الغدير ـ الجزء العاشر ::: 131 ـ 140
(131)
ونداء أبي ذر في الملأ الديني وقد تنغر على عثمان بعد يرن في أذن الدنيا ، وقوارص لمزه وهمزه إياه بعد تلوكه الأشداق في أندية الرجال ، وكلمه المأثورة الخالدة في صفحات التاريخ تضاد ما عزي إليه من الرواية ، وكل خطابه وعتابه إياه يعرب عن أن أبا ذر قط لم يؤمن بما اختلق عليه ولم يك يسمعه من الصادع الكريم ، وكان يحدث الناس غير مكترث لبوادر عثمان ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله : إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا.
    كان يحدث عثمان بذلك وعثمان يكذبه (1) ومن كذبه فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وآله.
    ولم يكن أبو ذر شاذا عن الصحابة في رأيه السيئ ونقمته على عثمان ، بل نبأ المتجمهرين عليه من المهاجرين والأنصار والناقمين عليه من الحواضر الإسلامية ، و المجتمعين على وئده المحتجين عليه بالكتاب العزيز يعطينا خبرا بأن الرواية لا تصح عندهم ، ولا يصدقها رجل صدق منهم.
    وهل نسيتها أم المؤمنين المخاطبة بها ، أو تغاضت عنها يوم كانت تنادي في ملأ من الصحابة : اقتلوا نعثلا قتله الله ؟ ويوم قالت لمروان : وددت والله أنك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا وأنكما في البحر.
    ويوم قالت : وددت والله أنه في غرارة من غرائري هذه وأني طوقت حمله حتى ألقيه في البحر ويوم قالت لابن عباس : إن الله قد آتاك عقلا وفهما وبيانا فإياك أن ترد الناس عن هذه الطاغية.
    ويوم أخرجت ثوب رسول الله وهي تقول : هذا ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله لم يبل وعثمان قد أبلى سنته.
    ويوم قالت لما بلغها نعيه : أبعده الله ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد.
    ويوم قالت : بعد لنعثل وسحقا (1) أيخبرك ضميرك الحر بأن صاحبة تلكم المواقف الهائلة كانت تصدق تلك الرواية وتؤمن بها وترى نعثلا رفيق رسول الله صلى الله عليه وآله في الجنة ؟ فاستعذ بالله من أن تكون من الجاهلين.
    38 ـ قال محمد بن آدم : رأيت بمكة أسقفا (2) يطوف بالكعبة فقلت له : ما الذي
1 ـ راجع الغدير ج 9 : 78 ـ 86.
2 ـ الأسقف والأسقف : فوق القسيس ودون المطران والكلمة يونانية ج أساقفة وأساقف.


(132)
نزعك عن دين آبائك ؟ قال : تبادلت خيرا منه.
    فقلت : وكيف ذلك ؟ قال : ركبت البحر فلما توسطناه انكسرت المركب فلم تزل الأمواج تدفعني حتى رمتني في جزيرة من جزائر البحر فيها أشجار كثيرة ولها ثمر أحلى من الشهد وألين من الزبد ، وفيها نهر عذب ، فحمدت الله على ذلك وقلت : آكل من هذا الثمر وأشرب من هذا النهر حتى يقضي الله بأمره ، فلما ذهب النهار خفت على نفسي من الوحش فطلعت على شجرة ونمت على غصن من أغصانها ، فلما كان في جوف الليل وإذا بدابة على وجه الأرض تسبح الله وتقول : لا إله إلا الله العزيز الجبار ، محمد رسول الله النبي المختار ، أبو بكر الصديق صاحبه في الغار ، عمر الفاروق فاتح الأمصار ، عثمان القتيل في الدار ، علي سيف الله على الكفار ، فعلى مبغضهم لعنة الله العزيز الجبار ، ومأواه النار ، وبئس القرار.
    ولم تزل تكرر هذه الكلمات إلى الفجر فلما طلع الفجر قالت : لا إله إلا الله الصادق الوعد والوعيد ، محمد رسول الله الهادي الرشيد ، أبو بكر ذو الرأي السديد.
    عمر بن الخطاب سور من حديد ، عثمان الفضيل الشهيد ، علي بن أبي طالب ذو البأس الشديد ، فعلى مبغضهم لعنة الرب المجيد.
    ثم أقبلت إلى البر فإذا رأسها رأس نعامة ، ووجها وجه إنسان وقوائمها قوائم بعير ، وذنبها ذنب سمكة ، فخشيت على نفسي الهلكة فهربت فنطقت بلسان فصيح فقالت : يا هذا قف وإلا تهلك.
    فوقفت فقالت : ما دينك ؟ فقلت : دين النصرانية.
    فقالت : ويلك ارجع إلى ابن الحنفية فقد حللت بفناء قوم من مسلمي الجن لا ينجو منهم إلا من كان مسلما ، فقلت : وكيف الاسلام ؟ قالت : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فقلتها ، فقالت : أتم إسلامك بالترحم على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم.
    فقلت : ومن أتاكم بذلك ؟ قالت : قوم منا حضروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوه يقول : إذا كان يوم القيامة تأتي الجنة فتنادي بلسان طلق فصيح : إلهي قد وعدتني أن تشيد أركاني.
    فيقول الجليل جل جلاله : قد شيدت أي رفعت أركانك بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزينتك بالحسن والحسين.
    ثم قالت الدابة : أتريد أن تقعد هاهنا أم الرجوع إلى أهلك ؟ فقلت : الرجوع إلى أهلي.
    فقالت : اصبر حتى تمر بك مركب فبينما نحن كذلك وإذا بمركب أقبلت تجري فأومأت إليها فرفعوا إلي زورقا فركبت فيه ثم جئت إليهم فوجدت المركب فيها اثنا عشر رجلا كلهم نصارى


(133)
فقالوا : ما الذي جاء بك إلى ها هنا ؟ فقصصت عليهم قصتي فعجبوا عن آخرهم وأسلموا جميعا.
    مصباح الظلام للسيد محمد الجراداني 2 : 30.
    قال الأميني : ابن آدم راوي هذه الأغلوطة لا يعرفه الحفاظ رجال الجرح والتعديل في أولاد آدم ، وإنما عرفوه بالجهالة ، ولا أحسب أن آدم أبا البشر أيضا يعرف ابنه هذا ، ولا تدري الأمهات أي ابن بي هو ، والأسقف صاحب القصة وابن آدم هما صنوان في الجهالة لا يعرفهما آدمي.
    ونحن إن صدقنا متن الرواية ، وذهبنا إلى ما ذهب إليه مسلم الجن وأخبر به ولعنا مبغضي الخلفاء الأربعة ، ورأينا مأواهم النار ، فإلى من وجهنا القوارص عندئذ ؟ وأين تقع من سبابنا أمة كبيرة من الصحابة العدول أو عدول الصحابة الذين كان بينهم وبين أي من هؤلاء الأربعة عداء محتدم وبغضاء لاهبة ؟ أنا هنا في مشكلة لا تنحل لي.
    وعجبي من رعونة أولئك الرحط من النصاري الذين قبلوا من الأسقف دعواه المجردة وأذعنوا بها وصدقوه فيما جاء به عن وادي الجن ، وما كانوا مصدقين نبأ الرسول الأمين عن إله السماوات المحفوفة دعوته بألف من الدلائل والبينات ، والمتلوة بأنباء الكهنة والأساقفة والهتافات الكثيرة التي سجلها التاريخ ، كأنهم سحرهم سجع دابة الجن الموزون في ورد ليله وسحره ووجدوه آية الحق وشاهد الدعوى.
    39 ـ قال القرطبي في تفسيره 20 : 180 : قال أبي بن كعب : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعصر ثم قلت : ما تفسيرها يا نبي الله ؟ قال : ( والعصر ) قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار ( إن الانسان لفي خسر ) أبو جهل ( إلا الذين آمنوا ) أبو بكر ( وعملوا الصالحات ) عمر ( وتواصوا بالحق ) عثمان ( وتواصوا بالصبر ) علي رضي الله عنهم أجمعين.
    وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه.
    وذكره المحب الطبري في رياضه النضرة 1 : 34 ، والشربيني في تفسيره 4 : 561.
    قال الأميني : أيسوغ التقول على الله وعلى رسوله وتحريف الكلم عن مواضعه بمثل هذه المهزأة المرسلة ؟ وهل ينبغي لمؤلف في التفسير أو الحديث أن يسود بها صحيفته أو صحيفة تأليفه ؟ وهل لنا في مثل المقام أن نطالبه بالسند ونناقش فيه بالإرسال ؟ وهلا ما في متن الرواية ما يغنينا عن البحث عن رجال الاسناد إن كان له إسناد ؟ وهل


(134)
يوجد في صحائف أعمال أولئك الرجال وسيرتهم الثابتة ، وفيما حفظه التاريخ الصحيح لهم ما يصدق هذا التلفيق ؟ نعم : نحن على يقين من أن الباحث يجد في غضون أجزاء كتابنا هذا شواهد كثيرة تتأتى له بها حصحصة الحق.
    وهل يصدق ذو مسكة أن يخطب بمثل هذه الأفيكة ابن عباس حبر الأمة ؟ ويدنس بها ساحة قدس صاحب الرسالة الخاتمة ؟.
    على أن المأثور عن ابن عباس من طريق ابن مردويه في قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه قال : ذكر عليا وسلمان (1) ويؤيده قوله الوارد في قوله تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن يجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات.
    قال : نزلت في علي يوم بدر ، فالذين اجترحوا السيئات : عتبة وشيبة والوليد ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات علي عليه السلام (2).
    ومر في الجزء الثاني ص 52 ط 1 من طريق ابن عباس قوله : لما نزلت : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم البرية.
    قال صلى الله عليه وآله لعلي : هو أنت وشيعتك.
    فرواية أبي بن كعب اختلقت تجاه هذه الأخبار التي تساعدها العقل والمنطق والاعتبار.
    ولصراحة الكذب في فصول هذه السفسطة لم يذكرها أحد من المفسرين غير القرطبي والشربيني وهي بين أيديهم ، ولعل ابن حجر يوعز إلى بطلانها في فتح الباري 8 : 392 بقوله : تنبيه ، لم أر في تفسير هذه السورة حديثا مرفوعا صحيحا.
    على أن الظاهر من سياق السورة أن الجمل التالية للذين آمنوا أوصاف لهم لا أنها إعراب عن أناس آخرين غير من هو المراد من الجملة الأولى.
    40 ـ أخرج الواحدي في أسباب النزول ص 207 عن عبد الرحمن بن حمدان العدل قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني محمد بن سليمان بن خالد الفحام قال : حدثنا علي بن هاشم عن كثير النواء قال : قلت لأبي جعفر : إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي الله عنهما : إن هذه الآية نزلت
1 ـ الدر المنثور 6 : 392 ومر في ج 2 : 53.
2 ـ تذكرة السبط ص 11 ، ومر في ج 2 : 51.


(135)
في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين : قال : والله إنها لفيهم نزلت ، وفيهم (1) نزلت الآية ، قلت : وأي غل هو ؟ قال غل الجاهلية ، إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم وأجابوا أخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي رضي الله عنه يسخن يده فيضمخ (2) بها خاصرة أبي بكر فنزلت هذه الآية.
    قال الأميني : لا تدعم أي مأثرة بمثل هذا الاسناد المركب من مجهول كعبد الرحمن العدل ومحمد الفحام ، وممن خرف في آخر عمره (3) حتى كان لا يعرف شيئا مما يقرأ عليه كما قاله أبو الحسن بن الفرات (4) وحكى الخطيب البغدادي في تاريخه 4 : 4 عن أبي عبد الله أحمد بن أحمد القصري قال : قدمت أنا وأخي من القصر إلى بغداد وأبو بكر [ أحمد بن جعفر ] بن مالك القطيعي حي وكان مقصودنا درس الفقه والفرايض ، فأردنا السماع من ابن مالك فقال لنا ابن اللبان الفرضي : لا تذهبوا إليه فإنه قد ضعف واختل ، ومنعت ابني السماع منه ، قال : فلم نذهب إليه. وذكره ابن حجر في اللسان 1 : 145 ، وقال في ج 2 : 237 : إنه شيخ ليس بمتقن.
    ومن شيعي غال (5) وصفه بذلك الجوزجاني وابن حبان ، ولعل الدارقطني ضعفه لذلك ، وذكره ابن حبان في الضعفاء وإن ذكره في الثقات أيضا.
    وبعد هؤلاء كثير النواء الذي عرفناكه قبيل هذا صحيفة 117 ، وإنه ضعيف زائغ منكر الحديث ، بابه باب سعد بن طريف الذي كان يضع الحديث وكان شيعيا مفرطا ضعيفا جدا عند القوم.
    وفي تأويل قوله تعالى : ونزعنا في صدورهم من غل.
    الآية أحاديث تافهة عندهم أعجب من رواية الواحدي منها : قال الصفوري في نزهة المجالس 2 : 217 ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله
1 ـ كذا في أسباب النزول. وفي الدر المنثور : وفيمن تنزل إلا فيهم ؟.
2 ـ في الدر المنثور : فيكوى.
3 ـ هو أحمد بن جعفر بن مالك أبو بكر القطيعي.
4 ـ ميزان الاعتدال 1 : 41.
5 ـ هو علي بن هاشم.


(136)
    تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل : أي من حقد وعداوة ، إذا كان يوم القيامة تنصب كراسي من ياقوت أحمر فيجلس أبو بكر على كرسي ، وعمر على كرسي ، وعثمان على كرسي ، ثم يأمر الله الكراسي فتطير بهم إلى تحت العرش ، فتسبل عليهم خيمة من ياقوتة بيضاء ، ثم يؤتى بأربع كاسات فأبو بكر يسقي عمر ، وعمر يسقي عثمان ، وعثمان يسقي عليا ، وعلي يسقي أبا بكر ، ثم يأمر الله جهنم أن تتمخض بأمواجها فتقذف الروافض على ساحلها فيكشف الله عن أبصارهم فينظرون إلى منازل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : هؤلاء الذين أسعدهم الله ، وفي رواية : فيقولون : هؤلاء الذين سعد الناس بمتابعتهم وشقينا نحن بمخالفتهم ، ثم يردون إلى جهنم بحسرة وندامة.
    ( ومنها ) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : ونزعنا ما في صدورهم من غل قال : نزلت في عشرة : أبو بكر. وعمر : وعثمان. وعلي. وطلحة. والزبير. وسعد. و سعيد. وعبد الرحمن بن عوف. وعبد الله بن مسعود. ومن طريق النعمان بن بشير عن علي : ونزعنا ما في صدورهم من غل.
    قال : ذاك عثمان وطلحة والزبير وأنا.
    هكذا يحرفون الكلم عن مواضعه ، وهل من مسائل رواة هذه السفاسف عن الغل الذي نزع من صدور أولئك المذكورين متى نزع ؟ وإلى أين ذهب ؟ وهذا الحديث والتاريخ يعلماننا أن الغل المنتزع منهم بعد إسلامهم لم يزل مستقرا بينهم منذ يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وما وقع هناك من حوار وشجار ، إلى الحوادث الواقعة حول واقعة الدار ، إلى المحتشد الدامي يوم الجمل ، أو ليست هذه كلها منبعثة عن غل محتدم ، ووغر في الصدور ، وسخيمة في القلوب ، وبغضة مستثيرة ؟ أو ليس منها أن يستبيح الانسان دم صاحبه و هتك حرماته والوقيعة في عرضه ؟ فهل مع هذه كلها صحيح أنه نزع ما في صدورهم من غل ؟ والآيات المحرفة من هذا القبيل كثيرة جدا لو تجمع يأتي منها كتاب ضخم غير أنا لا يروقنا البحث عنها فإنه إطالة من غير جدوى فهي بأنفسها وما فيها من تهافت و تفاهة كافية في إبطالها ، وما عساني أن أقول في مثل ما رووه في قوله تعالى : وحملناه


(137)
على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا : إن نوحا عليه السلام لما عمل السفينة جاءه جبريل عليه السلام بأربعة مسامر مكتوب على كل مسمار عين : عين عبد الله وهو أبو بكر.
    وعين عمر ، وعين عثمان ، وعين علي ، رضي الله عنهم فجرت السفينة ببركتهم (1) وللقوم في تحريف الكتاب معارك دامية منها وقعة سنة 317 ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي ، وبين طائفة أخرى من العامة أيضا ، اختلفوا في تفسير قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
    فقالت الحنابلة يجلسه معه على الاتحاد.
    وقال الآخرون : المراد بذلك الشفاعة العظمى.
    فاقتتلوا بذلك وقتل بينهم قتلى ( تاريخ ابن كثير 11 : 162 ) فخذ ما ذكرناه مقياسا لمئات خرافة من أمثاله تقولها على الله ألسنة الغلاة في الفضائل ، واتخذوا آيات الله هزوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
    منتهى المقال
    هذه نماذج من أفائك الوضاعين في الفضائل حسبتها الأغرار حقائق فسودوا بها صحائف من التفسير والحديث والتاريخ ، وموهوا بها على الحقايق الراهنة وفككوا بها عرى الاسلام ، وشتتوا شمل الأمة وفرقوا صفوفها ، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ، أردنا بسردها أن نعطيك مقياسا لما حاولوه من المغالاة نكتفي بها عن غيرها ، وهناك مئات من أمثالها ضربنا الصفح عنها تنزها عن نبش المخاريق ونشر المخازي ، والباحث يجد شواهد صادقة على دعوانا في غضون ( الرياض النضرة ) علبة السفاسف والخرافات ، و ( الصواعق المحرقة ) عيبة الأفائك والأكاذيب ، و ( السيرة الحلبية ) المشحونة بالموضوعات ، و ( نزهة المجالس ) موسوعة الترهات والصحاصح ، و ( مصباح الظلام ) ديوان كل حديث مفترى ورواية مفتعلة ، إلى تآليف جمة من القديم والحديث ، فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكتبون ، فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ، و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ، والله يعلم أنهم لكاذبون.
1 ـ نزهة المجالس 2 : 214 نقلا عن شوارد الملح.

(138)
المغالاة في فضائل معاوية
ابن أبي سفيان
    كنا نرتأي أن معاوية في غني عن إفاضة القول في مخاريقه لما عرفته الأمة من نفسيته الموبوئة ، وأعماله الوبيلة ، وجرائمه الموبقة الجمة ، ورذائله الكثيرة ، ونسبه الموصوم ، وأصله اللئيم ، ومحتده الدني ، وأن من يضع فيه المدائح تندى جبهته عن سردها لمثله ، غير أنا وجدنا الأمل قد أكدى ، والظن قد أخفق ، وأن القحة والصلف لم يدعا لأولئك الوضاعين حدا يقفون عليه ، فحاولنا أن نذكر يسيرا من معرفاته لإيقاف الباحث على حقيقة الحال فيما عزوه إليه من الثناء ، غير مكترثين لهلجة ابن كثير والهتاف الذي سمعه بعض السلف على جبل بالشام [ ولعل الهاتف هو الشيطان ] من أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنم الحامية يرمى به في الحامية الهاوية.
    ولا مبالين بطيف خيال ركن إليه ابن كثير أيضا قال : قال بعضهم : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية إذ جاء رجل فقال عمر : يا رسول الله ! هذا يتنقصنا فكأنه انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني لا اتنقص هؤلاء ولكن هذا ـ يعني معاوية ـ فقال : ويلك أو ليس هو من أصحابي ؟ قالها ثلاثا ، ثم أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية فقال : جابهه في لبته.
    فضربه بها وانتبهت فبكرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات ، وهو راشد الكندي.
    ولا معتدين برأي سعيد بن المسيب : من مات محبا لأبي بكر وعمر وعثمان و وعلي وشهد للعشرة بالجنة وترحم على معاوية كان حقا على الله أن لا يناقشه الحساب (1) ولا بأضغاث أحلام جاءت عن عمر بن عبد العزيز وفيها قول معاوية : غفر لي ورب الكعبة.
    مر حديثها في الجزء التاسع ص 347.
    ولا معبأين بقول أحمد : ما لهم ولمعاوية ؟ نسأل الله العافية.
    فلا نقيم أي وزن لأمثال هذه السفاسف من آراء مجردة ، أو ركون إلى خيال ،
1 ـ تاريخ ابن كثير 8 : 139 ، 140.

(139)
أو احتجاج بهاتف مجهول ، أو جنوح إلى طيف حالم تجاه ما يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله في الرجل ، وما جاء فيه من الكلم القيمة للسلف الصالح الناظرين إلى أعماله من كثب العارفين بعجره وبجره ، الواقفين على إعلانه وأسراره ، الناقدين لمخازيه ، المتبصرين في أمره ، الخبيرين بنواياه في جاهليته وإسلامه ، وإليك نبذة منها :
    1 ـ عن علي بن الأقمر عن عبد الله بن عمر قال : خرج رسول الله من فج فنظر إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق ، فلما نظر إليهم رسول الله قال : اللهم العن القائد والسائق والراكب.
    قلنا : أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم ، وإلا فصمتا أذناي كما عميتا عيناي (1).
    وفي تاريخ الطبري 11 : 357 : قد رأى صلى الله عليه وآله أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به قال : لعن الله القائد والراكب والسائق.
    وإلى هذا الحديث أشار الإمام السبط فيما يخاطب به معاوية بقوله : أنشدك الله يا معاوية ! أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : اللهم العن الراكب والقائد والسائق ؟ (2).
    وإليه أشار محمد بن أبي بكر في كتاب كتبه إلى معاوية بقوله : وأنت اللعين ابن اللعين.
    وسيوافيك الكتاب إنشاء الله تعالى.
    2 ـ عن البراء بن عازب قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم العن التابع والمتبوع ، اللهم عليك بالأقيعس ، فقال ابن البراء لأبيه : من الأقيعس ؟ قال : معاوية (3).
    ومعاوية فظاظة من لعن رسول الله صلى الله عليه وآله حيثما لعن آكل الربا والخمر وشاربها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه.
    والرجل أعرف شخصية بهذه المخازي كما سيوافيك حديثه.
    3 ـ أخرج أحمد في المسند 4 : 421 ، وأبو يعلى ، ونصر بن مزاحم في كتاب صفين
1 ـ كتاب صفين ط مصر ص 247.
2 ـ سيوافيك تمام كلام أبي محمد السبط عليه السلام في هذا البحث.
3 ـ كتاب صفين ط مصر ص 244.


(140)
ص 246 ط مصر من طريق أبي برزة الأسلمي ، والطبراني في الكبير من طريق ابن عباس : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر. وهو يقول :
لا يزال حواري تلوح عظامه زوى الحرب عنه أن يجن فيقبرا
    وفي لفظ ابن عباس :
ولا يزال جوادي تلوح عظامه .....................
    فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروا من هما.
    قال : فقالوا : معاوية وعمرو بن العاصي ، فرفع رسول الله يديه فقال : اللهم اركسهما ركسا ، ودعهما إلى النار دعا.
    وفي لفظ ابن عباس : اللهم اركسهما في الفتنة ركسا.
    وجاء الايعاز إلى الحديث في لسان العرب ج 7 : 404 ، و ج 9 : 439.
    قال الأميني : لما لم يجد القوم غمزا في إسناد هذا الحديث ، وكان ذلك غزبزا على من يتولى معاوية فحذف أحمد الاسمين وجعل مكانهما ( فلان وفلان ) واختلق آخرون تجاهه ما أخرجه ابن قانع في معجمه عن محمد بن عبدوس كامل ، عن عبد الله بن عمر ، عن سعيد أبي العباس التيمي ، عن سيف بن عمر عن أبي عمر مولى إبراهيم بن طلحة عن زيد بن أسلم عن صالح شقران قال : بينما نحن ليلة في سفر إذ سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتا فذهبت انظر فإذا معاوية بن رافع وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :
لا يزال جوادي تلوح عظامه ذوي الحرب عنه أن يموت فيقبرا
    فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال.
    أللهم اركسهما ودعهما إلى نار جهنم دعا فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر.
    قال السيوطي في اللئالي المصنوعة 1 : 427 : وهذه الرواية أزالت الاشكال وبينت أن الوهم وقع في الحديث الأول في لفظة واحدة وهي قوله : ابن العاصي ، وإنما هو ابن رفاعة أحد المنافقين ، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين ، والله أعلم.
    ألا من يسائل هذا الضليع من فن الحديث المتعهد لتنقيبه عن الاشكال في الحديث الأول من أين أتاه ؟ وما الذي ثقل عليه من لفظه حتى ذهب إلى الوهم فيه ؟ أفي مفاده شذوذ عن نواميس الشريعة ، أو فيه ما يخالف الكتاب والسنة ؟ أو حط عن مقام رجل
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس