الغدير ـ الجزء العاشر ::: 251 ـ 260
(251)
هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني ؟ فقال معاوية : مهلا عن شتم ابن عمك فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك.
    ثم التفت معاوية إلى الناس وقال : أيها الناس قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يستخلف أحدا ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنة نبيه ، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين ، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، كل ذلك يصنعون نظرا للمسلمين ، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الانصاف (1).

رحلة معاوية الثانية
وبيعة يزيد فيها
    قال ابن الأثير : فلما بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلما دناه من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس فلما نظر إليه قال : لا مرحبا ولا أهلا ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه ، قال : مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة.
    قال : بلى ولشر منها ، ولقيه ابن الزبير فقال : لا مرحبا ولا أهلا ، خب ضب تلعة ، يدخل رأسه ، ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ، ويدق ظهره ، نحياه عني.
    فضرب وجه راحلته.
    ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له معاوية : لا أهلا ولا مرحبا شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثم أمر فضرب وجه راحلته ، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال : من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه ؟! وما أظن قوما بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتث أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثلا :
قـد كنت حذرتك آل المصطلق إنك إن كلفتني ما لم أطق وقلت : يا عمرو أطعني وانطلق ساءك ما سرك مني من خلق
دونك ما استسقيته فاحس وذق

1 ـ الإمامة والسياسة 1 : 149 ـ 155 ، تاريخ الطبري 6 : 170 واللفظ لابن قتيبة.

(252)
    ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه فقال : لأقتلنهم إن لم يبايعوا.
    فشكاهم إليها فوعظته وقالت له : بلغني إنك تتهددهم بالقتل ؟ فقال : يا أم المؤمنين ! هم أعز من ذلك ، ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم ، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت ؟ قالت : فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله. قال : أفعل.
    وكان في قولها له : ما يؤمنك أن أقعد لك رجلا يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت ـ تعني أخاها محمدا ـ فقال لها : كلا يا أم المؤمنين ! إني في بيت أمن. قالت : أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.
    ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس فقال أولئك النفر : نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه.
    فلقوه ببطن مر فكان أول من لقيه الحسين فقال له معاوية : مرحبا وأهلا يا ابن رسول الله ! وسيد شباب المسلمين.
    فأمر له بدابة فركب وسايره ، ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة فكانوا أول داخل وآخر خارج ، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئا حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض : لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد فأعدوا له جوابا.
    فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال : قد علمتم سيرتي فيكم ، وصلتي لأرحامكم ، وحملي ما كان منكم ، ويزيد أخوكم وابن عمكم و أردت أن تقدموه باسم الخلافة ، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك.
    فسكتوا ، فقال : ألا تجيبون ؟ مرتين ، ثم أقبل على ابن الزبير فقال : هات لعمري إنك خطيبهم ، فقال : نعم نخيرك بين ثلاث خصال قال : أعرضهن.
    قال : تصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما صنع أبو بكر ، أو كما صنع عمر ، قال معاوية : ما صنعوا ؟ قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف أحدا فارتضى الناس أبا بكر قال : ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف.
    قالوا : صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه ، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية : هل عندك غير هذا ؟ قال : لا. ثم قال : فأنتم ؟ قالوا : قولنا قوله.
    قال : فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب منكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي


(253)
هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه ، فلا يبقين رجل إلا على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما.
    ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يفضى إلا عن مشورتهم وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.
    فبايع الناس وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر ، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم : زعمتم إنكم لا تبايعون فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم ؟ قالوا : والله ما فعلنا.
    فقالوا : ما منعكم أن تردوا على الرجل ؟ قالوا : كادنا وخفنا القتل.
    وبايعه أهل المدينة ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عباس فقال له : ما بالك جفوتنا ؟ قال : إن صاحبكم ـ يعني الحسين عليه السلام ـ لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه.
    فقال : يا معاوية ! إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك. قال : يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون (1).
    وجاء في لفظ ابن قتيبة : إن معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهبا إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم : الحسين بن علي ! وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال : إني خارج العشية إلى أهل الشام فأخبرهم : إن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا ، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه.
    فحذر القوم ذلك ، فلما كان العشي خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدثهم وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلة حمراء ، وألبس الحسين حلة صفراء ، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء ، وألبس ابن الزبير حلة يمانية ، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم ـ أي القوم ـ وإنهم بايعوا ، فقال : يا أهل الشام ! إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين ، وقد
1 ـ العقد الفريد 2 : 302 ـ 304 ، الكامل لابن الأثير 3 : 21 ـ 218 ، ذيل الأمالي ص 177 ، جمهرة الرسائل 2 : 69 واللفظ لابن الأثير.

(254)
بايعوا وسلموا ذلك ، والقوم سكوت لم يتكلموا شيئا حذر القتل ، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إن كان رابك منهم ريب فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم.
    فقال معاوية : سبحان الله ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام ؟ لا أسمع لهم ذكرا بسوء فإنهم بايعوا وسلموا ، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم ، ثم ارتحل معاوية راجعا إلى مكة وقد أعطى الناس أعطياتهم ، وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها وأعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، فخرج عبد الله ابن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول : من بالباب ؟ فيقال : عبد الله بن عباس فلم يأذن لأحد ، فلما استيقظ قال : من بالباب ؟ فقيل : عبد الله بن عباس فدعا بدابته فأدخلت إليه ثم خرج راكبا فوثب إليه عبد الله بن عباس فأخذ بلجام البغلة ثم قال : أين تذهب ؟ قال : إلى مكة.
    قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا ؟ فأوما إليه معاوية فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم.
    قال ابن عباس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي ، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا.
    فقال معاوية : لستم كغيركم ، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم ، فقال ابن عباس : أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام ثم لأقولن ما تعلم ، والله لأتركنهم عليك خوارج. فقال معاوية : لا بل أعطيكم جوائزكم ، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى الشام. الإمامة والسياسة 1 : 156.
    قال الأميني : إن المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جد عليم أنها تمت برواعد الارهاب ، وبوارق التطميع ، وعوامل البهت والافتراء ، فيرى معاوية يتوعد هذا ، ويقتل ذاك ، ويولي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له ، ويدر من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة ، وفي القوم من لا يؤثر فيه شيء من ذلك كله ، غير أنه لا رأي لمن لا يطاع ، لكن إمام الهدى ، وسبط النبوة ، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كله مصحرا بالحقيقة ، ومصارحا بالحق ، وداحضا للباطل مع كل تلكم الحنادس المدلهمة ، أصغت إليه أذن أم لا ، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض ، فقام بواجب الموقف رافعا عقيرته بما تستدعيه الحالة ، ويوجبه النظر في صالح المسلمين


(255)
ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى من وافقه في شيء من الأمر ، ولا ما أعده لهم من ـ التوعيد والإرجاف بهم ، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم ، حتى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزا للخزاية وشية العار ، ولقي الحسين عليه السلام ربه وقد أدى ما عليه ، رمزا للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر ، نعم : لقي الحسين عليه السلام ربه وهو ضحية تلك البيعة ، ـ بيعة يزيد ـ كما لقي أخوه الحسن ربه مسموما من جراء تلكم البيعة الملعونة التي جرت الويلات على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستتبعت هدم الكعبة ، والاغارة على دار الهجرة يوم الحرة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة ، وأعظمها رزايا مشهد الطف التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة صلوات الله عليهم ، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب ، وتندب النوادب ، وقرحت الجفون ، وأسكبت المدامع ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
    نعم : تمت تلك البيعة المشومة مع فقدان أي جدارة وحنكة في يزيد ، تأهله لتسنم عرش الخلافة على ما تردى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور ، ومباشرة الفجور ، ومنادمة القيان ذوات المعازف ، ومحارشة الكلاب ، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية ، وقد عرفته الناس بذلك كله منذ أولياته وعرفه به أناس آخرون ، وحسبك شهادة وفد بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم : عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي ، والمنذر بن الزبير ، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأعظمهم جوائزهم ، وشاهدوا أفعاله ، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلا المنذر ، فلما قدم الوفد المدينة قاموا فيهم ، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا : إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب ـ الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الحراب ، وهم اللصوص والفتيان ، وإنا نشهدكم إنا قد خلعناه فتابعهم الناس. (1)
    وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرة يومئذ : يا قوم ! اتقوا الله وحده لا شريك له ، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي
1 ـ تاريخ الطبري 7 : 4 ، الكامل لابن الأثير 4 : 45 ، تاريخ ابن كثير 8 : 216 ، فتح الباري 13 : 59.

(256)
بالحجارة من السماء ، إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا (1).
    ولما قدم المدينة أتاه الناس فقالوا : ما وراءك ؟ قال : أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم (2).
    وقال المنذر بن الزبير لما قدم المدينة : إن يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة (3).
    وقال عتبة بن مسعود لابن عباس : أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش ؟ قال : مه فأين ما قلت لكم ؟ وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر أو هو شر من شاربها أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله ! إني لأنهاكم وأنا أعلم أنكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكة ـ يعني عبد الله بن الزبير ـ (4).
    نعم : لم يك على مخازي يزيد من أول يومه حجاب مسدول يخفيها على الأباعد والأقارب ، غير أن أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غض الطرف عنها جمعاء ، وحسب أنها تخفى على الملأ الديني بالتمويه ، وطفق يذكر له فضلا وعلما بالسياسة ، فجابهه لسان الحق وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة 248 و 250 ومعاوية هو نفسه يندد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله : إعلم يا يزيد ! أن أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السر ، فلا تأمن نفسك على سرك ، ولا تعتقد على فعلك ، الكتاب (5).
    فنظرا إلى ما عرفته الأمة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عد الحسن البصري استخلاف معاوية إياه من موبقاته الأربع كما مر حديثه في صفحة 225.
1 ـ تاريخ ابن عساكر 7 : 372.
2 ـ تاريخ ابن عساكر 7 : 372 ، الكامل لابن الأثير 4 : 45 ، الإصابة 2 : 299.
3 ـ كامل ابن الأثير 4 : 45 ، تاريخ ابن كثير 8 : 216.
4 ـ الإمامة والسياسة 1 : 167.
5 ـ صبح الأعشى 6 : 387.


(257)
ـ 15 ـ
جنايات معاوية
في صفحات تاريخه السوداء
    إنما نجتزئ منها على شيء يسير يكون كأنموذج مما له من السيئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب ، ويستدعي التبسط فيها مجلدات ضخمة فمنها : دؤبه على لعن مولانا علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وكان يقنت به صلواته كما مر حديثه في الجزء الثاني ص 132 ط 2 واتخذه سنة جارية في خطب الجمعة والأعياد ، وبدل سنة محمد صلى الله عليه وآله في خطبة العيدين المتأخرة عن صلاتهما وقدمها عليها لإسماع الناس لعن الإمام الطاهر كما مر تفصيله في الجزء الثامن ص 164 ـ 171 وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص 212 وكان يأمر عماله بتلك الأحدوثة الموبقة ، ويحث الناس عليها ، ويوبخ المتوقفين عنها ، ولا يصيخ إلى قول أي ناصح وازع.
    1 ـ أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : أمر معاوية سعدا فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لإن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ـ فذكر حديث المنزلة : والراية.
    والمباهلة ـ وأخرجه الحاكم وزاد : فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة. (1)
    وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال : لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلما فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في علي وشرع في سبه فزحف سعد ثم قال : أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي والله لإن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ـ إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد : وأيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت. ونهض.
    قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري : ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره : إن سعدا
1 ـ راجع صحيح مسلم 7 : 120 ، صحيح الترمذي 13 : 171 ، مستدرك الحاكم 3 : 109.

(258)
لما قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له : اقعد حتى تسمع جواب ما قلت ، ما كنت عندي قط ألأم منك الآن ، فهلا نصرته ؟ ولم قعدت عن بيعته ؟ فإني لو سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادما لعلي ما عشت ، فقال سعد : والله إني لأحق بموضعك منك. فقال معاوية : يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة (1).
    وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه 8 : 77 : دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له : مالك لم تقاتل عليا ؟ فقال : إني مرت بي ريح مظلمة فقلت : اخ اخ ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عني ، ثم عرفت الطريق فسرت.
    فقال معاوية : ليس في كتاب الله اخ اخ ، ولكن قال الله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله.
    فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية ، فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي.
    فقال معاوية : من سمع هذا معك ؟ فقال : فلان وفلان وأم سلمة.
    فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلت عليا.
    قال : وفي رواية من وجه آخر : إن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجة حجها معاوية وإنهما قاما إلى أم سلمة فسألاه فحدثتهما بما حدث به سعد فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادما لعلي حتى يموت أو أموت.
    قال الأميني : لقد أفك معاوية في ادعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطردة الشايعة فإنها لم تكن من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا البطانة والخاصة ، وإنما هتف بهن صلى الله عليه وآله على رؤوس الأشهاد ، أما حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيته الكبرى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله. الحديث.
فاستطالت أعناق كل فريق ليروا أي ماجد يعطاها ؟
    فلم تزل النفوس مشرئبة متتلعة إلى من عناه صلى الله عليه وآله حتى جيئ بأمير المؤمنين عليه السلام ومنح الفتح من ساحة النبوة العظمى ، فانطبق القول ، وصدقت الأكرومة ، وعلم الغزاة
1 ـ مروج الذهب 1 : 61 ، وحكى شطرا منه سبط ابن الجوزي في تذكرته ص 12.

(259)
كلهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يريد غيره.
    هب أن معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين ، وموقفه مع من يحاد الله ورسوله ، لكن هلا بلغه ذلك بعد ما حداه الفرق إلى الاستسلام ؟ والحديث مطرد بين الغزاة وسائر المسلمين ، وهم بين مشاهد له وعالم به.
    وأما حديث المنزلة فقد نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله في موارد عديدة منها غزاة تبوك على ما مر تفصيله في الجزء الثالث ص 198 ط 2 وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم.
    وكلهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية ، فالاعتذار عن معاوية بأنه لم يحضرها لإشراكه يومئذ مدفوع بما قلناه في واقعة خيبر.
    ومن جملة موارده يوم غدير خم الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف أو يزيدون ، لكنه لم يعه بدليل أنه ما آمن به فحارب عليا عليه السلام بعده وعاداه وأمر بلعنه محادة منه لله ولرسوله ، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله. بعد ترن في أذن الدنيا.
    ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد بإسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى علي عليه السلام فقال رسول الله : ما يبكيك فقال : لم تواخ بيني وبين أحد.
    فقال : إنما ادخرتك لنفسي ثم قال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (1).
    ومنها يوم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار أم سلمة إذ أقبل علي عليه السلام يريد الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا أم سلمة هل تعرفين هذا ؟ قالت : نعم هذا علي سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ـ راجع الجزء ـ الثالث ص 116.
    على أن حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه رواه في حياة علي عليه السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم كما في الرياض النضرة 2 : 195.
    وأما نبأ المباهلة فصحيح أن معاوية لم يدركه لأن الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه ، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن ابن حرب في
1 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 115.

(260)
معزل عن الكتاب والسنة ، على أن قصتها من القضايا العالمية وليس من المستطاع لأي أحد أن يدعي الجهل بها.
    وهنا نماشي ابن صخر على عدم اطلاعه على تلكم الفضائل إلى حد إخبار سعد إياه ، لكنه بماذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ؟ الآية ؟!.
    وبماذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفين من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار : تقتلك الفئة الباغية ؟ وبماذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بأخبار صحابي معدود عند القوم في العشرة المبشرة وبعد إقامة الشهود عليه ؟! ومن هنا تعلم أنه أفك مرة أخرى بقوله أما إني لو سمعت من رسول الله ما سمعت في علي لكنت له خادما ما عشت.
    لأنه عاش ولم يرتدع عن غيه وحارب أمير المؤمنين عليه السلام حيا وميتا ، ودؤب على لعنه والأمر به حتى أجهز عليه عمله وكبت وبه بطنته.
    نعم : إنه استمر على بغيه وقابل سعدا في حديثه بالضرطة ، وهل هي هزؤ منه بمصدر تلكم الأبناء القدسية ؟ أو بخضوع سعد لها ؟ أو لمحض أن سعدا لم يوافقه على ظلمه ؟ أنا لا أدري غير أن كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئا من ذلك ، وهلا منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك ؟ وبطبع الحال إن مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.
من أين تخجل أوجه أموية سكبت بلذات الفجور حيائها ؟
    2 ـ لما مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) حج معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : إن هيهنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ثم لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلما مات لعنه على المنبر وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا فكتبت أم سملة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية : إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه ، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد 2 : 301.
    3 ـ قال معاوية لعقيل بن أبي طالب : إن عليا قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر قال : أفعل. فصعد المنبر ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه
الغدير ـ الجزء العاشر ::: فهرس