زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: 511 ـ 525
(511)
صحبتهم ، ... وكان يُسايرهم هو وخيله التي معه ، فيكون الحريم قُدّامه ، بحيث أنّهم لا يفوتونه.
    وإذا نزلن تنحّى عنهم ناحيةً .. هو وأصحابه الذين كانوا حولهم كهيئة الحرس ، وكان يسألهم عن حالهم ، ويتلطّف بهم في جميع أمورهم ، ولا يشقّ عليهم في مسيرهم ... إلى آخره.


(512)

(513)
    يوم الأربعين
    الرجوع إلى مدينة الرسول



(514)

(515)
    يوم الأربعين : هو اليوم العشرون من شهر صفر ، وفيه وصلت عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء ، قادمين من الشام ، وهم في طريقهم إلى المدينة المنورة.
    وسُمّيَ بـ « يوم الأربعين » لأنّه يصادف إنقضاء أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
    ويُعتبر تحديد ـ أو تعيين ـ السنة التي وصلت فيها قافلة آل الرسول إلى أرض كربلاء بعد رجوعهم من الشام .. من غوامض المسائل التاريخية.
    فهل كان الوصول في نفس السنة التي حدثت فيها فاجعة كربلاء الدامية ، أي سنة 61 للهجرة ، أم كان ذلك في السنة التي بعدها ؟
    فهنا تساؤل يقول : كيف يُمكن ذهاب العائلة من كربلاء إلى


(516)
الكوفة ، ثم إلى دمشق ، ثم الرجوع والوصول إلى كربلاء ، كل ذلك في أربعين يوماً ، مع الانتباه الى نوعية الوسائل النقليّة المتوفّرة يومذاك ؟!
    وهذه معركة علميّة تاريخية لا تزال قائمة على قدم وساق بين حملة الأقلام من المحدّثين والمؤرخين.
    ونحن إذا أردنا دراسة هذا الموضوع فإنّ البحث يحتاج إلى شرح واف ، وكلام مفصّل مطوّل ، ونرجوا الله تعالى أن يوفّقنا للبحث والتحقيق عن هذا الموضوع في مؤلّفاتنا القادمة ، إن شاء الله تعالى.
    ولعلّ رجوعهم كان من طريق الأردن إلى المدينة المنورة ، فحينما وصلوا إلى مفترق الطرق طلبوا من الحَرَس ـ الذين رافقوهم من دمشق ـ أن يجعلوا طريقهم نحو العراق وليس إلى المدينة. ولم يستطع الحرس إلا الخضوع لهذا الطلب والتوجه نحو كربلاء.
    وحينما وصلوا أرض كربلاء صادف وصولهم يوم العشرين من شهر صفر.
    وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري قد جاء إلى كربلاء يرافقه عطاء ـ أو عطيّة ـ العوفي (1) .. وجماعة مِن
1 ـ وهو من مشاهير التابعين .. الذين لم يَرَوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكنّهم رأوا صحابة الرسول.

(517)
بني هاشم ، جاؤوا جميعاً لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام.
    واجتمع جماعة من أهل السواد (1) وهم أهل القرى والأرياف التي كانت في ضواحي كربلاء يومذاك ، فصار هناك اجتماع كبير ـ نِسبيّاً ـ من شتّى الطبقات ، فالجميع حضروا عند قبر ريحانة رسول الله وسيد شباب أهل الجنة ، يزورون قبره ويسلّمون عليه ، والكآبة تخيّم على وجوههم ، والأسى والأحزان تَعصِر قلوبهم.
    كانت القلوب تشتعل حزناً ، والدموع مستعدّة لتجري على الخدود ، ولكنّهم ينتظرون شرارة واحدة ، حتى تضطرم النفوس بالبكاء ، وترتفع أصوات النحيب والعويل.
    في تلك اللحظات وصلت قافلة العائلة المكرمة إلى كربلاء ، فكان وصولها في تلك الساعات هي الشرارة المترقّبة المتوقّعة ، « فتلاقَوا ـ في وقت واحد ـ بالبكاء والعويل ». (2)
1 ـ أهل السواد. كان يُعبّر عن أراضي العراق بـ « أرض السواد » لكثرة وكثافة الأشجار فيها .. مع الانتباه الى تُربتها الصالحة للزراعة لدرجة كبيرة ، فالأراضي التي تُغطّيها الأشجار تتراءى من بعيد وكأنّها سوداء ، ومِن هنا سمَّوا المزارع والبساتين بـ « أرض السواد » وسمَّوا الذين يسكنون هذه المناطق بـ « أهل السواد ». المحقق
2 ـ ذكر السيد ابن طاووس ـ في كتاب ( الملهوف ) ص 225 ـ : ولمّا رجعت نساء الحسين ( عليه السلام ) وعياله من الشام وبلغوا العراق ، قالوا للدليل : مُرّ بنا على طريق كربلاء. فوصلوا إلى موضع المصرع ،


(518)
    كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) ـ في هذا المقطع من الزمان ، وفي هذه المنطقة بالذات ، وهي أرض كربلاء ، ـ لها الموقف العظيم ، وكانت هي القلب النابض للنشاطات والأحاسيس المبذولة عند قبور آل رسول الله ( عليهم السلام ) في كربلاء.
    نشاطات مشفوعة بكلّ حزن وندبة ، مِن قلوب ملتهبة بالأسى !
    وما تظنّ بسيدة فارقت هذه الأرض قبل أربعين يوماً ، وتركت جُثَث ذويها معفّرة على التراب بلا دفن ، واليوم رجعت إلى محلّ الفاجعة .. فما تراها تصنع وماذا تراها تقول ؟؟!
    أقبلت نحو قبر أخيها الحسين ( عليه السلام ) فلمّا قربت من القبر صرخت ونادت أكثر من مرّة ومرتين :
    وا أخاه !! وا أخاه !! وا أخاه !!
    كانت هذه الكلمات البسيطة ، المنبعثة من ذلك القلب الملتهب ، سبباً لتهييج الأحزان وإسالة الدموع ، وارتفاع اصوات البكاء والنحيب !
فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول ، قد وردوا لزيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) ، فوافَوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللَطم ، وأقاموا المآتم المُقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً ».      المحقق

(519)
    والله العالم كم كانت كلمات الشكوى تمرّ بخاطر السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) حين كانت تبثّ آلامها وأحزانها عند قبر أخيها الإمام الحسين ؟ ممّا جرى عليها وعلى العائلة طيلة تلك الرحلة المُزعجة.
    وما يُدرينا..؟ ولعلّها كانت سعيدة ومُرتاحة الضمير بما قامت به طيلة تلك الرحلة !
    فقد ايقظت عشرات الآلاف من الضمائر الغافلة ، وأحيَت آلاف القلوب الميّتة ، وجعلت أفكار المنحرفين تتغيّر وتتبدّل مائة وثمانين درجة على خلاف ما كانت عليه قبل ذلك !
    كلّ ذلك بسبب إلقاء تلك الخطَب المفصّلة ، والمحاورات الموجزة التي دارت بينها وبين الجانب المُناوئ ، أو الافراد المحايدين الذين كانوا يجهلون الحقائق ولا يعرفون شيئاً عن أهل البيت النبوي الطاهر.
    وتُعتبر هذه المساعي من أهمّ إنجازات السيدة زينب الكبرى ، فقد أخذوها أسيرة إلى عاصمة الأمويّين ، وإلى البلاط الأموي الذي أُسّس على عداء أهل البيت النبوي من أول يوم ، والذي كانت موادّه الإنشائية ـ يوم بناء صرحه ـ من النُصب والعداء لآل رسول الله ، ومكافحة الدين الإسلامي الذي لا ينسجم مع أعمال الأمويين وهواياتهم.


(520)
    أخذوها إلى مقرّ ومسكن طاغوت الأمويّين ، وبمحضر منه ومشهد ، ومسمع منه ومن أسرته. خطبت السيدة زينب تلك الخطبة الجريئة ، وصبّت جام غضبها على يزيد ، ووَصَمته بكلّ عارٍ وخِزي ، وجعلت عليه سبّة الدهر ، ولعنة التاريخ !!
    نعم ، قد يتجرّأ الإنسان أن يقوم بمغامرات ، إعتماداً على القدرة التي يَملكها ، أو على السلطة التي تُسانده ، وأمثال ذلك.
    ولكن ـ بالله عليك ـ على مَن كانت تعتمد السيدة زينب الكبرى في مواجهاتها مع أولئك الطواغيت وأبناء الفراعنة ، وفاقدي الضمائر والوجدان ، والسُكارى الذين أسكرتهم خمرة الحكم والإنتصار ، مع الخمرة التي كانوا يشربونها ليلاً ونهاراً ، وسرّاً وجهاراً ؟؟!
    هل كانت تعتمد على أحد غير الله تعالى ؟!
    ويُمكن أن نقول : إنّها قالت ما قالت ، وصنعت ما صنعت ـ في إصطدامها مع الظالمين ، أداءً للواجب ، وهي غير مُبالية بالعواقب الوخيمة المحتملة ، والأضرار المتوقّعة ، والأخطار المتّجهة إلى حياتها .. فليكن كلّ هذا. فإنّ الجهاد في سبيل الله محفوف بالمخاطر ، والمجاهد يتوقّع كل مكروه يُحيط به وبحياته.
    ونقرأ في بعض كتب التاريخ : أنّ قافلة آل الرسول مكثت في كربلاء مدّة ثلاثة أيام ، مشغولة بالعزاء والنياحة ، ثم غادرت كربلاء نحو المدينة المنوّرة.


(521)
    وصلت السيدة زينب الكبرى إلى وطنها الحبيب ، ومسقط رأسها ، ومهاجَر جدّها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    وكانت قد خرجت من المدينة قبل شهور ، وهي في غاية العز والإحترام بصُحبة إخوتها ورجالات أسرتها ، واليوم قد رجعت إلى المدينة وليس معها من أولئك السادة الأشاوس سوى ابن أخيها الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) فرأت الديار خالية مِن آل الرسول الطاهرة.
وترى ديارَ أميّةٍ معمورةً وديار أهل البيت منهم خالية
    وجاء في التاريخ : أنّ السيدة زينب ( عليها السلام ) لمّا وصلت إلى المدينة توجّهت نحو مسجد جدّها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعها جماعة من نساء


(522)
بني هاشم ، وأخذت بعُضادَتي باب المسجد (1) ونادت : « يا جدّاه ! إنّي ناعية إليك أخي الحسين » !! ، وهي مع ذلك لا تجفّ لها عبرة ، ولا تفتُـرُ عن البكـاء والنحيـب. (2)
    إنّ الأعداء كانوا قد منعوا العائلة عن البكاء طيلة مسيرتهنّ من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، وهنّ في قيد الأسر والسَبي ، حتى قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) « إن دمعت من أحدنا عينٌ قُرع رأسه بالرمح » (3).
    والآن .. قد وصلت السيدة إلى بيتها ، وقد ارتفعت الموانع عن البكاء ، فلا مانع أن تُطلق السيدة سراح آلامها لتنفجر بالبكاء والعويل ، على أشرف قتيل وأعزّ فقيد ، وأكرم أسرة فقدتهم السيدة زينب في معركة كربلاء.
    وخاصةً إذا اجتمعت عندها نساء بني هاشم ليُساعدنها على البكاء والنياحة على قتلاها ، وحضرت عندها نساء أهل المدينة ليُشاركنها في ذرف الدموع ، ورفع الأصوات بالصراخ والعويل.
    والبلاغة والحكمة تتطلّب من السيدة زينب أن تتحدّث
1 ـ أي : الخشبتين المنصوبتين عن يمين الباب وشماله. كما في « لسان العرب ».
2 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 45 ، ص 198.      المحقق
3 ـ بحار الأنوار ج 45 ص 154 ، باب 39 ، نقلاً عن كتاب ( إقبال الأعمال ).


(523)
عمّا جرى عليها وعلى أسرتها طيلة هذه الرحلة ، من ظلم يزيد وآل أبي سفيان وعملائهم الأرجاس الأنذال.
    وتتناوب عنها السيدات الهاشميات اللاتي حضرن في كربلاء ونظرن إلى تلك المآسي والفجائع ، وشاهدن المجازر التي قام بها أتباع الشياطين من بني أميّة.
    كانت النسوة يخرُجن من مجلس العزاء وقد احمرّت عيونهنّ من كثرة البكاء ، وكلّ امرأة مرتبطة برجل أو أكثر ، من زوج أو أبٍ أو أخ أو إبن ، وتقصّ عليهم ما سمعته من السيدة زينب ( عليها السلام ) من الفجائع التي وقعت في كربلاء وفي الكوفة ، وفي طريق الشام ، وفي مجلس يزيد ، وفي مدينة دمشق بصورة خاصّة.
    كان التحدّث عن أيّ مشهد من تلك المشاهد المؤلمة يكفي لأن تمتلئ القلوب حقداً وغيظاً على يزيد وعلى من يدور في فَلكه ، وحتى الذين كانوا يحملون الحبّ والوداد لبني أميّة ، إنقلبت المحبّة عندهم إلى الكراهية والبغض ، كما وأنّ الذين كانوا يُكنّون الطاعة والإنقياد للسلطة الحاكمـة صـاروا على أعتاب التمـرّد والثورة ضـدّ السلطة. (1)
1 ـ وقد جاء في التاريخ : أنّ عبد الله بن جعفر كان جالساً في داره يستقبل الناس الذين يريدون أن يعزّوه باستشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) واستشهاد ولديه عون وجعفر ، إذ دخل عليه رجل وعزّاه.

(524)
    ومن الطبيعي أنّ الأخبار كانت تصل إلى حاكم المدينة ، وهو من نفس الشجرة التي أثمرت يزيد وأباه وجدّه ، فكان يرفع التقارير إلى يزيد ويُخبره عن نشاطات السيدة زينب ، ويُنذره بالإنفجار ، وانفلات الأمر من يده ، قائلاً : « إن كان لك في المدينة حاجة فأخرج منها زينب ».
    جُبَناء ، يحكمون على نصف الكرة الأرضية ويخافون من بكاء امرأة لا تملك شيئاً من الإمكانات والإمكانيّات.
فقال عبد الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون !
فقال رجل يُقال له : « أبو السلاسل » : هذا ما لَقينا من الحسين بن علي ! فحَذَفه ( أي : رماهُ ) عبد الله بن جعفر بنعله ، وقال له : يابن اللَخناء ! ( يُقال في السبّ : يابنَ اللخناء ، أي : يابن المرأة المُنتنَة ) أللحسين تقول هذا ؟!
ثم قال : « والله لو شهدته لأحببت أن لا أُفارقه حتى أُقتَل معه ، والله إنّه لمِمّا يُسكّن نفسي ، ويُهوّن عليّ المُصاب ، أنّ أخي وابن عمّي أُصيبا مع الحسين ، مواسيَين له ، صابرَين معه.
ثم أقبل على جلسائه فقال : الحمد لله ، عزّ عليّ مصرع الحسين ، إن لم أكن واسيتُ حسيناً بيدَيّ فقد واساه ولداي.
المصدر : كتاب « بحار الأنوار » ج 45 ، ص 122 ـ 123. وذكره الطبري في تاريخه ، ج 5 ، ص 466. المحقق


(525)
    إنهم يعرفون أنفسهم ، ويعرفون غيرهم ، يعرفون أنفسهم أنهم يحكمون على رقاب الناس ، ويعرفون أنّ غيرهم يملكون قلوب الناس.
    من المؤسف المؤلم أن يُحسَب هؤلاء الظلمة مِن المسلمين ، وأن تُحسَب جناياتهم على الدين الإسلامي.
    وأيّ إسلام يرضى بهذه الجناية التي تقشعرّ منها السماوات والأرض ؟!
    هل هو إسلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
    أم إسلام بني أميّة ؟!
    إسلام معاوية ، ويزيد بن معاوية ، وعمر بن سعد ، والدعيّ بن الدعيّ عبيد الله بن زياد ؟!!
    ولا مانع لدى يزيد أن يأمر حاكم المدينة بإبعاد السيدة زينب مِن مدينة جدها الرسول.
    ولكن السيدة إمتنعت عن الخروج من المدينة ، وكأنّها لا تَهاب الموت ، ولا تخاف مِن أيّ رجس من أولئك الأرجاس.
    وهل يستطيع الأعداء أن يَحكُموا عليها بشيء أمرّ من الإعدام ؟
    فلا مانع ، فلقد صارت الحياة مبغوضة عندها ، والموت خير لها من الحياة تحت سلطة الظالمين.
    إنّها تلميذة مدرسة كان أساتذتها يقولون : « إنّي لا أرى
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ::: فهرس