|
|||||||||||||||||||||||||||||||||
(256)
وكان يحمل الجراب ليلاً على ظهره فيتصدق ويقول : إن صدقة السر تظفىء غضب الرب. وعن ابي جعفر الباقر أيضاً قال : إنه يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره فيأتي باباً باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج اليه ويغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه ، فلما مات وجدوه يعول بمائة بيت من أهل المدينة وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه فاذا رأوه تباشروا به وقالوا : جاء صاحب الجراب.
وكانت له جارية تصب الماء على يده فوقع الإبريق عليه فشجّه ، فرفع اليها رأسه فقالت : والكاظمين الغيظ. قال : كظمت غيظي. قالت : والعافين عن الناس. قال : عفوت عنك. قالت : والله يحب المحسنين. قال لها : اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ، وأمر لها بمال تستعين به على حياة الحرية. روى ذلك علي بن عيسى الاربلي في كشف الغمة. وان رجلاً من أهل المدينة وقف عليه وشتمه ، فأراد الوقيعة به غلمانه ، قال لهم دعوه ثم دفع له ثوبه وفيه الف درهم ، فصاح الرجل : أنت ابن رسول الله حقاً (1). ولقيه رجل فسبّه فقال : يا هذا بيني وبين جهنم عقبة ، إن أنا جزتها فما أُبالي بما قلت ، وإن لم أجزها فأنا أكثر مما تقول ، وألقى إلين أموالاً فانصرف خجلاً (2) قال ابن حجر في الصواعق : زين العابدين علي بن الحسين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً و عبادة ، وكان إذا توضأ للصلاة اصفر لونه ، وقيل له في ذلك قال : ألا تدرون بين يدي مَن أقف. 1 ـ روى ذلك الامام الغزالي في كتابه ( التبر المسبوك ) (257)
وروى انه حج على ناقته عشرين حجة فما فزعها بسوط ، وفي رواية اثنتين وعشرين حجة ، ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت : أأطنب أم أختصر ؟ فقيل لها بل اختصري : فقالت : ما أتيته بطعام في نهار قط وما فرشت له فراشاً بليل قط. وجرى ذكره في مجالس عمر بن عبد العزيز فقال : ذهب سراج الدنيا وجمال الاسلام زين العابدين. وكان عليه السلام لا يضرب مملوكاً له ، بل يكتب ذنبه عنده حتى اذا كان شهر رمضان جمعهم و قررهم بذنوبهم وطلب منهم أن يستغفروا الله كما غفر لهم ثم يعتقهم ويجيزهم بجوائز ، اي يقض عليهم الهبات والصلاة ، وما استخدم خادماً فوق حول.
وفي العقد الفريد لابن عبد ربه قال : ووفد الناس عليه في المسجد يلمسون يده محبة للخير وتفاؤلا ، فكأن الرجل يدخل إلى مسجد رسول الله فيراه ، فيذهب اليه من فوره أو بعد صلاته يقبل يده ويضعها على عينيه يتفاءلون ويرجون الخير. وكان إذا انقضى الشتاء تصدق بكسوته. وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله. وأراد الحج فاتخذت له اخته سكينة طعاماً بألف درهم فلما صار بظهر ( الحرّة ) تصدق به على المساكين. ولما كانت وقعة الحرَّة أراد مروان ان يستودع أهله فلم يأموهم احد وتنكر الناس له ـ ومروان من يعرف التأريخ كرهه لأهل البيت ـ إلا الإمام زين العابدين فانه جعل أهل مروان مع عياله ، وجمع اربعمائة ضائنة (1) بحشمهن فضمهن إلى بيته ، حتى قالت واحدة : والله ما عشت بين أبوي كما عشت في كنف ذلك الشريف. وحكى عن ربيع 1 ـ الضائنة : هي المرأة الضعيفة. (258)
الابرار للزمخشري : انه لما وجه يزيد بن معاوية قائده مسلم بن عقبة لاستباحة المدينة المنورة ، ضم علي بن الحسين عليه السلام إلى نفسه أربعمائة ضائنة بحشمهن يعولهن إلى ان تقوض جيش الشام فقالت إمرأة منهن : ماعشت والله بين أبوي بمثل ذلك الشريف.
وروى الحر العاملي في ( الوسائل ) عن عدة الداعي قال : كان زين العابدين (ع) يقبل يده عند الصدقة ، فقيل له في ذلك فقال : إنها تقع في يد الله قبل ان تقع في يد السائل. قال وقال رسول الله : ما تقع صدقة المؤمن في يد السائل حتى تقع في يد الله ، ثم تلا هذه الآية « ألم تعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات ». وكان عليه السلام من أحسن الناس صوتاً بالقرآن. السقاؤن يمرون فيقفون ببابه يستمعون قراءته. قال عمر بن عبد العزيز يوماً ـ و قد قام من عنده علي بن الحسين ـ : من أشرف الناس ، قالوا : أنتم. فقال : كلا ، إن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً ، من أحب الناس أن يكونوا منه ، ولم يحب أن يكون من أحد. واليه يشير أبو الاسود الدؤلي بقوله :
(259)
بين الانسانية و الروحانية
رابع الأئمة الأمجاد علي بن الحسين السجاد هو الإمام بعد أبيه وثبتت إمامته بوجوه الاول أنه افضل الخلق بعد أبيه علماً وعملاً والامامة للافضل دون المفضول ، الثاني ثبوت الإمامة في العترة خاصة بالنظر والخبر عن النبي (ص) وفساد قول من ادعاها لمحمد بن الحنفية لعدم النص عليه فيثبت انها في علي بن الحسين (ع) ، الثالث ورود النص عليه من رسول الله (ص) ومن جده أمير المؤمنين في حياة أبيه ومن وصية أبيه.
(260)
اتفق المخالف والمؤالف على فضل هذا الإمام ، وفي كتب مناقب أهل البيت التي الّفها علماء الفريقين الشيء الكثير من فضائله ، ولقد قال سعيد ابن المسيب من التابعين في جواب قرشي سأله عن حين دخل عليه : هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وقال الزهري : مارأيت قرشيا افضل منه. وقال ابن خلكان : وهو احد الأئمة الاثنى عشر ومن سادات التابعين ، و كان يصلي في اليوم والليلة الف ركعة ، و هذا مبلغ اجتهاده في العبادة. وأما مقاماته. في الزهد والعزوف عن الدنيا والحلم والعلم والبلاغة وحسبه ما أثر عنه فيها من صحيفته التي هي فرقان العابدين والمعجزة الخالدة من معجزات البيان وهي تتلى في المحاريب و مواطن الذكر والفكر كما تتلى آيات القرآن فهي مقامات لم يضارعه بها احد من أهل عصره وما كان محله منها إلا كمحل آبائه المعصومين وسبيله سبيلهم ولا غرو فانه فرع من تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
واما جلالة قدره ومبلغ هيبته في النفوس فينبئك عنها ما رواه غيره واحد من رواة السنة والشيعة متواتراً واليك حديثه وهو ان هشام بن عبد الملك بن مروان لما حج وطاف بالبيت أراد ان يستلم الحجر فلم يقدر لكثرة ازدحام الناس عليه فنصب له منبر وجلس عليه ، وكان معه رؤساء أهل الشام وبينما هو ينظر إلى الناس وإذا بعلي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب سلام الله عليه قد اقبل وهو أحسن الناس وجهاً ، واطيبهم أرجا ، والطفهم شمائلا فطاف بالبيت فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم فقال رجل من اهل الشام من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ، فقال هشام وقد اغتاظ من إجلال الشعب غيره لا أعرفه فقام الفرزدق ـ (1) وقال لكني اعرفه : 1 ـ الفرزدق من أفخر شعراء عصره واجزلهم لفظاً ، وامتنهم مدحاً (261)
ولد في البصرة عام 19 هـ و كانت يومئذٍ حاظرة الأدب والبيان وبعد أن نشأ بها و ترعرع أخذ والده يوحي اليه آيات القريض ويلقنه ما يستحسنه من ديوان العرب ، وهكذا ظل يغذيه حتى انفجرت قريحته وفاضت طلاقة لسانه واتسم بطابع النبوغ والعبقرية ، فقدمه أبوه بعد واقعة الجمل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قائلاً : إن ابني هذا يوشك أن يكون شاعراً مجيداً فقال الإمام عليه السلام : احفظه القرآن فهو خير له. فرسخت هذه النصيحة الغالية في ذهن الفرزدق فقيد رجله وحلف أن لا يفك قيده حتى يحفظ القرآن. وكان الفرزدق عريقاً في المجد والسؤدد كريم المنبت والعنصر ولآبائه وأجداده خصال مشهورة تدل على رفعة قدرهم و علو منزلتهم وابوه غالب المشهور بالسخاء وجده صعصعة الذي فدى المؤدات ونهى عن قتلهن ، وقيل أنه أحى الف مؤدة ، والصحيح ما بيّنه الفرزدق بقوله أحيا جدي إثنين وتسعين مؤدة وفي جده هذا يقول مفتخراً في إحدى قصائده المشهورة.
(262)
ينشد بين يدي الخلفاء والولاة إلا قاعداً ، فدخل على سليمان بن عبد الملك يوماً فأنشده شعراً فخر فيه بآبائه منه قوله :
ومن المشهور ان الفرزدق صادف الحسين عليه السلام في طريقه الى العراق فسلّم عليه وسأله الحسين. والرواية تقول : لقيت الحسين عليه السلام خارجاً من مكة ومعه أسيافة وتراسه ، قال فقلت : لمن هذا القطار ، فقيل للحسين بن علي فاتيته فسلمت عليه وقلت له : اعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب ، بأبي انت وامي يابن رسول الله ما اعجلك على الحج ، فقال لو لم اعجل لأخذت ، ثم قال لي : من انت ، قرت امرؤ من العرب ، فلا والله ما فتشني عن اكثر من ذلك ، ثم قال لي اخبرني عن الناس خلفك ، فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء فقال صدقت لله الامر كل يوم هو في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته والتقوى سيرته ، فقلت له : أجل بلغك الله ما تحب ، (263)
وكفاك ما تحذر ، وسألته عن اشياء من نذور ومناسك فاخبرني بها وحرك راحلته وقال : السلام عليك. ثم افترقنا ووقف الفرزدق وهو شيخ في ظل الكعبة فتعلق باستارها وعاهد الله أن لا يكذب ولا يشتم. ومن شعره في ذلك.
2 ـ الاريب : العاقل. (264)
قال شيخ الحرمين أبو عبد الله القرطبي : لو لم يكن لأبي فراس عند (265)
الله عمل إلا هذا دخل به الجنة لأنها كلمة حق عند سلطان جائر.
أقول ومما روى هذه القصيدة ونصّ على أنها قيلت في الامام زين العابدين جماعة من أبناء السنة والجماعة منهم : الشبلنجي في نور الابصار والحصري في زهر الآداب ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ، والسيوطي في شرح شواهد المغني ، و ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة وابن حجر في الصواعق ، والحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب ، وأبو نعيم في حلية الأولياء. اقواله وحكمه : كان زين العابدين الى جانب ما اشتهر به من الزهد والتقوى والكرم نسيج وحده في عصره وإن الباحث متى راح يبحث في نواحي عظمة هذا الامام ارتفع الى عالم الروحانيات وهذه الصحيفة السجادية التي تجمع أدعية الإمام وابتهالاته وهي الواح خالدة من البلاغة والحكمة والفلسفة ومعرفة الله يقول عليه السلام في حمده لله وتمجيده : الحمد لله الأول بلا أول كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين ، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين ، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً ، واخترعهم على مشيئته اختراعا ، ثم سلك بهم طريق إرادته وبعثهم في سبيل محبته ، لا يملكون تأخيراً عما قدمهم اليه ولا يستطيعون تقدماً إلى ما أخّرهم عنه وجعل لكل روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه ، لا ينقص من زاده ناقص ، ولا يزيد من نقص منهم زائد ، ثم ضرب له في الحياة أجلاً موقتاً ، ونصب له أمداً محدودا ، يتخطا اليه بايام عمره ، ويرهقه باعوام دهره حتى إذا بلغ اقصى أثره واستوعب حساب عمره قبضه إلى ما ندبه اليه من موفور (266)
ثوابه أو محذور عقابه ليجزي الذين أساؤا بما عملوا او يجزي الذين أحسنوا بالحسنى عدلاً منه تقدست اسماؤه وتظاهرت آلاؤه لا يسئل عما يفعل وهم يُسئلون والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة واسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه ، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الانسانية الى حدود البهيمية ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه « إن هم إلا كالانعام بل هم أضلّ سبيلا ».
ومن دعائه في مكارم الاخلاق قوله. اللهم صل على محمد وآله وحلّني بحلية الصالحين ، وألبسني زينة المتقين ، في بسط العدل وكظم الغيظ ، وإطفاء النائرة ، وضمّ أهل الفرقة وإصلاح ذات البين ، ولين العريكة ، وخفض الجناح وحسن السيرة والسبق الى الفضيلة ، والقول بالحق وإن عز ، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي ، واستكثار الشر وان قلّ من قولي وفعلي ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفس مثلها ، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها. اللهم إن رفعتني فمن ذا الذي يضعني ، وإن وضعتني فمن ذا الذي يرفعني ، وإن أكرمتني فمن ذا الذي يهينني ، وإن اهنتني فمن ذا الذي يكرمني وإن عذبتني فمن ذا الذي يرحمني. اللهم ألبس قلبي الوحشة من شرار خلقك ، وهَب لي الانس بك وباوليائك وأهل طاعتك. وهكذا ناجى الإمام زين العابدين ربه بأدعية جمعت في كتاب اسمه ( الصحيفة السجادية ) واسلوبها اشبه باسلوب نهج البلاغة لجدّه أمير المؤمنين وتسمى أيضا بزبور آل محمد وانجيل اهل البيت وقد اشتملت على (267)
أفانين من التضرع والابتهال. وتبدو هذه الادعية لأول وهلة ، انها روحية محضة لاتمت إلى المادة بسبب ولكن بالتأمل تظهر صلتها الوثيقة بالعيش والاسرة وبالمجتمع وتراها دروساً قيمة منتزعة من صميم المجتمع. إن ظروف الإمام السجاد عليه السلام ـ وهو في عهد المروانيين ـ لم تسمح له أن يرتقى منبر الارشاد بأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، لكنه مع حراجة موقفه استطاع أن يداوي المجتمع ويهديه الى سبيل الخير عن طريق الدعاء ، فقد ضمّن هذه الصحيفة السجادية دعوته الإصلاحية ، وأهدافه العالية وآرائه الصائبة التي تهدف إلى المثل العليا.
ان الصحيفة تحتوي على 54 دعاء وهي : التحميد لله عز وجل. والصلاة على محمد و آله ، الصلاة على حملة العرش ، الصلاة على مصدّقي الرسل ، دعاؤه لنفسه وخاصته ، دعاؤه عند الصباح والمساء ، دعاؤه في المهمات ، دعاؤه في الاستعاذة ، دعاؤه في الاشتياق ، دعاؤه في اللجاء إلى الله ، دعاؤه بخواتم الخير ، دعاؤه في الاعتراف ، دعاؤه في طلب الحوائج ، دعاؤه في الظلامات ، دعاؤه عند المرض ، دعاؤه في الاستقالة ، دعاؤه على الشيطان ، دعاؤه في المحذورات ، دعاؤه في الاستسقاء ، دعاؤه في مكارم الأخلاق ، دعاؤه إذا أحزنه امر ، دعاؤه عند الشدّة ، دعاؤه بالعافية ، دعاؤه لأبويه ، دعاؤه لولده ، دعاؤه لجيرانه ، دعاؤه لأهل الثغور ، دعاؤه في التفرغ ، دعاؤه إذا قتر عليه ، دعاؤه في المعونة على قضاء الدين ، دعاؤه بالتوبة ، دعاؤه في صلاة الليل ، دعاؤه في الاستخارة ، دعاؤه اذا ابتلى ورأى مبتلى بفضيحة بذنب ، دعاؤه في الرضا بقضاء الله ، دعاؤه عند سماع الرعد ، دعاؤه في الشكر ، دعاؤه في الاعتذار ، دعاؤه في طلب العفو ، دعاؤه عند ذكر الموت ، دعاؤه في طلب الستر والوقاية ، دعاؤه عند ختمه القرآن ، دعاؤه إذا نظر إلى الهلال ، دعاؤه لدخول شهر رمضان ، دعاؤه لوداع شهر (268)
رمضان ، دعاؤه للعيدين والجمعة ، دعاؤه لعرفة ، دعاؤه للأضحى والجمعة ، دعاؤه في دفع كيد الأعداء ، دعاؤه في الرهبة ، دعاؤه في التضرع والاستكانة ، دعاؤه في الالحاح ، دعاؤه في التذلل ، دعاؤه في استكشاف الهموم.
وهي في الغاية من الاعجاز قد تكفلت ببيان كل ما يعترض المسلم المؤمن من مشاكل في الدين والعلم والاجتماع ، بل هي الطب النفسي والعلاج الروحي. ان للانسان حالات كثيرة من حزن وفرح ، ورخاء وشدة ، وسعة وتقتير ، وصحة ومرض ، ومودة وعداوة ، وطاعة ومعصية ، إلى غير ذلك من الامور. وانك لترى في الصحيفة استقصاء لهذه الحالات وعلاجاً لادوائها وحلاً لمشكلاتها. وإنما سميت بالصحيفة الكاملة لكمالها فيما أُلفّت له أو لكمال مؤلفها ، فمن بين ملايين الكتب في المكتبة البشرية الواسعة ليست اعظم من الكتب الثلاثة : 1 ـ القرآن الكريم وهو اولها وسيدها. 2 ـ نهج البلاغة. للامام أمير المؤمنين علي عليه السلام. 3 ـ الصحيفة السجادية ، وهما مستمدان من القرآن داعيان له. إن أدعية الصحيفة يحسن بلاغتها وكمال فصاحتها احتوت على لباب العلوم الالهية والمعارف اليقينية حتى قال بعض العرفاء : إنها تجري مجرى التنزيلات السماوية و تسير مسير الصحف اللوحية. قال ابن الجوزي في خصائص الأئمة : لولا امير المؤمنين على عليه السلام لما كمل توحيد المسلمين وعقائدهمِ إذ أن النبي (ص) وضع اصولا (269)
لهذه العقائد اما الدقائق من كون الصفات ذاتيه وفعليه وان ايها عين ذاته تعالى وأيها ليست بعينه ـ الى ان قال في حق الإمام زين العابدين عليه السلام : ان له حق الأملاء والتعليم والإنشاء وكيفية المكالمة والمخاطبة وعرض الحوائج الى الله تعالى ، فانه لولاه لم يعرف المسلمون كيف يتكلمون ويتفوهون مع الله سبحنه في حوائجهم ، فان هذا الإمام علَّمهم بانه متى ما استغفرت فقل كذا ، ومتى ما خفت فقل هكذا واذا كنت في شدة فقل كذا ، وان عجزت عن تدبير أمر فقل كذا ، وإن كنت مظلوماً فاقرأ دعاء كذا.
يقول الاستاذ عبد الهادي المختار في شرحه لرسالة ( الحقوق ) : كنت قبل اطلاعي على رسالة الحقوق للامام زين العابدين ـ اعتقد ان الامام زين العابدين رجل محراب ولا هم له إلا الصلاة والعبادة والزهد والبكاء و الانصراف الى الله ، ولكني علمت بعد ذلك انه رجل دولة وواضع شريعة ، ومنشيء قانون ، وعلمت لماذا حارب علي معاوية ، ولماذا صالح الحسن معاوية ، او لماذا أضحى الحسين بنفسه وولده ، وعلمت ان التشريح و التقنين ليس بجديد وإنما أخذه غيرنا عنا ، فصرنا نقلدهم في ما استفادوه منها ونستفاد ما فقدناه. أقول وفي العهد الصفوي ذلك العهد الذي كان ازهى عصوره للعلم لا تكاد تجد بايران ـ سيما اصفهان ـ داراً فيها القرآن الكريم إلا وجدت معه الصحيفة الكاملة وذلك حسب ما ادبهم أئمتهم عليهم السلام وعنايتهم بهذه الثروة العلمية التي هي أثمن تراث إسلامي ، و كان أهل البيت لا يفارقونها سفراً وحضراً كما ورد ان يحي بن زيد بن علي بن الحسين كان وهو في طريقه إلى خراسان يخرجها ويقرأ فيها. يقول العلامة محمد جواد مغنية : وما قرأها إنسان من اي لون كان إلا (270)
تقلبه إلى اجواء يشعر معها بنشوة لا عهد لاهل الارض بمثلها ، ومنذ اطلعت عليها احسست بدافع قهري يسوقني الى التفكير في كلماتها والكتابة عنها ، والدعوة اليها ، ونشرها بين جميع الطوائف ، فكتبت عنها فصلاً في كتاب : ( مع الشيعة الامامية ) بعنوان : مناجاة. وآخر في كتاب ( أهل البيت ) بعنوان : من تسبيحات الإمام زين العابدين. وثالثاً في كتاب ( الإسلام مع الحياة ) بعنوان : العز الظاهر والذل الباطن. ورابعاً في كتاب ( الآخرة والعقل ) بعنوان الله كريم.
وأهديتها الى عدد كبير من شيخ مصر وفلسطين ولبنان ، وإلى غبطة البطريرك الماروني بولس المعوشي ، ورأيته بعد الإهداء بأيام ، فشكرني على الهدية فقلت له : ما الذي استوقف نظركم فيها ؟ فقال : قرأت دعاءا لإمام لابويه فترك في نفسي أثراً بالغا. ومن الذي يقرأ قول الإمام : اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف و أبّرهما برّ الام الرؤف ، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما اقرّ لعينيَّ من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة الظمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، واقدّم على رضاي رضاهما ، واستكثر برّهما بي وإن قل واستقل بري بهما وان كثر. من الذي يقرأ هذا القول ولا يترك في نفسه أعمق الآثار ، يهابهما هيبة السلطان العسوف مع مخالطته لهما ودنوّه منهما وعلمه برأفتهما ، إنها هيبة التعظيم والتوقير لاهيبة الخوف من الحساب والعقاب ، هيبة الابوة التي لا يقدّرها الا العارفون. ثم اقرأ معي هذه الكلمات للإمام : اللهم وما تعدّيا علي فيه من قول ، أو أسرفا عليّ فيه من فعل ، |
|||||||||||||||||||||||||||||||||
|