كتاب الغدير ـ الجزء الرابع ::: 201 ـ 210
(201)
المجد يعلم أن المجد من أربي إني لمن معشر إن جمعوا لعلى إذا هممت ففتش عن شبا هممي وإن عزمت فعزمي يستحيل قذى ومعرك صافحت أيدي الحمام به حلت حباها المنايا في كتائبه تلاقت البيض في الأحشاء فاعتنقت بكت على الأرض دمعا من دمائهم ولو تماديت في غي وفي لعب تفرقوا عن نبي أو وصي نبي تجده في مهجات الأنجم الشهب تدمي مسالكه في أعين النوب طلى الرجال على الخرصان من كثب بالضرب فاجتثت الأجساد بالقضب والسمهري من الماذي واليلب (1) فاستعربت من ثغور النور والعشب
    ويحدثنا شعره أنه ما كان يعد الشعر لنفسه فضيلة ومأثرة بل كان يتخذه وسيلة إلى غرضه فيقول :
وما الشعر فخري ولكنما أنزهه عن لقاء الرجال فما يتهدى إليه الملوك وإني وإن كنت من إهله أطول به همة الفاخر واجعله تحفة الزائر إلا من المثل السائر لتنكر في حرفة الشاعر
    ويقول :
وما قولي الأشعار إلا ذريعة وإني إذا ما بلغ الله غاية إلى أمل قد آن قود جنيبه ضمنت له هجر القريض وحوبه
    ويقول :
ما لك ترضى أن يقال : شاعر ؟ كفاك ما أروق من أغصانه فكم تكون ناظما وقائلا بعدا لها من عدد الفضايل وطال من أعلامه الأطاول وأنت غب القول غير فاعل؟!
    وهو في شعره يرى نفسه أشعر الأمم تارة ، ويرى شعره فوق شعر البحتري ومسلم بن الوليد أخرى ، ويتواضع طورا ويجعل نفسه زميل الفرزدق أو جرير ، ويرى نفسه ضريبا لزهير ، ومرة يتفوه بالحق وينظر إلى شعره بعين الرضا ويرى كلامه
1 ـ الماذي : الدرع اللينة السهلة والسلاح كله. واليلب : الدروع من الجلود.

(202)
فوق كلام الرجال ، وقد أجمع الأكثرون إنه أشعر قريش قال الخطيب البغدادي في تاريخه 2 ص 246 : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ وكان أحد الرؤساء يقول : سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون : الرضي أشعر قريش. فقال ابن محفوظ : هذا صحيح وقد كان في قريش من يجيد القول إلا أن شعره قليل ، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي.
    وحمل الثناة على أدبه وشعره كبقية مآثره وفضائله وملكاته الفاضلة متواترة في المعاجم يضيق عن جمعها المجال ، فنضرب عنها صفحا روما للاختصار ، ونقتصر بذكر نبذة يسيرة ، منها :
    1 ـ قال النسابة العمري في ( المجدي ) : إنه نقيب نقباء الطالبيين ببغداد وكانت له هيبة وجلالة وفيه ورع وعفة وتقشف ومراعاة للأهل وغيرة عليهم وعسف بالجاني منهم ، وكان أحد علماء الزمان قد قرأ على أجلاء الرجال وشاهدت له جزءا مجلدا من تفسير منسوب إليه في القرآن مليح حسن يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر ، وشعره أشهر من أن يدل عليه ، وهو أشعر قريش إلى وقتنا ، وحسبك أن يكون قريش في أولها الحرث بن هشام والعبلي وعمر بن أبي ربيعة ، وفي آخرها بالنسبة إلى زمانه محمد بن صالح الموسوي الحسني ، وعلي بن محمد الحماني (1) وابن طباطبا الاصبهاني (2) .
    2 ـ قال الثعالبي في ( اليتيمة ) : هو اليوم أبدع أبناء الزمان ، وأنجب سادة العراق ، يتحلى مع محتده الشريف ، ومفخره المنيف ، بأدب ظاهر ، وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر ، ثم هو أشعر الطالبيين من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين كالحماني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم ، ولو قلت : إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق ، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح ، الممنع عن القدح ، الذي يجمع إلى السلاسة متانة ، وإلي السهولة رصانة ، ويشتمل على معان يقرب جناها ، ويبعد مداها ، وكان أبوه يتولى نقابة نقباء
1 ـ أحد شعراء الغدير في القرن الثالث مرت ترجمته ج 3 ص 57 ـ 69.
2 ـ أحد شعراء الغدير في القرن الرابع مرت ترجمته ج ص 340 ـ 347.


(203)
الطالبيين ويحكم فيهم أجمعين والنظر في المظالم والحج بالناس ثم ردت هذه الأعمال كلها إلى ولده الرضي سنة 388 وأبوه حي.
    3 ـ قال ابن الجوزي في ( المنتظم ) 7 ص 279 كان الرضي نقيب الطالبيين ببغداد حفظ القرآن في مدة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا وكان عالما فاضلا وشاعرا مترسلا ، عفيفا عالي الهمة متدينا ، اشترى في بعض الأيام جزازا من امرأة بخمسة دراهم فوجد جزءا بخط أبي علي بن مقلة فقال : للدلال أحضر المرأة فأحضرها فقال : قد وجدت في الجزاز جزءا بخط ابن مقلة فإن أردت الجزء فخذيه وإن اخترت ثمنه فهذه خمسة دراهم. فأخذتها ودعت له وانصرفت ، وكان سخيا جوادا.
    4 ـ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : حفظ الرضي القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا ، وكان عالما أديبا ، وشاعرا مفلقا ، فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض ، متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب ، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق فيه غباره ، وإن قصد في المراثي جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره ، وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة ، وكان عفيفا شريف النفس عالي الهمة مستلزما بالدين وقوانينه ، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه.
    5 ـ قال الباخرزي في ( دمية القصر ) ص 69 : له صدر الوسادة بين الأئمة و السادة وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء : ما أنورك ، ولحضارة : ما أغررك ، وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه ، وعقد بالنجم نواصيه ، وإذا نسب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه ، وفاز بالقدح المعلى في نصيبه ، حتى إذا انشد الراوي غزلياته بين يدي الفرهاة ، لقال له من العز : هات ، وإذا وصف فكأنه في الأوصاف أحسن من الوصائف والوصاف ، وإن مدح تحيرت فيه الأوهام بين مادح وممدوح ، له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مروح ، وإن نثر حمدت منه الأثر ، ورأيت هناك خرزات من العقد تنفض ، وقطرات من المزن ترفض ، ولعمري أن بغداد قد


(204)
أنجبت به فبوأته ظلالها ، وأرضعته زلالها ، وأنشقته شمالها ، وورد شعره دجلتها فشرب منها حتى شرق ، وانغمس فيها حتى كاد يقال : غرق ، فكلما أنشدت محاسنه تنزهت بغداد في نضرة نعيمها ، واستنشقت من أنفاس الهجير بمراوح نسيمها.
    6 ـ قال الرفاعي في ( صحاح الأخبار ) ص 61 : كان أشعر قريش وذلك لأن الشاعر المجيد من قريش ليس بمكثر والمكثر ليس بمجيد والرضي جمع بين فضلي الإكثار والإجادة ، وكان صاحب ورع وعفة وعدل في الأقضية وهيبة في النفوس.

    ألقابه ومناصبه
    لقبه بهاء الدولة سنة 388 بالشريف الأجل ، وفي سنة 392 بذي المنقبتين ، وفي سنة 398 (1) بالرضي ذي الحسبين ، وفي سنة 401 أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان ( الشريف الأجل ) وهو أول من خوطب بذلك من الحضرة الملوكية.
    إن المناصب والولايات كانت متكثرة على عهد سيدنا الشريف من الوزارة التنفيذية والتفويضية ، والإمارة على البلاد بقسميها العامة والخاصة ، والعامة بضربيها : استكفاء بعقد عن اختيار ، واستيلاء بعقد عن اضطرار ، والإمارة على جهاد المشركين بقسميها : المقصورة على سياسة الجيش وتدبير الحرب ، والمفوض معها إلى الأمير جميع أحكامها من قسم الغنائم وعقد الصلح ، والإمارة على قتال أهل الردة ، وقتال أهل البغي ، وقتال المحاربين ، وولاية القضاء ، وولاية المظالم ، وولاية النقابة بقسميها : العامة والخاصة وولاية إمامة الصلوات ، وإمارة الحج ، وولاية الدواوين بأقسامها ، وولاية الحسبة ، وغيرها من الولايات.
    فمنها ما كان يخص بالكتاب والأدباء ، وآخر بالثقات ورجال العدل و النصفة ، وثالث بالأماجد والأشراف والمترفين ، ورابع بأباة الضيم وأصحاب البسالة والفروسية ، وخامس بذوي الآراء والفكرة القوية والدهاة ، وسادس بأعاظم العلويين وأعيان العترة النبوية ، وسابع بالفقهاء وأئمة العلم والدين.
    وهناك ما يخص بجامع تلكم الفضايل ، ومجتمع هاتيك المآثر كسيدنا الشريف ذلك المثل الأعلى في الفضايل كلها فعلى الباحث عن مواقفه ومقاماته ونفسياته
1 ـ في البداية والنهاية ج 11 ص 335 سنة 396.

(205)
الكريمة أن يقرأ ولو بصورة مصغرة دروس المناصب التي كان يتولاها الشريف فعندئذ يجد صورة مكبرة تجاه عينيه ممثلة من العلم والفقه والحكمة والثقة والسداد والأنفة والفتوة والهيبة والعظمة والجلال والروعة والوفاء وعزة النفس والرأي و الحزم والعزم والبسالة والعفة والسودد والكرم والإباء والغنى عن أي أحد قد حليت بالأدب والشعر ولا يراها إلا مثال الشريف الرضي.
    تولى الشريف بنقابة الطالبيين ، وإمارة الحاج والنظر في المظالم سنة 380 وهو ابن 21 عاما على عهد الطائع ، وصدرت الأوامر بذلك من بهاء الدولة وهو بالبصرة سنة 397 ، ثم عهد إليه في 16 محرم سنة 403 بولاية أمور الطالبيين في جميع البلاد فدعي ( نقيب النقباء ) ويقال : إن تلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل البيت إلا الإمام علي بن موسى الرضا سلام الله عليه الذي كانت له ولاية عهد المأمون ، وأتيحت للشريف الخلافة على الحرمين على عهد القادر كما في المجلد الأول من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد وكان هو والولايات كما قيل :
لم تشيد له الولايات مجدا بل كساها وقد تحزمها الدهر لا ولا قيل : رفعت مقداره جلالا وبهجة ونضاره
    وذكر تحليل المناصب التي تولاها سيدنا الشريف وشروطها في تآليف علماء السلف وأفردوا فيها كتبا ونحن نأخذ مختصر ما في [ الأحكام السلطانية ] للماوردي المتوفى سنة 450.

النقابة
    النقابة موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب ، ولا يساويهم في الشرف ، ليكون عليهم أحبى وأمره فيهم أمضى ، وهي على ضربين : خاصة وعامة ، وأما الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد فلا يكون العلم معتبرا في شروطها ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقا :
    1 ـ حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها ، أو خارج عنها وهو منها ، فيلزمه حفظ الخارج منها كما يلزمه حفظ الداخل فيها ليكون النسب محفوظا على صحته


(206)
معزوا إلى جهته.
    2 ـ تمييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى لا يخفى عليه منهم بنو أب ، ولا يتداخل سب في نسب ، ويثبتهم في ديوانه على تمييز أنسابهم.
    3 ـ معرفة من ولد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ، ومعرفة من مات منهم فيذكره ، حتى لا يضيع نسب المولود إن لم يثبته ، ولا يدعي نسب الميت غيره إن لم يذكره :
    4 ـ أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موقورة وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم محفوظة.
    5 ـ أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة. ويمنعهم من المطالب الخبيثة : حتى لا يستقل منهم مبتذل ، ولا يستضام منهم متذلل.
    6 ـ أن يكفهم عن ارتكاب المآثم ، ويمنعهم من انتهاك المحارم ، ليكونوا على الدين الذي نصره أغير ، وللمنكر الذي أزالوه أنكر ، حتى لا ينطق بذمهم لسان ، ولا يشنأهم إنسان.
    7 ـ أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ، ويبعثهم على المناكرة والبعد ، ويندبهم إلى استعطاف القلوب وتأليف النفوس ، ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى.
    8 ـ أن يكون عونا لهم في استيفاء الحقوق حتى لا يضعفوا عنها ، وعونا عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا منها ، ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين ، وبالمعونة عليهم منصفين.
    9 ـ أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة في سهم ذوي القربى في الفيئ والغنيمة الذي لا يخص به أحدهم حتى يقسم بينهم بحسب ما أوجبه الله لهم.
    10 ـ أن يمنع أياماهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء لشرفهن على ساير النساء صيانة لأنسابهن ، وتعظيما لحرمتهن ، أن يزوجهن غير الولاة ، أو ينكحهن غير الكفاة.
    11 ـ أن يقوم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود بما لا يبلغ به حدا ، ولا ينهر به دما ، ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته ، ويغفر بعد الوعظ زلته.


(207)
    12 ـ مراعاة وقوفهم بحفظ أصولها وتنمية فروعها ، وإذا لم يرد إليه جبايتها راعي الجباة لها فيما أخذوه وراعى قسمتها إذا قسموه وميز المستحقين لها إذا خصت ، وراعى أوصافهم فيها إذا شرطت ، حتى لا يخرج منهم مستحق ، ولا يدخل فيها غير محق.
النقابة العامة
    فعمومها أن يرد إلى النقيب في النقابة عليهم مع ما قدمناه من حقوق النظر خمسة أشياء.
    1 ـ الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه.
    2 ـ الولاية على أيتامهم فيما ملكوه.
    3 ـ إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه.
    4 ـ تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أوليائهن أو قد تعينوا فعضلوهن.
    5 ـ إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه ، وفكه إذا أفاق ورشد.
    فيصير بهذه الخمسة عام النقابة فيعتبر حينئذ في صحة نقابته وعقد ولايته أن يكون عالما من أهل الاجتهاد ليصح حكمه ، وينفذ قضاؤه. إلى آخر ما في ( الأحكام السلطانية ) ص 82 ـ 86. وهذه النقابة هي التي كانت ولايتها لسيدنا المترجم.

ولاية المظالم
    نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة ، وزجر المتنازعين عن التجاهد بالهيبة ، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر ، نافذ الأمر ، عظيم الهيبة ، ظاهر العفة ، قليل الطمع ، كثير الورع ، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة ، وثبت القضاة فيحتاج إلى الجميع بين صفات الفريقين ، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين ، فإن كان ممن يملك الأمور العامة كالوزراء والأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد وكان له بعموم ولايته النظر فيها ، وإن كان ممن لم يفوض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة ، وهذا إنما يصح فيمن يجوز أن يختار لولاية العهد ، أو لوزارة التفويض ، أو لإمارة الأقاليم ، إذا كان نظره في المظالم عاما فإن اقتصر به على تنفيذ ما عجز القضاة عن


(208)
تنفيذه ، وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه حاز أن يكون دون هذه الرتبة في القدر والخطر بعد أن لا تأخذه في الحق لومة لائم ، ولا يستشفه الطمع إلى رشوة. إلى آخر ما في ( الأحكام السلطانية ) ص 64 ـ 82.

الولاية على الحج
    الولاية على الحج ضربان : أحدهما أن تكون على تسيير الحجيج ، والثاني على إقامة الحج ، فأما تسيير الحجيج فهو ولاية سياسة وزعامة وتدبير. والشروط المعتبرة في المولى أن يكون مطاعا ذا رأي وشجاعة وهيبة وهداية ، والذي عليه في حقوق هذه الولاية عشرة أشياء.
    1 ـ جمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرقوا فيخاف عليهم التوى والتغرير.
    2 ـ ترتيبهم في المسير والنزول بإعطاه كل طائفة منهم مقادا حتى يعرف كل فريق منهم مقاده إذا سار ، ويألف مكانه إذا نزل ، فلا يتنازعون فيه ولا يضلون عنه.
    3 ـ يرفق بهم في السير حتى لا يعجز عنه ضعيفهم ، ولا يضل عنه منقطعهم ، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الضعيف أمير الرفقة. يريد أن من ضعف دوابه كان على القوم أن يسيروا بسيره.
    4 ـ أن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها ويتجنب أجدبها وأوعرها.
    5 ـ أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت والمراعي إذا قلت.
    6 ـ أن يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا حتى لا يتخطفهم داعر ولا يطمع فيهم متلصص.
    7 ـ أن يمنع عنهم من يصدهم عن المسير ، ويدفع عنهم من يحصرهم عن الحج بقتال إن قدر عليه ، أو ببذل مال إن أجاب الحجيج إليه ، ولا يسعه أن يجبر أحدا على بذل الخفارة أن امتنع منها ، حتى يكون باذلا لها عفوا ومجيبا إليها طوعا ، فإن بذل المال على التمكين من الحج لا يجب.
    8 ـ أن يصلح بين المتشاجرين ويتوسط بين المتنازعين ، ولا يتعرض للحكم بينهم إجبارا إلا أن يفوض الحكم إليه ، فيعتبر فيه أن يكون من أهله فيجوز له حينئذ الحكم بينهم ، فإن دخلوا بلدا فيه حاكم جاز له ولحاكم البلد أن يحكم بينهم فأيهما


(209)
حكم نفذ حكمه.
    9 ـ أن يقوم زائغهم ويؤدب خائنهم ولا يتجاوز التعزير إلى الحد إلا أن يؤذن له فيستوفيه إن كان من أهل الاجتهاد فيه.
    10 ـ أن يراعي اتساع الوقت حتى يؤمن الفوات ولا يلجئهم ضيقه إلى الحث في السير ، فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للاحرام وإقامة سننه.
    وأما الولاية على إقامة الحج فالوالي فيه بمنزلة الإمام في إقامة الصلوات ، فمن شروط الولاية عليه مع الشروط المعتبرة في أئمة الصلوات أن يكون عالما بمناسك الحج وأحكامه ، عارفا بمواقيته وأيامه ، وتكون مدة ولايته مقدرة بسبعة أيام أولها من صلاة الظهر في اليوم السابع من ذي الحجة وآخرها يوم الثالث عشر من ذي الحجة ، وعلى الذي يختص بولايته خمسة أحكام متفق عليها وسادس مختلف فيه ألا وهي :
    1 ـ إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متبعين وبأفعاله مقتدين.
    2 ـ ترتيبهم للمناسك على ما استقر الشرع عليه لأنه متبوع فيها فلا يقدم مؤخرا ولا يؤخر مقدما سواء كان الترتيب مستحقا أو مستحبا.
    3 ـ تقدير المواقف بمقامه فيها ومسيره عنها كما تقدر صلاة المأمومين بصلاة الإمام.
    4 ـ إتباعه في الأركان المشروعة فيها ، والتأمين على أدعيته بها ليتبعوه في القول كما اتبعوه في العمل.
    5 ـ إمامتهم في الصلوات. وأما السادس المختلف فيه : حكمه بين الحجيج فيما لا يتعلق بالحج ، وإقامة التعزير والحد في مثله. ا ه‍.
    تولى الشريف الرضي هذه الإمارة منذ صباه في أكثر أيام حياته ووزيرا لأبيه ونائبا عنه ، ومستقلا بها من سنة 380 ، وله فيها مواقف عظيمة سجلها التاريخ وأبقى له ذكرى خالدة ، قال أبو القاسم بن فهد الهاشمي في ( إتحاف الورى بأخبار القرى ) في حوادث سنة 389 : حج فيها الشريفان المرتضى والرضي فاعتقلهما في الطريق ابن الجراح الطائي فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما.


(210)
    ولادته ووفاته
    ولد الشريف الرضي ببغداد سنة 359 بإطباق من المؤرخين ونشأ بها (1) وتوفي بها يوم الأحد 6 محرم (2) سنة 406 كما في معجم النجاشي. وتاريخ بغداد للخطيب. و عمدة الطالب. والخلاصة. وغيرها.
    فما في شذرات الذهب : إنه توفي بكرة الخميس. فهو من خطأ النساخ فإنه نقله عن تاريخ ابن خلكان وفي التاريخ : بكرة يوم الأحد. لا الخميس. وأما ما في ( دائرة المعارف ) لفريد وجدي 4 ص 253 من أنه توفي 404 فأحسبه مأخوذا من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، أو أنه خطأ من الناسخ ، وقد أرخه فريد وجدي صحيحا في دائرة المعارف ج 9 ص 487 ب‍ 6 محرم سنة 406 ، وقد رثى الشريف الرضي معاصره أبا الحسن أحمد بن علي البتي المتوفى سنة 405 في شعبان بقصيدة توجد في ديوانه ج 1 ص 138 ، وقال جامع الديوان : وبعده بشهور توفي الرضي ( رض ).
    وعند وفاته حضر إلى داره الوزير أبو غالب فخر الملك وسائر الوزراء والأعيان والأشراف والقضاة حفاة ومشاة وصلى عليه فخر الملك ودفن في داره الكائنة في محلة الكرخ بخط مسجد الأنباريين (3) ولم يشهد جنازته أخوه الشريف المرتضى ولم يصل عليه ومضى من جزعه عليه إلى الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ، ومضى فخر الملك بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره.
    ذكر كثير من المؤلفين نقل جثمانه إلى كربلاء المشرفة بعد دفنه في داره بالكرخ فدفن عند أبيه أبي أحمد الحسين بن موسى ، ويظهر من التاريخ أن قبره كان في القرون الوسطى مشهورا معروفا في الحائر المقدس قال صاحب ( عمدة الطالب ) : وقبره في كربلاء ظاهر معروف. وقال في ترجمة أخيه المرتضى : دفن عند أبيه وأخيه وقبورهم
1 ـ قال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة 2 ص 257 : وكان يقيم في سر من رأى ( سامرا ) وكم له لدة هذا في تاريخه مما يميط الستر عن جهله بتاريخ الشيعة ورجالهم.
2 ـ في تاريخ ابن خلكان : وقيل : في صفر. وفي تاريخ ابن كثير : خامس المحرم.
3 ـ ينسب إليهم لكثرة من سكنه منهم.
كتاب الغدير ـ الجزء الرابع ::: فهرس