زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: 211 ـ 225
(211)
لا ينكرون ذلك ، أمّا الولاية بمعنى الخلافة فهي مسألة عقائدية واُصولية ونظرية فسّروها بالحبّ ، وإنكارهم للضروري إنّما يوجب النجاسة لو كان مستلزماً لإنكار الله أو تكذيب النبيّ أو إنكار المعاد مع العلم بذلك ، وبهذا يعلم حكم الفرق الشيعية كالزيدية والإسماعيلية.
    ثمّ قال السيّد : فالصحيح الحكم بطهارة جميع المخالفين للشيعة الاثنى عشرية وإسلامهم ظاهراً بلا فرق في ذلك بين أهل الخلاف وبين غيرهم ، وإن كان جميعهم في الحقيقة كافرين ، وهم الذين سمّيناهم بمسلم الدنيا وكافر الآخرة. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    ولمزيد من الاطلاع على كلمات الأعلام لا بأس أن نذكر ما قاله الشيخ عبد النبي العراقي (1) حول الغلاة والخوارج.
    فقال : لا إشكال في نجاسة الغلاة وهم فريق من الناس يزعمون ربوبية فرد من أفراد البشر ، كالقائل بربوبية أمير المؤمنين ( عليه السلام ). وتصوّره يمكن على وجوه :
    أحدها : أنّه هو ، فإنّه تعالى ظهر بلاهوتيّته في الناسوت ، وكتم نفسه عن عباده ، وجعل لنفسه اسماً بشريّاً وهو عليّ ( عليه السلام ) ، كما يقول بعض النصارى في عيسى على نبيّنا وعليه السلام.
    وثانيها : أنّه غيره ، لكنّه حلّ فيه واتّحد معه ، لكنّه فُني جهة الإمكان وبقي الواجب ، وبعد الحلول والاتحاد هو هو ، ولا إله في الخارج إلاّ هو.
    وثالثها : أنّهم يعتقدون للواجب مرتبتين : مرتبة منه لا اسم له ولا رسم له
1 ـ معالم الزلفى 1 : 353.

(212)
وليس قابلا لأن يُعبد ، ومرتبة منه يكون له الأسماء الحسنى وهو الذي يدعى بأسمائه ويُعبد ، كما عليه كلّ المراشد الصوفية ، ولذا يجعلون صورة الخبيث أو عكسه في مقام العبادة ويخاطبونه ـ كما عند الشيخية ، ويقولون إنّه الركن الرابع ـ كما نصّ به جماعة منهم ، ومنهم ملاّ عبد الصمد الهمداني في بحر المعارف المطبوع وهكذا غيره ، الذي ذكر الشيخ الحرّ العاملي ( قدس سره ) في أمل الآمل أنّي كتبت رسالة في كفر عموم فرقهم بالأدلّة الأربعة ، ومن الأحاديث الواردة في كفرهم أزيد من ألف حديث ، كذا ذكر في روضات الجنات ، وجهات الكفر فيهم عديدة كما حكم به جماعة كالأردبيلي في حدائق الشيعة والجزائري في أنواره ، وفصّلنا جهاته في كتابنا « الخزائن النبوية » ، فلا شكّ فيه وفي نجاسته.
    ورابعها : زعم أنّ الله خلق خلقاً موجوداً مجرّداً ، ثمّ فوّض أمر خلقة العوالم وتدبيرها ورتقها وفتقها ، أيّ شيء من الذرّة إلى الذروة إليه مستقلاّ في الإيجاد والإعدام وغيرهما ، وهو قد يظهر في الناسوت كظهور جبرئيل على شكل دحية الكلبي أو سائر الملائكة على صورة الشباب من البشر كما في قصّة إبراهيم ولوط وأمثالهما.
    وخامسها : يتعدّى في حقّهم ويخرجونهم عن حدود البشرية في الصفات الإلهية ، ويزعمون أنّه عالم بكلّ شيء ، وقادر على كلّ شيء ، ومحيط بكلّ شيء ، إلى غير ذلك ، كما عليه بعض الفرق من المسلمين ، بل يزعمون أنّهم العلل الأربعة ـ المادية والصورية والفاعلية والقابلية ـ للعالم ، ولا ريب في كفر تمام الفرق ، ولا يحتاج إلى دعوى الإجماع على بعض الفرق والتردّد في البعض ، وإنّ السبب فيه هو إنكار الضروري أو غيره.
    أقول : كثير من هؤلاء الفرق وأمثالهم إنّما ذهبوا إلى مثل هذه العقائد


(213)
المنحرفة عن شبهات وقصور وإغواء بعض الأكابر لمطامع دنيوية من حبّ الرياسة والجاه والمقام وتجمّع المردة والجمهرة ، إنّما يحكم بكفر من كان إنكاره الضروري يرجع إلى تكذيب النّبي ( صلى الله عليه وآله ) وإنكار الرسالة ، ثمّ يتعرّض المصنّف إلى تعريف الخوارج والنواصب وكفرهم ونجاستهم ولم يأت بشيء جديد ، وأمّا في المجسّمة فقد استعمل الاُسلوب الخطابي لإثبات نجاستهم وكفرهم مطلقاً ، والحال قد ثبت الفرق بين الحقيقية حيث ذهبنا إلى نجاستهم وغيرهم فقال : وأمّا المجسّمة فقد أطالوا فيه الكلام ووجّهوا القائل به ، فيا ليت ما الداعي عليه ، فإنّ مدار التفهيم والتفهّم هو العرف واللغة ، فما معنى لكلامهم إنّهم لو أرادوا كذا فكذا ولو أرادوا كذا فكذا ، فمن قال إنّ الله جسم أخرجه من الواجب الوجودي إلى ممكن الوجود ، إذ الجسم هو الذي يكون ذا أبعاد ثلاثة في اللغة والعرف ، بل الشرع إذ هو من الموضوعات الصرفة يتبعه الشارع ، بل العقل أيضاً كذلك ، والتعليمي لا بدّ من متابعة مصطلحه كما لا يخفى ، إذ الجسم لا يكون إلاّ مركّباً فصار محتاجاً ، ولا يكون إلاّ في حيّز فصار محتاجاً ، ولا يكون إلاّ مرئياً فصار ممكناً ، لأنّه لا بدّ من أن يكون في جهة ... إلى غير ذلك من لوازم الجسم ، فمن توهّم من الأصحاب أنّه لا مانع أن يقال أنّه جسم لا كالأجسام ، فلا مانع أن يقال : أنّه له صاحبة لا كصاحبة ، وزوجة لا كزوجات ، وله ولد لا كالولد ... كلّ ذلك ممّـا لا يمكن التفوّه به مضافاً إلى الأخبار الآتية في ذيل عنوان المجبّرة ، وقد قال الله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) فلا شكّ في كفرهم بلا كلام ولا يحتاج إلى دعاوى الإجماعات ، التزموا بأحكام الإسلام أم لا ، فمن أنكر رسالة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) فهو كافر ، إلتزم بأحكام الإسلام أم لا ، فهو كذلك ـ فبماذا بعث الأنبياء وبماذا كانت دعوتهم فلا ريب في نجاستهم ـ وفي المجبّرة يحاول أن يثبت كفرهم ونجاستهم مطلقاً ، ولم يأت بما يعتمد عليه سوى الأخبار التي


(214)
هي قابلة للنقاش في دلالتها ، كما عند سيّدنا الخوئي ( قدس سره ) في التنقيح ، ثمّ في القائلين بوحدة الوجود من الصوفية يقول : فلا شك بأنّهم من الكفّار بتمام فرقهم الذين على حسب الإختلاف في المراشد في العصر الحاضر ينتهي إلى أربعين مذهب ، إذ أنّهم يرون سقوط التكاليف عنهم ، لأنّه قد حصل لهم اليقين ، فكلّ حرام يرونه مباحاً ، وإنّهم يرون أنفسهم معبود الناس فيوجبون عليهم في العبادة حضور صورتهم والخطاب به ... ولو ذكرت كفرياتهم في مذهبهم بتفصيلها فيحتاج إلى كتاب كبير أكبر من قاموس بل الاقيانوس ـ أعاذنا الله من شرّهم ـ ثمّ يشنّ هجوماً عشوائياً على كلّ الصوفية ، والحال ليس الكلّ يعتقد بمثل هذه الأباطيل ، فقوله على الإطلاق لا يتمّ ، بل المدار هو إنكار الرسالة كما علم فلا نعيد ، كما إنّه يتهجّم على الفلاسفة ـ ومنهم المحقّق السبزواري ـ ويحكم على القائلين بوحدة الوجود بالكفر والنجاسة. وفي المخالفين يذهب إلى نجاستهم تبعاً لصاحب الحدائق ، فراجع.
    وإليك ما قاله المحقّق آقا ضياء الدين العراقي (1) ، حيث قال : ثمّ المراد بالمسلم هو المظهر للشهادتين بنحو يصلح للطريقية إلى اعتقاده ، للأخبار المستفيضة (2) الواردة في شرحه ، وقد عقد في اُصول الكافي باباً كذلك ، فلا يكفي الاعتقاد بلا إقرار ولا العكس.
    وإجراء حكم الإسلام على المنافقين في الصدر الأوّل كان لمحض المصلحة حفظاً لحوزة المسلمين وتكثيراً لعددهم ، لا أنّهم حقيقة كانوا مسلمين.
1 ـ في شرحه على تبصرة المتعلّمين 1 : 239.
2 ـ اُصول الكافي 2 : 24 ـ 27.


(215)
    أقول : هذا خلاف الظاهر ، كما يردّه آية ( قالوا آمَنَّا ... ) والروايات التي تقول : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وهو ما عليه جماعة الناس وعليه جرت المناكح والمواريث ، حتّى لو لم نكشف من ذلك على نحو الطريقية على اعتقاده في الباطن ، فالظاهر كفاية الإقرار بإظهار الشهادتين ، إلاّ إذا علمنا كذبه ودسيسته ومكره ، وجعل الإقرار وسيلة لمآربه الخاصّة كالمستشرقين والجواسيس ، فتدبّر وتأمّل.
    ثمّ قال ( قدس سره ) : وعلى ما ذكرنا فالمخالفون مسلمون حقيقة ، وما ورد من النصوص (1) في كفرهم ، محمولة على كفرهم باطناً ، بمعنى استحقاقهم دركات الكفّار ـ يوم القيامة ـ كما إنّ غير الجاحد ـ أيضاً ـ غير كافر بهذا المعنى ، وعليه يحمل قوله : ( لم يجحدوا لم يكفروا ) (2) ، وإلاّ فلا يترتّب عليهم أحكام الإسلام ما لم يقرّوا.
    نعم ; لا إشكال في كفر الناصب ، كما ورد أنّهم أنجس من الكلب ، ويلحق بالنجاسة سائر أحكام الكفر بعدم القول بالفصل كما لا يخفى. وكذلك الغلاة للنصّ من قوله : ( توقّوا مساورته ) ـ ولكن أجاب السيّد الحكيم : إنّ الصحيح من النسخ مشاورته بالشين المعجمة ، فراجع ـ وكذلك الخوارج للإجماع ، وبقية الفرق يحكم بإسلامهم ما لم ينكروا ضرورياً ، مع التفاتهم بضروريّته ، ومع غفلتهم عنها إشكال ، لعدم دليل على كفرهم ، عدى دعاوى الإجماعات على موضوعيّته ، وفيه نظر ، لإمكان حمل الإطباق على جعل ظاهر حاله طريقاً إلى كون إنكاره راجعاً إلى تكذيب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ولا يسمع منه دعوى الاشتباه. لا أنّه موجب لكفره
1 ـ الوسائل ، الباب 6 و 10 من أبواب حدّ المرتدّ.
2 ـ الوسائل ، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 8.


(216)
حتّى مع الجزم باشتباهه. والمسألة لا تخلو عن إشكال جدّاً. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    والسيّد الطباطبائي (1) ، بعد أن ذهب إلى نجاسة الكفّار مطلقاً قال : قد عرفت انحصار أدلّة الكفّار في الإجماع وفحوى الأخبار المزبورة ، ظهر لك وجه قوّة القول بطهارة من عدا الخوارج والغلاة والنواصب من فرق المسلمين ، إلاّ أن ينكر ضرورياً من الدين على وجه يلحق بالكافرين سواء كان جاحداً لنصّ أو غيره ، وهو المشهور بين الأصحاب لأصالة عدم الطهارة وعموماتها مع عدم جريان شيء من الدليلين المخرجين عنهما هنا ، لفقد الإجماع في محلّ النزاع ، سيّما مع شهرة الطهارة وعدم الأولويّة ، إذ ليسوا لشرف الإسلام أمرّ من أهل الذمّة ، هذا مع لزوم الحرج على تقدير النجاسة ، والإجماع على عدم احتراز الأئمّة ( عليهم السلام ) والأصحاب عنهم في شيء من الأزمنة على حدّ يظهر عدم كونه من جهة التقيّة ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة ، بل المتواترة الحاكمة بحِلِّ ما يوجد في أسواق المسلمين والطهارة مع القطع بندرة الإمامية في جميع الأزمنة ، سيّما في أزمنة صدور تلك النصوص ، وأنّه لا ينعقد لخصوصهم سوق يكون الأحكام المزبورة الواردة عليه ، فهو من أقوى الأدلّة على طهارة هؤلاء الكفرة ، وإن كانوا في المعنى أنجس من الكلاب الممطورة ، خلافاً للشيخ فحكم بنجاسة المجبّرة ، وللسيّد فحكم بنجاسة المخالفين لإطلاق الكفر عليهم في كثير من الأخبار وهو كما ترى ، فإنّه أعمّ من الحقيقة ، مع أنّ أمارات المجازات من عدم التبادر أو تبادر الغير وصحّة السلب موجودة ، وعلى تقديرها فلا دليل على النجاسة كليّة ، وإن هو إلاّ مصادر محضة لفقد الإجماع
1 ـ رياض المسائل 1 : 85.

(217)
وما مضى من الأولوية ، مضافاً إلى معارضتها بكثير من المعتبرة الدالّة على إسلامهم من حيث الشهادتين ، ففي الخبر : « الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره عامّة الناس ». وقريب منه آخر : « الإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح » ، والمعتبرة بمعناهما مستفيضة ، وفيها الصحيح والحسن ، لكن ليس فيها أنّ الإسلام هو الشهادتان وإن كان يظهر عنها بنوع من التأمّل ، فإذا ثبت إسلامهم ثبت طهارتهم للخبر « أيتوضّأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحبّ إليك أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمر ؟ فقال : بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ، فإنّ أحبّ دينكم إلى الله تعالى الحنفية السهلة السمحة ».
    وأمّا الحجّة على نجاسة الفرق الثلاث ومن أنكر ضروري الدين ، فهو الإجماع المحكى عن جماعة ، ويدخل في الأخير المجسّمة الحقيقية ، لقولهم بالحدوث الباطل بالضرورة من الدين ، ولولاه لكان القول بالطهارة متعيّناً للأخبار المزبورة الحاكمة بإسلام من صدر عنه الشهادتان المستلزم للطهارة للرواية المتقدّمة. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    أقول : إنّما ذكرت كلمات العلماء الأعلام في بعض الفصول ، وربما أطنبت في النقل وحرّرت في بعض الموارد تمام عبائرهم ممّـا يوجب الملل والكلل للقارئ النبيل ، فإنّي توخّيت من ذلك كلّه اُمور ومقاصد :
    الأوّل : مقصود الرسالة عرض آراء وأفكار جملة كبيرة من فقهاء الإسلام وأصحابنا الكرام ، كما يدلّ على ذلك عنوان الرسالة.
    الثاني : ليقف ويعلم طالب الحوزة ومن كان على أبواب الاجتهاد أنّ كثيراً


(218)
ممّـا صنّف واُ لّف في الفقه الاستدلالي إنّما هو تكرار مكرّرات ، حتّى أنّ العبائر بعينها عند بعض تتكرّر ، ولم يؤتَ بشيء جديد إلاّ النزير والقليل ، وتبديل كلمات بكلمات واُسلوب باُسلوب ، وإلاّ فإنّ المحتوى واحد والمعنى واحد ، إنّما الاختلاف بالألفاظ والتقديم والتأخير.
    الثالث : لا نغمط الحقّ أهله ، فإنّه نرى الخلف يزيد على السلف بعض الرشحات الفكريّة ، ويتنبّه إلى نكات ظريفة والتفاتات لطيفة ، لا سيّما ويقال : المتأخّر أعلم من المتقدّم ، لأنّ عنده ما عند المتقدّم وإضافة ، ولمثل هذا يُقال بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، فعند المتأخّرين زيادة على ما عند المتقدّمين تظهر من خلال كلماتهم القيّمة ، وهذا يقضي أن نستعرضها كلاّ حتّى يقطف ثمراتها الدانية ، كلّ بحسب ما يحمل من علوم وثقافة خلفيّة.
    الرابع : بما أنّ المسألة خلافية ، ويعرف الصواب من خلال ضرب الآراء بعضها ببعض ، فمقتضى الأمانة ، أن نذكر الرأي بتمامه ، حتّى لا يوجب إجماله وهنه وتحريفه ، وربما هذا يستلزم الإطالة والإطناب المملّ ، إلاّ أنّه لا بدّ منه ، والصبر عليه ، لتحرّي الحقيقة ، وما هو الحقّ والصواب.
    الخامس : ليس كلّ تكرار مخلّ بالفصاحة ، فإنّه لو كان لإفادة التقرير وزيادته وتحكيم المبنى ورصّ المعنى ، فإنّه من الحسن الجميل ومن القول الفصيح ، كما في سورة الرحمن وتكرار قوله تعالى : ( فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان ) فقصد من التكرار مثل هذه المقاصد ، ولي فيها مآرب اُخرى.


(219)
    لقد اتّضح ـ كما عند المشهور ـ أنّ المشرك نجس. وبالأولوية يحكم بنجاسة جميع الكفّار ومن بحكمهم من فرق المسلمين ـ كالخوارج والغلاة والنواصب ـ وإنّما خرج من الكفّار أهل الكتاب من اليهود والنصارى عندنا بالدليل كما مرّ.
    وهنا مسائل وفروعات متنوّعة وعديدة تعرّض لها فقهائنا الأعلام ، كمسألة رطوبات الكافر وأجزائه التي تحلّها الحياة وما لا تحلّها الحياة ، بأ نّها نجسة أو طاهرة ، وكذلك أوانيهم وثيابهم وأولادهم ، وكذا ولد الزنا ، فالمشهور ذهب إلى طهارته ، إلاّ أنّه جمع قال بنجاسته.
    ومثل هذه المسائل تحتاج إلى رسائل مستقلّة ، كما أنّ ما ذكرناه في موضوع نجاسة الكفّار أو طهارتهم عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ واختلاف الآراء. وزبدة الأفكار إنّما هو شيء قليل جدّاً. فإنّه غيض من فيض ، وكان بودّي أن أتوسّع في البحث فإنّه بحر خضمّ متلاطم الأمواج ، إلاّ أنّه طُلِبَ منّي أن تكون الرسالة بين الخمسين والسبعين صفحة ، فتركت كثيراً من المباحث والفروعات ونقل العبائر وأقوال الفقهاء ومناقشتها روماً للإختصار ، ولكن رأيت من المسائل المهمّة


(220)
جدّاً في هذا الوادي الرحب التي كثيراً ما يبتلى بها الناس (1). مسألة الشخص المشكوك بالكفر والإسلام فما يكون حكمه ، فهل هو طاهر أم نجس ؟
    فنقول : إنّه يحكم عليه بالطهارة ، ولكن لا يثبت له سائر أحكام المسلمين كالتوارث.
    بيان ذلك : قيل إنّ من يشكّ في إسلامه وكفره إنّما هو من الشبهة الموضوعية ، فتارة حالته السابقة الإسلام كمن لو كان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلماً ، فلو أنكر بعد بلوغه التوحيد أو الرسالة أو ما يرجع إليهما فإنّه يحكم بكفره بناءً على أنّ المرتدّ مطلقاً كافر.
    وإن شكّ فيه بعد البلوغ في صدور إنكار التوحيد أو الرسالة أو الضروري الموجب للكفر فإنّه يستصحب إسلامه ويجري عليه جميع أحكام المسلمين. وإذا كان في الزمن السابق كافر فإسلامه بعد البلوغ بقول الشهادتين وأن لا يكون ناصبيّاً كما مرّ بيانه ، وإن شكّ فيه فإنّه يستصحب عدم اعترافه بالشهادتين فيحكم بكفره.
    وفي المستمسك للسيّد الحكيم والتنقيح للسيّد الخوئي كلام ، وهو : أنّ التقابل بين الكفر والإسلام من الملكة وعدمها ، فإنّه لو كانا من السلب والإيجاب ، فلا إشكال سيكون في مقابل الكفر عدم الإسلام ، والحال أنّهما من الملكة وعدمها ، فلو كان الكفر أمراً وجوديّاً فلا حالة له سابقة ، وإن كان عدماً فيلزم أن يكون
1 ـ مثلا هناك فِرق في عصرنا هذا يسألون عن نجاستهم ، كالأباضية في مسقط وعمان ، والعلويين في سوريا ، والدروز في لبنان ، والزيدية في اليمن وغيرهم ، والشبهة تارة تكون موضوعية واُخرى تكون حكمية.

(221)
من العدم الخاصّ ، لتقابل الملكة ، فهذا الشخص المشكوك قبل وجوده لم يكن مسلماً بالعدم الأزلي ، أو حين الطفولة لم يكن مسلماً بالإسلام الاستقلالي فإنّه لا يدلّ على العدم الخاصّ ، ويلزم أن يكون من الأصل المثبت ، وهو ليس بحجّة ـ كما هو ثابت في محلّه ـ ، وفي التنقيح توضيح ذلك على أنّ تقابل الملكة وعدمها ـ أي عدم الملكة ممّن له شأن التملّك بتلك الملكة ـ فالعدم هنا لم يكن عدم يقبل الوجود كالعمى والبصر أي العمى فيمن يقبل البصر بحسب نوعه أو جنسه ، ويحرز هذا بالوجدان ، ومعنى التقيّد بعرضين ووصفين هو الجمع ، ويكون مفاد واو الجمع نحو ( قلّد المجتهد والعادل ) فالقابليّة في المحلّ وصف وعرض ، وعدم البصر وصف وعرض آخر ، أحدهما يثبت بالوجدان وهو القابلية ، والآخر وهو عدم البصر يثبت بالاستصحاب الأزلي ، ومجرّد استصحاب عدم البصر لا يثبت العمى بالوجودان ، فالعدم في تقابل الملكة وعدمها عدم بسيط ومضاف ولا لفظ له يعبّر عنه ، نعم لا بدّ من قابلية المحلّ ، فإن لم يكن البصر فالعدم الخاصّ لازمه ، بأن يكون أعمى ، فالعدم الخاصّ لم يكن له حالة سابقة ، بل الحالة السابقة في الاستصحاب الأزلي هو العدم المطلق ، فإثباته بالاستصحاب لا يثبت العدم الخاصّ ، وإذا قبل بثبوته فإنّه يكون من الأصل المثبت الذي ثبت عدم حجّيته في الاُصول (1) ، فالعدم
1 ـ المراد من الأصل المثبت هو أن يترتّب الأثر الشرعي على المستصحب بواسطة عقليّة أو عادية كاستصحاب حياة الولد وإنبات لحيته ووجوب الوفاء بالنذر على ذلك. فإنبات اللحية واسطة عادية ، فمن الأصل المثبت ، وهو في الاستصحاب والاُصول العمليّة ليس بحجّة ، إلاّ فيما لو كانت الواسطة خفيّة جدّاً أو جليّة ، بحيث يُعدّ عند العرف ترتّب الأثر كأنّه على المستصحب لا الواسطة ، كما أنّ الأصل المثبت حجّة في الطرق والأمارات الشرعيّة.

(222)
في الملكة وعدمها عدم خاصّ ، والاستصحاب إنّما يثبت العدم المطلق ، فلا مجال له فيما نحن فيه.
    ونقول في جوابه : إنّ العدم في موارد التقابل في الملكة وعدمها ، إنّما هو مفاد القضية المعدولة أي العدم الوصفي ، فاتّصاف الإنسان بعدم البصر يقال له : أعمى ، وكذا الجحود والإنكار ، فإنّه ليس العدم ، بل اتّصافه بالعدم في المورد القابل ، فاتّصافه بعدم الإسلام يسمّى كفراً ، واتّصاف الشخص بعدم الإسلام بالعدم الأزلي لا يثبت أنّه كافر ، وهذا ما يفهمه العرف ، فالعمى أي المتّصف بعدم البصر ، وبهذا يندفع الوهم الذي مرّ ، فإنّ الطفل باعتبار أحد الأبوين المسلمين كان يتّصف بالاسلام ، والإسلام التبعي والاستقلالي إنّما هو مجرّد اصطلاح فقهي ، لا دخل له في موضوع الحكم ، فالاتّصاف يستصحب حينئذ إلاّ عند ثبوت الإنكار.
    ولكن يمكن أن يقال أنّ العدم في الملكة هو العدم الخاصّ كما قيل ، وبالوجدان يستصحب كفر الفرد المشكوك من أبوين كافرين ، وفي المسلمين يحكم بإسلامه ، إلاّ أنّه معارض باستصحاب آخر ، وهو عدم الإسلام ، وكيف يحكم بطهارته بناءً على الاستصحاب الأوّل ، وبعدم توارثه بناءً على الاستصحاب الثاني ، فإنّه يلزمهما الترخيص في المخالفة القطعيّة الإلزامية ، فيتعارض الاستصحابان ـ كما تتعارض الاُصول في العلم الإجمالي ـ فيتساقطان ويرجع إلى الأصل الأوّلي العملي ، فيحكم بالطهارة.
    لكن يأتي إشكال آخر وهو تعارض أصل الطهارة مع أصالة الحليّة في دمه وماله.
    نعم لو قلنا بمبنى شيخ الطائفة ( قدس سره ) ومن تبعه بأنّه لا نجري أصالة البراءة في الدماء والأموال ، فإنّه يلزم أن يبقى أصل الطهارة بلا معارض. وإلاّ فيبقى


(223)
التعارض ، إلاّ أنّه نحكم مع ذلك بطهارته ، فإنّ معناه عدم الاجتناب عن ملاقيه ، ولكن لا نجري عليه أحكام الإسلام الاُخرى ، لأنّه بحاجة إلى أمارة شرعية على ذلك. وربما يقال : يحكم عليه أحكام لقيط دار الإسلام على أنّه من الأمارات ، ولكن هذا إنّما هو منصوص في مورد واحد ، وهو اللحم والجلد المشكوك في دار المسلمين ، وفي غيره لا نصّ فيه ، فلا يجري على الفرد المشكوك بالكفر والإسلام ـ لو قلنا بطهارته ـ أحكام التوارث والتناكح ، وأمّا الدفن والغسل فمن جهة العمومات والمطلقات يقال بالجريان ، فتأمّل.
    وفي الختام : بعد أن ذهبنا إلى طهارة أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس حسب الظواهر والأدلّة الشرعية ، فإنّه لا يعني ذلك أن لا نحذر الكفّار واليهود والنصارى والمجوس ، ونتّخذهم بطانة دون المؤمنين ـ والعياذ بالله ـ بل المؤمن كيّس فطن عارف بأهل زمانه ، ويعلم جيّداً أنّ اُولئك الكفرة ـ والكفر ملّة واحدة ـ يتربّصون بالمسلمين الدوائر ، ويستغلّون الفرص وينتهزونها لينفذوا في مجتمعاتنا الإسلاميّة ، ويغزونا في عقر دارنا ـ ومن غزي في عقر داره ذلّ ـ فيحاولون إذلال المسلمين وقهرهم ، ونهب ثرواتهم وخيراتهم ، ومصّ دمائهم ، ونيل مطامعهم ، والوصول إلى مخطّطاتهم الجهنمية التوسّعية ، من استعباد شعوب المسلمين ، واستعمار بلادهم واستثمار جهودهم ، وتفتيت عضدهم ، وتشتيت اُمّتهم وتمزيق وحدتهم ، وتحطيم شخصيّتهم وتهديم كيانهم ، وتسقيط معنوياتهم والتشكيك في عقائدهم الحقّة ، وانقطاعهم عن ماضيهم المشرق ، والتطلّع إلى مستقبل مجهول هم يصنعونه ويؤسّسون جذوره وبنيانه ، كلّ ذلك من خلال عملائهم وجواسيسهم وعيونهم ، بأسماء مختلفة ومسمّيات متفاوتة وأشكال متعدّدة ، تارةً باسم المستشرقين ، واُخرى باسم الخبراء والفنيّين ، وثالثة باسم


(224)
السياسيين والدبلوماسيين ، وحتّى باسم الرياضيين ومدرّبي شباب الكرة وهواتها ، وباسم السياحيين وما شابه ذلك ، فإذا علموا أنّ هناك من يقول بطهارتهم فإنّهم سرعان ما يستغلّون هذا المعنى في نفوذهم بين أوساطنا ، وفي كلّ حقول حياتنا ومجامعنا ، حتّى في بيوتنا ودورنا ومدارسنا ومصانعنا وشوارعنا وأسواقنا ، على أنّه لا داعي إلى التخوّف منهم ، والتحذّر والوسوسة من نجاستهم وقذارتهم ، بل يستعملون أحدث وسائل التنظيف وأدوات التجميل والعطور ، حتّى يكونوا أكثر نظافة من المسلمين ، كلّ ذلك تنفيذاً لمخطّطات أسيادهم ، وكبرائهم من الاستكبار العالمي ، والاستعمار الشيطاني ، ليتوغّلوا بين صفوف المسلمين ، ويستخبروا معالم قوّتهم ونقاط ضعفهم ، وكيفية تزلزلهم في دينهم وعقيدتهم ، ومن ثَمّ ترويج الفساد وإشاعة الفسق والفجور وانتهاك الحُرم ومحو الاُصول وانعدام الأصالة بهجمات ثقافية ممقوتة ، أو حزب سياسي أو اقتصادي أو عسكري ، وبين ليلة وضحاها وإذا بنا نرى انهيار المجتمع الإسلامي ، الذي كان يسوده الطمأنينة والعزّ والشرف والكرامة والعدالة والحرية والاستقلال في كلّ ميادنيه ـ كما حدث ذلك من قبل وراحت منّا الأندلس الإسلامية ـ ولكن شاء الله سبحانه وتعالى بلطفه وعنايته أن تصحو الاُمّة الإسلامية ، وتستيقظ من سباتها العميق ، وتنفض غبار الغفلة والتمويه ، وتثور ضدّ الاستعمار والاستكبار في كلّ ربوعه ، وتزلزل عروش الطغاة وعملاء الاستعمار في كلّ بقاعه ، وتقطع أيادي الأجانب والكفّار من بلاده وأقطاره ، إنطلاقاً من إيران الإسلام.
    ( إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّروا ما بِأنْفُسِهِمْ ) (1).
1 ـ الرعد : 11.

(225)
    وما النصر إلاّ من عند الله ، إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ، أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، وإنّ الأرض سيرثها عباد الله الصالحون ، هذا ما وعدنا الله سبحانه وتعالى ، وإنّه لن يخلف وعده ، وهو أحكم الحاكمين ذو القوّة المتين.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين (1).
العبد
عادل العلوي
حوزة قم العلميّة
المؤسسة الإسلامية العامّة للتبليغ والإرشاد
ص ب 3634 ـ ت 741737

1 ـ ورد في الخبر الشريف : من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ، فمن هذا المنطلق الإسلامي أشكر ( لجنة المناقشة ) لمطالعتهم اُطروحتي هذه ، وإبدائهم بعض الملاحظات ، وليتهم قرأوا كلّ الاُطروحة ولم يكتفوا بخمسين صفحة من المقدّمة ، فإنّ أوج الرسالة في ذي المقدّمة كما هو واضح ، وعلى كلّ حال أشكر جهودهم وقبولهم الرسالة والاُطروحة ، وإن لم أقتنع بذلك ، وقد جعلت رسالتي هذه ذخراً ليوم معادي ، ومن الله التوفيق والسداد ، إنّه خير ناصر ومعين.
زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: فهرس