعة إلا وبدأ القوم يرحلون عن ذلك المكان مع السبايا ، وتركوا سكينة نائمة في مكانها. فقالت فاطمة الصغرى ـ وكانت عديلة سكينة (1) ـ للحادي (2) : « أين أختي سكينة ؟! والله لا أركب حتى تأتي بأختي ». فقال لها : وأين هي ؟ 1 ـ عديلة : العديل : الذي يعادلك في المحمل. كما في كتاب « العين » للخليل بن أحمد. 2 ـ الحادي : السائق للإبل. (367)
قالت : لا أدري أين ذهبت.
فصاح السائق للقافلة بأعلى صوته : يا سكينة هلمي واركبي مع النساء ؟ فلم تستيقظ سكينة من نومتها لشدة ما بها من التعب والإرهاق ، وبقيت نائمة. ولما أضر بها الحر والعطش إنتبهت من نومتها ، وجعلت تمشي خلف غبار القافلة وهي تصيح : « أخيه فاطمة ! ألست عديلتك في المحمل ! وأنت الآن على الجمل وأنا حافية ؟! ». فعطفت عليها أختها ، وقالت للحادي : « والله لئن لم تأتني بأختي لأرمين نفسي من هذا الجمل ، وأطالبك بدمي عند جدي رسول الله يوم القيامة » ! فقال لها : من تكون أختك ؟ قالت : سكينة التي كان الحسين يحبها حباً شديداً ، فرق لها الحادي ، ورجع إلى الوراء حتى وجد أختها وأركبها معها. (1) 1 ـ كتاب ( الدمعة الساكبة للبهبهاني المتوفى عام 1285 هـ ، طبع لبنان ، ج 5 ، ص 75. وقد نقلنا الحادثة مع تغيير يسير في بعض العبارات. المحقق (368)
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ أن في ليلة من الليالي ، بينما القوم يسيرون في ظلام الليل ، بدأت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين ( عليهما السلام ) بالبكاء ، لأنها تذكرت أيام أبيها ، وما كان لها من العز والإحترام ، ثم هي ـ الآن ـ أسيرة بعد أن كانت أيام أبيها عزيزة ، واشتد بكاؤها ، فقال لها الحادي : أسكتي يا جارية ! فقد آذيتيني ببكائك !
فما سكتت ، بل غلب عليها الحزن والبكاء ، وأنت أنة موجعة ، وزفرت زفرةً كادت روحها أن تخرج !! فزجرها الحادي وسبها ، فجعلت سكينة تقول ـ في بكائها ـ وا أسفاه عليك يا أبي ! قتلوك ظلماً وعدوانا ! فغضب الحادي من قولها وأخذ بيدها وجذبها ورمى بها على الأرض !! فلما سقطت غشي عليها ، فما أفاقت إلا والقافلة قد مشت ، فقامت وجعلت تمشي حافيةً في ظلام الليل ، وهي تقوم مرةً وتقعد مرة !! وتستغيث بالله وبأبيها ، وتنادي عمتها ، وتقول : يا أبتاه مضيت عني وخلفتني وحيدةً غريبةً ، فإلى من ألتجئ وبمن الوذ في ظلمة هذه الليلة في هذه البيداء ؟!! فركضت ساعة من الليل وهي في غاية الوحشة ! فلم تر أثراً من القافلة ، فسقطت مغشيةً عليها !! (369)
فعند ذلك إقتلع الرمح ـ الذي كان عليه رأس الحسين ـ من يد حامله ، وانشقت الأرض ونزل الرمح إلى نصفه في الأرض ، وثبت كالمسمار الذي يثبت في الحائط !!
وكلما حاول حامل الرمح أن يخرجه من الأرض .. لم يتمكن ! واجتمعت جماعة من القوم وحاولوا إخراج الرمح فلم يستطيعوا ذلك. فأخبروا بذلك عمر بن سعد ، فقال : إسألوا علي بن الحسين عن سبب ذلك. فلما سألوا الإمام ( عليه السلام ) قال : قولوا لعمتي زينب تتفقد الأطفال ، فلربما قد ضاع منهم طفل. فلما قيل لزينب الكبرى ذلك ، جعلت تتفقد الأطفال وتنادي كل واحد منهم باسمه ، فلما نادت : بنيه سكينة لم تجبها ! فرمت السيدة زينب ( عليها السلام ) بنفسها من على ظهر الناقة ! وجعلت تنادي : واغربتاه ! واضيعتاه ! واحسيناه! بنيه سكينة : في أي أرض طرحوك ! أم في أي واد ضيعوك ! ورجعت إلى وراء القافلة وهي تعدو في البراري حافية ، وأشواك الأرض تجرح رجليها ، وتصرخ وتنادي !! (370)
وإذا بسواد قد ظهر فمشت نحوه وإذا هي سكينة ، فرجعتا معاً نحو القافلة. (1)
وروي عن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) أنه سأل أباه علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عما جرى له في طريق الشام ؟ فقال الإمام علي بن الحسين : حملت على بعير هزيل ، بغير وطاء ، ورأس الحسين ( عليه السلام ) على علم ، ونسوتنا خلفي ، على بغال ، والحرس خلفنا وحولنا بالرماح ، إن دمعت من أحدنا عين قرع رأسه بالرمح ! حتى دخلنا دمشق ، صاح صائح : يا أهل الشام : هؤلاء سبايا اهل البيت. (2) 1 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 2 ، الفصل الثالث عشر ، المجس الثالث عشر ، وهو ينقل ذلك عن كتاب « مصباح الحرمين ». 2 ـ كتاب « الإقبال » للسيد ابن طاووس. (371)
ووصل موكب الحزن والأسى إلى دمشق : عاصمة الأمويين ، ومركز قيادتهم ، وبؤرة الحقد والعداء ، ومسكن الأعداء الألداء.
وقد إتخذ يزيد التدابير اللازمة لصرف الأفكار والأنظار عن الواقع والحقيقة ، محاولا بذلك تغطية الأمور وتمويه الحقائق ، فأمر بتزيين البلدة بأنواع الزينة ، ثم الإعلان في الناس عن وصول قافلة أسارى وسبايا ، خرج رجالهم من الدين فقضى عليهم يزيد وقتلهم وسبى نساءهم ليعتبر الناس بهم ، ويعرفوا مصير كل من يتمرد على حكم يزيد ! ومن الواضح أن الدعاية والإعلام لها دورها في تمويه الحقائق ، وخاصة على السذج والعوام من الناس. (372)
إستمع إلى الصحابي : سهل بن سعد الساعدي قال : « خرجت إلى بيت المقدس ، حتى توسطت الشام ، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار ، كثيرة الأشجار ، قد علقوا الستور والحجب والديباج ، وهم فرحون مستبشرون ، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول.
فقلت ـ في نفسي ـ : لا نرى لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن. فرأيت قوماً يتحدثون ، فقلت : يا قوم لكم بالشام عيد لا نعرفه نحن ؟! قالوا : يا شيخ نراك أعرابياً غريباً ! فقلت : أنا سهل بن سعد ، قد رأيت محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ). قالوا : يا سهل ، ما أعجبك السماء لا تمطر دماً ، والأرض لا تنخسف بأهلها ! قلت : ولم ذاك ؟ قالوا : هذا رأس الحسين عترة محمد يهدى من أرض العراق ! فقلت : واعجباه .. يهدى رأس الحسين والناس يفرحون ؟! ثم قلت : من أي باب يدخل ؟ (373)
فأشاروا إلى باب يقال له : « باب الساعات ».
فبينا أنا كذلك إذ رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً ، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان (1) عليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). فإذا أنا من ورائه رأيت نسوةً على جمال بغير وطاء ، فدنوت من أولاهن ، فقلت : يا جارية : من أنت ؟ فقالت : أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها : الك حاجة إلي ؟ فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمعت حديثه. قالت : يا سهل : قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله. قال سهل : فدنوت من صاحب الرأس فقلت له : هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة ديناراً ؟ قال : ما هي ؟ قلت : تقدم الرأس أمام الحرم. 1 ـ اللواء : العلم ، وهو دون الراية. كما في « المعجم الوسيط ». والسنان : الحديدة التي في رأس العلم أو رأس الرمح. (374)
ففعل ذلك.
فدفعت إليه ما وعدته ... ». (1) ولما أدخلوهن دمشق طافوا بهن في الشوارع المؤدية إلى قصر الطاغية يزيد ، ومعهن الرؤوس على الرماح ، ثم جاؤوا بهن حتى أوقفوهن على دكة كبيرة كانت أمام باب المسجد الجامع ، حيث كانوا يوقفون سبايا الكفار على تلك الدكة (2) ، ويعرضونهم للبيع ، ليتفرج عليهم المصلون لدى دخولهم إلى المسجد وخروجهم منه ، وبذلك يختاروا من يريدونه للإستخدام ويشتروه. نعم ، إن الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مسلمين ، ومن أمة محمد رسول الله .. أوقفوا آل الرسول على تلك الدكة. يا للأسف ! يا للمأساة ! يا للفاجعة ! 1 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 45 ص 127 باب 39. وكتاب « تظلم الزهراء » ، ص 275. 2 ـ كتاب « معالي السبطين » ج 2 ، ص 140 الفصل الرابع عشر ، المجلس الرابع. وقد نقلنا مضمون ذلك. (375)
يا للمصيبة !
وجاء شيخ (1) ودنى من نساء الحسين ( عليه السلام ) وقال : « الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم ، وأراح البلاد من رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين منكم ». فقال له علي بن الحسين ( عليه السلام ) : « يا شيخ : هل قرأت القرآن » ؟ قال : نعم. قال : فهل عرفت هذه الآية : « قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى » (2) ؟ قال الشيخ : قد قرأت ذلك. فقال له الإمام : « نحن القربى يا شيخ ، فهل قـرأت : « وآت ذا القـربى حقـه » ؟ (3) فقال الشيخ : قد قرأت ذلك. فقال الإمام : « فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت 1 ـ شيخ : أي : رجل طاعن في السن. 2 ـ سورة الشورى ، الآية 23. 3 ـ سورة الإسراء ، الآية 26. |
|||
|