ادب الطف الجزء الاول ::: 241 ـ 255
(241)
( كامل الزيارة ) ص 261 : ان علي بن الحسين لما نظر الى اهله مجزرين وبينهم مهجة الزهراء بحالةِ تذيب القلوب ، اشتد قلقه ، فلما تبيّنت ذلك منه زينب أخذت تصبره قائلة :
    مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ، فوالله إن هذا لعهدُ من الله الى جدك وابيك ، ولقد أخذ الله ميثاق اناس لا تعرفهم فراعنة هذه الارض وهم معروفون في اهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الاعضاء المقطعة والجسوم المضرّجة فيوارونها ، وينصبون بهذا الطف عَلَماً لقبر أبيك سيد الشهداء لايدرس أثره و لا يمحي رسمه على كرور الليالي والايام ، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا عُلوّاً.
    هذا هو الايمان الصادق ، وهذا هو السرّ الذي أخبرت به الحوراء عن عقيدة راسخة مستمد من ينبوع النبوة و فيض الامامة أتراها كيف تخبره متحققة ما تقول وتوكد قولها بالقسم إذ تقول : فوالله إنّ هذا لعهد من الله. ثم افتكر في مدى علمها و قابليّتها لتقّبل هذه الاسرار التي لا تستودع إلا عند الاوصياء والأبدال ولا تكون إلا عند من امتحن الله قلبه للإيمان. وهكذا كانت ابنة علي كلما عضّها الدهر بويلاته ولجّ بها المصاب انفجرت كالبركان تخبر عن مكنونات النبوة واسرار الإمامة ، اقول ومن هذا الحديث ترويه أمّ أيمن وهو من أصح الاخبار سنداً ، كما ورد على لسان ميثم التمار في حديث جبلّة المكيّة : إعلمي يا جبلّة ان الحسين بن علي سيد الشهداء يوم القيامة ، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة وورد على لسان زين العابدين كما في ـ الكامل لإبن قولية ص 268 قال : تزهر أرض كربلاء يوم القيامة كالكوكب


(242)
الدري ، وتنادي انا ارض الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنتُ سيد الشهداء وسيد شباب اهل الجنة.
    وزينب هي عقيلة بني هاشم. ولّدها هاشم مرتين ، وما ولد هاشم مرتين من قبلها سوى امّ هاني ـ اخت امير المؤمنين ، وهي اول هاشمية من هاشميين. و العقيلة عند العرب وان كانت هي المخدرة الكريمة لكن تخدّر زينب لم يشابهه تخدر امرأة. قال ابو الفرج : العقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك فقال : حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي. وكانت ثانية امها الزهراء في العبادة ، وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها حتى ان الحسين عليه السلام عندما ودع عياله وداعه الاخير يوم عاشوراء قال لها : يا اختاه لا تنسيني في نافلة الليل كما ذكر ذلك البيرجندي وهو مدوّن في كتب السير.
    وكانت كما قال لها الإمام السجاد : انتِ يا عمّة عالمة غير معلّمة ، وفهّمة غير مفهمة واما الصبر فقد بلغت فيه ابعد غاياته وانتهت فيه الى أعلا درجاته فانها لما سقط الحسين يوم عاشوراء خرجت من الفسطاط حتى انتهت اليه ، قال بعض أرباب المقاتل : انها لما وقفت على جسد الحسين قالت : اللهم تقبّل منا هذا القربان. ونقل صاحب الخصائص الحسينية أنها كانت قد وطنت نفسها عند احراق الخيم ان تقّر في الخيمة مع النسوة ، إن كانت الله شاء إحراقهنَّ كما شاء قتل رجالهن ، ولذلك قالت لزين العابدين عند اضطرام النار : يا بن اخي ما نصنع ، مستفهمة منه مشيئة الله فيهنَّ ، وإلا فمن يرى النار يهرب منها بالطبع ولا يستشير فيما يصنع.
    قال الشيخ المامقاني في ( تنقيح المقال ) : زينب في الصبر والتقوى


(243)
وقوة الايمان والثبات وحيدة ، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنها تفرغ عن امير المؤمنين كما لايخفى على من أنعم النظر في خطبتها ، ولو قلنا بعصمتها لم يكن لاحد إن ينكر أن كان عارفاً باحوالها في الطف وما بعده ، كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين مقداراً من ثقل الإمامة أيام مرض السجاد ، وما أوصى اليها بجملة من وصاياه ، ولما أنابها السجاد عليه السلام نيابة خاصة في بيان الاحكام وجملة اخرى من آثار الولاية ... الى ان قال ... وعمرها حين توفيت دون الستين.
    وقال الطبرسي : إنها روت اخباراً كثيرة عن امها الزهراء ، وروى أنها كانت شديدة المحبة بالنسبة الى الحسين من صغرها ، اقول كأن وحدة الهدف ونبل الغاية والمقصد وكبر النفس جعلت منهما أليفين عظيمين لذلك شاطرته النهضة وشاركته في ثورته المباركة ، وعندما دخلت الكوفة ورأت تلك الجماهير كالسيل يدفع بعضها البعض واذا بابنة علي بمجرد أن أومأت الى الناس أن اسكتوا ، ارتدّت الانفاس وسكنت الاجراس.
    توافرت الروايات عن حذلم بن كثير ، قال : قدمت الكوفة في المحرم سنة احدى وستين عند منصرف علي بن الحسين والسبايا من كربلاء ومعهم الاجناد يحيطون بهم ، وقد خرج الناس للنظر اليهم فلما اقبل بهم على الجمال بغير وطاء خرجن النسوة اهل الكوفة يبكين وينشدن.
    وذكر الجاحظ في ( البيان والتبيين ) عن خزيمة الاسدي قال : ورأيت نساء اهل الكوفة يومئذ قياماً يندبن مهنكات الجيوب. قال حذلم بن كثير : فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت ضعيف ـ وقد انهكته العلة ، والجامعة في عنقه : إن هؤلاء النسوة يبكين إذن فمن قتلنا.


(244)
    قال : ورأيت زينب بنت علي ولم أر خفرةً أنطق منها ، كأنها تفرغ عن لسان امير المؤمنين. قال : أومأت الى الناس أن اسكتوا. فارتدت الانفاس وسكنت الاصوات فقالت :
    الحمد لله والصلاة على محمد وآله الطيبين الاخيار ، اما بعد يا اهل الكوفة يا اهل الختر والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا ، تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ، الا وهل فيكم الا الصلف والنطف (1) والكذب والشنف (2) وملق الاماء وغمز الاعداء أو كـمرعى على دمنة (3) او كقصة (4) على ملحودة ، ألا ساء ما قدّمت لكم انفسكم سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون ، أتبكون و تنتحبون اي والله فاكبوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم. ومنار محجتكم. وقدرة سنتكم ، ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقا. فلقد خاب السعي وتبّت الايدي ، وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة ، ويلكم يا اهل الكوفة أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم. وأيّ كريمة له أبرزتم ، وأيّ دم له سفكتم ، و اي حرمة له انتهكتم ، ولقد جئتم بها صلعاء (5) عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء
1 ـ الصلف : الادعاء تكبراً ، والنطف : التلطخ بالعيب.
2 ـ الشنف : بالتحريك البغض والتنكر.
3 ـ الدمنة : المكان الذي تدمن به الابل والغنم فيكثر البول والبعر.
4 ـ القصة بالفتح : بناية مجصصة على القبر.
5 ـ الصلعاء : الداهية وما بعد صفات له بالقبح والشدة.


(245)
شوهاء كطلاع الارض (1) أو ملأ السماء ، افعجبتم إن أمطرت السماء دماً ولعذاب الآخره اخزى وانتم لا تنظرون ، فلا يستخفنكم المهل فانه لا يحفزه (2) البدار ، ولا يخاف قوت الثار وإن ربكم لبالمرصاد.
    قال الراوي : فوالله لقد رأيتُ الناس يومئذ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم على أفواههم ، ورأيتُ شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلّت لحيته بالدموع وهو يقول : بأبي انتم وامي. كهولكم خير الكهول ، وشبانكم خير شبان ، ونساؤكم خير نساء ، ونسلكم خير نسل ، لا يُخزى ولا يُبزى (3) ثم انشد :
كهولكم خير الكهول ونسلكم إذا عُدَّ ُنسلُ لا يبور ولا يُخزى
    وهذا حذلم بن كثير من فصحاء العرب أخذه العجب من فصاحة زينب وبلاغتها وأخذته الدهشه من براعتها وشجاعتها الابية.
    ولما أدخلت السبايا على ابن زياد في قصر الإمارة بالكوفة وقد غصّ القصر بالناس إذ أن الرواية تقول : وأذن للناس إذناً عاماً ، ووضع ابن زياد رأس الحسين بين يديه وأدخلت عليه نساء الحسين وصبيانه ودخلت زينب اخت الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ومضت حتى جلست ناحيةً وحفت بها إماؤها ، فقال ابن زياد : من هذه المتنكّرة فلم تُجبه ترفُعاً عن مخاطبته حتى قال له بعض
1 ـ طلاع الارض : ملؤها.
2 ـ الحفز : الحت والاعجال.
3 ـ لا يبزي : اي لا يغلب ولا يقهر.


(246)
إمائها : هذه زينب بنت علي. فاقبل اللعين قائلاً متشفياً شامتاً :
    كيف رأيتِ صنع الله بأخيك الحسين. قالت بما يكشف له أنها غير مبالية ولا متفجّعة : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كُتب عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم فانظر لمن الفلح ثكلتك امك يا بن مرجانة.
    فكان هذا الكلام أشق عليه من رمي السهام وضرب الحسام ولهذا اغضبه حتى همّ أن يشفي غيظه بضربه لها ، فقام والسوط بيده فقام عمرو بن حريث وقال : يا امير إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها ، قال أما تراها حيث تجرأت عليَّ ، قال : لا تلم زينب يرى ابن زياد انه القانط على العراق بيد من حديد والناس تناديه : يا أمير واذا بالمرأة الاسيرة تقول له : يا بن مرجانة.
    اما خطبتها بالشام في البلاط الاموي تلك الخطبة البليغة والمملؤة شجاعة وحماسة وقوة ورصانة واحتجاجا وادلة بذلك المجلس المكتظ بمختلف الناس وجماهير الوافدين رواها ابن طيفور في ( بلاغات النساء ) ص 21 وروراها الشيخ الصدوق وغيره من ارباب التاريخ قالوا :
    لما ادخل علي بن الحسين عليه السلام وحرمه على يزيد وجيء برأس الحسين ووضع بين يديه في طشت وجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده ، وهو يتمثل بابيات ابن الزبعري المشرك :
يا غراب البين ما شئت فقل ليت اشياخـي ببدر شـهدوا لأهـلّوا و اسـتهلـوا فرحاً إنما تذكـر شيـئاً قد فـعلْ جزع الخزرج من وقع الاسل ثم قالوا يـا يـزيد لا تشـل


(247)
لعبـت هاشـم بالمـلك فلا لستُ من خندف إن لم أنتقم قد قتلنا القرم من سـاداتهم وأخذنا مـن عـلي ثارنـا خبرُ جاء ولا وحـيُ نزل من بني احمـد ما كان فعل وعدلنا مَيـلَ بدر فـاعتدل وقتلنا الفارس الشـهمَ البطل (1)
    فقامت زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة بنت رسول الله صلي الله وعليه واله وقالت :
    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله محمد وآله اجمعين ، صدق الله سبحانه حيث يقول : « ثم كان عاقبة الذين أساؤا السو أي أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزأون » أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أٌقطار الارض وآفاق السماء (2) فاصبحنا نُساق كما تساق الإماء ، أن بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة ، وان ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمختَ بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضربُ أصدريك فرحاً ، وتنفض مذرويك مرحاً (3) ، جذلان مسروراً حين رأيت الدينا لك مستوسقة (4) والامور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا (5) فمهلاً مهلاً ، لا تطش جهلاً ، أنسيتَ قول الله تعالى « ولا يحسبنّ الذين
1 ـ ذكر ابن هشام في ( السيرة النبوية ) قصيدة ابن الزبعري بكاملها.
2 ـ تريد عليها السلام بهذا القول : أنك ملأت الارض بالخيل والرجال والفضاء بالرايات وضيقت الارض العريضة علينا. كما يقول شاعر الحسين :
بجمع من الارض سد الفروج وطا الوحش إذا لم يجد مهرباً وغطا النجود وغيطانها ولازمت الطير أوكانهـا
3 ـ تضرب أصدريك : اي منكبيك ، وتنفض مذرويك : المذروان جانبا الاليتين. يقال : جاء فلان ينفض مذرويه : اذا جاء باغياً يتهدد.
4 ـ مستوسقة : مجتمعة. ومتسقة : منتظمة.
5 ـ تقول عليها السلام ان الملك ملكنا والسلطان لنا من جدنا الرسول (ص).


(248)
كفروا أنـما نُملي لهم خيرُ لأنفسهم إنما نُملى لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين » (1).
    أمن العدل يا بن الطلقاء (2) تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا. قد هُتكت ستورهن ، وأبديت وجوههنَّ ، وصحلت (3) أصواتهنّ ، تحدو بهنّ الاعداء من بلد الى بلد ، ويستشرفهنّ اهل المناهل والمناقل ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد. والشريف و الدني ، ليس معهن من رجالهن وليّ ولا من حماتهن حمي ، وكيف ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الاذكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء (4) وكيف يستبطاً في بغضنا اهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنآن (5) والإحن والاضغان ، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم داعياً باشياخك ـ ليت اشياخي ببدر شهدوا ـ منحنياً على ثنايا ابي عبد الله سيد شباب اهل الجنة تنكتها بمخصرتك (6) وكيف لا تقول
1 ـ سورة آل عمران ـ 178.
2 ـ الطلقاء هم ابو سفيان ومعاوية وآل امية الذين اطلقهم رسول الله (ص) عام الفتح اذ قال : اذهبوا فانتم الطلقاء. وبهذا صاروا عبيداً لرسول الله هم وذراريهم.
3 ـ صحلت : بحت يقال ، صحل صوته : بح وخشن.
4 ـ اشارة الى ما فعلته هند ام معاوية يوم احد حيت شقت بطن الحمزة بن عبد المطلب وهو قتيل واستخرجت كبده فلاكتها باسنانها ثم جعلت من اصابع يديه ورجليه ، معضدين وقلادة وخلخالين.
5 ـ الشنآن : البغض والحقد ، تقول عليها السلام. ان بذرة الحقد لم تزل متمكنة من نفوسكم يا بني أمية ، واعظم ما شق عليكم واثر في نفوسكم ان شرف النبوة في هذا البيت الطاهر كما قيل :
عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم فابن حرب للمصطفى ، وابن هند حرباً يشيب منها الوليد لعلي ، وللحـسين يزيد
6 ـ المخصرة بكسر الميم كالسوط.


(249)
ذلك وقد نكأت القرحة (1) واستأصلت الشأفة (2) بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ونجوم الارض من آل عبد المطلب. أتهتف باشياخك. زعمت انك تناديهم فلتردنّ وشيكاً (3) موردهم ، ولتودنّ أنك شللت وبكمتَ ولم تكن قلت ما قلت وفعلتَ ما فعلت ، اللهم خُذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا. واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
    فوالله يا يزيد ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ، ولتردن على رسول الله بما تحملت من سفك دماء ذرّيته وانتهكتَ من حرمته في عترته ولحمته حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم « ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون » (4) وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى الله عليه و آله خصيما ، وبجبريل ظهيراً.
    و سيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا (5) وأيّكم شرَّ مكاناً وأضعف جندا. ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك (6) إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك. لكن العيون عبرى والصدور حرّى ، ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء. وهذه الايدي تَنْطِفُ من
1 ـ نكأت القرحة : اي وسعت مكانا جرحها.
2 ـ الشأفة : قرحة تخرج في اسفل القدم فتكوى وتذهب ، ويقال ، استأصل الله شأفته ، اذهبها كما تذهب تلك القرحة.
3 ـ وشيكاً : قريباً.
4 ـ آل عمران ـ 169.
5 ـ الكهف ـ 50.
6 ـ الدواهي جمع داهية : هي النازلة الشديدة تنزل بالانسان.


(250)
دمائنا (1) والافواهُ تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطـواهر الزواكي تنتابها العواسل (2) وتعفّرها أمهاتُ الفراعل (3). ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدننا وشيكاً مغرماً حين لا تدل إلا ما قدّمت يداك وما ربك بظلاّم للعبيد. فالى الله المشتكى ، وعليه المعّول ، فكد كيدك. واسع سعيك ، وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا (4) ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند (5) وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله رب العالمين. الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ونسآل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    فقال يزيد :
ياصيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح
    أرأيت ابنة علي وموقفها الذي تعجز عنه أبطال الرجال .. تأمل في كلامها الطافح بالعزة والإباء. والمملوء جرأة وإقداما ، والمشحون بالابهة والعظمة ، بعدم المبالاة بكل ما مرّ عليها من المصائب والنوائب
1 ـ تنطف : اي تقطر.
2 ـ العواسل : الذئاب.
3 ـ الفراعل : ولد الضبع.
4 ـ تقول عليها السلام انك بقتلك للحسين قد قضيت على اسمه فهيهات لا تمحو ذكرنا ، ولقد صدقت ربيبة الوحي فهذه الآثار الباقية لأهل البيت والثناء العاطر ، وهذه قبابهم المقدسة مطافاً لعامة المسلمين ، يبتهلون الى الله في مشاهدهم :
    السلام عليكم يا اهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وخزان العلم ومنتهى الحلم واصول الكرم ، وقادة الامم الى آخر الزيارة.
5 ـ الفند : الكذب.


(251)
لكأن نفس أخيها بين جنبيها ولسان أبيها بين فكّيها ، إنها بكل شجاعة تفرغ بليغ الخطاب غير مقحمة ولا متعلثمة فبخ بخ ذرية بعضها من بعض.
    وان اختلاف الروايات في كون دفنها في الشام أو مصر أو البقيع يعود الى عظمة شخصيتها ، فكل من هذه البلاد الثلاثة كانت تتجاذب رواية دفنها فيها وتوكدها عندها لتجذب اليها انظار العالم الاسلامي ، وان النفع الذي يتحقق لبلد الشام ـ اليوم ـ من وجود مشهد الحوراء زينب هو نفع اقتصادي ، إن عشرات الالوف من الزائرين الذين يقصدونها من مختلف الاقطار القريبة والبعيدة يدرّ على البلد بربح طيب وما زال العمران ومنذ اكثر من عشرة سنوات وحتى يومنا هذا يسعف اليد العاملة في البلد.
    نشرت مجلة ( الغري ) النجفية في سنتها 15 تحت عنوان القفص الذهبي فقالت : أهدى أغنى أغنياء الباكستان السيد محمد علي حبيب قفصاً ذهبياً للسيدة زينب بنت الامام علي بن ابي طالب ، وكان السبب الوحيد لاهداء هذا القفص هو أنه كان له ولد مصاب بمرض مزمن وقد عجز أطباء العالم عن معالجته فأيس من شفائه ، فتضرع الى الله تعالى وتوسل بحفيدة النبي زينب الكبرى فقصد الشام لزيارة قبرها وبات ليلته في حضرتها متضرعاً الى الله في شفاء ولده ثم سافر الى بلده ، وحين وصوله شاهد ولده معافى بتمام الصحة من المرض الذي الّم به ، وهذه احدى كرامات الطاهرة زينب.
    ثم روت مجلة الغري عن جريدة ( الزمان ) الدمشقية الخبر التالي : تصل خلال الايام القادمة الهدية الثمينة ، وهي عبارة عن كسوة من الفضة المذهبة لضريح السيدة زينب عليها السلام حفيدة الرسول الاعظم.


(252)
ـ ثم تعطي الجريدة المذكورة صورة عن الاحتفال في كراتشي بهذا الضريح ـ تقول : وقد سبقت للهدية قصة عجيبة اذ أنّ للسيد محمد علي حبيب نجلُ واحد أصيب بالشلل وعالجه ابوه في مستشفيات اوربا ولدى أمهر أطبائها ولكن المشلول لم يشفى ، ومنذ عامين في طريق عودة الوالد من احدى جولاته في اروبا مر في دمشق وزار قبر السيدة زينب وقضى ليلة في باحة الضريح وأخذ يبتهل الى الله أن يشفى ابنه الوحيد ، وفي الصباح غادر المكان وقد علق بذهنه تاريخ تلك الليلة التي قضاها الى جانب حفيدة الرسول الكريم ، وعند وصوله الى كراتشي كان اهله في استقباله ، وكان أول سؤاله عن ابنه المشلول المقعد ، ولشدة ما كانت دهشته عظمية عندما قالوا له : انه شفي ، وانه يقضي دورة النقاهة في ضاحية من ضواحي العاصمة.
    واستمع الرجل الى القصة من أولها فاذا هم يقولون : ان الولد المقعد شعر ذات ليلة وهي نفس الليلة التي قضاها ابوه في جوار ضريح السيدة زينب. شعر الابن بالقوة في قدميه فحركها ثم حاول ان يهبط من سريره الى الارض ليقف على قدميه ونادى امه والخدم وسار بمعونتهم ، وكان فزع الام بالغاً أشده لأن ابنها عاود الكرة في الصباح وأخذ يمشي طيلة النهار ، والتقى الاب بابنه بعد ذلك فرآه يمشي كما يمشي السليم من الناس وشهد فلذة كبده بعينه صحيح الجسم بعد أن عجز أطباء العالم عن شفائه ، وأيقن ان الشفاء نزل في نفس الليلة التي يتوسل فيها الى الله. فاعتزم أن يقدّم للضريح هدية ثمينة تليق بصاحبة الضريح المكرمة.
    اقول ونشرت مجلة العرفان اللبنانية : ان هذا القفص الذهبي يزن 12 طناً ، وهو محلى بالجواهر الكريمة النادرة وقد ارخ وصول الضريح الخطيب المؤرخ الشيخ علي البازي بقوله :


(253)
هذا ضريح زينب قف عـنده ترى الملا طراً وأملاك السما واسـتغـفر الله لكل مذنـبِ أرّخ ( وقوفاً في ضريح زينب )
1370 هـ
    ونشرت مجلة العرفان اللبنانية مجلد 42 ص 923 فقالت :
    أهدت ايران حكومة وشعباً صندوقاً أثرياً من العاج والآبنوس المطعّم بالذهب لضريح السيدة زينب المدفونة في ظاهر الشام ـ قرية راوية ـ وهو من صنع الفنان الايراني الحاج محمد سميع ، وبقي في صنعه ثلاثين شهرا وقد ساهم في نفقاته جلالة شاه ايران وبعض متمولي الشعب ، وقدّر ثمنه بمائتي الف ليرة سورية ، وله عطاء من البلور ، وقد احضرته بعثة ايرانية رسميّة برئاسة ضابط ايراني كبير ، وأُقيمت حفلة كبرى في الصحن الزينبي ترأس الحفلة السيد صبري العسلي رئيس الوزارة السورية وهو الذي أزاح الستار عن الصندوق.


(254)
    علي بن الحسين السجاد (ع) :
    قال بعد قتل ابيه عليه السلام مخاطباً أهل الكوفة :
فلا غَرو من قتل الحسين فشيخه فلا تفرحوا يا أهل كوفـان بالذي قتيل بشط النـهر روحـي فداؤه أبوه علـيُ كان خيراً وأكرما أصاب حسينا كان ذلك أعظما جزاء الذي أراده نار جهـنما (1)
    ولما أُدخل مع السبايا الى الكوفة قال كما رواه الطريحي في المنتخب :
يا امة الـسوء لاسقياً لربعكم لو أننـا ورسول الله يجمعنا تسيرونا على الاقتاب عارية يا امّـةً لم تراعِ جدنا فينا يوم القيامة ما كنتم تقولونا كأننا لم نشيّد فيـكم ديـنا

1 ـ عن ( الرائق ) للسيد احمد العطار الحسني ، الجزء الاول ، مخطوط.

(255)
    الامام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : لـقب بزين العـابدين لزهده وعبادته كما يلقب بالخالص والزاهد والخاشع ، والمتهجد والسجـاد وذي الثفـنات (1). ولد بالمدينة الطيبة يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان أو لتسع خلون منه. وقال الشيخ في المصباح وابن طاووس في الاقبال ان مولده كان في النصف من جمادي الاول وذلك سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين ، اي في خلافة جده أمير المؤمنين بغير خلاف من ذلك ، وكان عمره يوم وقعة الطف بكربلاء ثلاثاً وعشرين سنة ، وبقي بعد أبيه أربعاً وثلاثين سنة على الأشهر ، فتكون ولادته بالتاريخ الميلادي سنة 715 ، قال المفيد في الارشاد : وكان أمير المؤمنين عليه السلام قد ولى حريث بن جابر الحنفي جانباً من المشرق فبعث اليه ببنتي يزدجرد بن شهريار فنحل ابنه الحسين ( شاه زنان ) منهما فاولدها زين العابدين وماتت في نفاسها ، فهي ام ولد (2) ونحل الاخرى محمد بن أبي بكر ، فدلدت له القاسم ، فهما ابنا خالة. وشهد زين العابدين وقعة كربلاء مع أبيه الحسين عليه السلام وحال بين اشتراكه في الحرب مرضه.
    قال الإمام الباقر (ع) : إن أبي ما ذكر لله نعمة إلا سجد ، ولا قرأ آية الا سجد ، ولا وفّق لإصلاح اثنين إلا سجد ، ولا دفع الله عنه كربة إلا سجد ، ولا فرغ من صلاته الا سجد ، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده.
1 ـ جمع ثفنة بالكسر للفاء و هو الاثر الذي يكون في ركب البعير.
2 ـ معنى ام ولد عند العرب هي التي ملكت قهراً بالسيف ، وعند الفقهاء هي المملوكة ، يتزوجها المالك فيجعل عتقها صداقها ويطؤها بملك اليمين وتحمل منه فاذا مات المالك وقد ولدت له اعتقت من نصيب ولدها. وتسميها العرب فتاة ، وجارية ، وامة ، وسرية ، ومملوكة ، وام ولد.
ادب الطف الجزء الاول ::: فهرس