ادب الطف الجزء الاول ::: 76 ـ 90
(76)
    ام كلثوم بنت امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، وامها الزهراء فاطمة وقد ولدت بعد زينب الكبرى كما أن زينب ولدت بعد الحسين.
    وام كلثوم هي المسماة بزينب الصغرى اما كنيتها ام كلثوم الكبرى وقد جاءت هذه المخدرة مع اخيها الحسين الى العراق وهي زوجة عون ابن جعفر الطيار.
    أما هذه الشهرة التي تقول بأن ام كلثوم قد تزوجها عمر بن الخطاب فهي عارية عن الصحة ، وبيان ذلك ان المؤرخين قد اتفقوا على ان ام كلثوم تزوجها عون بن جعفر ، او اخوه محمد بن جعفر اولا ، ثم عون ثانياً ، والاتفاق في ذلك عن ائمة الحديث المعتمدين كابن حجر في الإصابة ، وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما ممن كتب في الصحابة ان عون بن جعفر قتل يوم ( تستر ) ويوم تستر لا كلام انه في خلافة عمر بن الخطاب وفيه اسر الهرمزان ومات عمر بعد يوم تستر بسبع سنين فكيف تزوج بها عون بعد عمر.
    والحقيقة أن ام كلثوم لم يتزوجها غير ابن عمها عون ابن جعفر حتى قتل عنها بكربلاء على ما صرح به السيد الداودي في عمدة الطالب والمسعودي في مروج الذهب ، والدر المنثور في طبقات ربات الخدور وكان له من العمر يوم قتل على ما قيل ستة وخمسون سنة وكانت ام كلثوم معه بالطف. وتوفيت بالمدينة بعد رجوعها مع السبايا ، وكانت مدة مكثها في المدينة اربعة أشهر وعشرة ايام.
    وهذا كتاب ( المستدرك على الصحيحين في الحديث ) ، للحفاظ الكبير الحاكم النيسابوري ج 3 ص 142 عندما يروي زواج ام كلثوم بنت علي « ع » من عمر ، ويأتي الحافظ الذهبي في الذيل ويقول : قلت منقطع ، أي سند هذا الحديث منقطع. وإذا علمنا ان الخبر


(77)
اذا لم يصححه الذهبي سقط عن الاعتبار واتضح لنا ضعف هذه الاشاعة وكذبها. والان نورد كلام الشيخ الجليل محمد بن محمد بن النعمان البغدادي والمعروف بالشيخ المفيد وذلك في جواب المسألة العاشرة من المسائل السرودية لما سأله السائل عن حكم ذلك الزواج ـ وكلامه الفصل ـ وهذا نصه ان الخبر الوارد بتزويج امير المؤمنين علي « ع » ابنته من عمر غير ثابت ، وطريقه من الزبير بن بكار وطريقه معروف لم يكن موثوقاً به في النقل ، وكان متهماً فيما يذكره من بغضه لأمير المؤمنين « ع » فيما يدعيه عنهم على بني هاشم ، وانما نشر الحديث اثبات أبي محمد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه فظن كثير من النساء انه حق لرواية رجل علوي له ، وانما هو رواه عن الزبير كما روى الحديث نفسه مختلفاً. فتارة يروي ان امير المؤمنين تولى ذلك ، وتارة يروي انه لم يقع العقد الا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم ، وتارة يروي انه من اختيار وايثار.
    ثم بعض الرواة يذكرون أن عمر أولدها ولداً أسماه زيداً ، وبعضهم يرى أن لزيد بن عمر عقبا ، ومنهم من يقول قتل ولا عقب له ، ومنهم من يقول انه وامه قتلا ، ومنهم من يقول ان امه بقيت بعده ، ومنهم من يقول ان عمر امهر ام كلثوم أربعين الف درهم ، ومنهم من يقول كان مهرها خمسمائة درهم ، وبدء هذا القول وكثرة الاختلاف يبطل الحديث ولا يكون له تأثير على حال. انتهى كلامه رفع مقامه.
    وقال الشيخ المامقاني قدس سره في تنقيح المقال :
    ام كلثوم بنت امير المؤمنين عليه السلام هذه كنية لزينب الصغرى وقد كانت مع أخيها الحسين بكربلاء وكانت مع السجاد عليه السلام في الشام ثم الى المدينة وهي جليلة القدر فهيمة بليغة ، وخطبتها في مجلس ابن زياد بالكوفة معروفة وفي الكتب مسطورة. وفي الاخبار ان عمر


(78)
ابن الخطاب تزوجها غصباً وأنكر ذلك جمع ، ولعلم الهدى في هذا الباب رسالة مفردة أصرّ فيها على ذلك وأصرّ اخرون على الانكار ، وحيث لا يترتب من تحقيق ذلك وكان يصعب الالتزام به طويناه اشتغالا بالأهم.
    خطبتها بالكوفة :
    قال السيد ابن طاووس في ( اللهوف على قتلى الطفوف ) خطبت ام كلثوم من وراء كلّتها رافعة صوتها بالبكاء فقالت :
    يا اهل الكوفة سوأة لكم ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وانتهبتم امواله وورثتموه ، وسبيتم نساءه ونكبتموه فتبا لكم وسحقا.
    ويلكم أتدرون أي دواهِ دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة اصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي اموال انتهبتموها ، قتلتم خير رجالات بعد النبي ونزعت الرحمة من قلوبكم ألا ان حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون ثم قالت :
قتلتم أخي ظلماً فويل لأمكم سفكتم دماء حرم الله سفكها ستجزون ناراً حرها يتوقد وحرمها القران ثم محـمد
    فضج الناس بالبكاء والنحيب ونشرت النساء شعورهن ووضعن التراب على رؤوسهن وخمشن وجوههن وبكى الرجال فلم ُير باكية اكثر من ذلك اليوم.


(79)
    10 ـ الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب :
    قال السيد الامين في الاعيان ج 32 ص 282 في احوال زهير بن سليم الازدي المقتول مع الحسين يوم كربلاء في الحملة الاولى ، قال وفيه يقول الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من قصيدته التي ينعى بها على بني أمية افعالهم :
أرجعوا عامراً ورّدوا زهـيراً وارجعوا الحر وابن قين وقوماً أين عمرو وأيـن بشـر وقتلى ثم عثمان فارجعوا غارمينا قتلوا حين جـاوروا صفـينا منهم بالعراء مـا يـدفنونا


(80)
    عنى بعامر العبدي وبزهير هذا وبعثمان أخا الحسين ـ وأمه أم البنين الكلابية ـ وبالحر الرياحي ، وبابن قين زهيرا وبعمرو الصيداوي وببشر الحضرمي ، انتهى.
    أقول ذكر الشاعر سبعة ممن استشهدوا بين يدي الحسين (ع) في جملة المستشهدين بين يديه ، ويحسن بنا أن نذكر ترجمة كل واحد منهم ممن لم تذكر ترجمته في هذه الموسوعة :
    1 ـ عامر بن مسلم العبدي البصري : قال الشيخ السماوي في ( ابصار العين ) : كان عامر من شيعة البصرة ، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثبيط العبدي الى الحسين (ع) وانضم اليه حتى وصلوا كربلاء وكان القتال فقتلا بين يديه. قال في المناقب : وفي الحدائق قتلا في الحملة الاولى.
    2 ـ زهير بن سليم الأزدي : قال السماوي في ( ابصار العين ) : كان زهير ممن جاء الى الحسين عليه السلام في الليلة العاشرة عندما رأى تصميم القوم على قتاله فانضم الى أصحابه وقتل في الحملة الاولى.
    3 ـ عثمان بن علي بن ابي طالب : قال الشيخ السماوي : ولد عثمان بعد اخيه عبد الله بنحو سنتين وامه فاطمة ام البنين ، وبقي مع اخيه الحسن نحو اربع عشرة سنة مع الحسين (ع) ثلاثاً وعشرين سنة وذلك مدة عمره.
    وروى أبو الفرج عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال : انما سميته عثمان بعثمان بن مظعون (1) قال أهل السير : لما قتل عبد الله بن علي
1 ـ عثمان بن مظعون من اجلاء الصحابة ، اسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً وهاجر الهجرتين وشهد بدراً ، وكان اول رجل مات بالمدينة سنة اثنين من الهجرة وكان ممن حرم الخمرة على نفسه في الجاهلية ودفن في بقيع الغرقد بعد ان صلى عليه النبي ووضع حجراً على قبره وجعل يزوره.

(81)
دعا العباس عثمان ، وقال له تقدم يا أخي كما قال لعبد الله فتقدم الى الحرب يضرب بسيفه ويقول :
إني انا عثمان ذو المفاخر شيخي علي ذو الفعال الطاهر
    فرماه خولي بن يزيد الأصبحي فأوهطه (1) حتى سقط لجنبه فجاءه رجل من بني ابان بن دارم فقتله واحتز رأسه.
    4 ـ عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي :
    كان شريفاً من اشراف الكوفة مخلص الولاء لأهل البيت ، قام مع مسلم حتى اذا خانته الكوفة لم يسعه الا الاختفاء ، فلما سمع بقتل قيس بن مسهر وأنه أُخبر أن الحسين صار بالحاجر خرج اليه ومعه مولاه سعد ومجمع العائذي وابنه وجنادة بن الحرث السلماني واتبعهم غلام لنافع البجلي بفرسه المدعو ( الكامل ) فجنبوه وأخذوا دليلا لهم الطرماح بن عدي الطائي وكان جاء الى الكوفة يمتار لأهله طعاماً فخرج بهم على طريق متنكبة وسار سيراً عنيفاً من الخوف لأنهم علموا أن الطريق مرصود حتى اذا قاربوا الحسين عليه السلام حدا بهم الطرماح بن عدي فقال :
يا ناقتي لا تذعـري من جزري بخـير ركـبان وخـير سـفر الماجد الـحر رحـيب الصـدر وشمِّري قبل طلوع الفجر حتى تحلِّي بكريـم النجر أتى به الله لخـيـر أمـر
ثمَّة ابقاء بقاء الدهر
    فانتهوا الى الحسين وهو بعذيب والهجانات (2) فسلموا عليه وانشدوه
1 ـ اوهطه : اضعفه واثخنه بالجراحة صرعة لايقوم منها.
2 ـ غذيب الهجانات موضع فوق الكوفة عن القادسية اربعة اميال. واضيف الى الهجانات لأن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يجعل فيه ابله.


(82)
الأبيات فقال عليه السلام : أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قتلنا أو ظفرنا.
    5 ـ بشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي الكندي :
    قال السماوي كان بشر من حضرموت وعداده في كندة وكان تابعياً وله اولاد معروفون بالمغازي ، وكان بشر ممن جاء إلى الحسين أيام المهادنة ، وقال السيد الداودي لما كان اليوم العاشر من المحرم ووقع القتال قيل لبشر وهو في تلك الحال : إن ابنك عمراً قد أُسر في ثغر الري فقال عند الله احتسبه ونفسي ، ما كنت أحب ان يؤسر وأنا أبقى بعده ، فسمع الحسين (ع) مقالته فقال له : رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاذهب واعمل في فكاك ابنك. فقال له : أكلتني السباع حياً إن فارقتلك يا أبا عبد الله. فقال له : فاعط ابنك محمداً ـ و كان معه ـ هذه الأثواب البرود يستعين بها في فكاك اخيه وأعطاه خمسة اثواب قيمتها الف دينار.
    وقال السروي انه قتل في الحملة الاولى.
    6 ـ الحر الرياحي : وهو ابن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتَّاب ابن هرمي بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي اليربوعي الرياحي.
    كان الحر شريفاً في قومه ، جاهلية واسلاما ، فان جده عتابا كان رديف النعمان. وولد عتاب قيساً وقعنباً ومات فردف قيس للنعمان ، ونازعه الشيبانيون ، فقامت بسبب ذلك حرب يوم الظخفة ، والحر هو ابن عم الأخوص الصحابي الشاعر ، وهو زيد بن عمرو بن قيس بن عتاب ، وكان الحر في الكوفة رئيساً ، ندبه ابن زياد لمعارضة الحسين (ع) فخرج في ألف فارس ( روى ) الشيخ ابن نما ان الحر لما أخرجه ابن زياد إلى الحسين وخرج من القصر ، نودى من خلفه ابشر يا حر بالجنة ، قال فالتفت فلم ير احداً فقال في نفسه ما هذه


(83)
البشارة وأنا أسير إلى حرب الحسين ، وما كان يحدث نفسه في الجنة ، فلما صار مع الحسين ، قصَّ عليه الخبر ، فقال له الحسين. لقد أصبت أجراً وخيراً ( روى ) ابو مخنف عن عبدالله بن سليم والمنذر ابن المشمعل الاسديين ، قالا كنا نساير الحسين فنزل شراف وأمر فتيانه باستقاء الماء والاكثار منه ، ثم ساروا صباحاً ، فرسموا (1) صدر يومهم حتى انتصف النهار فكبّر رجل منهم ، فقال الحسين : الله اكبر لِمَ كبرت قال رأيت النخل ( قالا ) فقلنا ان هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ، قال فما تريانه رأى ، قلنا رأى هوادى الخيل ، فقال وانا والله ارى ذلك.
    ثم قال الحسين : أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ، قلنا بلى هذا ذو حسم (2) عن يسارك تميل اليه فان سبقت القوم ، فهو كما تريد فأخذ ذات اليسار ، فما كان بأسرع من أن طلعت وهوادي الخيل (3) فتبيناها فعدلنا عنهم فعدلوا معنا : كأن أسنتهم اليعـاسيب (4) وكأن راياتهم اجنحة الطير ، فسبقناهم إلى ذي حسم ، فضربت أبنية الحسين (ع) ، وجاء القوم فاذا الحر في ألف فارس فوقف مقابل الحسين في حرّ الظهيرة والحسين (ع) واصحابه معتمون متقلدوا أسيافهم ، فقال الحسين لفتيانه اسقوا القوم ورشّفوا الخيل ، فلما سقوهم ورشفوا خيولهم ، حضرت الصلوة. فأمر الحسين الحجاج ابن مسروق الجعفي. وكان معه أن يؤذن فأذّن وحضرت الاقامة فخرج الحسين في أزار وردآء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال ايها الناس انها معذرة إلى الله واليكم اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم
1 ـ رسموا : اي ساروا الرسيم ، وهو نوع من السير معروف.
2 ـ جبل معروف.
3 ـ هوادي الخيل : أوائلها واعناقها.
4 ـ جمع يعسوب : النحل.


(84)
إلى آخر ما قال فسكتوا عنه فقال للمؤذن اقم فأقام ، فقال الحسين للحر أتريد أن تصلي بأصحابك قال لا بل بصلوتك فصلى بهم الحسين ثم دخل مضربه واجتمع اليه أصحابه ، ودخل الحر خيمة نصبت له واجتمع عليه أصحابه ، ثم عادوا إلى مصافهم فأخذ كل بعنان دابته ، وجلس في ظلها فلما كان وقت العصر امر الحسين بالتهيؤ للرحيل ؟ ونادى بالعصر وصلى بالقوم ثم انفتل من صلواته واقبل بوجهه على القوم فحمد الله واثنى عليه ، وقال ايها الناس ( اني لم آتكم حتى اتتني كتبكم ورسلكم فان كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما اطمأن به من عهودكم ومواثيقكم وان كنتم على غير ذلك انصرفت إلى المكان الذي جئت منه فقال الحر إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر ، فقال الحسين يا عقبة بن سمعان اخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم الىَّ فأخرج خرجين مملوين صحفا فنشرها بين ايديهم ، فقال الحر فانا لسنا من هؤلاء اللذين كتبوا اليك وقد أُمرنا اذا نحن لقيناك ان لا نفارقك حتى نقدمك على عبيدالله ، فقال الحسين الموت ادنى اليك من ذلك ، ثم قال لاصحابه اركبوا فركبوا ، وانتظروا حتى ركبت النساء ، فقال انصرفوا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف فقال الحسين للحر ثكلتك امك ما تريد ، قال اما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحالة التي انت عليها ما تركت امه بالثكل ان اقوله كائنا ما كان ، ولكن والله ما لي الى ذكر امك من سبيل الا بأحسن ما نقدر عليه ، فقال الحسين فما تريد ، قال اريد ان انطلق بك إلى عبيدالله ، فقال اذن لا اتبعك ، قال الحر اذن لا ادعك ؟ فترادا الكلام ثلث مرات ، ثم قال الحر اني لم اؤمر بقتالك ، وانما امرت أن لا افارقك حتى اقدمك الكوفة فان ابيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة تكون بيني و بينك نصفا حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب إلى يزيد ان شئت ، او إلى ابن زياد ان شئت فلعل الله إن


(85)
يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من امرك ، ( قال ) فتياسر عن طريق العذيب والقادسية وبينه وبين العذيب ثمانية وثلثون ميلاً وسار والحر يسايره حتى اذا كان بالبيضة (1) ، خطب اصحابه ثم ركب فسايره الحر ، وقال له اذكرك الله يا أبا عبدالله في نفسك فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن ولئن فوتلت لتهلكن فيما أرى فقال له الحسين أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب ان تقتلوني ما ادرى ما أقول لك ولكني اقول كما قال اخو الاوس لابن عمه حين لقيه وهو يريد نصرة رسول الله (ص) قال له اين تذهب فانك مقتول ؛ فقال :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى وآسـي الرجال الصالحيـن بنفـسه أقـدم نفسـي لا اريـد لقاءهـا فإن عشت لم اندم وإن مت لم الـم إذا ما نـوى حقا وجاهد مسلما وفارق مثبوراً (2) وباعد مجرما لتلقى خميساً في الهياج عرمرما كفى بك عاراً ان تلام وتندمـا
    فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات ، فاذا هم باربعة نفر يجنبون فرساً لنافع بن هلال ويدلهم الطرماح بن عدي ، فاتوا إلى الحسين (ع) وسلموا عليه فأقبل الحر ، وقال إن هؤلاء النفر الذين جائوا من اهل الكوفة ليسوا ممن اقبل معك ، وانا حابسهم أورادهم ، فقال الحسين (ع) لامنعهم مما أمنع منه نفسي انما هؤلاء انصاري واعواني ، وقد كنت اعطيتني ان لا تعرض لي بشيء حتى يأتيك جواب عبيدالله ، فقال اجل لكن لم يأتوا معك ، قال هم أصحابي وهم بمنزلة من جاء معي ، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك قال فكف عنهم الحر ، ثم ارتحل الحسين (ع) من قصر بني مقاتل ، فأخذ يتياسر والحر يرده ، فاذا راكب على
1 ـ البيضة بكسر الباء ما بين واقصة الي والعذيب.
2 ـ الثبر : اللعن


(86)
نجيب له وعليه السلاح فتنكب قوساً مقبل من الكوفة فوقفوا ينتظرونه جميعاً فلما انتهى اليهم سلم على الحر وترك الحسين فإذا هو مالك بن النسر البدى من كندة فدفع إلى الحر كتاباً من عبيدالله ، فاذا فيه ، اما بعد فجعجع بالحسين (ع) حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام. فلما قرأ الكتاب جاء به الى الحسين (ع) و معه الرسول ، فقال هذا كتاب الأمير يأمرني أن أُجعجع بكم في المكان الذي يأتني فيه كتابه ، وهذا رسوله قد أمره ان لا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره ، وأخذكم بالنزول في ذلك المكان ، فقال له دعنا ننزل في هذه القرية أو هذه أو هذه يعنى نينوى والغاضرية وشفيّة فقال والله لا استطيع ذلك هذا الرجل بعث عليّ عينا ، فنزلوا هناك ( قال ) ابو مخنف لما اجتمعت الجيوش بكربلاء لقتال الحسين جعل عمر بن سعد على ربع المدينة عبدالله بن زهير بن سليم الازدي ، وعلى ربع مذحج واسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث ، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد ، وعلى الميمنة عمرو ابن الحجاج ، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن ، وعلى الخيل عزرة ابن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي ، واعطى الراية مولاه دريدا فشهد هؤلاء كلهم قتال الحسين ، إلا الحر فانه عدل اليه وقتل معه ( قال ) ابو مخنف : ثم ان الحر لما زحف عمر بن سعد بالجيوش ، قال له اصلحك الله امقاتل أنت هذا الرجل ، فقال اي والله قتالا ايسره أن تسقط الرؤوس ، وتقطع الايدي ، قال افمالك في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا ، فقال اما والله لو كان الأمر إليّ لفعلت. ولكن اميرك قد ابى ، فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفاً ومعه قرة بين قيس الرياحي فقال يا قرة هل سقيت فرسك اليوم


(87)
قال لا ، قال اما تريد ان تسقيه ، قال فظننت والله انه يريد ان يتنحى فلا يشهد القتال ، وكره ان اراه حين يصنع ذلك فيخاف ان ارفعه عليه ، فقلت انا منطلق فساقيه ، قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو اطلعني على الذي يريد لخرجت معه ، قال : فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً ، فقال له المهاجر بن اوس الرياحي ، ماتريد يا بن يزيد ، اتريد أن تحمل ، فسكت وأخذه مثل العرواء (1) : فقال له يا بن يزيد ، ان أمرك لمريب وما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن ، ولو قيل لي من اشجع اهل الكوفة رجلاً ما عدوتك فما هذا الذي أرى منك ، قال اني والله اخير نفسي بين الجنة والنار ، ووالله لا أختار على الجنة شيئأ ، ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه ولحق بالحسين ، فلما دنا منهم ، قلب ترسه فتالوا مستأمن ، حتى اذا عرفوه ، سلم على الحسين ، وقال جعلني الله فداك يابن رسول الله انا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا اله إلا هو ، ما ظننت ان القوم يردون عليك ما عرضت عليهم ابدا ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة ، فقلت في نفسي لا ابالي ان اصانع القوم في بعض أمرهم و لا يظنون اني خرجت من طاعتهم واما هم فسيقبلون من الحسين هذه الخصال التي يعرض عليهم ، ووالله ان لو ظننتهم لا يقبلونها منك ، ما ركبتها منك واني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي ، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك ، افترى لي توبة ، قال نعم ، يتوب الله عليك و يغفر لك ، فانزل. قال : انا لك فارساً خير مني راجلا. اقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، قال فاصنع ما بدا لك ، فاستقدم امام اصحابه ، ثم قال ايها القوم اما تقبلون من حسين هذه الخصال التي عرض عليكم ،
1 ـ العروآء بالعين المضمونة والراء المهملة المفتوحة : قوة الحمي ورعدتها.

(88)
فيعافيكم الله من حربه ، قالوا فكلم الأمير عمر ، فكلمه بما قال له من قبل وقال لأصحابه ، فقال عمر : قد حرصت ، ولو وجدت إلى ذلك سبيلاً فعلت فالتفت الحر إلى القوم وقال : يا أهل الكوفة ، لامكم الهبل والعبر (1) دعوتم ابن رسول الله (ص) ، حتى إذا أتاكم اسلمتموه ؟ وزعمتم انكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه امستكم بنفسه ، وأخذتم بكظمه. و أحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة. حتى يأمن ويامن أهل بيته ، فأصبح في ايديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا ، حلأتموه ونسائه وصبيته واصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والنصراني. وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه ، فها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا (ص) في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ ان لم تتوبوا وتنزعوا عما انتم عليه ، من يومكم هذا ، في ساعتكم هذه. فحملت عليه رجال ، ترميه بالنبل ، فأقبل حتى وقف إمام الحسين (ع) ( وروى ) ابو مخنف أن يزيد بن سفيان الثغري من بني الحرث بن تميم ، كان قال : اما والله لو رأيت الحر ، حين خرج ، لاتبعته السنان. قال : فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدما ، ويتمثل بقوله عنترة :
ما زلت ارميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم
    وان فرسه لمضروب من اذنيه وحاجبيه ، وان دمائه لتسيل ، فقال الحصين بن تميم التميمي ليزيد بن سفيان ، هذا الحر الذي كنت تتمنى ، قال نعم وخرج اليه فقال له هل لك يا حر في المبارزة ، قال نعم قد شئت فبرز له قال الحصين ، وكنت انظر اليه فوالله لكان نفسه كانت في يد الحر ، خرج اليه فما لبث أن قتله ، ( وروى )
1 ـ العبر كصبر بمعنى الثكل

(89)
ابو مخنف عن ايوب بن مشرح الخيواني انه كان يقول جال الحر على فرسه ، فرميته بسهم. فحشاته فرسه فما لبث إذ أُرعد الفرس واضطرب وكبا ، فوثب عنه الحر ، كأنه ليث والسيف في يده ، وهو يقول :
ان تعقروا بي فأنا ابن الحر أشجع من ذي لبد هزبر
    ( قال ) فما رأيت أحد قط يفرى فريه ( قال ) ابو مخنف ولما قتل حبيب أخذ الحر يقاتل راجلاً وهو يقول :
آلـيتُ لا أقـتل حـتى أقـتلا أضربهم بالسيف ضربا مفصلا ولن أصاب اليوم إلّا مقبلا لا ناكلاً فيهم ولا مهلـلا
    ويضرب فيهم ويقول :
اني انا الحر ومأوى الضيف اضرب في اعراضكم بالسيف
عن خير من حلّ بأرض الخيف
    ثم أخذ يقاتل هو وزهير قتالاً شديداً ، فكان إذا شد احدهما واستلحم : شد الآخر حتى يخلصه ، ففعلا ذلك ساعة ، ثم شدت جماعة على الحر ، فقتلوه. فلما صرع وقف عليه الحسين عليه السلام ، وقال له انت كما سمتك امك الحر ، حر في الدنيا وسعيد في الآخرة ، وفيه يقول عبيدالله بن عمرو الكندي البدى :
سعيد بن عبدالله لا تنسينّه ولا الحر اذ آسى زهيراً على قسر
    أقول و كان الحر أول من قتل من أصحاب الحسين (ع) في المبارزة.


(90)
    واما الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، صاحب الأبيات ، قتل يوم الحرة مع عسكر أهل المدينة في ذي الحجة سنة 63 ، قال الطبري في تاريخه ان الفضل جاء الى عبدالله بن حنظلة الغسيل فقاتل في نحو من عشرين فارساً قتالاً شديداً حسناً ، ثم قال لعبدالله مُر من معك فارسا فليأتني فليقف معي فاذا حملت فليحملوا فوالله لا انتهي حتى ابلغ مسلماً فاما ان اقتله وإما ان أقتل دونه ، فقال عبدالله بن حنظله لرجل ناد في الخيل فلتقف مع الفضل ابن العباس فنادى فيهم فجمعهم إلى الفضل فلما اجتمعت الخيل اليه حمل على أهل الشام فانكشفوا ، فقال لأصحابه الا ترونهم كشفا لئاما احملوا اخرى جعلت فداكم فوالله لئن عاينت اميرهم لاقتلنه أو لاقتلن دونه إن صبر ساعة معقب سرورا انه ليس بعد الصبر إلا النصر ، ثم حمل وحمل أصحابه معه فانفرجت خيل أهل الشام عن مسلم بن عقبة ، وبقي في نحو من خمسمائة راجل جثاة على الركب مشرعي الأسنة نحو القوم ومضى كما هو نحو رايته حتى يضرب رأس صاحب الراية وإن عليه لمغفراً فقط المغفر وفلق هامته فخر ميتاً ، فقال خذها واناابن عبد المطلب فظن انه قتل مسلما ، فقال قتلت طاغية القوم ورب الكعبة ، فما قتل مسلم وانما كان ذلك غلاماً له يقال له رومي وكان شجاعاً فأخذ مسلم رايته وانبّ اهل الشام وحرضهم وتهددهم وشدت تلك الرجالة امام الراية فصرع الفضل بن عباس فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبة إلا نحو من عشرة اذرع وفي رواية ان مسرف بن عقبة كان مريضاً يوم القتال وانه أمر بسرير وكرسي فوضع بين الصفين وقال يا أهل الشام قاتلوا عن أميركم أو دعوا ، ثم زحفوا نحوهم فحمل الفضل بن العباس بن ربيعة هو واصحابه حتى انتهى إلى السرير فوثبوا اليه فطعنوه حتى سقط.
ادب الطف الجزء الاول ::: فهرس