ادب الطف الجزء التاسع ::: 196 ـ 210
(196)
كم مُمتلٍ من الغنى في يومه وكم وضيع لم يكد يعرف في وكم أناس جمع اليـوم لهـم هذا هو الدهـر تـراه تارةً أصبح في غد فقيـرا مملقـا الناس إلى أوج الثريـا حلّقـا شملاً فأضحى في غد مفترقا مغـرّبـاً وتـارةً مشـرقـا
    وفي حفلة أدبية بمناسبة قران أحد الأدباء تقدم الاستاذ ابراهيم الوائلي في داره الواقعة في النجف محلة الحويش ينشدنا عصراً قصيدته التي يتحامل بها على القديم وتقاليد الآباء ويسخر من اللحية فيقول :
قالوا اللحى قلت احلقوها إنها هي للمدلّس صرام وسنانُ
    وفي اليوم الثاني يطلع السيد الأعرجي بقصيدته التي أولها :
كم بالتمدن تمـلأ الأشـداق قد أجحفوا بحقوق شعبهم كما ولدى الحقيقة ما له مصداق بلحاهُم قد أجحـف الحـلاق
    ويشفعها برائعته المطربة وينشدها الخطيب خضر القزويني وأولها :
في ذمة التمدن الكاذب حلقك للحية والشارب
    وللسيد الأعرجي ظرف وخفة روح بالرغم من الجهمة التي لا تفارق محياه فلا تكاد تفوته النادرة والنكتة ، فقد دار الحديث مرة عن البلهاء والمغفلين فروى لنا أن أحدهم كان يدير بمسبحته ويذكر الله ويريد أن يقول في الجزء الأول الله أكبر ، وفي الجزء الثاني : سبحان الله ، وفي الجزء الثالث : الحمد لله ولكنه غفل في الجزء الثاني وضلّ يردد سبحان الله ثم انتبه فأراد أن يسترجع الزائد فجعل يقول : لا سبحان الله ، لا سبحان الله ولنستمع إلى ترانيمه المطربة وغزله الرقيق من قصيدة :
بات على غنا الهزار في السحر وبات ثغـر الاقحـوان باسمـاً واللـيل بحـر والهـلال زورق أو أنه ملـك مـن الزنـج أتـى يصفق النهر ويرقص الشجر والنرجس الغض يحدّه النظر والنجم قد طفى عليه كالدرر وعـرشه الجوّ وتاجه القمـر


(197)
وقال يداعب الخطيب خضر القزويني :
يا خضر أنت خليلي في الأنام كما تُرى معي كل آن فـي ملازمـة أنت المؤمل للمعروف من بعـدي والخضر ليس يرى إلا مع المهدي
    وكتب للحجة الكبير الشيخ هادي ابن الشيخ عباس كاشف الغطاء يطلب منه ( سبيلا ) وهو ما يشرب به التبغ :
يا بن عباس همومي كثرت فأنا التائه في سبل الهـوى في الحشى حتى غدا القلـب عليلا فاهدني ـ يا هادي الناس ـ سبيلا
    وكتب للأديب العلامة السيد أحمد السيد رضا الهندي :
أأحمد يا ابن خير الخلق طراً لئـن لُقّبـتَ بالهـندي فينـا ومن كان الحريّ بكل مجـد فإن السيف يقطع وهو هندي
    فأجابه :
أَمهديَّ الورى أطريت وصفي لئن ضلّ الورى سنن المعالي فكنتَ به جدير الذكر عـندي فإنك يا ابن خير الخلق مهدي
    وقال في وردة بيد صديق :
وزهرة طيبها من طيب صاحبها من طبعه اكتسبت نشراً لصحبته تفوح كالعنبر المسحوق بالطيـب والطبع مكتسب من كل مصحوب
    ولأن الأعرجي لا يرتضي من الشعر إلا ما كان منبعثاً عن الشعور ، فيندفع قائلاً :
ما الشعر إلا شعور وخـيره ما تـراه تجيش فيه العواطف عـن الحقيقة كاشف
    ومن ألطف ما أروي له تاريخ وفاة الخطيب المحبوب الشيخ محمد حسين الفيخراني وقد توفاه الله ببغداد على أثر عملية جراحية.


(198)
مات في الكرخ حسين فابكـه وانـدب وأرخ نائي الـدار كئيب واحسين واغريب
    وأرخ عام سحب الماء للنجف على نفقة معين التجار وصديقه رئيس التجار سنة 1343 ه‍.
أجرى المعين من الرئيس عليهما فأقام طـير البشر فيه مؤرخـاً كل الثنا ماء الفرات إلى الغري ان المعين لـه معـين الكوثـرِ
    وإلى جنب إعجابي به فإن لي عليه مؤاخذات لا أودّ ذكرها ومن تلك المؤاخذات قوله كما رواه الخاقاني في شعراء الغري :
زار يختال كغصن فافتضحـنا بسـناه في الصَبا إذ يتـحرك يا جميل الستر سترك
    والمعنى للشيخ البهائي كما روى الشيخ علي كاشف الغطاء في الجزء الرابع من مخطوطه ( سمير الحاظر وأنيس المسافر ) ص 308 :
زارني ليلاً فبتنـا وأدرنا الكاس حتى فأتى الواشي فقلـنا في ظلام ليس يدرك كادت الحشمة تتـرك يا جميل الستر سترك
    أما ولاؤه لأهل البيت وتفانيه في حبّهم فهو من ألمع ميزاته ولا زلت أتمثله في المآتم الحسينية يجهش بالبكاء وقد أفنى عمره في خدمة المنبر الحسيني وهذه روائعه ومراثيه تذيب الصخر إذ أنها تنصبّ من منبع الألم والثكل وقلب مكلوم.
ومقتول بجنب النهـر ظام تساق نساه أسرى من ظلوم وإن يبكي اليتيم أباه شجـواً سليب الثوب مسبيّ الحريـم على عجف النياق إلى ظلوم مسحن سياطهم رأس اليتيـم


(199)
    وإلى جانب هذه الموهبة بالفصحى فهو ذا ملكة قوية بالنظم باللغة الدارجة متفنن فيها ففي الموال والأبوذية والشعر الدارج لا يُجارى وهناك ميزة يتفرّد بها وهي قدرته على نظم الهزل فكان في شهر ربيع الأول يوم الرابع عشر منه وهو يوم هلاك يزيد بن معاوية يسمعنا من نظمه ما يضحك الثكلى فهناك اصطلاحات تختص بها الأقطار والأمصار والبلدان وترى البعض ينتقد البعض ويضحك منها فهو ينظمها ثم ينوّع القصيدة فبيت بالفارسية وآخر بالتركية وثالث بالكردية ورابع بالهندية ومصطلحات الشرقي والغربي وهكذا ، وهذا مما يكاد ينفرد به :
    ومن حسينياته :
ما بـال فهـر أغفلـت أوتارهـا أغفت على الضيم الجفون وضيعت عجبـاً لهـا هـدأت وتلك أميـة عجباً لهـا هـدأت وتلك نساؤهـا مـن كـل ثاكلـة تناهـب قلبهـا لهفي لها بعد التحجـب أصبحـت تدعـو أميـر المؤمنيـن بمهجـة أبتاه يا مردي الفوارس في الوغى قم وانظر ابنك في العراء وجسمـه ثـار تغسلـه الدمـاء بفـيضهـا وخيول حرب منه رضت أضلعـاً وبيوت قدس مـن جلالـة قدرهـا يقـف الأمـين ببابهـا مـستأذنـاً أضـحت عـليها آل حـرب عنوة هلا تثير وغى فتدرك ثارها يا للحـمية عـزها وفخارها قتلت سراة قبـيلها وخـيارها بالطف قد هتك العدى أستارها كف الأسى ويد العدو خمارها حسرى تقاسي ذلها وصغارها فيها الرزية أنشبت أظفارهـا ومبيد جحفلها ومخمد نارهـا جعلته خيل أمية مضمارهـا عار تكفنه الـرياح غبارهـا فيها النبوة أودعت أسرارهـا كانت ملائكة السما زوّارهـا ومقبـلاً أعتابهـا وجدارهـا في يوم عاشورا تشن مغارها


(200)
كم طفلة ذعرت وكم محجـوبـة ويتيمة صاغ القطيع لهـا سـواراً أين الكماة الصيد من عـمرو العلي أين الكماة الصيد من عمرو الـعلي برزت وقد سلب العدو أزارها عندمـا بـز الـعدو سوارها عنها فترخص دونها أعمارها لتثير للحرب العوان غبارهـا
    وله من التخاميس والتشاطير شيء كثير وقد أثبتّ في مؤلفي ( سوانح الأفكار ) جملة من ذلك ، حتى أنه خمّس بعض القصائد بكاملها ومنها قصيدة السيد جعفر الحلي الحسينية وأولها :
وجه الصباح عليّ ليلٌ مظلم وربيع أيامي عليّ محرم
    وهي 75 بيتاً. كما روي لي من نظمه تخميس ميمية السيد حيدر الحلي التي أولها :
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم فلا مشت بي في طرق العلا قدم
    وروي لي من نظمه تخميسه بيتين للسيد رضا الهندي في وداع زينب الكبرى لجثة أخيها الحسين (ع) :
مرّت بهم زينب لـما نووا سفـرا ومذ رأت صنوها في الترب منعفرا بها العدى فأطالت منهم نظـرا همّت لتقضيَ من توديعه وطرا
وقد أبى سوط شمر أن تودعه
إذا دنت منه سوط الشمر أرجعها فلم تودّع محـاميهـا ومفزعـها ورمح زجر متى تبكيه قنّعها ففارقته ولكن رأسـه معهـا
وغاب عنها ولكن قلبها معه
    ومن روائعه في الولاء قوله في الشهيد مسلم بن عقيل :
يكفيك يا ابن عقيل فخراً في الورى إذ في رسالتـه الحسين لك ارتضى فيه سموت إلى السماك الأعـزل حيث الرسول يكون عقل المرسل


(201)
    وقال :
أزائر أكتاف الحمى إبدء بمسلم فإن علي المرتضى باب أحمد وعج لعليِ غوث كل دخيل وباب عليٍ مسلمُ بن عقيـل
    ويقصد الإمامين الكاظمين ويقف على المرقد ويقول :
لموسى والجواد أتيت أسعى فذا باب المراد لمـن أتـاه لأشكو ما بقلبي من لواعج وهذا للورى باب الحوائج
    ومن قصائده الشهيرة قصيدته في الشهيد مسلم بن عقيل وأولها :
هذي مرابعهم فحيّ وسلّم واعقل وقف فيها وقوف متيم
    وأخرى في زيد الشهيد إبن الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وأولها :
خليليّ عوجا بي على ذلك الربع لأسقيه إن شحّ الحيا هاطل الدمع
    وثالثة يذكر فيها أبا الفضل العباس حامل لواء الحسين (ع) يوم كربلاء ، أولها :
كم ذا على الأطلال دمعك يسجم وإلى مَ بالتذكار قلبك مغرم
    ورابعة في الصديقة الزهراء (ع) بنت الرسول الأعظم (ص) ، أولها :
يا أيها الربع الذي قد درسا باكرك الغيث صباحاً ومسا
    وخامسة في الامام موسى الكاظم عليه السلام ، أولها :
رحلوا وما رحلوا أهيل ودادي إلا بحسن تصبري وفؤادي
    ولنقتطف من ديوانه بعض الروائع ، قال مخمساً :
شبّ الهوى في الفؤاد نارا لـشادن يشبـه العـذارى وهيّـم القـلب فاستطارا وأهيف من بني النصارى
بسهم ألحاظه رميتُ


(202)
له يدٌ تبهـج النـفوسـا فهو وإن كان مثل موسى بيضاء قد فاقـت الشموسـا خالف في المعجزات عيسى
فذاك يحيي وذا يميتُ
    ومن مراسلاته الأدبية رسالة للمرجع الديني السيد أبو الحسن الاصفهاني قوله فيها :
جاء الشتا وليس لي من عدة وها أنا أريـد لـي عـباءة أعتدّ فيها من طوارق الزمـن وإن مـن أهل العبا أبو الحسن
    ومن روائعه قصيدته في الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عند رجوعه من المؤتمر الإسلامي بفلسطين وأولها :
طلعت علينا طلوع القمـر فهذي نوادي العلا أشرقت فأهلاً بهذا المحيّا الأغــر وأفق الكمال ازدهى وازدهر
    ولقد تحدثتُ منبرياً عن حياة زيد الشهيد إبن علي السجاد إبن الإمام الحسين عليه السلام وكان حاظراً فارتجل قائلاً :
أبا يحيى ويا مَن فاق قدراً لموقفك الذي استشهدت فيه على هام السهى والفرقدين كموقف جد السبط الحسين
    وقال مقرضاً كتاب ( ثمرات الأعواد ) للخطيب السيد علي الهاشمي :
ولقد بكيت على الحسين بناظر حتى سقيت بأدمعي شجر الأسى أدمت مآقي جفنه عبراته فنما وطال وهذه ثمراته
    وقال في مريض لاذ بحرم أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي عليه السلام :
لقـد كنتُ بالسلّ المبرح داؤه ففضّلت بين الناس قدراً وإنما فشافاني العبـاس من مـرض السل لي الفضل إذ أني عتيق ( أبي الفضل )
    وقال في رثاء الحسين عليه السلام ، وأولها :
ما بكائي لرسم ربع بالي قد محاه مرّ السنين الخوالي


(203)
    وقال في مطلع قصيدة عند مطلع شهر المحرم :
ليت الهلال هلال شهر محرم عجل الخسوف له ولم يتمم
    وسجّلتُ في مؤلفي ( سوانح الأفكار ) قصيدته في شباب كربلاء يوم الحسين (ع) ، وأولها :
لا تركنن إلى الحياة إن المصير إلى الممات
    وقال في مطلع مرثية للإمام الحسين (ع) :
هذي الطفوف فقف بها واستوقف واسقي ثراها بالدموع الذرف
    وقال في الحسين عليه السلام وأولها :
حتى متى أجفاننا عبرى وإلى متى أكبادنا حرّى
    كتب عن الشاعر وترجم له جملة من الباحثين وقالوا : كانت سنة وفاته هي الثامنة والخمسين بعد الثلثمائة والألف ، والصحيح هي التاسعة والخمسين بعد الثلثمائة والألف وكان تاريخ وفاته ( مهدي غرق ) كما نظم الخطيب الشيخ حسن الشيخ كاظم سبتي في تاريخ وفاته :
قد هجر الدنيا أبو صالح أعماله صالحة لا يـرى أفديه ليثاً غاب عن أهله عوّذ بالخمسة مذ أرخوا مـهـاجـراً لله أوّابــا قـط بديـن الله مرتابـا واتخذ القـبرَ له غـابـا مهديّ آل المصطفى غابا
    وسلسلة نسب الشاعر كما في الديوان : السيد مهدي بن راضي بن حسين بن علي بن محمد بن جعفر بن مرتضى بن شرف الدين بن نصر الله بن زروز بن ناصر بن منصور بن أبي الفضل النقيب عماد الدين موسى بن علي بن أبي الحسن محمد بن أحمد البن إبن الأمير محمد الأشتر نقيب الكوفة والحائر الحسيني إبن عبيد الله بن علي الصالح بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين الشهيد (ع).


(204)
    يرثي علي بن الحسين الأكبر شهيد الطف :
يا نيراً فيه تـجلى ظلمـة الغسـق ونبعـة للمـعالـي طاب مغرسهـا حـرّ الظبا والظما والشمس أظمأها يا ابن الحسين الذي ترجى شفاعـته أشبهـتَ فاطمـة عمـراً وحيـدرة يا خائضاً غمرات الموت حين طمى لهفي عليه وحيـداً أحـدقت زمـر نـادى علـيك سـلام الله يا أبتـا نادى بنيّ على الدنيا العفـا وغـدا قد استرحت من الدنيـا وكربتهـا قد غاله الخسف حتى انقضّ من أفق رقت وراقت بضافي العز لا الورق وجادها النـبل دون الـوابل الغـدق وشبه أحمد في خـلق وفـي خُلُـق شجاعـة ورسول الله فـي نطــق فيض النـجيع بموج منـه مندفـق الأعدا به كبيـاض العـين بالحـدق فجاء يـعدو فألفـاه علـى رمـق مكفكفـاً دمعـه الممـزوج بالعلـق وبين أهـل الشقا فرداً أبـوك بقـي
    أبو المهدي السيد صالح ابن السيد حسين ابن السيد محمد حسيني النسب حليّ المحتد والمولد وتناديه عامة الناس أبو مهيدي خطيب أو أشهر خطباء المنبر الحسيني إذ أن شهرته الخطابية لم يحصل على مثلها خطيب حتى اليوم يتحلى بجرأه قوية وبسطة في العلم والجسم. ولد سنة 1289 ه‍. في الحلة وهاجر منها إلى النجف 1308 ه‍. وهو في التاسعة عشرة من عمره وأكمل دروسه في


(205)
العربية والمعاني والبيان عند الشيخ سعيد الحلي والشيخ عبد الحسين الجواهري ودرس كتابي المعالم والقوانين في الأصول على العلامة الشهير السيد عدنان ابن السيد شبر الغريفي الموسوي ، وكتابي الرسائل والمكاسب عند الشيخ علي ابن الشيخ باقر الجواهري وعلى الشيخ ملا كاظم الخراساني صاحب الكفاية وهو في كل ذلك يتعاهد ملكته الأدبية ولم تكن له يومئذٍ صلة بالخطابة وفي سنة 1318 ه‍. أحسّ من نفسه القدرة على الخطابة وقوة البيان وطلاقة اللسان فتوجّه أول ما توجه إلى حفظ الكثير من ( نهج البلاغة ) من خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولم يك في عصره من الخطباء المجددين في الفن إلا المرحوم الشيخ كاظم سبتي فهو أظهر الخطباء وأبرزهم فنبغ السيد صالح وأخذ يجاريه ويزاحمه ومن حسن الصدف أن يولي العالم الكبير والمؤرخ الخبير السيد باقر الهندي عنايته خطيبنا الصالح فيسهر على توجيهه وإرشاده ، وهناك لمع نجمه واشتهر اسمه فقد كان من المتعارف أن يجتمع خطيبان في محفل واحد بالتعاقب وصادف أن دُعي الخطيبان : سبتي والحلي ولحداثة سنّ السيد صالح والأصول المتبادلة في إحترام الخطباء للأكبر سناً فقد رضي السيد صالح أن يكون هو الأول كمقدمة للشيخ كاظم. أما المعروف بين الناس أن الخطيب الثاني إنما تظهر براعته إذا تناول نفس الموضوع الذي طرقه الخطيب الأول بإضافة شيء جديد وتتمة للموضوع الأول. فكان حديث السيد صالح عن سيرة أبي الفضل العباس وهكذا تقدم الشيخ كاظم وتكلم فأجاد ولم يك بحسبان شيخنا الخطيب أن السيد صالح قد أعدّ نفسه وهيأ من المادة الكافية للتحدث عن أبي الفضل العباس في الليالي العشر كلها وهذه براعة منبرية وقدرة تؤهله للتقدم والبروز وهكذا استمر في أدوار حياته بطلاً منبرياً وخاض غمرات سياسية وإصلاحية فكان المنتصر في أكثرها وفي الثورة العراقية عام 1920 م. في الفرات الأوسط ومطالبة الشعب بالحكم الوطني كان صوت السيد صالح أعلى الأصوات واستمر يحرض القبائل حتى قبض عليه الإنكليز في بعقوبة وأبعدوه إلى البصرة ثم إلى المحمرة فآواه أميرها الشيخ خزعل خان وأحسن وِفادته


(206)
واستمر في صراعه مع اللادينيين الذين يتسترون بإسم التهذيب والتنظيم ومن المؤسف أن تنجح مؤامرة اولئك الذين يظهرون خلاف ما يبطنون فيروّجون إشاعة سبه للعلماء وتنقسم كلمة رجال الدين فمن مناصر له ومن محارب وتنتعش تلك الطغمة التي لا يطيب لها العيش إلا في الأوحال والقيل والقال. لقد ضعفت قوته وضعف عزمه ولبث ملازماً بيته إلى أن توفاه الله ليلة السبت 29 شوال 1359 ه‍. في الكوفة فحُمل على الرؤوس تعظيماً له حتى دفن بوادي السلام في مقام المهدي ونعاه المنبر وبكته الخطابة ورثاه العلامة الجليل الشيخ عبد المهدي مطر بقصيدة فاخرة منها :
نعـتك الخطابـة والمنبـر وفيك انطوت صفحة للبيان وناح لك الطرس والمزبر بعيـر لسـانك لا تنشـر
    إهتم الخطيب الأديب السيد محمد حسن الشخص سلمه الله بجمع ديوانه وسجّل له كل شاردة وواردة ، وهذه رائعة من روائعه في أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين (ع) :
من هاشم سلبت أمية تاجهـا تخلو عرينة هاشم من أُسدها قوم إذا الهيجا تلاطم موجها ما بالها أغضت وعهدي أنها وفرت بسيف ضلالها أوداجها وتكون ذئبان الفـلا ولاجّهـا خاضوا بشزّب خيلهم أمواجها كانت لـكل ملمـة فرّاجهـا
    ومنها :
للشـوس عـباس يريهم وجهه باب الحوائج ما دعته مروعـة بأبي أبي الفضل الذي من فضله قطعوا يديه وطالما مـن كفّـه أعمود أخبيتي وحامي حوزتـي أعزز عليك بأن تراني مفـرداً أفدي محيّاً بالتراب قد اكتسـت والوفد ينظر باسماً محـتاجهـا في حاجة إلا ويقضي حـاجهـا السامي تعلّمت الـورى منهاجها ديم الدما قد أمطـرت ثجاجـها وسراج ليلي إن فقدت سـراجها فاجأت من جيش العدى أفواجها من نوره شمس الضحى أبهاجها


(207)
    يستنهض في أولها حجة آل محمد ويتخلص برثاء الحسين عليه السلام :
أبا صالح حتى متى أنت غائـب لقد خفضتنا نصب عينك عصبة يريدون مـنا أن نفضّل عصبـة على مَن أقام الدين في سيفه الذي أبـاد قـريشاً يـوم بدر بسيفـه فكم كفّ عن وجه النبي جيوشهم ويوم تبوك حيـن نـاداه أحمـد أغثني فأنت اليوم كهفي وناصري فداؤك نفسي هـا أنا الـيوم قادم فأرداهم صرعى وفلّـق هامهـم ولمـا أراد الله لـقيـا رسولـه فقام رسول الله يخطـب فـيهـم بـأن عليـاً وارثـي وخليفتـي وليس لهذا الدين غـيرك صاحـب البغاة وثُلّت مـن حماكـم جوانـب لها الكفر دين والمعاصـي مذاهـب له قد أطاعت مـن قـريش كتائـب ويـوم حـنين لـيس إلاه ضـارب وكم ظهرت منه بأحـد عـجائـب وقد هربـوا منـه هُـم والأقـارب فـلـبّـاه لا وانٍ ولا هـو راهـب وكان كـما ينحـط للرجـم ثاقـب همام بماضيـه تفـلّ القـواضـب فأوحى لـه بلّـغ فإنـك غـالـب ألا بلغوا يا قوم مـن هـو غائـب على الناس بعدي وهو للأمر صاحب


(208)
    ومنها :
دعـوه أن اقـدم إنـنا لك شيعة فأقبل والأنصار كـالأسد خلـفه ومذ خيّموا بالطف دارت عليهـم فصالوا عليهم كالليوث وجـرّدوا هم الأسد لكـن الـرماح أجامهـا ومذ خطبوا العليا ولما يكـن لهـا أبى عزّهم إلا الردى حيـث أنـه وما مات منهم واحـد غيـر أنـه ومذ عانقوا بيض الصفاح وبعد ذا نجاهـد أفـواج العدى ونضارب تقلّهـم للـطّف جـردٌ سلاهـب كتائب تقفـو إثـرهـن كتائـب سيوفاً بها للظلم هدّت جـوانـب وليس سوى عوج السيوف مخالب سوى النفس مهر والمهند خاطـب تنال به عـند الإلـه المـراتـب تموت بكفّيه الـقنا والقـواضـب تعانقهـم فـي الخلد حور كواعب
    الشيخ عبد الله هو ابن الشاعر الفحل الشيخ محسن ابن الشيخ محمد الخضري كان من العلماء والفضلاء ولد في النجف سنة 1297 ه‍. ونشأ بها بكفالة جدّه لأمه الشيخ إسماعيل فهو الذي وجّهه نحو العلم ، وتدرّج على أندية آل كاشف الغطاء وهم أعمامه الأدنون منه فبرع في الفقه والأصول مضافاً إلى تقوى وورع ودين وكان يذهب إلى العشائر الفراتية فيعظ ويرشد ويذكرهم بالآخرة حتى أثر أكبر الأثر على نفوسهم واتجهوا لطاعة الله واجتناب المعاصي والتورع عن الحرام وسبق له أن حمل سلاحه وجاهد دفاعاً عن إستقلال العراق وطرد الكافر عن بلاد الإسلام. توفي فجأة عام 1359 ه‍. ببغداد ونقل للنجف فدفن في الإيوان الذهبي من صحن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وخلّف أربعة ذكور الأستاذ عبد الصاحب ، والاستاذ نصر ، والعلامة الشيخ كاظم ، والاستاذ عبد المنعم. وهم يحتفظون بمجموعة من قصائده فمنه قوله متغزّلاً :


(209)
وبـدر الـسعادة لـما استهـل وزالت عـن القلـب أسقامـه وزار الحبيب برغـم الرقيـب رشاً قـد سبى الغصن في قدّه فـوجنتـه الشمـس لما بـدت ومبسمـه الـدر لـما ابتسـم يزجّ الاسـود برمـح القـوام فحـاجبـه قوسـه ، والحمـل فيا عاذلي كفّ عـنك المـلام ونحس النجوم وشيكاً أفـل بوصل الحبيب عقيب الملل وكان الطبيب لـتلك الـعلل وقد علّـم البان ذاك الميـل وطلعته الـبدر لما اكتمـل وما الشهد من ريقه والعسل ويصمي القلوب بسيف المقل سهام لـه والقـوام الأسـل فقد ضلّ قلبك مَن قد عـذل


(210)
    كانت الهيئة الروحية تقيم مأتم العزاء لذكرى سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) في مسجد آل الجواهري بالنجف الأشرف في المحرم فكانت هذه القصيدة الحسينية قد خصصت لها ليلة من الليالي :
متى مُضـر الحمـراء تطلـب ثارهـا وحتـى مَ تستـقصي البـلاد بجـولـة إلـى مَ بـدار الـذل تبقـى ومـا لهـا أتحسب أن غضت عن الحرب طرفهـا فلا عـذر حتى تـورد القـوم بالظبـا فيا من بها يستدفـع الضـر والعـدى دعي البيض فـي ليل القتـام سوافـراً وزفّـي لنـيل الـمجـد نفسـاً أبيـة أديري رحـى الهيجـاء يومـاً لعلّهـا غـداة حسـين خـرّ للأرض فانثنـت فجـرّت اليـه المحصنـات ذيـولهـا فطافت بـه لما سعـت بيـن قومهـا وأهوت علـيه تلثـم النحـر والعـدى أتسـتر بالأيـدي الـوجـوه وقومهـا فلـيـت أبيّ الضيـم ساعـة أبـرزت يـرى زينـباً بيـن الأجانـب بعدمـا فتسمـع آذان الزمـان شعارهـا على الأرض تهدي للسماء غبارها على الضيم دهراً لا تملّ قرارهـا بغير وصال الموت تقطع عارهـا حياض المنايا أو تخوض غمارها حذاراً من البلوى تعـزز جارهـا إذا حجبت خيل الكماة نـهارهـا ولا تجعلي إلا الرؤوس نـثارهـا عليكِ بوادي الطف تنسى مدارهـا عليـه تشـنّ العـاديات مغارهـا وقدسلـبت أيدي الـعدو ستارهـا تفاديه والأحشاء تـرمي جمارهـا تجاذبها بيـن الجمـوع أزارهـا أعدّت لدفع الضيم عنها شفارهـا من الخدر حسرى تستقيل عثارها أماطت يد الأعداء عنها خمارهـا
ادب الطف الجزء التاسع ::: فهرس