الغدير ـ الجزء العاشر ::: 221 ـ 230
(221)
إلا أبلغ معاوية بن صخر معلغلة من الرجل اليمان
    وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء. وروى عمر بن شبة وغيره : أن ابن مفرغ لما وصل إلى معاوية أو إلى ابنه يزيد بعد أن شفعت فيه اليمانية وغضبت لما صنع به عباد وأخوه عبيد الله ، وبعد أن لقي من عباد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقي مما يطول ذكره وقد نقله أهل الأخبار ورواة الأشعار بكر وقال : يا أمير المؤمنين ! ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الاسلام ولا خلع يد من طاعة. فقال له معاوية : ألست القائل :
ألا أبلغ معاوية بن صخر أتغضب أن يقال : أبوك عف ؟ لقد ضاقت بما تأتي اليدان وترضى أن يقال : أبوك زان؟!
    فقال ابن المفرغ : لا والذي عظم حقك ورفع قدرك ، يا أمير المؤمنين ! ما قلتها قط ولقد بلغني أن عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسب إلي. فقال أفلست القائل :
شهدت بـأن أمك لم تباشر ولكن كان أمراً فيه لبس أبا سفيان واضعة القناع على وجه شديد وارتياع؟ (1)
    أو لست القائل :
إن زيادا ونافعا وأبا بكـ هم رجال ثلاثة خلقوا ذا قرشي كما يقول وذا رة عندي من أعجب العجب في رحم أنثى وكلهم لأب (2) مولى وهذا بزعمه عربي
    في أشعار قلتها في زياد وبنيه تهجوهم ، أغرب فلا عفا الله عنك ، قد عفوت عن جرمك ، ولو صحبت زيادا لم يكن شيء مما كان ، اذهب فاسكن أي أرض أحببت. فاختار الموصل.
    قال أبو عمر : ليزيد بن مفرغ في هجو زياد وبنيه من أجل ما لقي من عباد بن زياد بخراسان أشعار كثيرة ، وقصته مع عباد بن زياد وأخيه عبيد الله بن زياد مشهورة ومن قوله يهجوهم :
1 ـ هذه القصيدة كما قال أبو الفرج : طويلة. ذكر منها في الأغاني 17 : 66 تسعة عشر بيتا.
2 ـ ويروى : أنثى مخالف النسب.


(222)
أعباد ما للوم عنك محول وقل لعبيد الله : ما لك والد ولا لك أم في قريش ولا أب بحق ولا يدري امرؤ كيف تنسب (1)
    قال عبيد الله بن زياد : ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ :
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر عاشت سمية ما عاشت وما علمت هل نلت مكرمة إلا بتأمير ؟! إن ابنها من قريش في الجماهير
    وقال غيره :
زياد لست أدري من أبوه ولكن الحمار أبو زياد
    وروينا : إن معاوية بن أبي سفيان قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرحمن : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.
    وأتاه عبد الرحمن يستأذن عليه معتذرا فلم يأذن له ، فأقبلت قريش على عبد الرحمن بن الحكم فلم يدعوه حتى أتى زياد فلما دخل فسلم عليه فتشاوس (2) له زياد بعينه وكان يكسر عينه فقال له زياد : أنت القائل ما قلت ؟ فقال عبد الرحمن : وما الذي قلت ؟ فقال : قلت ما لا يقال.
    فقال : عبد الرحمن : أصلح الله الأمير إنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب ، فاسمع مني ما أقول قال : هات فأنشأ يقول :
إليك أبا المغيرة تبت مما وأغضـبت الخليفة فيك حتى وقلت لمن لحاني في اعتذاري عرفت الحق بعد خطأ رأيي زياد من أبي سفيان غصن أراك أخا وعما وابن عم وأنت زيادة في آل حرب ألا أبلغ معاوية بن حرب جرى بالشام من جور اللسان دعاه فـرط غيظ أن لحاني إليك الحق شأنك غير شأن وما ألبسته غير البيان تهادى ناضر بين الجنان فما أدري بعين ما تراني أحب إلي من وسطي بناني فقد ظفرت بما تأتي اليدان
    فقال له زياد : أراك أحمق مترفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا و
1 ـ ذكر أبو الفرج في الأماني 17 : 59 من بائية ابن المفرغ هذه اثني عشر بيتا.
2 ـ من شاس : نظر بمؤخر عينه تكبرا أو تغيظا.


(223)
    مسخوطا ، ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك. قال : كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضى عني. قال : نعم. فكتب كتابا أخذه ومضى حتى دخل على معاوية ، ففض الكتاب ورضي عنه ورده إلى حاله وقال : قبح الله زيادا ألم ينتبه له إذ قال :
وأنت زيادة في آل حرب ....
    قال أبو عبيدة : كان زياد يزعم أن أمه سمية بنت الأعور من بني عبد شمس ابن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرغ يرد ذلك عليه :
فأقسم ما زياد من قريش ولكن نسل عبد من بغي ولا كانت سمية من تميم عريق الأصل في النسب اللئيم (1)
    وأخرج الطبري في تاريخه 6 : 123 بإسناده عن أبي إسحاق : إن زيادا لما قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم. قالوا : ادعنا إلى ما شئت. قال : تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا : أما بشهادة الزور فلا ، فأتى البصرة فشهد له رجل.
    قال ابن عساكر وابن الأثير : كان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي وكانت لأبي مريم بعد صحبة فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده : قد اشتدت به العزوبة ، فالتمس لي بغيا.
    فقال : هل لك في جارية الحارث ابن كلدة سمية امرأة عبيد ؟ فقال : هاتها على طول ثديها وريح إبطيها.
    فجاء بها إليه فوقع بها ، فولدت زيادا فادعاه معاوية.
    وروى ابن عساكر عن ابن سيرين عن أبي بكرة قال : قال : زياد لأبي بكرة : ألم تر أن أمير المؤمنين أرادني على كذا وكذا ، وولدت على فراش عبيد وأشبهته ، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ادعى لغير أبيه فليتبوأ مقعده من النار. ثم جاء العام المقبل وقد ادعاه.
    وقال محمد بن إسحاق : كنا جلوسا عند أبي سفيان فخرج زياد فقال : ويل أمه لو كان له صلب قوم ينتمي إليهم (2) ولما بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه على ألفي ألف ، ثم أقبل فلقيه
1 ـ الأغاني 17 : 51 ـ 67 ، الاستيعاب 1 : 195 ـ 198 ، تاريخ ابن عساكر 5 : 406 ـ 423 ، مروج الذهب 2 : 56 ، 57. تاريخ ابن كثير 8 : 95 ، 96 ، الإتحاف ص 22.
2 ـ العقد الفريد 3 : 2 ، تاريخ ابن عساكر 5 : 409 ، كامل ابن الأثير 3 : 191.


(224)
مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية : إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا ، وصالحك على ألفي ألف درهم ، والله ما أرى الذي يقال إلا حقا.
    فإذا قال لك : وما يقال ؟ فقل : يقال : إنه ابن أبي سفيان.
    ففعل مصقلة ذلك ، ورأى معاوية أن يستميل زيادا واستصفى مودته باستلحاقه ، فاتفقا على ذلك واحضر الناس و حضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي فقال له معاوية : بم تشهد يا أبا مريم ؟ فقال : أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيا فقلت له : ليس عندي إلا سمية.
    فقال : ائتني بها على قذرها ووضرها.
    فأتيته بها فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن اسكتيها ليقطران منيا.
    فقال له زياد : مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما.
    فاستلحقه معاوية (1) وفي العقد الفريد 3 : 3 : يقال : إن أبا سفيان خرج يوما وهو ثمل إلى تلك الرايات فقال لصاحبة الراية : هل عندك من بغي ؟ فقالت ما عندي إلا سمية قال : هاتها على نتن إبطيها.
    فوقع بها فولدت له زيادا على فراش عبيد.
    فوجد زياد نفسه بعد حسبه الواطئ ونسبه الوضيع ، بعد أن كان لا يعزى إلى أب معلوم عمرا طويلا يقرب من خمسين عاما (2) فيقال له : زياد بن أبيه.
    أخا ملك الوقت وابن من يزعم أنه من شرفاء بيئته ، وقد تسنى له الحصول على مكانة رابية فأعرق نزعا في جلب مرضاة معاوية المحابي له بتلك المرتبة التي بمثلها حابت هند ابنها المردد بين خمسة رجال أو ستة من بغايا الجاهلية ، لكن آكلة الأكباد ألحقت معاوية بأبي سفيان لدلالة السحنة والشبه ، فطفق زياد يلغ في دماء الشيعة ولمعاوية من ورائه تصدية ومكاء ، وإن غلواء الرجل المحابي أعمته عن استقباح نسبة الزنا لأبيه يوم استحسن أن يكون له أخ مثل زياد شديد في بأسه ، يأتمر أوامره ، وينتهي إلى ما يوده من بوائق وموبقات ، و لم يكترث لحكم الشريعة بحرمة مثل ذلك الالحاق واستعظامها إياه ، ولا يصيخ إلى قول النبي الصادق صلى الله عليه وآله ، قال يونس بن أبي عبيد الثقفي لمعاوية : يا معاوية ! قضى
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 : 194 ، مروج الذهب 2 : 56 ، تاريخ ابن عساكر 5 : 409 ، كامل ابن الأثير 3 : 192 ، شرح ابن أبي الحديد 4 : 70 ، الإتحاف للشبراوي ص 22.
2 ـ قيل : ولد عام الفتح سنة ثمان. وقيل : عام الهجرة. وقيل : قبل الهجرة. وقيل : يوم بدر.


(225)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الولد للفراش وللعاهر الحجر. فعكست ذلك وخالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أعد. فأعاد يونس مقاله هذا ، فقال معاوية : يا يونس ! والله لتنتهين أو لأطيرن بك طيرا بطيأ وقوعها (1).
    أنظر إلى إيمان الرجل بنبيه صلى الله عليه وآله ، وإخباته إلى حديثه بعد استعادته ، وعنايته بقبوله ورعايته حرمته ، والحكم في هذه الشنيعة كل ذي مسكة من علماء الأمة وذوي حنكتها ومؤلفيها وكتابها.
    قال سعيد بن المسيب : أول (2) قضية ردت من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية قضاء فلان ، يعني : معاوية في زياد.
    وقال ابن يحيي : أول حكم رد من أحكام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحكم في زياد.
    وقال ابن بعجة : أول داء دخل على العرب قتل الحسن ( سبط النبي صلى الله وعليه وآله وسلم ) و ادعاء زياد (3).
    وقال الحسن : أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة.
    واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادعائه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله حجرا ، ويلا له من حجر وأصحاب حجر قالها. مرتين (4).
    وقال الإمام السبط الحسن الزكي عليه السلام لزياد في حضور من معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : وما أنت يا زياد ! وقريشا ؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال
1 ـ الإتحاف للشبراوي ص 22.
2 ـ ليست بأول قارورة كسرت في الاسلام وإنما رد من يوم السقيفة وهلم جرا إلى يوم الاستلحاق من قضايا رسول الله ما يربو على العد.
3 ـ تاريخ ابن عساكر 5 : 412 ، تاريخ الخلفاء ، للسيوطي ص 131 ، أوائل السيوطي ص 51.
4 ـ تاريخ ابن عساكر 2 : 381 ، تاريخ الطبري 6 : 157 ، الكامل لابن الأثير 4 : 209 ، تاريخ ابن كثير 8 : 130 ، محاضرات الراغب 2 : 214 ، النجوم الزاهرة 1 ص 141.


(226)
قريش ، وفجار العرب ، فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا ـ يعني معاوية ـ بعد ممات أبيه ، ما لك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي علي بن أبي طالب سيد المؤمنين الذي لم يرد على عقبيه ، وعمي حمزة سيد الشهداء ، وجعفر الطيار ، وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة (1).
    وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا وأموال عظام وسفط مملؤ جوهرا لم ير مثله فسر معاوية بذلك سرورا شديدا ، فلما رأى زياد ذلك صعد المنبر فقال : أنا والله يا أمير المؤمنين ! أقمت لك معر العراق ، وجبيت لك مالها ، وألفظت إليك بحرها ، فقام يزيد ابن معاوية فقال : إن تفعل ذلك يا زياد ! فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش ، ومن القلم إلى المنابر ، ومن زياد بن عبيد إلى حرب بن أمية.
    فقال معاوية : اجلس فداك أبي وأمي (2).
    وقال السكتواري في محاضرة الأوائل ص 136 أول قضية ردت من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية دعوة معاوية زيادا ، وكان أبو سفيان تبرأ منه وادعى أنه ليس من أولاده وقضى بقطع نسبه ، فلما تأمر معاوية قربه واستأمر ففعل ما فعل زياد بن أبيه يعني ابن زنية من الطغيان والاساءة في حق أهل بيت النبوة.
    وقال في ص 164 : كان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى معاوية يقول : هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب (3) لأنه كان أول من رد قضية من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هجر ، وزياد بن أبيه أول من أساء إساءة تفرد بشينها بين الأمم في حق أهل البيت رضي الله عنهم.
    وقال في ص 246 : كان قد تبرأ من زياد أبو سفيان ومنع حقه من ميراث الاسلام بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، فلا زال طريدا حتى دعاه معاوية وقربه وأمره ورد القضية ، وهي أول قضية من قضايا الاسلام ردت ، ولذا صارت بلية شنيعة ، ومحنة فاحشة بين الأمة ، وأبغض الوسائل تعديه على أفضل الملة وأحب العترة
1 ـ المحاسن والمساوي للبيهقي 1 : 58.
2 ـ المجتنى لابن دريد ص 37.
3 ـ قول عمر هذا في معاوية ذكره جمع ، راجع الاستيعاب 1 : 253 ، أسد الغابة 4 : 386 ، الإصابة 3 : 434.


(227)
    ولا أحسب أن أحدا من رجالات الدين يشذ عما قاله الجاحظ في رسالته النابتة في بني أمية ص 293 : فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا ، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق ، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا ، وعلى منازل ما رتبنا ، حتى رد قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا مكشوفا ، وجحد حكمه جحدا ظاهرا في ولد الفراش وما يجب للعاهر ، مع إجماع الأمة على أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا ، وأنه إنما كان بها عاهرا فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار.
    ولو تحرينا موبقات معاوية المكفرة له وجدنا هذه في أصاغرها ، فجل أعماله ـ إن لم يكن كله ـ على الضد من الكتاب والسنة الثابتة ، فهي غير محصورة في مخالفته لقوله صلى الله عليه وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر.

ـ 14 ـ
بيعة يزيد
أحد موبقات معاوية الأربع (1)
    إن من موبقات معاوية وبوائقه ـ وهو بكله بوائق ـ أخذه البيعة لابنه ( يزيد ) على كره من أهل الحل والعقد ، ومراغمة لبقايا المهاجرين والأنصار ، و إنكار من أعيان الصحابة الباقين ، تحت بوارق الارهاب ، ومعها طلاة المطامع لأهل الشره والشهوات.
    كان في خلد معاوية يوم استقرت له الملوكية وتم له الملك العضوض أن يتخذ ابنه ولي عهده ويأخذ له البيعة ، ويؤسس حكومة أموية مستقرة في أبناء بيته ، فلم يزل يروض الناس لبيعة سبع سنين يعطي الأقارب ويداني الأباعد (2) وكان يبتلعه
1 ـ راجع كلمة الحسن البصري المذكورة قبيل هذا صفحة 225.
2 ـ العقد الفريد 2 : 302.


(228)
طورا ، ويجتر به حينا بعد حين ، يمهد بذلك السبيل ، ويسهل حزونته ، ولما مات زياد سنة 53 وكان يكره تلك البيعة أظهر معاوية عهدا مفتعلا ـ على زياد ـ فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده ، وأراد بذلك أن يسهل بيعة يزيد كما قاله المدائني (1) وقال أبو عمر في الاستيعاب 1 : 142 : كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن وعرض بها ولكنه لم يكشفها ولا عزم عليها إلا بعد موت الحسن.
    قال ابن كثير في تاريخه 8 : 79 : وفي سنة ست خمسين دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده ، وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة (2) بن شعبة ، فروى ابن جرير من طريق الشعبي : أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة فأعفاه لكبره وضعفه ، وعزم على توليتها سعيد بن العاص ، فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم ، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد فسأل ذلك من أبيه فقال : من أمرك بهذا ؟ قال : المغيرة.
    فأعجب ذلك معاوية من المغيرة ، ورده إلى عمل الكوفة ، وأمره أن يسعى في ذلك ، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك ، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد ، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك وهو عبيد بن كعب النميري ـ وكان صاحبا أكيدا لزياد ـ فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك ، فإن تركه خير له من السعي فيه ، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك ، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت ، فلما مات زياد شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه ، وعقد البيعة لولده يزيد ، وكتب إلى الآفاق بذلك.
    صورة أخرى
    في بدء بدئها كان ابتداء بيعة يزيد وأوله من المغيرة بن شعبة فإن معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة
1 ـ العقد الفريد 2 : 302 ، تاريخ الطبري 6 : 170.
2 ـ توفي المغيرة سنة خمسين وقدم على معاوية في سنة خمس وأربعين واستعفاه من الإمرة وهي سنة بدو فكر بيعة يزيد في خلد معاوية بإيعاز من المغيرة.


(229)
ويستعمل عوضه سعيد بن العاص فبلغه ذلك فقال : الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية ، فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه : إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدا ، ومضى حتى دخل على يزيد وقال له : إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة ؟ قال : أو ترى ذلك يتم ؟ قال : نعم.
    فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان (1) وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة.
    قال : ومن لي بهذا ؟ قال : أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.
    قال : فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك ، وترى ونرى.
    فودعه ورجع إلى أصحابه فقالوا : مه.
    قال : لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد ، وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا.
    وتمثل :
بمثـلي شاهدي نجوى وغالى بي الأعداء والخصم الغضابا
    وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم عشرة ويقال : أكثر من عشرة.
    وأعطاهم ثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها.
    فقال معاوية : لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم ، ثم قال لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟ قال : بثلاثين ألفا.
    قال : لقد هان عليهم دينهم ، وقيل : أرسل أربعين رجلا وجعل عليهم ابنه عروة ، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا : إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا أمير المؤمنين ! كبرت سنك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علما ، وحد لنا حدا ننتهي إليه.
1 ـ ألا مسائل المغيرة عن أن هذا الشقاق والخلاف وسفك الدماء المحرمة في عدم الاستخلاف هل كان يعلمها رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فلماذا ترك أمته سدى ولم يستخلف كما زعمه هو والسياسيون من رجال الانتخاب الدستوري ؟.

(230)
فقال : أشيروا علي. فقالوا : نشير بيزيد بن أمير المؤمنين. فقال : أوقد رضيتموه ؟ قالوا : نعم. قال : وذلك رأيكم ؟ قالوا : نعم ، ورأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرا عنهم : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟ قال : بأربعمأة دينار.
    قال : لقد وجد دينهم عندهم رخيصا ، وقال لهم : ما ننظر ما قدمتهم له ويقضي الله ما أراد.
    والأناة خير من العجلة فرجعوا ، وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له : إن لكل مستشير ثقة ، ولكل سر مستودع ، وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان : إذاعة السر ، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها ، وليس موضوع السر إلا أحد رجلين : رجل آخرة يرجو ثوابها ، ورجل دنيا له شرف في نفسه ، وعقل يصون حسبه ، و قد خبرتهما منك ، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف : إن أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا ، وإنه يتخوف نفرة الناس ، ويرجو طاعتهم ، وعلاقة أمر الاسلام وضمانه عظيم ، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد ، فألق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له : رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتم لك ، لا تعجل فإن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة.
    فقال له عبيد : أفلا غير هذا ؟ قال. وما هو ؟ قال : لا تفسد على معاوية رأيه ، ولا تبغض إليه ابنه ، وألقي أنا يزيد فأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك ، يستشيرك في البيعة له ، وإنك تتخوف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه ، و إنك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة على الناس ، ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت مما تخاف من أمر الأمة.
    فقال زياد : لقد رميت الأمر بحجره ، أشخص على بركة الله ، فإن أصبت فما لا ينكر ، وإن يكن خطأ فغير مستغش ، وتقول بما ترى ، ويقتضي الله بغيب ما يعلم ، فقدم على يزيد فذكر ذلك له فكف عن كثير مما كان يصنع ، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتوءدة وأن لا يعجل ، فقبل منه ، فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر : هذا أراد ، إن ديني إذن لرخيص وامتنع (1).
1 ـ تاريخ الطبري 6 : 169 ، 170 ، كامل ابن الأثير 3 : 214 ، 215.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس