الغدير ـ الجزء العاشر ::: 231 ـ 240
(231)
بيعة يزيد في الشام
وقتل الحسن السبط دونها
    لما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق بإحضار منه وكان فيهم الأحنف بن قيس دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري فقال له : إذا جلست على المنبر وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر ( يزيد ) وقل فيه الذي يحق له عليك من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء ، ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله ويدعوه إلى يزيد.
    ثم خطب معاوية فتكلم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية : أين الأحنف ؟ فأجابه ، قال : ألا تتكلم ؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أصلح الله أمير المؤمنين ، إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، و يزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين ! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ولا ينظر لك وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة ، إن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا.
    فغضب الضحاك فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أصلح الله أمير المؤمنين إن أهل النفاق من أهل العراق ، مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، وألفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا إبليس لهم ربا ، واتخذهم إبليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين ! في نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه ؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق ! على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، ويربحوا من الآجل.

(232)
    ثم قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ! إنا قد فررنا (1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت إنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تف فأنت أهل الوفاء ، وإن تعذر تعلم والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم في ذلك خبر من ـ السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من علي.
    ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فأثنى على يزيد وحث معاوية إلى بيعته فقام معاوية فقال : أيها الناس : إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا ، بهم يستعد وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أوجفوا ، وإن استغني عنهم أرجفوا ، ثم يلقحون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، أن لووا عروة أمر حنفوا ، وإن دعوا إلى غي أسرفوا ، وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع (2) فأولى لأولئك ثم أولى ، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر. (3)
    فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة ، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة.
    ثم قام الأحنف بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين ! أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ،
1 ـ فر عن الأمر : بحث عنه.
2 ـ الفقع بالفتح والكسر : البيضاء الرخوة من الكمأة.
3 ـ النذر : الانذار. قال تعالى : فكيف كان عذابي ونذر.


(233)
فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين ، وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير (1).
    قال الأميني : لما حس معاوية بدء إعرابه عما رامه من البيعة ليزيد أن الفئة الصالحة من الأمة قط لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكي سلام الله عليه باقية من الحياة ، على أنه أعطى الإمام مواثيق مؤكدة ليكون له الأمر من بعده ، وليس له أن يعهد إلى أي أحد ، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر ، وجعل ما عهد له تحت قدميه ، قال أبو الفرج : أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سما فماتا منه (2).
    وسيوافيك تفصيل القول في أن معاوية هو الذي قتل الحسن السبط سلام الله عليه.

عبد الرحمن بن خالد (3)
في بيعة ( يزيد )
    خطب معاوية أهل الشام وقال لهم : يا أهل الشام إنه كبرت سني وقرب أجلي وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاما لكم ، وإنما أنا رجل منكم فرؤا رأيكم.
    فاصفقوا واجتمعوا وقالوا : رضينا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فشق ذلك على معاوية وأسرها في نفسه ، ثم إن عبد الرحمن مرض فأمر معاوية طبيبا عنده يهوديا يقال له : ابن أثال.
    وكان عنده مكينا ، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها ، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات ، ثم دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفيا هو وغلام له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلا من عند معاوية فهجم عليه ومعه قوم هربوا عنه فقتله المهاجر.
    وفي الأغاني : إنه قتله خالد بن المهاجر فأخذ وأتي به معاوية فقال له : لا جزاك الله من زائر
1 ـ الإمامة والسياسة 1 ، 138 ـ 142.
2 ـ مقاتل الطالبين ص 29.
3 ـ أدرك النبي صلى الله عليه وآله قال أبو عمر في الاستيعاب : كان من فرسان قريش وشجعانهم كان له فضل وهدى حسن وكرم إلا أنه كان منحرفا عن علي عليه السلام. وقال ابن حجر في الإصابة : كان عظيم القدر عند أهل الشام.


(234)
خيرا قتلت طبيبي. قال : قتلت المأمور وبقي الآمر (1).
    قال أبو عمر بعد ذكر القصة : وقصته هذه مشهورة عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها ، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره. قال الأميني : وقعت هذه القصة سنة 46 وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد...

سعيد بن عثمان
سنة خمس وخمسين
    سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال : إن بها عبيد الله بن زياد (2) فقال : أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى ، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه ، وقدمت علي هذا ـ يعني يزيد بن معاوية ـ وبايعت له ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
    فقال معاوية : أما بلاء أبيك فقد يحق علي الجزاء به ، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور : ولست بلائم لنفسي في التشمير ، وأما فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما فضل أمك على أمه فما ينكر امرأة من قريش خير من امرأة من كلب ، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك فقال له يزيد : يا أمير المؤمنين ! ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره وقد عتب عليك لي فأعتبه (3).
    وفي لفظ ابن قتيبة : فلما قدم معاوية الشام أتاه سعيد بن عثمان بن عفان ، وكان شيطان قريش ولسانها قال : يا أمير المؤمنين ! على م تبايع ليزيد وتتركني ؟ فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه ، وأمي خير من أمه ، وأنا خير منه ، وإنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي. فضحك معاوية وقال : يا ابن أخي أما قولك : إن أباك خير من أبيه. فيوم من
1 ـ الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن : ، الأغاني 15 : 13 : تاريخ الطبري 6 : 128 واللفظ لأبي عمر.
2 ـ سار إلى خراسان في أخريات سنة 53 وأقام بها سنتين كما رواه الطبري في تاريخه 6 : 166 ، 167.
3 ـ تاريخ الطبري 6 : 171 ، تاريخ ابن كثير 8 : 79 ، 80.


(235)
عثمان خير من معاوية. وأما قولك : إن أمك خير من أمه ففضل قرشية على كلبية فضل بين. وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء ، قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاصي وقامت فيه بنو حرب ، فنحن أعظم بذلك منة عليك ، و أما تكون خيرا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد ، ولكن دعني من هذا القول وسلني أعطك. فقال سعيد بن عثمان بن عفان : يا أمير المؤمنين ! لا يعدم يزيد مزكيا ما دمت له ، وما كنت لأرضى ببعض حقي دون بعض ، فإذا أبيت فاعطني مما أعطاك الله. فقال معاوية : لك خراسان ؟ قال سعيد : وما خراسان ؟ قال : إنها لك طعمة وصلة رحم. فخرج راضيا وهو يقول :
ذكرت أمير المؤمنين وفضله وقد سبقت مني إليه بوادر فعاد أمير المؤمنين بفضله وقال : خراسان لك اليوم طعمة فلو كان عثمان الغداة مكانه فقلت : جزاه الله خيرا بما وصل من القول فيه آية العقل والزلل وقد كان فيه قبل عودته ميل فجوزي أمير المؤمنين بما فعل لما نالني من ملكه فوق ما بذل
    فلما انتهى قوله إلى معاوية أمر يزيد أن يزوده وأمر إليه بخلعة وشيعه فرسخا (1).
    قال ابن عساكر في تاريخه 6 : 155 : كان أهل المدينة يحبون سعيدا ويكرهون يزيد ، فقدم على معاوية فقال له : يا ابن أخي ما شيء يقوله أهل المدينة ؟ قال : ما يقولون ؟ قال : قولهم :
والله لا ينالها يزيد حتى يعض هامه الحديد
إن الأمير بعده سعيد
    قال : ما تنكر من ذلك يا معاوية ؟! والله إن أبي لخير من أبي يزيد ، ولأمي خير من أمه ، ولأنا خير منه ، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ، ثم صار في يديك ما قد ترى فحلاتنا عنه أجمع.
    فقال له : أما قولك. الحديث.
1 ـ الإمامة والسياسة 1 : 157.

(236)
    وقال : حكى الحسن بن رشيق قصة سعيد مع معاوية بأطول مما مر ـ ثم ذكر حكاية ابن رشيق ـ وفيها : فولاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم.

كتب معاوية في بيعة يزيد
    كتب معاوية إلى مروان بن الحكم : إني قد كبرت سني ، ودق عظمي ، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي ، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي ، وكرهت أن أقطع أمرا دون مشورة من عندك ، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك.
    فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس : أصاب ووفق ، وقد أجبنا أن يتخير لنا فلا يألو.
    فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر ( يزيد ) فقام مروان فيهم وقال : إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال : كذبت والله يا مروان ! وكذب معاوية ، ما الخيار أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل.
    فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : والذي قال لوالديه اف لكما.
    الآية ، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت : يا مروان ! يا مروان ! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت : أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو به و لكنه فلان بن فلان ، ولكنك أنت فضض من لعنة نبي الله (1) وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك ، وفعل مثله ابن عمر ، وابن الزبير ، فكتب مروان بذلك إلى معاوية ، وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو بن حزم من المدينة ، و الأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة ، فقال محمد بن عمرو لمعاوية : إن كل راع مسؤل عن رعيته فانظر من تولي أمر أمة محمد فأخذ معاوية بهر (2) حتى جعل يتنفس في يوم شات ثم وصله وصرفه.
    وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه فلما خرج من عنده قال له : كيف رأيت ابن أخيك ؟ قال : رأيت شبابا ونشاطا وجلدا ومزاحا ، ثم إن
1 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء الثامن ص 252 ، 253 ط 1.
2 ـ البهر : انقطاع النفس من الاعياء.


(237)
معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري : لما اجتمع الوفود عنده إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها.
    فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الاسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته فعارضه الضحاك ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ! إنه لا بد للناس من وال بعدك وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء ، وأصلح للدهماء ، وآمن للسبل ، وخيرا في العاقبة ، والأيام عوج رواجع والله كل يوم هو في شأن ، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت ، وهو من أفضلنا علما وحلما وأبعدنا رأيا ، فوله عهدك ، واجعله لنا علما بعدك ، ومفزعا نلجأ إليه ، ونسكن في ظله ، وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك ، ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال : هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية ، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد ، ومن أبى فهذا وأشار إلى سيفه ، فقال معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء.
    وتكلم من حضر من الوفود فقال معاوية للأحنف : ما تقول يا أبا بحر ؟ فقال : نخافكم إن صدقنا ، ونخاف الله إن كذبنا ، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله و مخرجه ، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضا فلا تشاور فيه ، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا.
    وقام رجل من أهل الشام فقال : ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية ، وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف.
    فتفرق الناس يحكون قول الأحنف ، وكان معاوية يعطي المقارب ، ويداري المباعد ويلطف به ، حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه (1).
    صورة أخرى
    قالوا : ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلا يسيرا أن بايع ليزيد بالشام ، وكتب بيعته إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ، ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة يبايعوا ليزيد.
1 ـ العقد الفريد 2 : 302 ـ 304 ، الكامل لابن الأثير 3 : 214 ـ 216.

(238)
    فلما قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش فكتب لمعاوية : إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرني رأيك.
    فلما بلغ معاوية كتاب مروان عرف ذلك من قبله فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله ، ويخبره أنه قد ولى المدينة سعيد بن العاص ، فلما بلغ مروان كتاب معاوية أقبل مغاضبا في أهل بيته وناس كثير من قومه حتى نزل بأخواله بني كنانة فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله و استخلافه يزيد ابنه عن غير مشاورة مبادرة له ، فقالوا : نحن نبلك في يدك ، وسيفك في قرابك ، فمن رميته بنا أصبناه ، ومن ضربته قطعناه ، الرأي رأيك ، ونحن طوع يمينك.
    ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير ممن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج حتى أتى سدة معاوية وقد أذن للناس ، فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول ، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتى خلى عن الباب ، ثم دخل مروان ودخلوا معه حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده ، قال بعد التسليم عليه بالخلافة : إن الله عظيم خطره ، لا يقدر قادر قدره ، خلق من خلقه عبادا جعلهم لدعائم دينه أوتادا ، هم رقباؤه على البلاد ، وخلفاؤه على العباد ، أسفر بهم الظلم وألف بهم الدين ، وشدد بهم اليقين ، ومنح بهم الظفر ، ووضع بهم من استكبر ، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا ، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا ، وعلى من خالف عنا أعوانا ، يشد بنا العضد ، ويقام منا الأود ، ونستشار في القضية ، ونستأمر في أمر الرعية ، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستخيرة ، ذات وجوه مستديرة ، تفتح بأزمة الضلال ، وتجلس بأسوأ الرجال ، يؤكل جزورها ونمق أحلابها ، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها ؟ وأيم الله لولا عهود مؤكدة ومواثيق معقدة لأقمت أود وليها ، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واهدأ من تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك في قومك نظرا وإن لهم على مناوأتك وزرا.
    فغضب معاوية من كلامه غضبا شديدا ثم كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثم قال : إن الله قد جعل لكل شيء أصلا ، وجعل لكل خير أهلا ، ثم جعلك في الكرم مني محتدا والعزيز مني والدا ، اخترت من قروم قادة ، ثم استللت سيد سادة ، فأنت


(239)
ابن ينابيع الكرام (1) ، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم ، ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صديقين ، كانوا كما نعت ، وكنت لهم كما ذكرت ، وقد أصبحنا في أمور مستخيرة ذات وجوه مستديرة ، وبك والله يا بن العم نرجو استقامة أودها ، وذلولة صعوبتها ، وسفور ظلمتها ، حتى يتطأطأ جسيمها ، ويركب بك عظيمها ، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده وفي كل شيء عضده ، وإليك بعد عهده ، فقد وليتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وأنا مجيز وفدك ، ومحسن رفدك ، وعلى أمير المؤمنين غناك ، والنزول عند رضاك.
    فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال ، وفرض له في أهل بيته مائة مائة.
    كتاب معاوية إلى سعيد
    إن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ويكتب إليه بمن سارع ممن لم يسارع ، فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة ، وأخذهم بالعزم والشدة ، وسطا بكل من أبطأ عن ذلك ، فأبطأ الناس عنها إلا اليسير لا سيما بني هاشم فإنه لم يجبه منهم أحد ، وكان ابن الزبير من أشد الناس إنكارا لذلك ، وردا له ، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية : أما بعد : فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء لا سيما أهل البيت من بني هاشم ، فإنه لم يجبني منهم أحد ، وبلغني عنهم ما أكره ، وأما الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير ، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال ، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك ، والسلام ، فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وإلى عبد الله بن جعفر ، والحسين بن علي رضي الله عنهم كتبا وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها وكتب إلى سعيد بن العاص :
1 ـ قايس بين هذه الإطرائات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى الله عليه وآله لذلك الطريد بن الطريد الوزغ بن الوزغ ، اللعين بن اللعين. ونحن لو أعطينا لمعاوية حق المقام لقلنا : مكره أخوك لا بطل.

(240)
    أما بعد : فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة ولا سيما بني هاشم وما ذكر ابن الزبير ، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلمها إليهم وتنجز جواباتها وابعث بها حتى أرى في ذلك رأيي ، ولتشد عزيمتك ، ولتصلب شكيمتك ، و تحسن نيتك ، وعليك بالرفق ، وإياك والخرق ، فإن الرفق رشد ، والخرق نكد ، وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه ، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة ، وهو ليث عرين ، ولست آمنك أن تشاوره أن لا تقوى عليه.
    فأما من يرد مع السباع إذا وردت ، ويكنس إذا كنست فذلك عبد الله بن الزبير ، فاحذره أشد الحذر ، ولا قوة إلا بالله ، وأنا قادم عليك إن شاء الله. والسلام (1).
    قال الأميني : يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم.
    نعم : والحق أن للحسين و لأبيه وأخيه قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة إلا معاوية وأذنابه الذين قلبوا عليهم ظهر المجن بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم ، بعد أن حليت الأيام لهم درتها ، فضيعوا تلك القرابة ، وأنكروا ذلك الحق العظيم ، وقطعوا رحما ماسة إن كان بين الطلقاء وسادات الأمة رحم.
هيهات لا قربت قربى ولا رحم كانت مودة سلمان له رحما يوما إذا أقصت الأخلاق والشيم ولم يكن بين نوح وابنه رحم (2)
    كتاب معاوية إلى الحسين عليه السلام
    أما بعد : فقد انتهت إلي منك أمور لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
    فكتب إليه الحسين رضي الله عنه : أما بعد : فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور لم تكن
1 ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 : 144 ـ 146.
2 ـ من قصيدة للأمير أبي فراس الشهيرة.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس