ادب الطف الجزء التاسع ::: 136 ـ 150
(136)
مؤلفاته ( فوز العباد في المبدأ والمعاد ) طالعته واستفدت منه ، وله منظومة في أحكام الزكاة نشرت في آخر العروة الوثقى طبع بغداد ، ورسالة في ردّ الوهبانية وغيرها من الكتب النافعة. ترجم له الشيخ الطهراني في ( نقباء البشر ) وأطراه بما هو أهله وعدد مؤلفاته وأذكر أني طالعت في فترات رسالته المطبوعة التي يرجع اليها بعض مقلديه ولكنه كان في عصر اشتهر الكثير من اسرته بالمرجعية للأمة أمثال الشيخ أحمد والشيخ محمد حسين والشيخ هادي والشيخ عباس وهم من الأساطين. أما شعره فهو من النمط العالي ولكنه كان يكتمه لأن الشعر بالعلماء يزري ، قال في قصيدة أرسلها إلى ابن عمه الشيخ هادي آل كاشف الغطاء من قضاء الهندية سنة 1310 ه‍. يوم 28 ربيع الثاني :
سفرت فقلت الشمس في وجناتها هيفاء ان خطـرت بلدن قوامها عطفت وما عـلم العـذول بأنها قـد قـلت للورق على بان النقا غني بمن طرق الهداية إن عفت عالـم لـه شهـد الـعـدو بأنه الطارد الليث الـصؤول بطرفه ورنت فقلت السهم في لحظاتها واخجـلة الأغصان من قاماتها غصن وان العطف من عاداتها إذ رددت بغـنائـها نـغماتـها أضحى لها الهادي إلى طرقاتها لو يـملك الـدنيا استغلّ هباتها والناهـب الأشبال مـن لبواتها
    وله منظومة جارى بها ملحمة الشيخ كاظم الأزري وكلها في مدح أهل البيت عليهم السلام وله في الإمام الحسين رائعة مطلعها :
خلّ ناراً نشب بين ضلوعي تطفها مقلتي بفيض دموعي


(137)
أبى العزم أن يلوى على اللوم حازم إذا النفس لـم تأخذ من العقل زينة ومن لـم يحارب نفسه طال حربه وان هو لم يكظم على النفس غيظها ومن لـم يـدار الـناس كبراً فإنه أبى الله أن تـرسـو قـواعد دينه فـيا بن الألى لولا بروق سيوفهم ولـو لم تقـوّم للـنزال صعادها أصبراً وقد مدت على الدين ضلة أصبراً ودين الله ثلـت عـروشه لقد جـنّ هذا الدهر ليلاً فحقّ أن يبـاح مـن الإسلام كـل محرم متى تطلع الأيام منك ابن نجـدةٍ وتـبرز مـن أقمار هاشم طلعة حنانيك يا بن المصطفى أي بقعة فحسبك وهـناً أن يـصـدك لائـم حكتها بشـوهاء الـخصال الـبهائم ولـيس لـه بـين الأنـام مـسالـم شفت غيضها منه العدوى وهو كاظم يداريهم مـن خيفـة وهـو راغـم إذا لـم يقـم مـن آل أحمـد قائـم لمـا ضاء مـن لـيل الضلالة فاحم لمـا قـام للـدين الحـنيف قوائـم فـلا أفـق إلا وهـو في الظلم قاتم وهدّت على الأرزاء منه الـدعائـم تـشق عـمود الصبح منه الصوارم وتهـتك قـسراً مـن بـنيه المحارم تعـاف لـه أغـيالـهن الضـراغم تطـير شعاعـاً في سنـاها الغـمائم تـبيتُ بهـا خـلواً وعـيشك ناعـم


(138)
وهـل بقـعة مـا أسهـرتكـم طـغاتها فيـوم حسـين لـيس يـحصيه نـاثـر يـلاقي الـعدا ثـلج الفـؤاد وللـوغـى يـذب بـسيـف الله عـن ديـن جـده تجـاذبـك الأسيـاف نـفساً كـريمـة فللّه يـوم قـمـت فـيـه مـصابـراً بحـيـث القـنا باتـت عـليك حوانـيا إلى أن قضيت النحب صبراً وما انقضت تـوزع مـنك الـبيض جـسـم مـحمد وتمسى لـدى الهـيجا تـوسـدك الثرى وتـرفـع مـنك السـمر رأسـك وللظبا وأعظـم شيء مـضّ في الـدين وقـعه صـفـايا رسـول الله بـيـن امـيـة سوافـر بعـد الخـدر اضحـت ثواكلا فـواقـد عـزٍّ بالـمـعـاصـم تتـقي هـواتـف مـن شـمّ الانـوف بعصبة إذا نـظـرت منـهم على الرغم أرؤساً تـطيـر قـلوباً نـحـوهـن كـأنـها فتـوسـعـهم عـتباً وتـندبـهم شجى أيـرضى لكـم عـز الكـرام بأن يرى يعـزّ عـلى الـزهـراء فاطم أن ترى فأنـت بـهـا يا غـيرة الله نـائـم ولـم يـستـطع تعـداد بـلواه ناظم عـلى الشـوس نار أوقدتها الصوارم وعـن عـزّ خـدر فيه تحيي الفواطم وتـسمـعك الـشكوى نسـاء كـرائم لـما جـزعـت في الله مـنه العوالم وتـبكـيك لكـن مـن دماك الصوارم مـن الـملأ الأعـلى عـليك الـمآتم وتجـري دم الـكـرار مـنك اللهاذم رغامـاً بـه أنـف الحـمية راغـم علـيك كـما شاء الابـاء عـلائـم ومـا دهـيت فـي مـثلـه قط هاشم بـرغـم الـهدى اصبحن وهي غنائم لهـا فـوق اكـوار الـبياق مـآتـم عن الضرب إذ لم يبق في القوم عاصم ثوت حـيث أولـتها الـهتاف الملاحم تـميس بـهـن الـذابـلات اللهـاذم حـمام عـلى ميـد الـغصون حوائم تـضـيق بـه أضلاعـهم والـحيازم عـلى ذلـل الأجـمال مـنكـم كرائم تهـان بـمرأى الـناظـرين الفـواطم


(139)
    الشيخ ناجي بن حمادي بن خميّس ( بالتصغير والتشديد ) الحلي من ادباء عصره. ولد في الحلة عم 1311 ه‍. ونشأ بها منفرداً عن اسرته التي تمتهن المهن الحرة ، ففي أول شبابه لازم الخطيب الشيخ محمد شهيب الحلي في التدرج على منابر الخطابة وحصل له من يعتني بتربيته فدرس النحو والصرف وعلمي المنطق والبلاغة ، وعندما تجاوز العشرين هاجر إلى النجف للتحصيل فدرس الفقه والاصول والكلام على المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي واختلف على حلقتي الميرزا حسين النائيني والسيد أبو الحسن الأصفهاني زمناً طويلاً أنتج خلاله تقريراتهما وتدوين آرائهما في الفقه والاصول باسلوب محكم رصين فكان مرموقاً بين أقرانه. يقول الباحث المعاصر علي الخاقاني في شعراء الغري : حضرت عنده كتاب ( معالم الاصول ) مع جماعة من المتعلمين فكان مثال المعلم اليقظ وكان رقيق الروح مرح النفس حلو الحديث دمث الأخلاق وديع الشخصية ولكنه خشن تجاه كرامته وعقيدته لا تأخذه في الله لومة لائم كانت وفاته بالحلة 15 ذي القعدة عام 1349 ه‍. وحمل جثمانه إلى النجف فدفن في الصحن الحيدري الى جنب مرقد السيد عدنان الغريفي في الحجرة التي تلاصق باب الفرج من أبواب الصحن الشريف ولا يفوتنا ان شطراً من توجيه هذا الأديب كان بسبب أخيه العلامة الشيخ عبد المجيد الحلي ، ترجم له الشيخ اليعقوبي في البابليات والخاقاني في شعراء الحلة وذكرا نماذج من نظمه وادبه.


(140)
وأنتَ إذا ما ذكرت الحسين أحـبّ الحـسين ولكـنني حبست لساني عـن مدحه تصاممتُ لا جاهلا موضعه لسانـي عـليه وقلبي معه حـذار أمـية أن تـقطعه
    أمير الشعراء وشاعر الامراء أحمد شوقي بن علي بن أحمد شوقي ، مولده ووفاته بالقاهرة نشأ في ظل البيت المالك بمصر ودرس في بعض المدارس الحكومية وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق ، وأرسله الخديوي توفيق سنة 1887 م. إلى فرنسا فتابع دراسة الحقوق واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة 1891 م. فعيّن رئيساً للقلم الافرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة 1896 م. لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجنيف ولما نشبت الحرب العالمية الاولى ، ونُحي عباس حلمي عن ( خديوية ) مصر أوعز إلى صاحب الترجمة باختيار مقام غير مصر ، فسافر إلى إسبانيا سنة 1915 م. وعاد بعد الحرب فجعل من أعضاء مجلس الشيوخ إلى أن توفي عالج أكثر فنون الشعر : مديحاً وغزلاً ورثاءً ووصفاً ثم عالج الأحداث السياسية والاجتماعية في مصر والشرق والعالم الإسلامي فجرى شعره مجرى المثل. كتب عن شعره وشخصيته كثير من أرباب القلم منهم أمير البيان شكيب أرسلان والعقاد والمازني والنشاشيبي وعمر فروخ وغيرهم كثير وكثير. وهذه


(141)
( الشوقيات ) تعطينا أوضح الصور عن شاعريته فهو صاحب نهج البردة التي مطلعها :
ريم على القاع بين البان والعلم أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
    وصاحب الهمزية النبوية التي مطلعها :
ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
    وصاحب ذكري المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا لعل على الجمال له عتابا
    وهو الذي يقول في مطلع احدى روائعه :
رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تهفو إلى مشتاق
    وله :
حفّ كأسها الحبب فهي فضة ذهـب
    وهو القائل في مطلع قصيدة تكريم :
قـم للمعلـم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
    فنراه محلّقاً بكل ألوان الشعر وضروبه وهو مسلم مقتنع بالإسلام ومتأثر به تأثراً كلياً هتف بأعلى صوته وردد أنغامه وحرك الأحاسيس وأثار الشعور وملك العواطف وهاك قطع ينقد بها المجتمع :
رأيـت قـومي يذم بعض وان تـلاقـوا ففي تصاف كـريـمهم لا يـسدّ سمعاً وكلهـم عـاقـل حـكـيم وذا ابن من مات عـن كثير وذا بـإسـلامــه مـدلٌ بعضاً إذا غابت الوجوه كـأن هـذا لـذا أخوه ووغـدهـم لا يسدّ فوه وغيره الجاهل السفـيه وذا ابن مَن قد سما أبوه وذا بـعـصيانـه يتيه


(142)
وكلـهـم قـائـم بمبدأ فمذ بدا لي أن قد تساوى وليس مـن بـينهم نزبه جعلـت هـذا مرآة هذا ومـبدأ الكل ضيّعوه في ذلك الغرّ والنبيه ولا أنا الواحد النزيه أنظـر فيه ولا أفوه
    وشوقي ـ كما قال مترجموه ـ عاش في نعمة وترف وسعة في الحال والمال لما كان يغدق عليه الامراء والأثريا فجاء شاعر من شعراء لبنان وهو الشيخ نجيب مروة يقول :
ولو أني جلست مكان شوقي لفاض الشعر من تحتي وفوقي
    وهي أُمنية شاعر والتمني رأس مال المفلس.
    وشوقي يجلّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأي مسلم لا يحبهم وهل تقبل الأعمال بغير حبهم ومودتهم التي هي فريضة من الله ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) فتراه في ثنايا أشعاره يتفجع لما أصابهم ويتفجر ألماً لرزاياهم فتراه في منظومته الرائعة ( دول العرب وعظماء الإسلام ) يقول :
هـذا الحـسين دمه بكربلا واستشهد الأقمار أهل بيته ابـن زيـاد ويـزيدُ بغيا لولا يزيد بادئاً ما شربت روّى الثرى لما جرى على ظما يهوون في الـترب فرادى وثُنا والله والأيـام حـربُ مَن بغى مروانُ بالكاس التي بـها سقى
    ويقول في رواية ( مجنون ليلى ) : كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب بعد أن قتل أبوه علي ومات أخوه الحسن. وكذلك ظل الحسين قائماً في نفوس الناس هناك صورة مقدسة لبداوة الإسلام تستمد أنضر ألوانها من صلته القريبة بجده رسول الله وبنوّته لرجل كان أشدّ الناس زهداً واستصغاراً لدنياه ، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق بإسم الحسين.


(143)
    ويقول أيضاً في مسرحيته ( مجنون ليلى ) :
حـنانيـك قـيسُ إلى مَ الذهـول صهيلُ البغال وصـوتُ الـحداء وحـاد يسـوق ركـاب الحسين فقم قيسُ واضرع مع الضارعين أفق ساعة من غواشي الخبَل ورنـة ركـب وراء الـجبل يهـزّ الـجبال إذا ما ارتجل وأنزل بجنب الحسين الأمـل
    ويطيب له أن يربط الحوادث بيوم الحسين الذي لا يغيب عن خاطره فتراه في رثاء الزعيم مصطفى كامل باشا مؤسس الحزب الوطني والمتوفى سنة 1908 م. يقول :
المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني
    ومنها :
يُزجون نعشك في السناء وفي السنا وكـأنـه نعـش الحـسين بكربلا فكأنـما في نعشك القمران يختال بين بكىً وبين حنان
    ويقول في اخرى عنوانها ( الحرية الحمراء ) :
في مهرجان الحق أو يوم الدم يـبدو عليها نور نور دماتها يوم الجهاد بها كصدر نهاره مهـج مـن الشهداء لم تتكلم كدم الحسين على هلال محرم متمايلُ الأعطاف مبتسمُ الفـم
    وهناك عبارات لا يطلقها إلا المتشيع لأهل البيت تجري على لسانه وقلمه كقوله : رضيع الحسين عليه السلام ، فان كلمة ( عليه السلام ) من متداولات شيعة أهل البيت وقوله :
ما الذي نفرّ عني الضبيات العامرية ألأني أنا شيعيٌ وليلى أموية
اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيّه
    وعندما يخاطب الرسول الأعظم يطيب له أن يقول :
ابا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
    وعندما يمرّ بالخلفاء الراشدين ويأتي الدور للامام علي يقول :
العمران يرويان عنه والحسنان نسختان منه


(144)
خـليلي هـل من وقفة لكما معي ليروى الثرى منه بفيض مدامعي لأن الحـيا يهـمي ويقلـع تارة خليليّ هـبّا فالـرقـاد محـرم هـلُما مـعي نـعقر هناك قلوبنا هلما نقـم بالـغاضـريـة مأتما فـتىً أدركـت فيه عـلوج امية وكيف يسام الضيم مَن جده ارتقى فتـى حلـّقت فـيه قـوادم عزه ولـما دعـته للـكفـاح أجـابها وآساد حـرب غـابها أجـم القنا يصـول بماضي الحدّ غير مكهّمٍ إذا ألقـح الهـيجاء حتفاً برمحه وإن أبطـأت عنه النفوس إجابة إلـى أن دعـاهـم ربهـم للقائه وخروا لوجه الله تلقا وجوهـهم وكم ذات خـدر سجفتها حماتها على جـدث أسـقيه صيّب أدمعي لأن الحيا الـوكاف لـم يك مقنعي وإني لعظم الخطب ما جفّ مدمعي على كل ذي قلب من الوجد موجع إذا الحـزن أبقـاهـا ولـم تتقطع لخيـر كـريم بالـسيوف مـوزع مـراماً فـألقتـه بـبيـداء بلـقع إلى العرش حتى حل أشرف موضع لاعـلى ذرى الـمجد الأثيل وأرفع بأبيـض مـشحوذ وأسـمر مشرع وكـل كميٍ رابـط الـجأش أروع وفي غـير درع الصـبر لم يتدرع فمـاضي الشبا منه يقول لها ضعي فحدّ سنان الـرمح قال لها اسرعي فكانوا إلى لقياه أسرعَ مـَن دُعـي فمـن سجّد فوق الصعيـد وركـع بسمـر قـنا خـطية وبـلـمـّع


(145)
أماطـت يـد الأعداء عنها سجافها لقـد نهـبت كفّ الـمصاب فؤادها فلـم تستطـع عـن ناظريها تستراً وقد فزعت مذ راعها الخطب دهشة فـلـما رأتـه بالـعراء مـجـدلاً دنت مـنه والأحزان تمضغ قلبهـا عليّ عزيز أن تمـوت عـلى ظمأ تلاكُ بأشـداق الـرماح وتـغتـدي فاضحـت بلا سجـف لديها ممنّع وأيـدي عـداهـا كل برد وبرقع بغـير أكـفٍّ قاصـرات وأذرع وأوهى القوى منها إلى خير مفزع عفـيراً عـلى البوغاء غير مشيّع وحـتّت حـنين الـوالـه المتفجع وتشرب في كأس من الحتف مترع لـواردة الأسياف أعـذب مكـرع
    وفي آخرها :
بنـي غـالـب هبـّوا لأخذ تراثكم امـثل حسين حجـة الله في الورى ومثل بنات الوحي تسرى بها العدى فلم يُجدكم قرع لناب بأصبع ثلاث ليال بالعـرا لـم يشيّع إلى الشام من دعي إلى دعي
    الشيخ محمد حسين ابن الشيخ حمد الحلي وربما يعرف ب‍ ( الجباوي ) احدى محلات الحلة ، عالم معروف يشهد عارفوه له بالفضل والتضلّع. ولد في الحلة سنة 1285 ه‍ ودرس على جملة من أفاضلها منهم الشيخ محمدبن نظر علي وفي سنة 1303 غادر الحلة مهاجراً إلى النجف لاكمال الدراسة وأقام فيها أكثر من ثلاثين سنة فحضر عند الشيخ آية الله الشيخ حسن المامقاني والفاضل الشربياني ثم لازم العالم الشهير الشيخ علي رفيش فكان من أول أنصاره والملازمين له أثناء مرجعيته ثم بعد انكفاف بصره ، وفي خلال ذلك تخرّج على يده جملة من الطلاب الروحيين إلى أن كانت سنة 1337 ه‍. عاد إلى مسقط رأسه الحلة بطلب من وجهائها وأقام فيها مرجعاً دينياً محترم الجانب تستفيد الناس من


(146)
معارفه وكمالاته وفي آخر أيامه مرض ولازم الفراش حتى الوفاة ، ذكره الشيخ النقدي في ( الروض النضير ) فقال : عالم مشهور في الفضل والكمال والمعرفة وله اليد الطولى في صناعتي النظم والنثر والنصيب الوافر في علمي الفصاحة والبلاغة. توفي في الحلة عام 1352 ه‍. ونقل جثمانه إلى النجف ودفن في الصحن الشريف ورثاه جمع من العشراء منهم الشيخ ناجي خميّس.
    كتب وألّف في الفقه والأصول وكتب رحلته إلى الحج ورسالة في التجويد والقراءات وجملة من تقريرات أستاذته العلماء الأعلام ولم ينشر له سوى ( الرحلة الحسينية ) وهي التي روى فيها رحلته مع جماعة من الفضلاء إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام سنة 1321 ه‍. ومنها يظهر ذوقه الأدبي ورقة طبعه وأريحيته ، طبعت هذه الرحلة بمطبعة ( الحبل المتين ) بالنجف سنة 1329 ه‍. وختمها بالقصيدة التي هي في صدر الترجمة.


(147)
الشيخ جواد البلاغي
المتوفى 1352

شعبان كـم نعـمت عـين الهدى فيه وأشـرق الـدين مـن أنـوار ثالـثه وارتاح بالسبط قلب المصطفى فـرحاً رآه خـير ولـيـد يـسـتجـار بـه قـرت بـه عين خير الرسل ثم بكت ان تـبتهـج فـاطـم في يـوم مولده أو ينـتعش قـلبهـا مـن نور طلعته فـقـلبها لـم تطـل فـيه مـسرّتـه بـشرىً أبـا حسـن في يـوم مولـده ويـوم دارت عـلى حـرب دوائـره ويـوم أضـرم جـو الطف نار وغىً يا شمس أوج العلى ما خلت عـن كثب فـيا لـجسم عـلى صـدر النبي ربي ويـا لـرأس جـلال الله تـوجـــّه وصـدر قـدس حـوى أسـرار بارئه لولا المحـرم يـأتي في دواهيه لـولا تغـشاه عـاشور بداجيه لو لم يرعه بذكر الطف ناعيـه وخير مستشهـد في الدين يحميه فهل نهـنيه فـيه أو نعـزيـه فليلة الـطف أمست من بواكيه فقـد اديل بقاني الـدمع جاريه حـتى تنازع تبريح الجوى فيه ويوم أرعب قلب الموت ماضيه لولا الـقضاء وما أوحاه داعيه لو لم يخـر صريعاً في محانيه تمسى وأنت عـفير الجسم ثاويه توزعـته المواضي من أعاديه بـه ينوء مـن الـمياد عـاليه يـكون للرجس شمرمن مراقيه


(148)
ومـنـحـر كـان للـهـادي مقبلـه يا ثائـراً للـهدى والـدين مـنتصراً أنى وشيخك ساقي الحـوض حـيدرة ويـا إماماً لـه الـديـن الحنيف لجا أعـظـم بيـومـك هـذا في مسرته يا مـن بـه تفخـر السبع العلى وله أعظم بمثواك في وادي الطفوف علاً لـه حـنيني ومـنه لـوعـتي وإلى أضحـى يقـبله شمـر بماضيه هـذي أُمـية نالـت ثارهـا فيه تقضي وأنت لهيف القلب ضاميه لوذاً فقمت فدتك النفس تـفديـه ويـوم عـاشور فـيما نالكم فيه إمامة الحق مـن إحدى معاليـه يا حـبذا ذلك الـمثوى وواديـه مغناه شوقي واعلاق الهوى فـيه
    الشيخ جواد أو الشيخ محمد جواد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ طالب البلاغي النجفي ينتهي نسبه إلى ربيعة. مولده ووفاته في النجف ولد سنة 1285 ه‍. وتوفي سنة 1352 ه‍. ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان في النجف الأشرف ودفن فيها في المقبرة المقابلة لباب المراد.
    وآل البلاغي بيت علم وفضل وأدب ، كان المترجم له نابغة من نوابغ العصور وجهاده بقلمه ولسانه يذكر فيشكر ، له عشرات المؤلفات وكلها قيّمة ذات فائدة لا زالت تتلاقفها الأيدي ويعتز بها أهل العلم اذكره يحضر مجالس العلم فاذا اشتد الجدال حول مسألة من مسائل العلم كان يقول : عندي بيان أرجو أن تسمحوا لي باستماعه فإني مريض وإذا رفعت صوتي أخاف أن أقذف من صدري دماً.
    كانت تأتيه المسائل من بلاد الغرب فيجيب عنها. وبين أيدينا من مؤلفاته : الرحلة المدرسية ، الهدى إلى دين المصطفى جزآن ، تفسير القرآن ، أنوار الهدى ، رسالة التوحيد والتثليث ، البلاغ المبين رسالة في الرد على الوهابية.
    تعلم العبرية وأتقنها خطاً وقراءة ونطقاً حتى تمكن من المقارنة بين اصولها وبين المترجم إلى اللغة العربية فأظهر كثيراً من مواقع الاختلاف في الترجمة


(149)
التي قصد بها التضليل. كانت ترد عليه الرسائل والأسئلة باللغة الانجليزية فشرع يتعلمها لولا أن يفاجأه الأجل المحتوم. كان تحصيله ودراسته على أعلام عصره أمثال الملا كاظم الخراساني والشيخ اغا رضا الهمداني ومن تراثه الأدبي قصيدته التي عارض بها الرئيس ابن سينا في النفس.
نعُمت بأن جاءت بخلق المبدع خلقـت لأنفـع غاية يا لـيتها الله ( سواهـا وألهمـها ) فـهل ثم السعادة أن يقول لها ارجعي تبعت سبيل الـرشد نحو الأنفع تنحو السبيل إلى المـحلّ الأرفع
    ورائعته التي شارك بها في الحلبة الأدبية عن الحجة المهدي صاحب العصر والزمان التي أثبتها في كتابه الفقهي (1) وأثبتها السيد الأمين في ترجمته في الأعيان. ترجم له صاحب الحصون المنيعة والشيخ اغا بزرك الطهراني في ( نقباء البشر ) والشيخ السماوي في ( الطليعة ) وله مراسلات شعرية مع الشيخ توفيق البلاغي رحمه الله ورثاء للسيد محمد سعيد الحبوبي والكثير من شعره يخص أهل البيت ومنه نوحيته الشهيرة التي يرددها الخطباء في شهر المحرم ومطلعها :
يا تريب الخد في رمضا الطفوف ليتني دونك نهباً للسيوف
    وله من الشعر في ميلاد الحجة المهدي المولود ليلة النصف من شعبان سنة 1256 ه‍. وأولها :
حي شعبان فهو شهر سعودي وعد وصلي فيه وليلة عيدي
    ترجم له الزركلي في ( الاعلام ) وعدد بعض مؤلفاته وقال : وله مشاركة في حركة العراق الاستقلالية وثورة عام 1920 م ، انتهى. أقول وآل البلاغي من أقدم بيوت النجف وأعرقها في العلم والفضل والأدب ، أنجبت هذه الأسرة عدة من رجال العلم والدين وسبق أن ترجمنا في هذه الموسوعة للشيخ محمد علي البلاغي المتوفى سنة 1000 ه‍. ويقول الشيخ اغا بزرك الطهراني في نقباء البشر أن المترجم له ولد سنة 1282 كما أخبره صاحب الترجمة نفسه بمولده
1 ـ وهو تعليقة على مباحث البيع من مكاسب الشيخ الانصاري.

(150)
وحيث أن الشيخ الطهراني من أخدانه واخوانه وكانت تجمعهما وحدة البلد في سامراء أولاً عند استاذهما المغفور له الميرزا محمد تقي الشيرازي ثم النجف ثانياً فقد ألّم بترجمته إلمامة كافية وافية كما كتب عنه الكثير من الباحثين ونشرت المجلات والصحف عن جهاده ومؤلفاته وأكبروا منتوجه العلمي ودفاعه عن الإسلام ومواقفه الصلبة بوجه المادية ودعاتها والطبيعيين وآرائهم.
    وشيخنا البلاغي كان على جانب من عظيم من الخلق الاسلامي الصحيح فهو لا يماري ولا يداهن ولا تلين له قناة في سبيل الحق ، وكان مع علوّ نفسه متواضعاً يكره السمعة ويشنأ الرفعة ، وفي أغلب مؤلفاته يغفل اسمه الصريح فكانت الرسائل تأتيه باسم ( كاتب الهدى النجفي ) ومن العجيب أنه نشر جملة من الرسائل والمقالات باسم غيره ، ومؤلفاته تزيد على الثلاثين ، ترجم بعضها إلى الفارسية والانجليزية ، وقد ذكر الشيخ اغا بزرك في ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) أكثر هذه الكتب.
    ولا زالت أندية النجف تتحدث عن قوة إيمانه وصلابة دينه وشدة ورعه ومنها موقفه في مجلس عقد في النجف ويقتصر على القادة أمثال الشيخ محمد جواد الجواهري والشيخ عبد الكريم الجزائري وفي مقدمتهم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس سره كما حضر المرحوم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي قدس الله أرواحهم وذلك حول الدخول في وظائف الدولة ونظام المدارس الرسمية فكان صوته المجلّي ينبعث عن قلب مكلوم مطالباً باصلاح المدارس والاشراف عليها والتركيز على الأخلاق قبل العلم. انطفأ ذلك المصباح ليلة الاثنين 22 شعبان سنة 1352 ه‍. وكان لنعيه أثر عظيم في العالم الإسلامي وعقدت له مجالس التأبين في البلاد الاسلامية وفي النجف خاصة في جامع الهندي وأنشدت القصائد الرنانة وقد دفن في احدى غرف الصحن الحيدري من الجهة الجنوبية وفي مقدمة القصائد قصيدة المرحوم السيد رضا الهندي وأولها :
إن تمس في ظلم اللحود موسدا فلقد أضأت بهن ( أنوار الهدى )
ادب الطف الجزء التاسع ::: فهرس