الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: 141 ـ 150
(141)
    ما أعيى هذا الملك [ المأخوذ فيه البأس والشدة من الله شديد البطش ] حتى تمكن منه إنسان فصفعه وفقأ عينه ؟ ثم لم يزل الخوف مزيج نفسيته حتى تخفى عن الذين هم في قبضته ، ورهن تصرفه ، حيث وكل بهم وبقبض أرواحهم ، ولا كرامة لهم على الله ككرامة موسى النبي عليه السلام فيحاذر الصفعة منهم.
    وإن تعجب فعجب إن مرسل ملك الموت وهو الله سبحانه لم لم يعطه بأسا يفوق كل بأس وهو يعلم من خلق ، وإن فيهم من يجرأ على رسوله فيصفعه فيفقأ عينه ، وفيهم من يخافه الرسول فيخفي نفسه عنه ؟ أكان ذلك غفلة ؟ أم أن خزانة القدرة قد نفدت ؟ أم لم يكن يعلم ما يقع ـ وهو علام الغيوب ـ حتى وقعت الواقعة ؟ أم لم يكن في صفوف الموظفين بعالم الملكوت أي تدريب حتى يتمكنوا مقابلة الشدايد إلى عهد موسى ، ثم اطرد التدريب بإخفاء الموظف نفسه عند تنفيذ وظيفته ؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
    وهلم معي إلى النبي المعصوم موسى على نبينا وآله وعليه السلام ونراه كيف يتجرأ على ملك الموت ، وهو يعلم إنه رسول من الله العظيم ، وإنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، وإنه لا تجديه الصفعة والفقأة ، وعلى فرض أن يهرب عنه هذا الرسول أو ينسحب عنه بانتظام فإنه يأتيه غيره أشد منه بأسا ، لأن الله سبحانه مميته لا محالة ، ولا مرد لمجري قضائه ، وهب إنه تخلص من بأس هذا الملك فهل يتخلص من بأس مرسله المنتقم القهار ، وقد أثار غضبه بمجابهة ممثله ؟ أبعد الله الإفك والزور عليه سبحانه وعلى رسوله وملائكته ، وانتقم من كل أفاك أثيم.
    أضف إلى ذلك كله ما قاله سيدنا الحجة شرف الدين العاملي في كتاب أبي هريرة ص 86 مما لفظه : ونحن لم برئنا من أصحاب الرس وفرعون موسى وأبي جهل وأمثالهم ولعناهم بكرة وأصيلا ؟ أليس ذلك لأنهم آذوا رسل الله حين جاؤوهم بأوامره ؟ فكيف نجوز مثل فعلهم على أنبياء الله وصفوته من عباده ؟ حاشا لله إن هذا لبهتان عظيم.
    ثم إن من المعلوم إن قوة البشر بأسرهم ، بل قوة جميع الحيوانات منذ خلقها


(142)
الله تعالى إلى يوم القيامة لا تثبت أمام قوة ملك الموت فكيف ( والحال هذه ) تمكن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه ؟ وهلا دفعه الملك عن نفسه ، مع قدرته على إزهاق روحه ، وكونه مأمورا من الله تعالى بذلك ؟ ومتى كان للملك عين يجوز أن تفقأ ؟! ولا تنس تضييع حق الملك وذهاب عينه ولطمته هدرا إذ لم يؤمر الملك من الله بأن يقتص من موسى صاحب التوراة التي كتب الله فيها : إن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن والجروح قصاص (1) ولم يعاتب الله موسى على فعله هذا بل أكرمه إذ خيره بسببه بين الموت والحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثور.
    وما أدري ما الحكمة في ذكر شعر الثور بالخصوص ؟! الخ.
    هذه جملة مما وجدنا من كرامات الإمام أحمد ، وكم وكم لها من نظير ؟ وأنت حدث العاقل بما لا تقبله عقله فإن صافقك عليه فهو معتوه ، لكن القوم عقلاء وقبلوها ، ونحن إذا عزونا ما هو أخف وأخف وطئة من هذه مما يساعده العقل والمنطق والاعتبار إلى أئمة أهل بيت الوحي عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فهنالك الجلبة واللغط ، والتركاض والصخب ، وهتاف من شتى الجوانب : هذا لا يكون ، هذا غير معقول ، حديث واه ، هذا قول غلاة الشيعة ، هذا قول الرافضة ، هذا لا يصح وإن صح إسناده ، إسناده صحيح غير إن في قلبي منه شيئا ، هذا لا يصح وإن جاء بألف طريق.
    إلى أمثال هذه التهجمات الفارغة.

ـ 44 ـ
إمام المالكية يرى النبي صلى الله عليه وآله كل ليلة
    ذكر الحريفيش في ( الروض الفائق ) ص 270 قال : قال المثنى بن سعيد القصير :
1 ـ إشارة إلى الآية 45 من سورة المائدة وقد وجدنا في الفقرة ال‍ 23 من الأصحاح 21 من اصحاحات الخروج من التوراة الموجودة في أيدي اليهود والنصارى في هذه الأيام ما هذا لفظه : إن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس ، وعينا بعين ، وسنا بسن ، ويدا بيد ، ورجلا برجل ، وكيا بكي ، وجرحا بجرح ، ورضا برض.

(143)
سمعت مالكا ـ إمام المالكية ـ يقول : ما بت ليلة إلا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
    قال الأميني : هل يكذب الإمام في دعواه الذي لا يعلم إلا من قبله ؟ أو يرمى ابن سعيد بالإفك وإن كان قصيرا ؟ أو يعاتب الحريفيش في نقله وإن كان مصغرا ؟ وللإمام مالك موقف خطر مع الملكين العظيمين : منكر ونكير ، لا يقل عن موقف الإمام أحمد معهما ذكره الشعراني في الميزان 1 : 46 قال : لما مات شيخنا شيخ الاسلام الشيخ ناصر الدين اللقاني رآه بعض الصالحين في المنام فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : لما أجلسني الملكان في القبر ليسألاني أتاهم الإمام مالك فقال : مثل هذا يحتاج إلى سؤال في إيمانه بالله ورسوله ؟ تنحيا عنه ، فتنحيا عني.
    قال الأميني : ألا من معبر يعبر هذه الأحلام ؟ ولعل كل فرد من المعبرين يقول : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
    وإن اتخذها الحفاظ كأصل مسلم استندوا إليها عند المغالاة في الفضائل.
    كأن الملكين لم يكن عندهما عرفان بمن يحتاج إلى سؤال في إيمانه ، ولم يكن هنالك ناموس مطرد من المولى سبحانه يتبعانه ، أعوذ بالله من ضئولة العقل.

ـ 45 ـ
الملكان وأبو العلاء الهمداني
    قال ابن الجوزي في المنتظم 10 : 248 : رأى شخص إن يدين خرجتا من محراب مسجد فقال : ما هذه اليدان ؟ فقيل : هذه يد آدم بسطها ليعانق أبا العلاء الحافظ ـ الحسن بن أحمد المتوفى 569 ـ وإذا بأبي العلاء قد أقبل ، قال : فسلمت عليه فرد علي السلام وقال : يا فلان ! رأيت ابني أحمد حين قام على قبري يلقنني ؟ أما سمعت صوتي حين صبحت ؟ على الملكين ؟ فما قدرا أن يقولا شيئا فرجعا.
    نظرا إلى هذه المزعمة يجب أن يكون أبو العلاء أشجع من عمر الذي خاف النكيرين وارتعد منهما ، ثم لما قالا له : نم.
    قال : كيف أنام وقد أصابني منكما هذه الرعدة وقد صحبت النبي صلى الله عليه وآله (1) ولعلهما قبلا وصية عمر لما أنشدهما أن لا يأتيا مؤمنا إلا بصورة جميلة ففعلا ، فلم يهبهما أبو العلاء فصاح عليهما ، وخاشنهما الإمام
1 ـ مر تمام القصة في ص 140 من هذا الجزء.

(144)
أحمد ، وطردهما مالك عن ناصر الدين اللقاني ، أو أنهما أتى عليهما الشيخوخة والهرم منذ عهد الخليفة إلى هذه العصور المتأخرة ، وبلغ منهما الضعف فأخفق بسالتهما ، فلم يهب جانبهما ، وإلى الغاية لم ينكشف لنا سر تسليط المولى سبحانه هؤلاء الأعلام على الملكين الكريمين ، وفيه اختلال النظام المقرر المطرد الإلهي ، نعوذ بالله من هذه المزاعم التافهة كلها.

ـ 46 ـ
غمامة تظل على جنازة
    قال الحافظ الجزري في طبقات القراء 2 : 271 : توفي ابن الأخرم محمد بن النضر الدمشقي سنة 241 / 2 بدمشق قال عبد الباقي : وصليت عليه في المصلى بعد صلاة الظهر وكان يوما صائفا وصعدت غمامة على جنازة من المصلى إلى قبره فكانت شبه الآية.
    قال الأميني :
وفي كل شيء له آية تدل على إنه واحد

ـ 47 ـ
شاب ينظر الإذن من ربه
    ذكر الحريفيش في الروض الفائق ص 126 عن ذي النون المصري أنه قال : رأيت شابا عند الكعبة يكثر الركوع والسجود فدنوت منه وقلت له : إنك لتكثر الصلاة ، فقال : أنتظر الإذن من ربي في الانصراف ، قال : فرأيت رقعة سقطت فيها مكتوب : من العزيز الغفور إلى عبدي الصادق : إنصرف مغفورا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
    قال الأميني : لقد جنى من نزلت إليهم هذه الرقاع (1) حيث لم يوصوا بالتحفظ عليها لتستفيد بها الأمة وتتبرك بها في أجيالها المتأخرة وتتخذها معتبرا عوضا عن أن تكون خبرا ، وتزدان بها متاحف الآثار ، لكن لهم عذرا وهو إنهم لم يشاهدوها فلم يوصوا بها ، وإنما هي شباك طنبت لاقتناص الأغرار من أمة محمد صلى الله عليه وآله.
1 ـ وما أكثرها وألطفها ؟ راجع ما مر في هذا الجزء ص 121 ، 125 ، 137 ، وما يأتي.

(145)
ـ 48 ـ
شجرة أم غيلان تثمر رطبا
    قال بكر بن عبد الرحمن رحمه الله : كنا مع ذي النون المصري ـ المتوفى 245 ـ في البادية فنزلنا تحت شجرة أم غيلان فقلنا : ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب ؟ فتبسم ذو النون وقال : تشتهون رطبا ؟ وحرك الشجرة وقال : أقسمت عليك بالذي أنبتك وخلقك شجرة إلا ما نثرت علينا رطبا جنيا ، ثم حركها فنثرت رطبا فأكلنا وشبعنا ، ثم نمنا وانتبهنا وحركنا الشجرة فنثرت علينا شوكا.
    الروض الفائق ص 126 ، مرآت الجنان لليافعي 2 : 151 وقال : ذكره خلائق من الصالحين ، ورواه عنهم كثير من العلماء العاملين.
    قال الأميني : إلى المولى سبحانه نبتهل في أن يهب لأولئك الصالحين والعلماء العاملين عقلا وافيا يزعهم عن الخضوع للخرافات.

ـ 49 ـ
ابن أبي الجواري في التنور
    روى ابنا عساكر وكثير : إن أحمد بن أبي الحواري (1) كان قد عاهد أبا سليمان الداراني ألا يغضبه ولا يخالفه فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال : يا سيدي ! هذا قد سجروا التنور ، فماذا تأمر ؟ فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس ، ثم أعادها أحمد ثانية وقال له في الثالثة : إذهب فاقعد فيه.
    ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ، ثم استفاق فقال لمن حضره : إني قلت لأحمد : إذهب فاقعد في التنور وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك ، فقوموا بنا إليه فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة. تاريخ ابن كثير 10 : 348.
    ألا تعجب من ابن كثير يسجل أمثال هذه الأسطورة كحقايق ثابتة ثم لما يبلغ به السير والبحث إلى فضيلة معقولة من فضائل أهل بيت الوحي عليهم السلام أربد وجهه ، وأزبد فمه ، وعاد صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ، وأطلق لسانه البذي على من جاء بذلك الذكر الشذي ؟ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون
1 ـ أحد الأعلام يروي عنه أبو داود وابن ماجة وأبو حاتم توفي 246.

(146)
ـ 50 ـ
كتاب من الله إلى ابن الموفق
    عن أبي الحسن علي بن الموفق المتوفى 265 قال : خرجت يوما لاؤذن فأصبت قرطاسا فأخذته ووضعته في كمي فأذنت وأقمت وصليت فلما صليت قرأته فإذا فيه مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن الموفق ! تخاف الفقر وأنا ربك ؟.
    تاريخ الخطيب البغدادي 12 : 112 ، صفة الصفوة لابن الجوزي 2 : 218.
    كان حقا على الحافظين الخطيب وابن الجوزي أن يذكرا شطرا من حياة هذا الرجل بعد الكتاب المذكور المغمورة باليسار والنعمة لتكون تصديقا للخبر وشاهدا على صحة المزعمة ، لكنهما أغفلا عن ذلك فلم يقم لنا شاهد ولا حجة.

ـ 51 ـ
الحوراء تكلم أبا يحيى
    قال أبو يحيى زكريا بن يحيى الناقد (1) : إشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة ، فلما كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول : وفيت بعهدك فها أنا التي قد اشتريتني.
    تاريخ بغداد للخطيب 8 : 462 ، المنتظم لابن الجوزي 6 : 8 ، مناقب أحمد لابن الجوزي ص 510.
    ليس لك أن تناقش في المدة التي ختم أبو يحيى فيها الأربعة آلاف ختمة ، فإن من الممكن عند القوم أن يختمها في بضع دقايق فإن أبا مدين المغربي كان يختم في اليوم والليلة سبعين ألف ختمة.
    راجع الجزء الخامس ص 35.

ـ 52 ـ
دعاوى سهل بن عبد الله التستري
    ذكر الشعراني في طبقات الأخيار 1 : 158 نقلا عن كتاب ( الجواهر ) لسهل بن عبد الله التستري المتوفى 283 أنه قال : أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين ، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين ، وفككت طلسم السماء وأنا
1 ـ أحد الأعلام المجتهدين وأئمة الحديث من تلمذة أحمد بن حنبل إمام الحنابلة توفي سنة 285.

(147)
ابن تسع سنين ، ورأيت في السبع المثاني حرفا معجما حار فيه الجن والإنس ففهمته ، وحمدت الله على معرفته ، وحركت ما سكن وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة.
    قال الأميني : ليت شعري متى ما أشهد الله ما في العلى نبيه الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة ؟ ومتى ما نظر صلى الله عليه وآله في اللوح المحفوظ وفك طلسم السماء ؟ وهل رأى ذلك الحرف المعجم الذي حار فيه الجن والإنس وفهمه ، وهل حرك وسكن بإذن الله ؟ أيم الله إن هذه الأساطير المشمرجة لا يبوح بها إلا من يتخبطه الشيطان من المس وإن هي إلا سم ناقع على روح الاسلام ، تمس كرامة الأولياء ، وتشوه سمعة الأمة المسلمة ، وتسود صحيفة تاريخها عند الأمم ، وتضحك الملأ على عقلية أولئك المؤلفين الذين جمعت بيراعهم أشتات التاريخ الاسلامي.
ـ 53 ـ
سهل وجبل قاف
    عن سهل بن عبد الله قال : صعدت جبل قاف فرأيت سفينة نوح مطروحة فوقه.
    و قيل لأبي يزيد رضي الله عنه : هل بلغت جبل قاف ؟ فقال : جبل قاف أمره قريب بل جبل كاف وجبل صاد وجبل عين وهي محيطة بالأرض حول كل أرض جبل بمنزلة حائطها ، وجبل قاف بهذه الأرض وهي أصغر الأرضين ، وهو أيضا أصغر الجبال ، وهو جبل من زمردة خضراء وقيل : إن خضرة السماء من خضرته.
    وروي : إن الدنيا كلها خطوة للولي.
    وحكي : إن وليا من أولياء الله تعالى احتاج إلى النار فرفع يده إلى القمر فاقتبس منه جذوة في خرقة كانت معه (1).
    قال الأميني : حقا قيل : الجنون فنون : وأيم الله يميت القلب ويجلب الهم ضياع التاريخ الاسلامي بيد هؤلاء المعشوذين الذين شوهوا صحائفه بأمثال هذه الترهات التي لم يخلق مثلها في أساطير الأولين.
1 ـ روض الرياحين لليافعي 172.

(148
ـ 54 ـ
وحشي أتي بماء الوضوء
    قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه : أول ما رأيت من العجائب والكرامات إني خرجت يوما إلى موضع خال فطاب لي المقام فيه فوجدت من قلبي قربا إلى الله تعالى وحضرت الصلاة وأردت الوضوء وكانت عادتي من صباي تجديد الوضوء لكل صلاة ، فكأني اغتممت لفقد الماء ، فبينما أنا كذلك وإذا دب يمشي على رجليه كأنه إنسان معه جرة خضراء قد أمسك بيديه عليها ، فلما رأيته من بعيد توهمت إنه آدمي حتى دنا مني وسلم علي ووضع الجرة بين يدي ، فجاءني اعتراض العلم فقلت : هذه الجرة والماء من أين هو ؟ فنطق الدب وقال : يا سهل ! إنا قوم من الوحوش قد انقطعنا إلى الله تعالى بعزم المحبة والتوكل ، فبينما نحن نتكلم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا : ألا إن سهلا يريد ماء ليجدد الوضوء.
    فوضعت هذه الجرة بيدي وإذا بجنبي ملكان فدنوت منهما فصبا فيها الماء من الهواء وأنا أسمع خرير الماء.
    إلى آخر القصة. روض الرياحين ص 104 ، 105.
    قال الأميني : سل عن هذه العجائب الدب الطلق الذلق صاحب الجرة الخضراء ، أو بقية الوحوش المنقطعة إلى الله بعزم المحبة والتوكل ، أو سل الملكين إن سهل لك السبيل إليهما ، وإن لم تجدهما فسل عقلك واتخذه حكما ، واستعذ بالله من هذه الأوهام المخزية.

ـ 55 ـ
قصة فيها كرامتان
    قال عبد الله بن حنيف رحمه الله : دخلت بغداد قاصدا الحج ولم آكل الخبز أربعين يوما ولم أدخل على الجنيد وكنت على طهارة فرأيت ظبيا على رأس البئر وهو يشرب وكنت عطشانا ، فلما دنوت إلى البئر ولى الظبي فإذا الماء في أسفل البئر فمشيت وقلت : يا سيدي مالي محل هذا الظبي ؟ فنوديت من خلفي : جربناك فلم تصبر فارجع وخذ فرجعت فإذا البئر ملآنة ماء فملأت ركوتي فكنت أشرب منه وأتطهر إلى المدينة ولم أنفد ، ولما استقيت سمعت هاتفا يقول : إن الظبي جاء بلا ركوة ولا حبل ، وأنت


(149)
جئت معك الركوة. فلما رجعت من الحج دخلت الجامع فلما وقع بصر الجنيد علي قال : لو صبرت ولو ساعة لنبع الماء من تحت رجليك. الروض الفائق ص 127.
    قال الأميني : أوهام متراكمة بعضها فوق بعض ، وهل ترك الجنيد للأنبياء والرسل علما بالمغيب لم يبح به ، وهل أتي البئر العميقة ولي من الأولياء بلا ركوة ولا حبل كالظباء اللاتي يفقدنهما ولا يسعهن التأهب بأمثالهما ، وأما الانسان العادي فليس له وهو سار في عالم الأسباب إلا أن يحمل معه أدوات حاجته ، هكذا خلق الله البشر ، وهو ظاهر كثير من الأحاديث الشريفة.
    وحسبك سيرة النبي الأعظم والمرسلين من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
    وكلهم لله أولياء ، وجميعهم أفضل من ابن حنيف.

ـ 56 ـ
حلق اللحية لله
    أخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء 10 : 370 قال : سمعت أبا نصر يقول : سمعت أحمد بن محمد النهاوندي يقول : مات للشبلي (1) ابن كان اسمه غالبا ، فجزت أمه شعرها عليه ، وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلق الجميع ، فقيل له : يا أستاذ ! ما حملك على هذا ؟ فقال : جزت هذه شعرها على مفقود ، فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود ؟ قال الأميني : أهلا بالناسك الفقيه ، ومرحبا بالأولياء أمثال هذا المتخلع الجاهل بحكم الشريعة ، وزه بمدون أخبارهم ، ومنتفي آثار الأوحديين منهم كأبي نعيم ، كيف خفي على هذا الفقيه البارع في مذهب مالك فتوى مالك وحرمة حلق اللحية ، وإصفاق بقية الأئمة معه على ذلك ؟ كيف خفي عليه الحكم ؟ وهو ذلك الفقيه المتضلع الذي أجاب في دم الحيض المشتبه بدم الاستحاضة بثمانية عشر جوابا للعلماء ، وقد جالس الفقهاء عشرين سنة (2) ؟ وهلا وقف وهو مدرس الحديث عشرين عاما على المأثورات النبوية الدالة على حرمة حلق اللحية المروية من عدة طرق ؟ منها :
    1 ـ عن عائشة مرفوعا : عشر من الفطرة فذكر منها : إعفاء اللحية. وجاء من
1 ـ أبو بكر دلف بن جحدر فقيه عالم محدث توفي 334 / 5.
2 ـ راجع تهذيب التهذيب.


(150)
طريق أبي هريرة أيضا.
    صحيح مسلم 1 : 153 ، سنن البيهقي : 149 ، سنن أبي داود 1 : 9 ، 10 ، صحيح الترمذي 10 : 216 ، مشكل الآثار 1 : 297 ، المعتصر من المختصر 2 : 220 ، طرح التثريب 1 : 73 ، نيل الأوطار 1 : 135 عن أحمد ومسلم والنسائي والترمذي.
    2 ـ عن ابن عمر مرفوعا : اعفوا اللحى ، واحفوا الشوارب ، خالفوا المشركين.
    صحيح مسلم 1 : 153 ، سنن النسائي 1 : 16 ، جامع الترمذي 10 : 221 بلفظ : احفوا الشوارب واعفوا اللحى ، سنن البيهقي 1 : 149 عن الصحيحين ، المحلى لابن حزم 2 : 222 ، تاريخ الخطيب 4 : 345.
    3 ـ عن ابن عمر مرفوعا : خالفوا المشركين ، وفروا اللحى ، واحفوا الشوارب.
    أخرجه البخاري في صحيحه ، ومسلم في الصحيح 1 : 153 بلفظ : خالفوا المشركين ، وحفوا الشوارب وأوقوا اللحى.
    سنن البيهقي 1 : 150 ، نيل الأوطار 1 : 141 قال : متفق عليه.
    4 ـ عن أبي هريرة مرفوعا : جزوا الشوارب ، وأرخوا اللحى ، وخالفوا المجوس صحيح مسلم 1 : 153 ، سنن البيهقي 1 : 150 ، تاريخ الخطيب 5 : 317 بلفظ : أحفوا الشوارب واعفوا اللحى ، زاد المعاد لابن القيم 1 : 63 بلفظ : قصوا الشوارب. وفي ص 64 بلفظ : جزوا الشوارب. نيل الأوطار 1 : 141 عن أحمد ومسلم.
    5 ـ عن ابن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى.
    صحيح مسلم 1 : 153 ، صحيح الترمذي 10 : 221 ، سنن أبي داود 2 : 195 ، سنن البيهقي 1 : 151.
    6 ـ عن أبي أمامة قال : قلنا : يا رسول الله ! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم (1) ويوفرون سبالهم فقال : قصوا سبالكم ، ووفروا عثانينكم ، وخالفوا أهل الكتاب. أخرجه أحمد في المسند 5 : 264.
    7 ـ من حديث ابن عمر في المجوس : إنهم يوفرون سبالهم ، ويحلقون لحاهم ، فخالفوهم. أخرجه ابن حبان في صحيحه كما ذكره العراقي في تخريج الإحياء للغزالي المطبوع في ذيله ج 1 ص 146.
    8 ـ عن أنس : أحفوا الشوارب ، واعفوا اللحى ، ولا تشبهوا باليهود. أخرجه الطحاوي كما في شرح راموز الحديث : 1 : 141.
    9 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته
1 ـ جمع العثنون : اللحية.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء الحادي عشر ::: فهرس