الغدير ـ الجزء العاشر ::: 51 ـ 60
(51)
صحته ما أطلق فيه مجاهد بن جبر رضي الله عنه فيما حدثناه من طريق أبي سهل أحمد القطان عن الأعمش قال : والله لقد سمعت الحجاج بن يوسف يقول : يا عجبا من عبد هذيل ( يعني عبد الله بن مسعود ) يزعم أنه يقرأ قرآنا من عند الله ، والله ما هو إلا رجز من رجز الأعراب ، والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه (1) وزاد ابن عساكر : ولأخلين منها المصحف ولو بضلع خنزير.
    وذكر ابن عساكر في تاريخه : 69 من خطبة له قوله : اتقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة ، واسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين عبد الملك فإنها المثوبة ، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دمائهم و أموالهم.
    على أن ابن عمر هو الذي جاء بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وآله : في ثقيف كذاب ومبير.
    أو قوله : إن في ثقيف كذابا ومبيرا (2) وأطبق الناس سلفا وخلفا على أن المبير هو الحجاج قال الجاحظ : خطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فقال : تبا لهم إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك ؟ ألا يعلمون أن خليفة المرأ خير من رسوله (3) ؟ وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه 4 : 81 : اختلف رجلان فقال أحدهما : إن الحجاج كافر ، وقال الآخر : إنه مؤمن ضال.
    فسألا الشعبي فقال لهما : إنه مؤمن بالجبت والطاغوت ، كافر بالله العظيم.
    وقال : وسئل عنه واصل بن عبد الأعلى فقال : تسألوني عن الشيخ الكافر.
    وقال : قال القاسم بن مخيمرة : كان الحجاج ينتفض من الاسلام.
    وقال : قال عاصم بن أبي النجود : ما بقيت لله تعالى حرمة إلا وقد انتهكها الحجاج.
    وقال : قال طاووس : عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمون الحجاج مؤمنا.
    وقال الأجهوري : وقد اختار الإمام محمد بن عرفة والمحققون من اتباعه كفر
1 ـ مستدرك الحاكم 3 : 556 ، تاريخ ابن عساكر 4 : 69.
2 ـ صحيح الترمذي 9 : 64 ، و ج 13 : 294 ، مسند أحمد 2 : 91 ، 92 ، تاريخ ابن عساكر 4 : 50.
3 ـ النصايح لابن عقيل ص 81 ط 2.


(52)
الحجاج. الاتحاف ص 22.
    دع هذه كلها وخذ ما أخرجه الترمذي وابن عساكر من طريق هشام بن حسان أنه قال : أحصي ما قتل الحجاج صبرا فوجد مائة ألف وعشرون ألفا (1) ووجد في سجنه ثمانون ألفا محبوسون ، منهم ثلاثون ألف امرأة (2) وكانت هذه المجزرة الكبرى والسجن العام بين يدي ابن عمر ينظر إليهما من كثب ، أدرك أيام الحجاج كلها ومات وهو حي يذبح ويفتك.
    أمثل هذا الجائر الغادر الآثم يتأهل للايتمام به دون سيد العرب مثال القداسة والكرامة ؟.
    وهل ابن عمر نسي يوم بايع الحجاج ما اعتذر به من امتناعه عن بيعة ابن الزبير لما قيل له : ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين ـ ابن الزبير ـ فقد بايع له أهل العروض وعامة أهل الشام ؟ فقال : والله لا أبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تصيب أيديكم من دماء المسلمين (3).
    هلا كان ابن عمر ونصب عينيه ما كانت تصيبه أيدي الحجاج وزبانيته من دماء المسلمين ، دماء أمة كبيرة من عباد الله الصالحين ، دماء نفوس زكية من شيعة آل الله ؟ فكيف ائتم به وبايعه ؟ وبأي كتاب أم بأية سنة ساغ له حنث يمينه يوم بايع ابن الزبير ومد يده إلى بيعته وهي ترجف من الضعف بعد ما بايعه رؤوس الخوارج أعداء الاسلام ، المارقين من الدين : نافع بن الأزرق ، وعطية بن الأسود ، ونجدة بن عامر ؟ (4).
    ليتني أدري وقومي أفي شريعة الاسلام حكم للغلبة يركن إليه المسلم في الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله ؟ أو أن الايتمام في الجمعة والجماعة يدور مدار تحقق البيعة وإجماع الأمة ، وعدم النزاع بين الإمام وبين من خالفه من الخوارج عليه ؟ أو أن هاتيك الأعذار ـ أعذار ابن عمر ـ أحلام نائم وأماني كاذبة لا طائل تحتها ؟ انظر إلى ضئولة عقل ابن عمر يحسب أن الأمة تتلقى خزعبلاته
1 ـ صحيح الترمذي 9 : 64 ، تاريخ ابن عساكر 4 : 80 ، تيسير الوصول 4 : 36.
2 ـ تاريخ ابن عساكر 4 : 80 ، المستطرف 1 : 66.
3 ـ سنن البيهقي 8 : 192.
4 ـ سنن البيهقي 8 : 193.


(53)
بالقبول ، وتراه بها معذورا في طاماته ، ذاهلا عن أن هذه المعاذير أكثر معرة من بوادره والانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.
    كان الرجل يصلي مع الحجاج بمكة كما قاله ابن سعد (1) وقال ابن حزم في المحلى 4 : 213 : كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ونجدة (2) وكان أحدهما خارجيا ، والثاني أفسق البرية.
    وذكره أبو البركات في بدائع الصنائع 1 : 156.
    أليس أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة ؟ أليس من السنة الصحيحة الثابتة قوله صلى الله عليه وآله : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القرائة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ؟! (3) أم لم يكن منها قوله صلى الله عليه وآله : إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم ، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم ؟! (4).
    أو لم يكن يسر ابن عمر أن تقبل صلاته ؟ أم كان يروقه من صلاة الحجاج أنه وخطباؤه كانوا يلعنون عليا وابن الزبير ؟ (5) أم كان يعلم أن الصلاة وغيرها من القربات لا تنجع لأي مسلم إلا بالولاية لسيد العترة سلام الله عليه (6) وابن عمر على نفسه بصيرة ، ويراه فاقدا إياها ، بعيدا عنها ، فايتمامه عندئذ بالإمام العادل أو الجائر المستهتر سواسية ؟.
    إن كان الرجل يجد الغلبة ملاك الايتمام فهلا إئتم بمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وكان هو الغالب في وقعة الجمل ويوم النهروان ؟ ولم يكن في صفين مغلوبا وإنما لعب ابن العاصي فيها بخديعته فالتبس الأمر على الأغرار ، لكن أهل البصائر عرفوها فلم يتزحزحوا
1 ـ الطبقات الكبرى 4 : 110.
2 ـ نجدة بن عامر ـ عمير ـ اليماني من رؤوس الخوارج زائغ عن الحق ، خرج باليمامة عقب موت يزيد بن معاوية ، وقدم مكة ، وله مقالات معروفة ، وأتباع انقرضوا ، قتل في سنة سبعين. لسان الميزان 6 : 148.
3 ـ صحيح مسلم 2 : 133 ، صحيح الترمذي 6 : 34 ، سنن أبي داود 1 : 96.
4 ـ نصب الراية 2 : 26.
5 ـ راجع المحلى لابن حزم 5 : 64.
6 ـ راجع الجزء الثاني ص 301.


(54)
عن معتقدهم طرفة عين ، وقبل هذه الحروب انعقدت البيعة بخليفة الحق من غير معارض ولا مزاحم حتى يتبين فيه الغالب من المغلوب ، فكان إمام العدل عليه السلام هو المستولي على عرش الخلافة والمحتبي بصدر دستها ، فلماذا تركه عليه السلام ابن عمر ولم يأتم به وقد تم أمره ، بتمام شروط البيعة وملاك الايتمام على رأيه هو ؟! ومن نجدة الخارجي ؟ ومتى غلب على جميع الحواضر الإسلامية ؟ وما قيمته وقيمة الايتمام به ورسول الله صلى الله عليه وآله يعرف الخوارج بالمروق من الدين بقوله : يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم ، وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (1).
    وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم : سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قوله البرية ، يقرأون القرآن ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة (2).
    وبقوله صلى الله عليه وآله : سيكون في أمتي اختلاف وفرقة ، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثم لا يرجعون حتى يرتد على فوقه ، هم شر الخلق ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم.
    قالوا : يا رسول الله ! ما سيماهم ؟ قال : التحليق (3).
    وبقوله صلى الله عليه وآله : يخرج من قبل المشرق قوم كان هديهم هكذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ثم لا يرجعون إليه ووضع يده على صدره ، سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم ، فإذا
1 ـ صحيح الترمذي 9 : 37 ، سنن البيهقي 8 : 170 ، وأخرجه مسلم وأبو داود كما في تيسير الوصول 4 : 31.
2 ـ أخرجه الخمسة إلا الترمذي كما في تيسير الوصول 4 : 32 ، والبيهقي في السنن الكبرى 8 : 170.
3 ـ سنن أبي داود 2 : 284 ، مستدرك الحاكم 2 : 147 ، 148 ، سنن البيهقي 8 : 171 ، وللشيخين عن أبي سعيد نحوه كما في تيسير الوصول 4 : 33.


(55)
رأيتموهم فاقتلوهم. مستدرك الحاكم 2 : 147.
    وبقوله صلى الله عليه وآله : يوشك أن يأتي قوم مثل هذا يتلون كتاب الله وهم أعداؤه ، يقرؤون كتاب الله محلقة رؤسهم ، فإذا خرجوا فاضربوا رقابهم. المستدرك 2 : 145.
    وبقوله صلى الله عليه وآله إن أقواما من أمتي أشدة ، ذلقة ألسنتهم بالقرآن ، لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن المأجور من قتلهم. المستدرك 2 : 146.
    وبقوله صلى الله عليه وآله : الخوارج كلاب النار (1) من طريق صححه السيوطي في الجامع الصغير.
    فما قيمة صحابي لا ينتجع مما جاء عن النبي الأقدس صلى الله عليه وآله من الكثير الصحيح في الناكثين والقاسطين والمارقين ؟ ولم ير قط قيمة لتلكم النصوص ، ويضرب عنها صفحا ولم يتبصر بها في دينه ، ويتترس تجاه ذلك الحكم البات النبوي عن التقاعس عن تلك المشاهد بأنها فتنة.
    أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ؟.
    لقد ذاق ابن عمر وبال أمره بتركه واجبه من البيعة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام والتبرك بيده الكريمة التي هي يد رسول الله صلى الله عليه وآله وهو خليفته بلا منازع ، وبتركه الايتمام به والدخول في حشده وهو نفس الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والبقية منه ، بذل البيعة لمثل الحجاج الفاجر فضرب الله عليه الذلة والهوان هاهنا حتى أن ذلك المتجبر الكذاب المبير لم ير فيه جدارة بأن يناوله يده فمد إليه رجله فبايعها.
    وأخذه الله بصلاته خلفه وخلف نجدة المارق من الدين ، وحسبه بذينك هوانا في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، وكان من أخذه سبحانه إياه أن سلط عليه الحجاج فقتله وصلى عليه (2) ويا لها من صلاة مقبولة ودعاء مستجاب من ظالم غاشم ؟

معذرة أخرى لابن عمر
    ولابن عمر معذرة أخرى ، أخرج أبو نعيم في الحلية 1 : 292 من طريق نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ؟ أنت ابن عمر وصاحب رسول
1 ـ مسند أحمد 4 : 355 ، سنن ابن ماجة 1 : 74.
2 ـ الاستيعاب 1 : 369 ، أسد الغابة 3 : 230.


(56)
الله صلى الله عليه وآله فما يمنعك من هذا الأمر ؟ قال : يمنعني أن الله تعالى حرم علي دم المسلم قال : فإن الله عزوجل يقول : قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
    قال : قد فعلنا وقد قاتلناهم حتى كان الدين لله ، فأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى يكون الدين لغير الله.
    وأخرج في الحلية 1 ص 294 من طريق القاسم بن عبد الرحمن : إنهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى : ألا تخرج فتقاتل ؟ فقال : قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عزوجل من أرض العرب ، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله.
    دع ابن عمر يحسب نفسه أفقه من كل الصحابة من المهاجرين الأولين والأنصار الذين باشروا الحرب مع أمير المؤمنين عليه السلام في تلكم المعامع ، ولكن هل كان يجد نفسه أفقه من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث أمر أصحابه بمناصرة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فيها ، وأمره صلوات الله عليه بمباشرة هاتيك الحروب الدامية ونهى عن التثبط عنها.
    وهل كان صلى الله عليه وآله يعلم أن المقاتلين من الفئتين من أهل لا إله إلا الله فأمر بالمقاتلة مع علي عليه السلام ؟ أو عزب عنه علم ذلك فأمر بإراقة دماء المسلمين ؟ غفرانك اللهم.
    وهل علم صلى الله عليه وآله بأن نتيجة ذلك القتال أن يكون الدين لغير الله فحض عليه ؟ أو فاته ذلك لكن علمه ابن عمر فتجنبه ؟ أعوذ بالله من شطط القول.
    وما أشبه اعتذار ابن عمر اعتذار أبيه يوم أمره رسول الله صلى الله عليه وآله بقتل ذي الثدية رأس الخوارج فما قتله واعتذر بأنه وجده متخشعا واضعا جبهته لله.
    راجع الجزء السابع ص 216.
    ثم إن كون الدين لغير الله هل كان من ناحية مولانا أمير المؤمنين علي وكان هو وأصحابه يريدونه ؟ أو من ناحية مناوئيه ومن بغى عليه من الفئة الباغية ؟ والأول لا يتفق مع ما جاء في الكتاب الكريم والسنة الشريفة في حق الإمام علي عليه السلام وفي مواليه وتابعيه ومناوئيه ، وفي خصوص الحروب الثلاث ، كما هو مبثوث في مجلدات كتابنا هذا ، وإن ذهل أو تذاهل عنها ابن عمر.
    وإن كان يريد الثاني فلماذا بايع معاوية بعد أن تقاعد عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ؟ هذه أسئلة ووجوه لا أدري هل يجد ابن عمر عنها جوابا في محكمة العدل الإلهي ؟


(57)
لا أحسب ، ولعله يتخلص عنها بضئولة العقل المسقط للتكليف.
    وأعجب من هذه كلها ما جاء به أبو نعيم في الحلية 1 : 309 من قول ابن عمر : إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة ، فأخذ بعضهم يمينا وشمالا فأخطأ الطريق ، وأقمنا حيث أدركنا ذلك حتى جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول فعرفنا وأخذنا فيه ، إنها هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا ، ما أبالي أن لا يكون لي ما يقتل (1) بعضهم بعضا بنعلي هاتين الجرداوين.
    ليت شعري متى غشيت الأمة سحابة وظلمة فأقام الرجل حيث أدرك ذلك ؟ أعلى العهد النبوي وهو أصفا أدوار الجو الديني ؟ أم في دور الخلافة ؟ وقد بايع الرجل شيخ تيم وأباه ، وهما عنده خيرا خلق الله واحدا بعد واحد ، فلا يرى فيه غشيان الظلمة أو قبول السحابة ، واعطف على ذلك أيام عثمان فقد بايعه ولم يتسلل عنه حتى يوم مقتله كما مر في ص 23 من هذا الجزء ، فلم تكن أيام عثمان عنده أيام ظلمة وسحابة وإن كان من ملقحي فتنتها بما ارتآه ، فلم يبق إلا عهد الخلافة العلوية وملك معاوية بن أبي سفيان.
    أما معاوية فقد بايعه الرجل طوعا ورغبة وإن رآه رسول الله صلى الله عليه وآله ملكا عضوضا ولعن صاحبه.
    وبايع يزيد بن معاوية بعد ما أخذ مائة ألف من معاوية ، فلم يبق دور ظلمة عنده إلا أيام خلافة خير البشر سيد الأمة مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وفيها أخذ بعضهم يمينا وشمالا فأخطأ الطريق ، وكانت الأدوار مجلاة قبل ذلك و بعده أيام إمارة معاوية ويزيد وعبد الملك والحجاج ، فقد أبصر الرجل طريقه المهيع الأول عند ذلك فعرفه وأخذ فيه وبايعهم.
    وهل هنا من يسائل الرجل عن الذين أخطأوا الطريق ببيعتهم وانحيازهم ؟ هل هم الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام ؟ وهم الصحابة العدول والبدريون من المهاجرين والأنصار ، والأمة الصالحة من التابعين من رجالات المدينة المشرفة وغيرها من الأمصار الإسلامية.
    أو الذين أكبوا على تلكم الأيدي العادية فبايعوها ؟ من طغام الشام ، سفلة الأعراب ، وبقية الأحزاب ، وأهل المطامع والشره.
    فيرى هل تحدوه القحة والصلف إلى
1 ـ في تعليق الحلية : المعنى ما يقتل بعضهم بعضا عليه والله أعلم.

(58)
أن يقول بالأول ؟ ونصب عينه قول رسول الله صلى الله عليه وآله : إن تولوا عليا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم.
    وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : إن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم.
    وقوله صلى الله عليه وآله : إن تستخلفوا عليا وما أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يحملكم على المحجة البيضاء.
    إلى أحاديث أخرى أوعزنا إليها في الجزء الأول ص 12.
    أو أن النصفة تلقى على روعه فينطق وهو لا يشعر بما يقول فيقول بالثاني فينقض ما ارتكبه من بيعة القوم جميعا ؟.
    ثم إن من غريب المعتقد ما ارتئاه من أن فتيان قريش كانوا يقتتلون على السلطان ويبغون بذلك حطام الدنيا وهو يعلم أن لهذا الحسبان شطرين ، فشطر لعلي أمير المؤمنين وأصحابه ، وهو الذي كانت الدنيا عنده كعفطة عنز كما لهج به صلوات الله عليه وصدق الخبر الخبر ، وكانت نهضته تلك بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهد منه إليه وإلى أصحابه كما تقدم في هذا الجزء والجزء الثالث.
    وشطر لطلحة والزبير ولمعاوية ، أما الأولان فيعرب عن مرماهما قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له : كل واحد منهما يرجو الأمر له ويعطفه عليه دون صاحبه لا يمتان إلى الله بحبل ، ولا يمدان إليه بسبب ، كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه ، وعما قليل يكشف قناعه به ، والله لئن أصابوا الذي يريدون لينزعن هذا نفس هذا ، و ليأتين هذا على هذا ، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون ؟.
    ولما خرج طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة جاء مروان بن الحكم إلى طلحة و ـ الزبير وقال : على أيكما أسلم بالإمارة ، وأنادي بالصلاة ؟ فسكتا ، فقال عبد الله بن الزبير : على أبي.
    وقال محمد بن طلحة : على أبي.
    فأرسلت عائشة إلى مروان : أتريد أن ترمي الفتنة بيننا ؟ أو قالت : بين أصحابنا ، مروا ابن أختي فليصل بالناس.
    يعني عبد الله بن الزبير.
    مرآة الجنان لليافعي 1 : 95 وأما معاوية فهو الذي صدق فيه ظنه بل تنجز يقينه ، وقد عرفه بذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعرفه إياك بغايته الوحيدة ونفسيته الذميمة كلماتهم ، وابن عمر لا يصيخ


(59)
إليها وقد أصمه وأعماه حب العبشميين ، فاتبع هواه وأضله ، وإليك نمازج من تلكم الكلم :
    1 ـ قال هاشم المرقال مخاطبا أمير المؤمنين عليا عليه السلام : سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وعملوا في عباد الله بغير رضا الله ، فأحلوا حرامه ، وحرموا حلاله ، واستهوى بهم الشيطان ، ووعدهم الأباطيل ، ومناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهوى ، وقصد بهم قصد الردى ، وحبب إليهم الدنيا ، فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة ؟ إلخ.
    كتاب صفين ص 125 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 282 ، جمهرة الخطب 1 : 151.
    2 ـ ومن كلام لهاشم المرقال أيضا : يا أمير المؤمنين ! فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء ، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء ، وهم مقاتلوك ومجادلوك ، لا يبقون جهدا مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها ، ليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان ، كذبوا ليسوا لدمه ينفرون ، ولكن الدنيا يطلبون. كتاب ابن مزاحم ص 103 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 278.
    3 ـ من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي : إن المسلم من سلم دينه ورأيه ، وإن هؤلاء القوم والله ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه ، ولا على إحياء حق رأونا أمتناه ، ولا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا ، ولو ظهروا عليكم ـ لا أراهم الله ظهورا وسرورا ـ إذن لوليكم مثل سعيد (1) والوليد (2) وعبد الله بن عامر (3) السفيه يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت ، ويأخذ ماله الله ويقول : لا إثم علي فيه ، كأنما أعطي تراثه من أبيه.
    كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا ، قاتلوا عباد الله ! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ، ولا تأخذكم فيهم لومة لائم ، إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم ، وهم من قد عرفتم وجربتم ، والله ما ـ أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا ، واستغفر الله العظيم لي ولكم.
1 ـ سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية والي معاوية على المدينة.
2 ـ الوليد بن عقبة السكير أخو عثمان لأمه.
3 ـ عبد الله بن عامر ولاه معاوية على البصرة ثلاث سنين.


(60)
    كتاب صفين ص 279 ، تاريخ الطبري 6 : 10 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 485.
    4 ـ من مقال لعمار بن ياسر بصفين : امضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه ، الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان ، الآمرون بالاحسان.
    فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم ولو درس هذا الدين : لم قتلتموه ؟ فقلنا : لأحداثه.
    فقالوا : إنه ما أحدث شيئا وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدت عليهم الجبال ، والله ما أظنهم يطلبون دمه إنهم ليعلمون أنه لظالم ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروها ، وعلموا لو أن صاحب الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون فيه منها ، ولم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحقون بها الطاعة والولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا : قتل إمامنا مظلوما.
    ليكونوا بذلك جبابرة وملوكا ، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، ولولا هي ما بايعهم من الناس رجلان.
    كتاب صفين ص 361 ، تاريخ الطبري 6 : 21 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 504 ، الكامل لابن الأثير 3 : 123 ، تاريخ ابن كثير 7 : 266 واللفظ لابن مزاحم.
    5 ـ من خطبة لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي : يا أمير المؤمنين ! إن القوم لو كانوا الله يريدون ، ولله يعملون ، ما خالفونا ، ولكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الأسوة وحبا للأثرة ، وضنا بسلطانهم ، وكرها لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في نفوسهم ، وعداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين ! بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم. كتاب صفين ص 114 ، شرح ابن أبي الحديد 1 : 281 ، جمهرة الخطب 1 : 148.
    6 ـ من كلام لشبث بن ربعي مخاطبا معاوية : إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو ما تطلب.
    إلى آخر ما يأتي في هذا الجزء.
    7 ـ قال وردان غلام عمرو بن العاص له : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض من الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض الآخرة.
    فقال عمرو :
يا قاتل الله وردانا وفتنته أبدى لعمرك ما في النفس وردان
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس