أدَبُ الطّفّ ـ المجلد الثالث ::: 151 ـ 165
(151)
إحدى ثقاتي عليه كنت أحسبُها ولم أخل أنها من بعض أعدائي
    ومن شعره في العتاب والاستبطاء والشكوى قوله :
كم من غريبة حكمة زارتك من جاءتك ما طرقت وفود جمالها فتنتك إعجابـاً فحين هممت أن وافتك من حسد وساوس حكمة فثنيت طرفك خـاشياً لا زاهداً وأراك كالعنـين هـمَّ بكاعبٍ فكري فما أحسنت قط ثـوابها الأسماع إلا فـتّحت أبـوابها تحبو سويداء الفؤاد صـوابها جعلت لعينك كالمشيب شبابها ورددتها تشكـو إلـيَّ مآبـها بكر وأعجزه النكـاح فعابها
    وله في الغزل :
أشجّع النفس على حربكم أسومها الصبر وألحاظكم وكيف بالصبر على أسهم تقاضياً والسلم يزويها قد جعلتها من مراميها نصّلها بالجمر راميها
    انتهى عن خريدة القصر للعماد الاصفهاني الجزء الاول ـ قسم شعراء مصر ص 189.
    وفي فوات الوفيات ان القاضي الجليس كان كبير الانف ، وكان الخطيب ابو القاسم هبة الله بن البدر المعروف بابن الصياد مولعاً بأنفه وهجائه وذكر أنفه في اكثر من ألف مقطوع ، فانتصر له ابو الفتح بن قادوس الشاعر فقال :
يا من يعيب أنوفنا الـ الأنـف خلقـة ربنـا ـشم التي ليست تعاب وقرونك الشم اكتساب


(152)
    وجاء في المجموع الرائق مخطوط للسيد احمد العطار رحمه الله قال :
    أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحبّاب الاغلبي السعدي الصقلي المعروف بالقاضي الجليس المتوفي سنة 561 هجرية :
    قال في مدح الملك الصالح ورثاء أهل البيت عليهم السلام.
لولا مجـانـبـة المـلول الـشـانـي ولما دعـانـي للـهـوى فـأجـبـته أغـرى الملام بـي الـغرام وانـمـا وجفى الكرى الاجفان فهي لدى الدجى وزعمـت أن الحسن ليس بـموقـف هذي الحداق الـسود جـردت الظباة إن قلت من القـاك فـي لجج الهوى هذا الفؤاد أسيـر حبـك يـرتـجي إني على ما قد عناني في الهوى وتعـودنـى لمصـاب آل محـمد أأكفّ حربي عن بـني حـرب وقد طلبت اميـة ثـار بـدر فـاغتدى جسد بأعـلى الـطف ظـل درية ها انّ قاتلـهم وتـارك نصـرهم أُسَرٌ همُ سـرُ الـنفـاق ودوحـة نبذوا كتاب الله خـلف ظـهورهم وهفوا الى داعي الضـلال وانـما ما تمَّ شاني فـي الـغرام بشـاني طرفـي وقـلت لـعاذليَّ دعانـي الجاني عليّ هـو الـذي الحانـي ترعى السها مذ بان غصـن البان يغتال فيه شـجـاعة الشـجـعان البيض والاجـفان كـالاجـفـان فخضابك القـانـي الـذي القـاني فرجاً فهل عـان بـهـذا الـعاني لأغصّ عن شأو المزاح عناني فكـر تعـرج بي علـى الاشجان أودى بقـبح صنيعـها الحـسنان يسقي دعاف سمامهـا السـبطان لـسـهام كل حنـيّة مـرنــان في سـوء فعلـهما مـعاً سـيان مخصوصةٌ باللـعن في الـقرآن وتتابعوا في طـاعـة الشـيطان عكفوا على وثـن مـن الأوثـان


(153)
لو كـان كاشـف كـرب آل محمد الصـالح الـملـك الـذي لـجلاله إلا تـكن فـي كـربلاء نصـرتهم هذا وكم أعملت فـي يـوم الوغى عّودت بيـض الهـند ألا تـنـثـني وجمعت اشلاء الحسين وقـد غدت وعرفت للعضو الـشريف محـله أكرمت مثـواه لـديـك وقبل في نقلته أيدي الـظـالمـين تطيـفه وقضيتُ حقَّ المصطفى في حمله ونـصبتـه للمؤمنـيـن تـزوره أسكنتـه فـي خـير مأوىً خطه حَرَمٌ يلوذ بـه الجنـاة فتـنـثنى قد كان مغترباً زمـانـاً قبـل ذا ولو استطعت جعلـت قلبك لحده فــي الـطف عاجلهم بحـتف آن خــرّت ملـوك الأرض للاذقـان بـيد فـكـم لـك نـصرة بـلسان رأياً صليـبـاً فـي ذوي الـصلبان مـركـوزة بـمكامن الأضـغـان بـدداً فـاضـحـت في أعز مكان وجلـيل موضـعه مـن الـرحمن آل الـطريـد غـدا بـدار هـوان أعـوانـهـا فـي نـازح البـلدان (1) وحظيت من ذي العرش بالرضوان مهـج الـيه شـديـدة الهـيـجان أبنـاؤه فـي سـالـف الأزمـان محــبَّوةً بـالعـفو والغـفـران فـالآن عـدت بـه الى الأوطـان في موضع التوحـيـد والايـمـان
* * *
فاق الملـوك بهـمةٍ لـورامهـا ومناقب تحصى الحصا وعديدها ومجـالس تـزهى بـها أيامـه كيوان لا ستعلت على كيوان موفٍ على التعداد والحسبان معمورة بالعرف والـعرفان

1 ـ يشير الى رأس الحسين عليه السلام حينما نقله الملك الصالح بن رزيك.

(154)
هو سابقٌ لهمُ فهل مـن لاحق فأبت مدى علياك شأو بلاغتي مع أنني قد صغتُ فيك مدائحاً هو أوّلٌ فيهم فـهل مـن ثان سبقاً وقصّر عنك طول لساني ما صاغها حسَّـانُ في غَسّانِ
    وخرج أمر الملك الصالح بأن يعمل كل من يقرظ الشعر بحضرته على وزن القصيدة النونية ورويها التي تقدَّم ذكرها فيما ورد منسوباً الى ما قاله وهي :
لو لا قوامك يا قضيب البان لم يحسن القضبان في الكثبان
    فقال شاعرنا :
أغرى الغري الطـرف بالهملان يا دمع ما وفيت حـقَّ مصابهم تبكي المحبين الصـبابة والهوى هيهات فيما قد عـانـي شاغلُ لم يبق دمع العين فيـها مطمحاً لـمـصاب أبـناء النـبي وآله إيهـاً قريش لقـد ركبتم جهرةً بشعارهم وفخارهم خضعت لكم بهم أطاع عصـيّها وقـصيّها إن اسكتت عن أن يفوه بحقهم فغداً تجـادل خصمهم وتجيبه أما الوصـي فحقه عالي السنا فاسأل به الـفرقان تعلم فضـله وأطاف يـومُ الطف بي أحزاني إن أنـت لـم تمزج بأحمر قان وسوى الصـبابة والهوى أبكاني عن أن أجرَّ الحبّ فضل عناني لعيون عين الـرمل والـغزلان ولرزئـهم فلـتذرف العـينـان في آل طـه غـارب الطغيان مُضَرٌ ودان لـكم بنـو قحطان وانقاد جامحـها بـلا أرسـان أممٌ لـخـوف مهـندٍ وسـنان في الحشر عنهم السُنُ النيران وضـح الصباح لمن له عينان إن كـنت تفهم معجز الفرقان


(155)
مَن كرَّ في أصحاب بدر مبادراً وأقرّ ديـن الله فـي أوطـانـه هل كان في أحد وقد دلف الردى واسئل بخيبر عنـه تـخبر إنـه وثنى بخيبر عابدي الأوثان وأقرّ منهم ناظـر الايـمان أحدٌ سـواه مجدّل الشجعان إذ ذاك كان مزلزل الأركان
    وقال :
من جفـن غضَّ الدمع أو وآله لا لوم للـصب وقـد أزمعوا شجاه حـاديهـم باعـجالـه آه على ريـق فـم جـاد لي وليت صوب الدمع لما جرى وحبـذا منـه حبـاب طـفا صيّر جـسمي في الهوى بالياً مستـوطن قلـبي بلا مزعج وود لـو أغـفى ليحـظى به ما ضـر مـن يـظلم أحبابه لو لا الهوى ما كان ريم النقا ولم يكن ما أكـد الـمصطفى أجل ولا احتالوا لكي ينقضوا أحيـن أوصـى لأخيـه بما أولـى لكم قد كان أولى لكم واستفرضـوهـا فلتة خلسة أهوى لها من لم يكن موقناً وقاطعوا الرحمن واستنجدوا فان يكـن غـروا بـامهاله ما الدمع كفوء بجـوى الواله أن يظهر المكـتوم مـن حاله وطـائـر البـان بإعــواله بالـدر مـن حصـباء سلساله خفـف عـنه بعـض أثقـاله أسكرني من قـبـل جـرياله مبلـبل الـصـدغ بـبلـباله ولا أرى أخطر فـي بـاله فلم يســامـحه باغـفـاله لو نـقــل الظـلم لـعذّاله مع ضـعفـه يسطو بريباله يـسعى المراؤون لابـطاله دينــاً قـضى الله بأكماله أوصـى تراضـيتم بادغاله إسعاده فـي كـل أحـواله بمـاكـر للـدين خـتّالـه بمـوقـف الحشر وأهواله بعُصـبِ الشـرك وضُّلاله فما تغــرّون بـاهـماله


(156)
أعيـاهـم كيـد نبـي الـهدى اودى الحسين بن الوصي الرضا دم النبي الـطهر مـن سبـطه أفـتـى أعـاديـه بـاحـلاله يرتع عانى الطـير في جسـمه يا يـوم عـاشـوراء أنت الذي فاعجب لذاك الجـو لم يتخسف ومـن كـلاب الكـفر إذ مكنت فـقـتـلوا بـالسـيـف أولاده أنـى ارتـقت همة كف الردى لـقـائـل للـحـق فـعـالـه إن شئـت ان تصلى لظى عاده وكـل عبـد عابـد مـؤمـن فليت ان الـصالـح المرتجـى اذاً فدا كـم مـن جـميع الأذى سيَّر فيكـم مـدحـاً أصـبحت كم شائـم سـحب نـدى كـفه ملك عـدا كـل مـلوك الـورى لا زال والنـصــر لـه خـادم فانتـهزوا الـفرصة فـي آله بفاتـك بـالـديـن مـغـتاله سـال عـلى أسـياف أقتـاله ولـم يـلاقـوه بـإجـلالـه وتلـعب الـريـح بـاوصاله صيرت دمـعي طـوع إسباله ولم تـصدّع صـم أجبـالـه من اسـد الـديـن وأشبـاله وأوقعـوا الأسـر باطـفـاله لأفضل الـخلق ومفـضـاله وعـالـم بالـديـن عـماله أو شئـت قـربـى جده وآله ولا كـم ســيّد أعـمـالـه يـبلغ فـيـكم كـنه آمـالـه بنـفسـه الـطـهر وأمـواله أنجـع مـن جـيش بابـطاله قد اذهـب الا محال من حاله يفوقـهـم أصـغـر آمـاله مؤيداً فـي كـل افـعـالـه



(157)
القاضي الرشيد
القاضي الرشيد أحمد بن علي الغساني
ما للغصون تميل سكرا هل سُقيت بالمزن خمرا
    ومنها في المدح :
جـارى الملوكَ إلى العـلى سائل بهـا عصـب النفا أيامً أضحى النـكر معرو لكنهم نامـوا وأسـرى ق غداة كان الأمر إمرا (1) فاً وأمسى العرف نكرا
    الى ان وصل الى قوله :
أفكربـلاءٌ بالعـرا ق وكربلاء بمصر أخرى ؟! (2)

1 ـ إمرا ، شديداً او عصيباً ، وفي القرآن الكريم « لقد جئت شيئاً إمرا ».
2 ـ خريدة القصر 201 شعراء مصر ، ومعجم الأدباء للحموي.


(158)
    قال صاحب الخريدة ـ قسم شعراء مصر ـ كان ذا علم غزير وفضل كثير ، لم يعمل بشعره ولم يرحل من ضرّه ، وأنشدني ابن اخته القاضي محمد بن القاضي محمد بن ابراهيم المعروف بابن الداعي من أسوان ، وقد وفدت إلى دمشق سنة إحدى وسبعين قال : أنشدني خالي الرشيد بن الزبير لنفسه من قصيدة :
تواصى على ظلمي الأنام بأسرهم لكل امرىءٍ شيطـان جـنّ يكيده وأظلمُ من لاقـيتُ أهلـي وجيراني بسوء ولي دون الورى الف شيطان
    قال السيد الامين في الاعيان : ذكره صاحب ( نسمة السحر فيمن تشيّع وشعر ) ، وقال : كان من الإسماعيلية ، وله من المؤلفات :
    1 ـ الرسالة الحصيبية.
    2 ـ جنان الجنان ورياض الاذهان في شعراء مصر ومن طرأ عليهم ، في اربع مجلدات ذيل به على اليتيمة.
    3 ـ منية الألمعي وبلغة المدعى في علوم كثيرة.
    4 ـ المقامات.
    5 ـ الهدايا والطرف.
    6 ـ شفاء الغلَّة في سمت القبلة.
    7 ـ ديوان شعره ، نحو مائة ورقة.


(159)
    وقال ياقوت في معجم الادباء : أحمد بن علي بن الزبير الغساني الاسواني المصري ، يلقب بالرشيد ، وكنيته ابو الحسين ، مات سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، على ما نذكره ، وكان كاتباً شاعراً فقيها نحوياً لغوياً ، ناشئاً ، عروضياً ، مؤرخاً منطقياً ، مهندساً عارفاً بالطب والموسيقى والنجوم ، متفنناً.
    وقال السلفي : أنشدني القاضي ابو الحسن ، أحمد بن علي بن ابراهيم الغساني الاسواني لنفسه بالثغر :
سمحنـا لدنيانا بما بخلت به فيا ليتنا لما حرمنا سرورها علينا ولم نحفل بجلِّ امروها وقينـا أذى آفاتها وشرورها
    قال : وكان ابن الزبير هذا ، من أفراد الدهر فضلاً في فنون كثيرة من العلوم ، وهو من بيت كبير بالصعيد من الممولين ، وولي النظر بثغر الاسكندرية والدواوين السلطانية ، بغير اختياره ، وله تآليف ونظم ونثر التحق فيها بالأوائل المجيدين ، قتل ظلماً وعدواناً في محرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، وله تصانيف معروفة لغير اهل مصر ، منها : كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي ، يشتمل على علوم كثيرة كتاب المقامات. كتاب جنان الجنان وروضة الأذهان ، في أربع مجلدات ، يشتمل على شعر شعراء مصر ، ومن طرأ عليهم. كتاب الهدايا والطرف. كتاب شفاء الغلة في سمت القبلة كتاب رسائله نحو خمسين ورقة. كتاب ديوان شعره ، نحو مائة ورقة.
    ومولده بأسوان ، وهي بلدة من صعيد مصر ، وهاجر منها الى مصر فأقام بها واتصل بملوكها ومدح وزراءها ، وتقدم عندهم وأنفذ الى اليمن في رسالةٍ ، ثم قلد قضاءها وأحكامها ، ولقب بقاضي قضاة اليمن ، وداعي دعاة الزمن ، ولما استقرت بها داره ، سمت نفسه إلى رتبة الخلافة فسعى


(160)
فيها ، وأجابه قوم ، وسلّم عليه بها ، وضربت له السكة ، وكان نقش السكة على الوجه الواحد : « قل هو الله أحد ، الله الصمد » وعلى الوجه الآخر ( الامام الامجد أبو الحسين احمد ) ثم قبض عليه وأنفذ مكبّلا الى قوصٍ فحكى من حضر دخوله إليها : انه رأى رجلاً ينادي بين يديه هذا عدو السلطان احمد بن الزبير وهو مغطى الوجه حتى وصل الى دار الامارة والأمير بها يومئذ طرخان سليط وكان بينهما ذحول (1) قديمة فقال : أحبسوه في المطبخ الذي كان يتولاه قديماً وكان ابن الزبير قد تولى المطبخ وفي ذلك يقول الشريف الأخفش من أبياتٍ يخاطب الصالح بن رُزيك :
يُولّـى على الشيء اشكاله أُقام على المطبخ ابن الزبير فيصبح هـذا لـهذا أخـا فولى على المطبخ المطبخا
    فقال بعض الحاضرين لطرخان : ينبغي ان تحسن الى الرجل فإن أخاه ـ يعني ـ المهذب حسن بن الزبير قريب من قلب الصالح ولا أستبعد ان يستعطفه عليه فتقع في خجلٍ.
    قال : فلم يمض على ذلك غير ليلة أو ليلتين ، حتى ورد ساعٍ من الصالح ابن رزيك ، إلى طرخان بكتاب يأمره فيه باطلاقه والإحسان إليه فأحضره طرخان من سجنه مكرماً.
    قال الحاكي : فلقد رأيته وهو يزاحمه في رتبته ومجلسه وكان السبب في تقدمه في الدولة المصرية في أول أمره ما حدثني به الشريف ابو عبدالله محمد ابن ابي محمد العزيز الادريسي الحسني الصعيدي قال : حدثني زهر الدولة ، حدثنا : ان احمد بن الزبير دخل الى مصر بعد مقتل الظاهر وجلوس الفائز ،
1 ـ الذحول ، جمع الذحل ، الثأر والعداوة والحقد.

(161)
وعليه اطمار رثة وطيلسان صوف فحضر المأتم وقد حضر شعراء الدولة فأنشدوا مراثيهم على مراتبهم فقام في آخرهم ، وأنشد قصيدته التي أولها :
ما للرياض تميل سكرا هل سقيت بالمزن خمرا
    الى أن وصل إلى قوله :
أفكر بلاء بالعرا ق وكربلاءُ بمصر اخرى
    فذرفت العيون وعج القصر بالبكا والعويل وانثالت عليه العطايا من كل جانب وعاد الى منزله بمال وافرٍ حصل له من الامراء والخدم وحظايا القصر وحمل إليه من قبل الوزير جملة من المال.
    وقيل له : لو لا انه العزاء والمأتم ، لجاءتك الخلع.
    قال : وكان على جلالته وفضله ومنزلته من العلم والنسب قبيح المنظر أسود الجلدة جهم الوجه سمج الخلقة ذا شفة غليظة وانف مبسوط ، كخلقة الزنوج ، قصيراً.
    حدثني الشريف المذكور عن ابيه قال كنت أنا والرشيد بن الزبير والفقيه سليمان الديلمي ، نجتمع بالقاهرة في منزل واحد فغاب عنا الرشيد وطال انتظارنا له وكان ذلك في عنفوان شبابه وإبان صباه فجاءنا ، وقد مضى معظم النهار ، فقلنا له : ما أبطأ بك عنا ؟ فتبسم وقال لا تسألوا عما جرى علىَّ اليوم فقلنا : لا بد من ذلك ، فتمنّع ، وألححنا عليه ، فقال : مررت اليوم بالموضع الفلاني ، واذا امرأة شابة صبيحة الوجه وضيئة المنظر حسانة الخلق ظريفة الشمائل فلما رأتني نظرت إلي نظر مطمع لي في نفسه فتوهمت أنني وقعت منها بموقع ونسيت نفسي وأشارت إلي بطرفها ، فتبعتها

أدب الطف ـ م (11)


(162)
وهي تدخل في سكة وتخرج من اخرى حتى دخلت داراً وأشارت إليَّ فدخلت ، ورفعت النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه ثم صفقت بيديها منادية : يا ست الدار فنزلت إليها طفلة ، كأنها فلقة قمر وقالت : إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك ، ثم التفتت وقالت : ـ لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه ـ فخرجت وانا خزيان خجلاً ، لا أهتدي إلى الطريق.
    وحدثني قال : إجتمع ليلة عند الصالح بن رزيك هو وجماعة من الفضلاء فألقى عليهم مسألة في اللغة فلم يجب عنها بالصواب سواه ، فاعجب به الصالح فقال الرشيد : ما سئلت قط عن مسألة إلا وجدتني أتوقد فهماً فقال ابن قادوس ، وكان حاضراً.
إن قلت : من نار خلقـ قلنا : صدقت ، فما الذي ـت وفقت كل الناس فهما أطـفاك حتى صرت فحما
    واما سبب مقتله : فلميله الى أسد الدين شير كوه عند دخوله الى البلاد ومكانبته له ، واتصل ذلك بشاور وزير العاضد ، فطلبه ، فاختفى بالاسكندرية واتفق التجاء الملك صلاح الدين يوسف بن ايوب الى الاسكندرية ومحاصرته بها فخرج ابن الزبير راكباً متقلداً سيفاً وقاتل بين يديه ولم يزل معه مدة مقامه بالاسكندرية إلى ان خرج منها فتزايد وجد شاور عليه واشتد طلبه له ، واتفق ان ظفر به على صفة لم تتحقق لنا ، فأمر باشهاره على جمل ، وعلى رأسه طرطور ووراءه جلواز ينال منه.
    وأخبرني الشريف الإدريسي عن الفضل بن أبي الفضل انه رآه على تلك الحال الشنيعة وهو ينشد :
إن كان عندك يا زمان بقية مما تهين به الكرام فهاتها


(163)
    ثم جعل يهمهم شفتيه بالقرآن ، وأمر به بعد إشهاره بمصر والقاهرة ان يصلب شنقاً ، فلما وصل به الى الشناقة جعل يقول للمتولي : لك منه : عجَّل عجِّل فلا رغبة للكريم في الحياة بعد هذه الحال. ثم صلب.
    حدثني الشريف المذكور قال : حدثني الثقة حجاج بن المسيح الأسواني : أن ابن الزبير دفن في موضع صلبه ، فما مضت الايام والليالي حتى قتل شاور وسحب ، فاتفق أن حفر له ليدفن فوجد الرشيد بن الزبير في الحفرة مدفوناً فدفنا معاً في موضع واحد ، ثم نقل كل واحد منهما بعد ذلك الى تربة له بقرافة مصر القاهرة.
    ومن شعر الرشيد ، قوله يجيب أخاه المهذب عن قصيدته التي أولها :
يا ربع اين ترى الأحبَّة يمَّموا رحلوا فلا خلت المنازل منهم
    ويروي : ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم
وسـروا وقـد كتموا الغداة مسيرهم وتبدَّلوا ارض الـعقيق عـن الحمى نزلوا العذيب ، وإنـما فـي مهجتي ما ضرّهم لو ودَّعـوا مـن اودعوا هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا وهم مجال الـفكـر من قلبي وإن أحبابنا ما كـان اعظـم هـجركم غبتم ، فلا والله ما طرق الـكرى وزعـمـتم إني صبـور بعـدكم وإذا سئـلت بـمن أهيـم صبابةً النازلين بـمهـجتي وبمـقلتـي وضـياء نور الشمس ما لا يكتم روَّت جفـوني أي ارض يَّمموا نزلوا وفي قـلب المتـيَّم خيَّموا نار الغرام وسلَّـموا من أسلموا أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتـهموا بعد المزار فصفو عيشي معهم عندي ولكـنَّ التـفـرُّق اعظم جفـني ولـكن سحَّ بعدكم الدم هيهـات لا لُقَّيتم مـا قـلـتم قلتُ الذين هم الـذيـن هم هم وسط السـويدا والسواد الاكرم


(164)
لا ذنب لي في البعد أعـرفه سـوى فأقمت حـين ظـغنـتُم وعدلتُ لمـ يا محـرقاً قلـبي بنـار صـدودهم اسـعــرتـم فيـه لهـيب صبابة يا سـاكنـي أرض العـذيب سقيتم بعدت منـازلـكم وشـطّ مـزاركم لا لـوم للأحـباب فـيـما قد جنوا أحباب قلـبي أعـمـروه بـذكركم واستخبروا ريح الصبا تخبركم كم تظـلمونـا قـادريـن ومـالنا ورحلـتـم وبعدتـم وظـلـمتـم هيـهات لا أسـلوكم أبـداً وهـل وانا الـذي واصـلت حين قطعتم جـار الـزمـان علي ، لما جرتم وغدوت بعد فارقكـم وكـأنـني ونزلـت مـقهـور الفـؤاد ببلدة في معـشر خلقوا شخوص بهائم إن كورمـوا لم يكرموا أو عَلّموا لا تـنـفـق الآداب عنـدهم ولا صمٌ عن المعروف حتى يسمعوا فالله يغنـي عنـهم ويـزيد في أني حفـظتُ العهـد لمـا خُنتـم ـا جُرتـُم ، وسـهدت لـما نمتم رفقاً ففـيه نـار شـوق تـضرم لا تنـطفـي إلا بـقرب مـنـكم دمعي إذا ضن الغمــام المـرزم وعهودكم محـفوظة مـذ غبـتم حكمتهم في مهـجتـي فتـحكموا فلطالمـا حفـظ الـوداد المسلـم عن بعض ما يلقى الفؤاد المـغرم جرم ولاسبب لمن نتظلم ونأيـتـم وقـطعـتُم وهـجرتـم يسلو عن الـبيت الـحرام المحرم وحفـظت أسبـاب الهوى اذ خنتم ظلماً ومال الدهـر لـما مـلـتـم هدف يمر بـجانبـيـه الأسـهـم قل الصديق بـهـا وقـلَّ الـدرهم يصـدا بـها فكر اللبـيب ويـبهم لم يعـلـموا أو خوطبوا لم يفهموا الاحسان يعرف فـي كثيـر منهم هجر الكلام فيـقدمـوا ويقـدموا زهدي لهم ويفـك أسـري منـهم


(165)
    قال الأمين في أعيان الشيعة : ومن شعره قوله في أهل البيت عليهم السلام وهو مسك الختام.
خذوا بيدي يا آل بيت محمد أبى القلب إلا حبكم وولاءكم اذا زلت الإقدام في غدوة الغد وما ذاك الا من طهارة مولدي
    وقال ابن خلكان في الوفيات : كان من أهل الفضل والنباهة والرياسة ، صنف كتاب الجنان ورياض الاذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء وله ديوان شعر ولأخيه القاضي المهذب ابي محمد الحسن ديوان شعر أيضاً ، وكانا مجيدين في نظمهما ونثرهما ، ومن شعر القاضي المهذب ، وهو لطيف غريب من جملة مفيدة بديعة :
وترى المجرة والنجـوم كأنما لو لم تكن نهراً لما عامت بها تسقي الرياض بجدول ملآن أبداً نجوم الحوت والسرطان
    وله ايضاً من جملة قصيدة :
ومالى إلى ماء سوى النيل غلة ولو أنه ـ استغفر الله ـ زمزم
    وله كل معنى حسن وأول شمر قاله ، سنة ست وعشرين وخمسمائة ، وذكره العماد الكاتب في كتاب السيل والذيل ، وهو اشعر من الرشيد ، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم ، وتوفي بالقاهرة ، سنة احدى وستين وخمسمائة في رجب ـ رحمه الله ـ واما القاضي الرشيد فقد ذكره الحافظ أبو
أدَبُ الطّفّ ـ المجلد الثالث ::: فهرس