الغدير ـ الجزء العاشر ::: 241 ـ 250
(241)
تظنني بها رغبة بي عنها. وإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله تعالى ، وأما ما ذكرت إنه رقى إليك عني فإنما رقاه الملاقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حربا ولا خلافا ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلين ، حزب الظالم ، وأعوان الشيطان الرجيم. إلى آخر الكتاب (1).
    كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر : كتب إلى عبد الله : أما بعد : فقد عرفت أثرتي إياك على من سواك ، وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك ، وقد أتاني عنك ما أكره ، فإن بايعت تشكر ، وإن تأب تجبر ، والسلام.
    فكتب إليه عبد الله بن جعفر : أما بعد : فقد جاءني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إياي على من سواي ، فإن تفعل فبحظك أصبت ، وإن تأب فبنفسك قصرت ، وأما ما ذكرت من جبرك إياي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الاسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين ؟ والسلام. الإمامة والسياسة 1 : 147 ، 148.
    وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير :
رأيت كرام الناس إن كف عنهم ولا سيما إن كان عفوا بقدرة ولست بـذي لؤم فتعذر بالذي ولكن غشا لست تعرف غيره فما غش إلا نفسه في فعاله وإني لأخشى أن أنالك بالذي بحلم رأوا فضلا لمن قد تحلما فذلك أحرى أن يجل ويعظما أتيتـه من أخلاق من كان ألوما وقد غش قبل اليوم إبليس آدما فأصبح ملعونا وقد كان مكرما أردت فيجزي الله من كان أظلما
    فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية :
ألا سمع الله الذي أنا عبده وأجرى على الله العظيم بحلمه فأخزى إله الناس من كان أظلما وأسرعهم في الموبقات تقحما

1 ـ مر بتمامه في هذا الجزء صفحة 160.

(242)
أغرك أن قالوا : حليم بعزة ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني وأقسم لولا بيعة لك لم أكن وليس بذي حلم ولكن تحلما هزبر عرين يترك القرن أكتما لأنقضها لم تنج مني مسلما
    الإمامة والسياسة 1 : 147 ، 148.

    بيعة يزيد
    في المدينة المشرفة
    حج معاوية في سنة 50 ، واعتمر في رجب سنة 56 وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد ، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقية الصحابة ووجوه الأمة ، غير أن المؤرخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصلوها تفصيلا.
    الرحلة الأولى
    قال ابن قتيبة : قالوا : استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس ، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر فلما جلسوا تكلم معاوية فقال : الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.
    أما بعد : فإني قد كبر سني ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما ، على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما ، فردوا على أمير المؤمنين خيرا يرحمكم الله.
    فتكلم عبد الله بن العباس فقال : الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.
    أما بعد : فإنك قد تكلمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه وتقدست


(243)
أسماؤه اختار محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها فإنه إنما اختار محمدا بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.
    فقام عبد الله بن جعفر فقال : الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه ، نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم يتخذ صاحبه ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
    أما بعد : فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.
    وإن أخذ فيها بسنة رسول الله ؟ فأولوا رسول الله ، وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول ؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه ، لحقه وصدقه ، ولأطيع الله ، وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ! فإنك قد صرت راعيا ونحن الرعية ، فانظر لرعيتك ، فإنك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي.
    وتركك أن تحضرهما ، فوالله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.
    فتكلم عبد الله بن الزبير فقال : الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا عبده ورسوله.
    أما بعد : فإن هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية ، وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء ، وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية ! وأنصف من نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي خلف حسنا وحسينا ، وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.
    فتكلم عبد الله بن عمر فقال : الحمد لله الذي أكرمنا بدينه وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم : أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك


(244)
كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى ، إلا أن الخلافة ليست شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ، ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، من كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش ، فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا.
    فتكلم معاوية فقال : قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنهم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى الناس أبا بكر وعمر ، من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.
    ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم ، ثم انصرف راجعا إلى الشام ، وسكت عن البيعة ، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين. الإمامة والسياسة 1 : 142 ـ 144 ، جمهرة الخطب 2 : 233 ـ 236.
    قال الأميني : لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلم به عبد الرحمن ، ذكره ابن حجر في الإصابة 2 : 408 قال : خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فكلمه الحسين ابن علي ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن : أهرقلية ؟ كلما مات قيصر كان قيصر مكانه ، لا نفعل والله أبدا.
    صورة أخرى
    من محاورة الرحلة الأولى
    قدم معاوية المدينة حاجا (1) فلما أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه ما بين راكب وماش ، وخرج النساء والصبيان ، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب ، فلان لمن كافحه ، وفاوض العامة بمحادثته ، وتألفهم جهده مقاربة
1 ـ من المتسالم عليه أن معاوية حج في سنة خمسين.

(245)
ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة : ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتكم حتى انطوى البعيد ، ولان الخشن ، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه.
    فرد عليه القوم : بنفسك ودارك ومهاجرك أما إن لك منهم كأشفاق الحميم البر والحفي.
    حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فقال معاوية : مرحبا بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثم انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف.
    وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحب وقرب وجعل يواجه هذا مرة ، ويضاحك هذا أخرى.
    حتى ورد المدينة ، فلما خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى منزله ، ومضى عبد الله بن عباس إلى المسجد ، فدخله ، وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة : يا معاوية ! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر ؟ فقال معاوية : ما كنت لتفعلين ذلك. قالت : لم ؟ قال : لأني في بيت أمن ، بيت رسول الله.
    ثم أن عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضته على الاقتداء بهما والاتباع لأثرهما ، ثم صمتت ، قال : فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالا ثم قال : أنت والله يا أم المؤمنين ! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحق ، وحضضتنا على حظ أنفسنا ، وأنت أهل لأن يطاع أمرك ، ويسمع قولك ، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم ؟ وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم ؟! فلما سمعت ذلك عائشة علمت أنه سيمضي على أمره فقالت : أما ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتق الله في هؤلاء الرهط ، ولا تعجل فيهم ، فعلهم لا يصنعون إلا ما أحببت.
    ثم قام معاوية فلما قام قالت عائشة : يا معاوية ! قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين.
    فقال معاوية : دعي هذا ، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك ؟ قالت : صالح.
    قال : فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا.

(246)
    ثم خرج ومعه ذكوان فاتكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول : تالله إن رأيت كاليوم قط خطيبا أبلغ من عائشة بعد رسول الله ، ثم مضى حتى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له : يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم ، يا بن أخي ! فما أربك إلى الخلاف ، قال الحسين : أرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلا منهم ، وألا تكن عجلت علي بأمر. قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا ، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق فقال : يقول لك أخوك ابن الزبير : ما كان ؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا.
    ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له : قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف ، قال : فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلا منهم ، وأن لا تكن عجلت علي بأمر. قال : وتفعل ؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا.
    فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال : إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضان لا راعي لها (1) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف ، قال ابن عمر : هل لك في أمر تحقن به الدماء ، وتدرك به حاجتك ؟! فقال معاوية : وددت ذلك.
    فقال ابن عمر : تبرز سريرك ثم أجئ فأبايعك على أني أدخل فيما اجتمعت عليه الأمة ، فوالله لو أن الأمة اجتمعت على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة. قال : وتفعل ؟ قال : نعم ثم خرج.
    وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فخلا به قال : بأي يد أو رجل تقدم على معصيتي ؟ فقال عبد الرحمن : أرجو أن يكون ذلك خيرا لي. فقال معاوية : والله لقد هممت أن أقتلك. فقال : لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك في الآخرة النار. ثم خرج. بقي معاوية يومه ذلك يعطي الخواص. ويدني بذمة الناس ، فلما كان صبيحة اليوم
1 ـ أتصدق أن محمدا صلى الله عليه وآله ترك أمته كالضان لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية ؟! حاشا نبي الرحمة عن أن يدع الأمة كما يحسبون ، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم ، وجروا الويلات على الأمة حتى اليوم.

(247)
الثاني أمر بفراش فوضع له وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلة يمانية وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلف وتعطر فقعد على سريره وأجلس كتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عباس فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليا ثم قال : يا بن عباس لقد وفر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه السلام.
    فقال ابن عباس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكل أوفر.
    فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن علي فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثم سكت ، ثم ابتدأ معاوية فقال : أما بعد : فالحمد لله ولي النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا ، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فأدى عن الله وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله ، وأعز أولياءه ، و قمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخر له زهادة واختيارا لله ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بغيا لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان ، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ، ولم الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين ، وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب ، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم على الصديق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين


(248)
يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فمهلا بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، وما زلت أرجو الانصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما ، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، واستغفر الله لي ولكما.
    كلمة الإمام السبط : فتيسر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال : على رسلك ، فأنا المراد : ونصيبي في التهمة أوفر.
    فأمسك ابن عباس فقام الحسين فحمد الله و صلى على الرسول ثم قال : أما بعد : يا معاوية ! فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ البيعة ، وهيهات هيهات يا معاوية ! فضح الصبح فحمة الدجى ، وظهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على مواقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصرا ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدر باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا ، و لقد لعمر الله أورثنا الرسول عليه السلام ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فأذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان إلى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية ! من طريق كان قصدها


(249)
لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول ، وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله فقال صلى الله عليه وسلم : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب ؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، و تتخطاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه ، و تشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر الله لي ولكم.
    فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال : ما هذا يا بن عباس ؟ ولما عندك أدهى وأمر.
    فقال ابن عباس : لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، فاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
    فقال معاوية : أعود الحلم التحلم ، وخيره التحلم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله.
    ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا ، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثم قال : يا عبد الله بن عمر ! قد كنت تحدثنا إنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة ، وإن لك الدنيا وما فيها ، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملأهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ، وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثم سكت. فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه.
    ثم قال : أما بعد : يا معاوية ! قد كان قبلك خلفاء ، وكان لهم بنون ، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك ، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم ، وإن تحذرني أن أشق عصا المسلمين ، وأفزق ملاهم ، واسفك دماءهم ، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد.

(250)
    فقال معاوية : يرحمك الله ، ليس عندك خلاف ، ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرحمن : إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد ، والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى أو لأعيدها جذعة ، ثم قام ليخرج فتعلق معاوية بطرف ردائه ثم قال : على رسلك ، اللهم اكفنيه بما شئت ، لا تظهرن لأهل الشام. فإني أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ، ثم قال له.
    أنت ثعلب رواغ كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر ، أنت ألبت هذين الرجلين ، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه.
    فقال ابن الزبير : أتريد أن تبايع ليزيد ؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع ؟ أنطيعك ؟! أم نطعيه ؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها ، وبايع ليزيد ، فنحن نبايعه.
    فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتى قال له معاوية في بعض كلامه : والله ما أراك إلا قاتلا نفسك ، ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة.
    ثم أمرهم بالانصراف واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس : أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعد هؤلاء (1) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثم قال : يا أهل المدينة ! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعا وسلموا وأخرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه ، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له.
    فقام الحسين فقال : والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا فقال معاوية كأنك تريد نفسك ؟ فقال الحسين : نعم أصلحك الله.
    فقال معاوية : إذا أخبرك ، أما قولك خير منه أما فلعمري أمك خير من أمه ، ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهن ، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فاطمة في دينها و سابقتها ، فأمك لعمر الله خير من أمه. وأما أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين : حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية : و أما ما ذكرت من إنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين :
1 ـ يعني المتخلفين عن بيعة يزيد.
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس