الغدير ـ الجزء العاشر ::: 61 ـ 70
(61)
لما تعرضت الدنيا عرضت لها نفس تعف وأخرى الحرص يقلبها أما علي فدين ليس يشركه فاخترت من طمعي دنيا على بصر بحرص نفسي وفي الأطباع ادهان والمرء يأكل تبنا وهو غرثان دنيا وذاك له دنيا وسلطان وما معي بالـذي أختار برهان
    إلى آخر أبيات مرت في ج 2 : 128 ، ومر لعمرو بن العاص قوله :
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة وما الدين والدنيا سواء وإنني بذلك دنيا فانظرن كيف تصنع أخذت بها شيخا يضر وينفع لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
إلى آخر ما أسلفناه في ج 2 : 44.
    8 ـ من كتاب لمحمد بن مسلمة الأنصاري إلى معاوية : وأما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى. فإن تنصر عثمان ميتا فقد خذلته حيا. كتاب صفين ص 86.
    9 ـ قال نصر : لما اشترطت عك والاشعرون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة والعطاء فأعطاهم (1) ، لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية وشخص بصره إليه حتى فشا ذلك في الناس ، وبلغ ذلك عليا فساءه ، وجاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي (2) وكان فارس همدان وشاعرهم فقال : يا أمير المؤمنين ؟ إن عكا والأشعريون طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم ، فباعوا الدين بالدنيا ، وإنا رضينا بالآخرة من الدنيا ، وبالعراق من الشام ، وبك من معاوية ، والله لآخرتنا خير من دنياهم ، ولعراقنا خير من شامهم ، ولإمامنا أهدى من إمامهم ، فاستفتحنا بالحرب ، وثق منا بالنصر ، واحملنا على الموت.
    ثم قال في ذلك :
إن عكّاً سألوا الفرائض والأشعر سألوا جوائزا بثنيه (3)

1 ـ اشترطوا على معاوية أن يجعل لهم فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين ، ومن هلك فابن عمه مكانه [ كتاب صفين 493 ].
2 ـ الوادعي : نسبة إلى وادعة : بطن من همدان.
3 ـ البثنية : منسوبة إلي قرية بالشام بين دمشق وأذرعات ، وإليها تنسب الحنطة البثنية ، وهي أجود أنواع الحنطة.


(62)
تركوا الدين للعطاء وللفرض وسألنا حـسن الثواب من الله فلكل ما سأله ونواه ولأهل العراق أحسن في الحرب ولأهل العراق أحمل للثقل ليس منا من لم يكن لك في فكانوا بذاك شر البريه وصبرا على الجهاد ونيه كلنا يحسب الخلاف خطيه إذا ما تدانت السمهريه إذا عمت العباد بليه الله وليا يا ذا الولا والوصيه
    فقال علي : حسبك رحمك الله ، وأثنى عليه خيرا وعلى قومه. وانتهى شعره إلى معاوية فقال معاوية : والله لأستميلن بالأموال ثقات علي ، ولأقسمن فيهم المال حتى تغلب دنياي آخرته. كتاب صفين ص 495 ، شرح ابن أبي الحديد 2 : 293.
    10 ـ من كتاب لمولانا أمير المؤمنين إلى معاوية : واعلم يا معاوية ؟ أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية ، ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ، ولا لك عليه شاهد من كتاب الله ، ولا عهد تدعيه من رسول الله ، فكيف أنت صانع ؟ إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها ، وركنت إلى لذتها ، وخلي فيها بينك وبين عدو جاهد ملح ، مع ما عرض في نفسك ، من دنيا قد دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ أهبة الحساب ، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن ، ومتى كنتم يا معاوية ! ساسة للرعية ؟ أو ولاة لأمر هذه الأمة بغير قدم حسن ؟ ولا شرف سابق على قومكم ، فشمر لما قد نزل بك ، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك ، مع أني أعرف أن الله ورسوله صادقان ، فنعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء ، وإلا تفعل أعلمك ما أغفلك من نفسك ، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه ، فجرى منك مجرى الدم في العروق.
    كتاب صفين ص 122 ، نهج البلاغة 2 : 10 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 410.
    11 ـ روي : أن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال لحبيب (1) بن مسلمة في
1 ـ نزيل الشام كان مع معاوية في حروبه.

(63)
بعض خرجاته بعد صفين : يا حبيب ! رب مسير لك في غير طاعة الله.
    فقال له حبيب : أما إلى أبيك فلا.
    فقال له الحسن : بلى والله ولقد طاوعت معاوية على دنياه وسارعت في هواه ، فلئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، فليتك إذا أسأت الفعل أحسنت القول فتكون كما قال الله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. ولكنك كما قال الله تعالى : بل ران على قلوبهم ما كانوا يسكبون (1).
    12 ـ قال القحذمي : لما قدم معاوية المدينة ، قال : أيها الناس ؟ إن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد الدنيا ولم ترده ، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها ، وأما عثمان فنال منها ونالت منه ، وأما أنا فمالت بي وملت بها ، وأنا ابنها وهي أمي وأنا ابنها ، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم. العقد الفريد 2 : 300.
    إلى كلمات أخرى تعرب عن مدى غايات معاوية وتركاضه وراء حطام الدنيا وملكها العضوض.

ابن عمر يحيي أحداث أبيه
    هاهنا يوقفنا السبر عن أخبار ابن عمر على مواقف اتباعه أحداث والده واتخاذه آرائه الشاذة عن الكتاب والسنة دينا بعد تبين الرشد من الغي ، ما بالهم إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ؟!.
    ( منها ) : ذكر الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4 : 265 عن ابن عمر لما سئل عن المتعة ، قال : حرام.
    فقيل : إن ابن عباس لا يرى بها بأسا.
    فقال : والله لقد علم ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وما كنا مسافحين.
    وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 7 : 206 عن عبد الله بن عمر أنه سئل عن متعة النساء فقال : حرام ، أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة.
    إن الرجل متقول على الله وعلى رسوله بحكمه البات بحرمة المتعة ، والسائل إنما سأله عن دين الله لا عما أحدثه أبوه ، وهو في قوله هذا مكذب لأبيه حيث يقول :
1 ـ الاستيعاب 1 : 123.

(64)
متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما.
    ويقول : ثلاث كن على عهد رسول الله أنا محرمهن ومعاقب عليهن : متعة الحج.
    ومتعة النساء.
    وحي على خير العمل.
    ولم يستثن من ذلك العهد شيئا ونسب التحريم إلى نفسه ، وقد عد من أوليات عمر.
    ومكذب أيضا ابن عباس وقاذف إياه بأنه كان يعلم حكم الله ويحكم بخلافه ، ويحلف بالله في قوله الفاحش ، وحاشى حبر الأمة عن هذه الطامة الكبرى.
    ومكذب فحول الصحابة نظراء جابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، وعمران ابن حصين ، القائلين بإباحة المتعة في السنة الشريفة ، وإنهم تمتعوا على عهد أبي بكر وشطر من خلافة عمر ، وإن عمر هو الذي نهى عنها.
    ومكذب سيد العترة أمير المؤمنين عليه السلام في عزوه النهي عن المتعة إلى عمر ، وقوله : لولا نهيه عنها ما زنى إلا شقي.
    على أن النهي عن المتعة بخيبر يكذبه به إطباق الحفاظ وشراح البخاري على عدم وجود النهي عنها يومئذ ، وقد سبق القول عن السهيلي وأبي عمرو الزرقاني في الجزء السادس ص 226 ط 2 بأنه وهم وغلط لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر.
    مر الكلام حول هذا البحث ضافيا في الجزء السادس ص 198 ـ 240 ط 2.
    ( ومنها ) : نهيه عن البكاء على الأموات احتذاء منه سيرة أبيه خلاف ما جاء في السنة الشريفة من فعل النبي صلى الله عليه وآله وقوله وتقريره ، وكان ذلك بعد قيام الحجة عليهما كما مر في الجزء السادس ، وكان الرجل يقول : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر فقال : إن هذا ليعذب الآن ببكاء أهله عليه فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن إنه وهم ، إن الله تعالى يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى.
    إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا ليعذب الآن وأهله يبكون عليه (1) فصلنا القول في المسألة في الجزء السادس 159 ـ 167 ط 2 وفي هذا الجزء ص 43 ، 44.
    ( ومنها ) : استنكافه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أخذا برأي أبيه ، السابق
1 ـ مسند أحمد 2 : 31 ، 38.

(65)
ذكره في ج 6 ص 294 ط 2 ، قال الشعبي : قعدت مع ابن عمر سنتين أو سنة ونصفا فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا (1).
    ( ومنها ) : قوله في طواف الوداع على الحائض التي أفاضت حذو رأي أبيه خلاف السنة النبوية الشريفة ، وكان على ذلك ردحا من الزمن ، ثم لما لم ير من وافقه في الرأي لم يجد بدا من البخوع للحق فأخبت إليه كما أسلفناه في ج 6 : 111 ط 2.
    ( ومنها ) : حضه الناس على ما أحدثه أبوه من المنع عن السؤال عما لم يقع (2) وقوله : يا أيها الناس لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن (3).
    ألا تعجب من سوء حظ أمة محمد صلى الله عليه وآله أن تدعم الأحدوثة فيها بالمسبة ، وتنهى عن المعروف بالفسوق ؟.
    ( ومنها ) : قوله في المتطيب عند الاحرام اقتداء بأحدوثة أبيه خلاف السنة الثابتة ، أخرج البخاري ومسلم من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال : سمعت ابن عمر يقول : لإن أصبح مطليا بقطران أحب إلي من أن أصبح محرما أنضخ (4) طيبا قال : فدخلت على عائشة فأخبرتها بقوله فقالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه ثم أصبح محرما.
    وفي لفظ البخاري : ذكرته لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضخ طيبا.
    وفي لفظ النسائي : سألت ابن عمر عن الطيب عند الاحرام فقال : لإن أطلي بالقطران أحب إلي من ذلك.
    فذكرت ذلك لعائشة فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضخ طيباً (5).
1 ـ سنن الدارمي 1 : 84 ، سنن ابن ماجة 1 : 15 ، مسند أحمد 2 : 157 ، ولفظه : جالست ابن عمر سنتين ما سمعته روى شيئا عن رسول الله.
2 ـ مر البحث عنه في ج 6 : 293 ط 2.
3 ـ كتاب العلم لأبي عمر 2 : 143 ، مختصر كتاب العلم ص 190.
4 ـ النضخ بالخاء المعجمة كاللطخ فيما يبقى له أثر يقال : نضخ ثوبه بالطيب. والنضح بالمهملة فيما كان رقيقا مثل الماء.
5 ـ صحيح البخاري 1 : 102 ، 103 ، صحيح مسلم 4 : 12 ، 13 ، سنن النسائي 5 : 141.


(66)
    ( ومنها ) : ما أخرجه الشيخان (1) من طريق مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في ـ المسجد فسألناه عن صلاتهم فقال : بدعة.
    فقال له عروة : يا أبا عبد الرحمن ! كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أربع عمر إحداهن في رجب ، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه ، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة فقال عروة : ألا تسمعين يا أم المؤمنين ! إلى ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ فقالت : وما يقول ؟ قال : يقول : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب.
    فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه ، وما اعتمر في رجب قط.
    الظاهر من الرواية أن ابن عمر تعمد باختلاق عمرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رجب وإن كره مجاهد ، وعروة أن يكذباه ، وإنما فعل ذلك روما لتدعيم ما تأول به رأي أبيه الشاذ في متعة الحج مما رواه أحمد في مسنده 2 : 95 من قوله : إن عمر لم يقل لكم إن العمرة في أشهر الحج حرام ولكنه قال : إن أتم العمرة أن تفردوها من أشهر الحج.
    فأراد ابن عمر بعزو عمرة رجب المختلقة إلى رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم تأييدا لتأويله الذي يضاد صريح قول أبيه : إني أحرمها وأعاقب عليها. وقد فصلنا القول فيها في ج 6.
    ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما اعتمر في رجب قط كما جاء في حديث أنس أيضا : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلها في ذي العقدة (2) وأخرج ابن ماجة في سننه 2 : 233 من طريق ابن عباس قال : لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة إلا في ذي العقدة.
    وكان ابن عمر يحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر مرتين فأنكرت عليه عائشة أيضا ، ولعله كان قبل إنكارها السابق عليه ، أخرج أبو داود وأحمد (3) من طريق مجاهد قال : سئل ابن عمر : كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : مرتين.
    فقالت عائشة : لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.
1 ـ صحيح البخاري 3 : 144 ، صحيح مسلم 4 : 61 ، مسند أحمد 2 : 73 ، 129 ، 155 ، وفي تيسير الوصول 1 ص 336 : أخرجه الخمسة إلا النسائي.
2 ـ صحيح البخاري 3 : 145 ، صحيح مسلم 4 : 60 ، سنن أبي داود 1 : 312 ، الاجابة للزركشي ص 115.
3 ـ راجع سنن أبي داود 1 : 312 ، مسند أحمد 2 : 70 ، 139 ، فتح الباري 3 ، 473.


(67)
    ولعل الباحث يقرب من عرفان حقيقة ابن عمر إن أمعن النظر فيما أخرجه ابن عساكر من طريق إمام الحنابلة أحمد عن ابن ابزي : إن عبد الله بن الزبير قال لعثمان يوم حصر : إن عندي نجائب قد أعددتها لك ، فهل لك أن تتحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك ؟ قال : لا ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله عليه نصف أوزار الناس ، ولا أراك إلا إياه أو عبد الله بن عمر ( تاريخ ابن عساكر 7 : 414 ).
    وأخرج أحمد في مسنده 2 : 136 : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال : يا ابن الزبير إياك والالحاد في حرم الله تبارك وتعالى فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت. قال : فانظر لا تكونه.
    الفريق الثاني.
    أما الفريق الثاني من أخبار ابن عمر فحدث عنه ولا حرج ، تراه لا يدعه عداءه المحتدم ونفسيته الواجدة على أمير المؤمنين ، أو حبه المعمى والمصم للبيت العبشمي أن يجري على لسانه اسم علي وذكر أيام خلافته فضلا عن أن يبايعه ، مر حول حديث ذكرناه في هذا الجزء صفحة 24 قول ابن حجر : لم يذكر ابن عمر خلافة علي لأنه لم يبايعه لوقوع الاختلاف عليه. إلى آخر كلامه.
    وسبق في ص 36 من طريق الحافظ ابن عساكر ذكر ابن عمر الخلافة الإسلامية و عده خلفائها الاثني عشر من قريش : أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد والسفاح و منصور وجابر والأمين وسلام والمهدي وأمير العصب وقوله فيهم : إن كلهم صالح لا يوجد مثله.
    أي نفسية ذميمة أو عقلية ساقطة دعت الرجل إلى هذه العصبية عصبية الجاهلية الأولى ، هب أن خلافة أمير المؤمنين كانت غير مشروعة ـ العياذ بالله ـ ولكن هل كانت من السقوط على حد هو أسوء حالا من أيام يزيد الطاغية الباغية وملكه العضوض الذي استساغ الرجل أن يلهج به دون عهد أمير المؤمنين وخلافته ؟ وهلا تسوغ تسمية أيام الفراعنة والجبابرة لدى سرد تاريخ قصة أو قضية ؟ وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله عند


(68)
القوم أن الخلافة بعده صلى الله عليه وآله ثلثون عاما ، ثم ملك عضوض ، ثم كائن عتوا وجبرية و فسادا في الأمة ، يستحلون الفروج والخمور (1) وهل كان على لسان الرجل عقال عي به عن سرد فضائل أمير المؤمنين وتبكمت عليه مما ملأ بين الخافقين ، وقد نزلت فيه عليه السلام ثلاثمائة آية ، وجاءت في الثناء عليه آلاف من الحديث لم ترو منها عن ابن عمر إلا نزر يعد بالأنامل ، وذلك بصورة مصغرة مشوهة ، يضم آرائه السخيفة إليها مثل ما أخرجه أحمد في مسنده 2 : 26 عن ابن عمر قال : كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وآله : رسول الله خير الناس.
    ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لإن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم : زوجه رسول الله ابنته وولدت له. وسدت الأبواب إلا بابه في المسجد. وأعطاه الراية يوم خيبر.
    وفي حديث : قيل لابن عمر : ما قولك في علي وعثمان رضي الله عنها ؟ فقال ابن عمر : أما عثمان فقد عفي الله عنه فكرهتم أن تعفو ، وأما علي فابن عم رسول الله وختنه (2).
    وتراه يوازن أبا بكر وعمر وعثمان مع رسول الله ويزنهم بميزان قسطه الذي فيه ألف عين ثم يرفعه ولم تلحق الزنة عليا ، أخرج أحمد في المسند 2 : 76 من طريق ابن عمر قال : خرج علينا رسول الله ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال : رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين ، فأما المقاليد فهذه المفاتيح ، وأما الموازين فهي التي تزنون بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة ، فوزنت بهم فرجحت ، ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن ، ثم جيء بعمر فوزن ، ثم جيء بعثمان فوزن بهم. ثم رفعت.
    يؤيد ابن عمر بهذه الأسطورة رأيه في المفاضلة بين الصحابة ، وإنه لا تفاضل بينهم بعد أبي بكر وعمر وعثمان ، وإذا ذهبوا استوى الناس.
    نعم : ثقيل على ابن عمر أن يذكر عليا بخير ، ويبوح بشيء من فضائله الجمة ، وهو يأتي في غيره بما لا يقبله قط ذو مسكة ، ولا يساعده فيه العقل والمنطق مثل قوله : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها على صدره بخلال ، فنزل
1 ـ راجع الخصايص الكبرى 2 : 119 ، فيض القدير 3 : 509.
2 ـ أخرجه البخاري.


(69)
عليه جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها على صدره بخلال ؟ إلى آخر ما مر في ج 5 ص 274 ط 1 ، و 321 ط 2.
    وقوله مرفوعا : لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح.
    لسان الميزان 3 : 310.
    وقوله مرفوعا : أتيت في المنام بعس مملوء لبنا فشربت منه حتى امتلأت فرأيته يجري في عروقي ، فضلت فضلة فأخذها عمر بن الخطاب فشربها.
    إلى آخر ما أسلفناه في ج 5 : 279 ط 1 ، و 326 ط 2.
    وقوله مرفوعا : أحشر يوم القيامة بين أبي بكر وعمر ، حتى أقف بين الحرمين فيأتيني أهل مكة والمدينة.
    وقوله مرفوعا : هبط جبريل فقال : إن رب العرش يقول لك : لما أخذت ميثاق النبيين أخذت ميثاقك وجعلتك سيدهم وجعلت وزيرك أبا بكر وعمر.
    وقوله مرفوعا : لما أسري بي إلى السماء فصرت إلى السماء الرابعة سقطت في حجري تفاحة فأخذتها بيدي فانفلقت فخرج منها حوراء تقهقه فقلت لها : تكلمي لمن أنت ؟ قالت : للمقتول شهيدا عثمان بن عفان.
    وقوله مرفوعا : أما إن معاوية يبعث يوم القيامة عليه رداء من نور الإيمان.
    وقوله مرفوعا : إنه أوحي إلي أن أشاور ابن أبي سفيان في بعض أمري.
    وقوله : لما نزلت آية الكرسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية : اكتبها فقال لي : ما لي بكتبها إن كتبتها ؟ قال : لا يقرؤها أحد إلا كتب لك أجرها.
    وقوله مرفوعا : الآن يطلع عليكم رجل من أهل الجنة.
    فطلع معاوية ، فقال : أنت يا معاوية ! مني وأنا منك ، لتزاحمني على باب الجنة كهاتين.
    وأشار بإصبعيه.
    وقوله مرفوعا : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة.
    فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك ، فطلع معاوية ، ثم قال من الغد مثل ذلك ، فطلع معاوية.
    وقوله : إن جعفر بن أبي طالب أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرجلا فأعطى معاوية ثلاث سفرجلات وقال : تلقاني بهن في الجنة.


(70)
    إلى روايات أخرى أسلفناها في الجزء الخامس في سلسلة الموضوعات ، ونحن وإن ماشينا القوم هنالك وأخذنا بتلكم الطامات أناسا آخرين من رجال أسانيدها ، غير أن ما صح عن ابن عمر من أخباره كحديث المفاضلة ، وما علم من نزعاته الوبيلة ، وما ثبت عنه من أفعاله وتروكه تقرب إلى الذهن إنه هو صائغ تلكم الصحاصح ، ولا رجحان لغيره عليه في كفة الاختلاق والتقول ، كما أن له في نحت الأعذار لمن انحاز إليهم من الأمويين قدما وقدما ، وقد مر شطر من شواهد ذلك ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده 2 : 101 من طريق عثمان بن عبد الله بن موهب قال : جاء رجل من مصر يحج البيت قال فرأى قوما جلوسا فقال : من هؤلاء القوم ؟ فقالوا : قريش.
    قال : فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا : عبد الله بن عمر.
    قال : يا ابن عمر إني سائلك عن شيء أو أنشدك بحرمة هذا البيت ، أتعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال : نعم.
    قال : فتعلم أنه غاب عن بدر فلم يشهده ؟ قال : نعم.
    قال : وتعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان ؟ قال : نعم.
    قال فكبر المصري ، فقال ابن عمر : تعال أبين لك ما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله قد عفى عنه وغفر له ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها مرضت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لك أجر رجل شهد بدر أو سهمه.
    أما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان ، فضرب بها يده وقال : هذه لعثمان.
    قال : وقال ابن عمر : اذهب هذا الآن معك.
    وأخرجه البخاري في صحيحه 6 : 122.
    وفي مرسلة عن المهلب بن عبد الله أنه دخل على سالم بن عبد الله بن عمر رجل وكان ممن يحمد عليا ويذم عثمان فقال الرجل : يا أبا الفضل ؟ ألا تخبرني هل شهد عثمان البيعتين كلتيهما : بيعة الرضوان وبيعة الفتح ؟ فقال سالم : لا.
    فكبر الرجل وقام ونفض ردائه و خرج منطلقا فلما أن خرج قال له جلساؤه : والله ما أراك تدري ما أمر الرجل ، قال : أجل ، وما أمره ؟ قالوا : فإنه ممن يحمد عليا ويذم عثمان فقال : علي بالرجل فأرسل إليه فأتاه فقال : يا عبد الله الصالح إنك سألتني : هل شهد عثمان.
    البيعتين كلتيهما : بيعة الرضوان وبيعة الفتح ؟ فقلت : لا.
    فكبرت وخرجت شامتا فلعلك ممن يحمد عليا ويذم عثمان ؟
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس