الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 351 ـ 360
(351)
أبي طالب ويعتقده ) بواسط العراق سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بإسناد له إلى الواقدي قال : كان أبو طالب بن عبد المطلب لا يغيب صباح النبي ولا مساءه ، ويحرسه من أعداءه ويخاف أن يغتالوه ، فلما كان ذات يوم فقده فلم يره وجاء المساء فلم يره وأصبح الصباح فطلبه في مظانه فلم يجده فلزم أحشاءه وقال : وا ولداه وجمع عبيده ومن يلزمه في نفسه قال لهم : إن محمدا قد فقدته في أمسنا ويومنا هذا ولا أظن إلا أن قريشا قد اغتالته وكادته وقد بقي هذا الوجه ما جئته وبعيد أن يكون فيه واختار من عبيده عشرين ، رجلا ، فقال : امضوا وأعدوا سكاكين وليمض كل رجل منكم وليجلس إلى جنب سيد من سادات قريش فإن أتيت ومحمد معي فلا تحدثن أمرا وكونوا على رسلكم حتى أقف عليكم ، وإن جئت وما محمد معي فليضرب كل منكم الرجل الذي إلى جانبه من سادات قريش فمضوا وشحذوا سكاكينهم حتى رضوها ، ومضى أبو طالب في الوجه الذي أراده ومعه رهطه من قومه فوجده في أسفل مكة قائما يصلي إلى جنب صخرة فوقع عليه وقبله وأخذ بيده وقال : يا بن أخ ! قد كدت أن تأتي على قومك ، سر معي ، فأخذ بيده وجاء إلى المسجد وقريش في ناديهم جلوس عند الكعبة فلما رأوه قد جاء ويده في يد النبي صلى الله عليه وآله قالوا : هذا أبو طالب قد جاءكم بمحمد إن له لشأنا ، فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده : أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده فلما رأوا السكاكين قالوا : ما هذا يا أبا طالب ؟ قال : ما ترون ، إني طلبت محمدا فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم فأمرت هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم : إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه ولو كان هاشميا فقالوا : وهل كنت فاعلا ؟ فقال : أي ورب هذه وأومى إلى الكعبة ، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وكان من أحلافه : لقد كدت تأتي على قومك ؟ قال : هو ذلك.
    ومضى به وهو يقول :
إذهب بني فما عليك غضاضة والله لـن يصلوا إليك بجمعهم ودعوتني وعلمت أنك ناصحي إذهب وقر بذاك منك عيونا حتى أوسـد في التراب دفينا ولقد صدقت وكنت قبل أمينا


(352)
وذكرت دينا لا محالة إنه من خير أديان البرية دينا (1)
    فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والاستعطاف وهو لا يحفل بهم ولا يلتفت إليهم.
    قال الأميني : هذا الشيخ الأبطح يروقه أن يضحي كل قومه دون نبي الاسلام وقد تأهب لأن يطأ القوميات كلها والأواصر المتشجة بينه وبين قريش بأخمص الدين.
    فحياها الله من عاطفة إلهية ، وآصرة دينية هي فوق أواصر الرحم.

ـ 6 ـ
أبو طالب في بدء الدعوة
    لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين (2). خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد على الصفا فهتف : يا صباحاه. فاجتمعوا إليه ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك كذبا. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
    فقال أبو لهب : تبا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم أحضر قومه في داره فبادره أبو لهب وقال : هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصبأة (3) و اعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة ، وأن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك و إن أقمت ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن ينب لك ؟؟ وتمدهم العرب فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتم به. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولم يتكلم.
    ثم دعاهم ثانية وقال : الحمد لله أحمده وأستعينه واومن وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
    ثم قال : إن الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، والله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن بما تعملون ، وانها الجنة أبدا والنار أبدا.
    فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك ، واقبلنا لنصيحتك ، وأشد تصديقنا لحديثك ، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب ، فامض لما أمرت به ، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك ، غير أن نفسي لا تطاوعني على
1 ـ راجع ما أسلفناه ص 334.
2 ـ مر حديثها في الجزء الثاني ص 278 ط 2.
3 ـ الصبا : الخروج من دين إلى دين آخر.


(353)
    فراق دين عبد المطلب (1).
    قال الأميني لم يكن دين عبد المطلب سلام الله عليه إلا دين التوحيد والإيمان بالله ورسله وكتبه غير مشوب بشيء من الوثنية ، وهو الذي كان يقول في وصاياه : إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة.
    إلى أن هلك ظلوم لم تصبه عقوبة.
    فقيل له في ذلك ففكر في ذلك فقال : والله إن وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته ، وهو الذي قال لأبرهة : إن لهذا البيت ربا يذب عنه ويحفظه ، وقال وقد صعد أبا قبيس :
لا هم إن المرء يمنع لا يغلبن صليبهم فانصر على آل الصليب إن كنت تـاركهم وكع حله فامنع حلالك ومحالهم عدوا محالك وعابديه اليوم آلك بتنا فأمر ما بدا لك (2)
    ويعرب عن تقدمه في الإيمان الخالص والتوحيد الصحيح انتماء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه ومباهاته به يوم حنين بقوله :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب (3)
    وقد أجاد الحافظ شمس الدين بن ناصر بن الدمشقي في قوله :
تنقل أحمد نورا عظيما تقلب فيهم قرنا فقرنا تلالا في جباه الساجدينا إلى أن جاء خير المرسلينا (4)
    وهذا هو الذي أراده أبو طالب سلام الله عليه بقوله : نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
    وهو صريح بقية كلامه ، وقد أراد بهذا السياق التعمية على الحضور لئلا يناصبوه العداء بمفارقتهم ، وهذا السياق من الكلام من سنن العرب في
1 ـ الكامل لابن الأثير 2 : 24.
2 ـ الملل والنحل للشهرستاني هامش الفصل 3 : 224 ، الدرج المنيفة للسيوطي ص 15 ، مسالك الحنفاء 37.
3 ـ طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل ص 665 ، تاريخ الطبري 3 : 129.
4 ـ مسالك الحنفا للسيوطي ص 40 ، الدرج المنيفة ص 14.


(354)
محاورتهم ، قد يريدون به التعمية ، وقد يراد به التأكيد للمعنى المقصود كقول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
    ولو لم يكن لسيدنا أبي طالب إلا موقفه هذا لكفى بمفرده في إيمانه الثابت ، وإسلامه القويم ، وثباته في البدء.
    قال ابن الأثير : فقال أبو لهب : هذه والله السوء خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم ، فقال أبو طالب : والله لنمنعنه ما بقينا ، وفي السيرة الحلبية 1 : 304 : إن الدعوة كانت في دار أبي طالب.
    قال عقيل بن أبي طالب : جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي كعبتنا وفي ديارنا ويسمعنا ما نكره فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل.
    فقال لي : يا عقيل ! التمس لي ابن عمك فأخرجته من كبس من كباس أبي طالب فجاء يمشي معي يطلب الفئ يطأ فيه لا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب فقال : يا ابن أخي ! والله لقد كنت لي مطيعا جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم فتؤذيهم و تسمعهم ما يكرهون ، فإن رأيت أن تكف عنهم.
    فحلق بصره إلى السماء وقال : والله ما أنا بقادر أن أرد ما بعثني به ربي ، ولو أن يشعل أحدهم من هذه الشمس نارا ، فقال أبو طالب : والله ما كذب قط فارجعوا راشدين.
    قال الأميني : هكذا أخرجه البخاري في تاريخه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، وبهذا اللفظ ذكره المحب الطبري في ذخاير العقبي ص 223. غير أن ابن كثير لما رأى لكلمة : راشدين. قيمة في إيمان أبي طالب فحذفها في تاريخه 3 ص 42. حيا الله الأمانة.
    وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى 1 : 171 حديث الدعوة عن علي وفيه : ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم : من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنة ؟ فقلت : أنا يا رسول الله ، وإني لأحدثهم سنا ، وأحمشهم ساقا.
    وسكت القوم ، ثم قالوا : يا أبا طالب ! ألا ترى ابنك ؟ قال : دعوه فلن يألو (1) ابن عمه خيرا.
    وروى أبو عمرو الزاهد الطبري عن تغلب عن ابن الأعرابي إنه قال في لغة ـ العور ـ إنه الردي من كل شيء قال : ومن العور ما في رواية ابن عباس. ثم ذكر حديث
1 ـ يألو : قصر.

(355)
علي عليه السلام بطوله إلى أن قال : قال : فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم اعترضه أبو لهب فتكلم بكلمات وقال : قوموا فقاموا وانصرفوا.
    قال : فلما كان من الغد أمرني فصنعت مثل ذلك الطعام والشراب ودعوتهم فأقبلوا ودخلوا فأكلوا وشربوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتكلم فاعترضه أبو لهب فقال له أبو طالب : اسكت يا أعور ! ما أنت وهذا ؟ ثم قال : لا يقومن أحد.
    قال : فجلسوا ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم : قم يا سيدي فتكلم بما تحب و بلغ رسالة ربك فإنك الصادق المصدق.
    وإلى هذا الحديث وكلمة أبي طالب ـ اسكت يا أعور ! ما أنت وهذا ؟ ـ وقع الايعاز في النهاية لابن الأثير 3 : 156 ، والفائق للزمخشري 2 : 98 نقلا عن ابن الأعرابي ، وفي لسان العرب 6 : 294 ، تاج العروس 3 : 428.
    قال الأميني : أي كافر طاهر هذا سلام الله عليه وهو يدافع عن الاسلام المقدس بكل حوله وطوله ، ويسلق رجال قومه بلسان حديد ، ويحض النبي الأعظم على الدعوة وتبليغ رسالته عن ربه ، ويراه الصادق المصدق ؟.

ـ 7 ـ
قول أبي طالب لعلي : إلزم ابن عمك
    قال ابن إسحاق : ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي ! ما هذا الدين الذي أراك تدين به ؟ قال : أي عم ! هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم.
    وذكروا أنه قال لعلي : أي بني ! ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ فقال : يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدقته بما جاء به ، وصليت معه لله واتبعته ، فزعموا أنه قال له : أما إنه لم يدعك إلا إلى خير ، فالزمه.
    وفي لفظ عن علي : إنه لما أسلم قال له أبو طالب : إلزم ابن عمك.
    سيرة ابن هشام 1 : 265 ، تاريخ الطبري 2 : 214 ، تفسير الثعلبي ، عيون الأثر


(356)
1 : 94 ، الإصابة 4 : 116 ، أسنى المطالب ص 10.
    وفي شرح ابن أبي الحديد 3 : 314 : روي عن علي قال : قال أبي : يا بني ألزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل ثم قال لي :
إن الوثيقة في لزوم محمد فاشدد بصحبته على يديكا
    فقال : ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله :
إن عليا وجعفرا ثقتي لا تخذلا وانصرا ابن عمكما والله لا أخذل النبي ولا عند ملم الزمان والنوب أخي لأمي من بينهم وأبي يخذله من بني ذو حسب
    هذه الأبيات الثلاث توجد في ديوان أبي طالب أيضا ص 36 وذكرها العسكري في كتاب الأوايل قال : إن أبا طالب مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعه جعفر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعلي معه فقال لجعفر : يا بني ! صل جناح ابن عمك.
    فقام إلى جنب علي فأحس النبي فتقدمهما وأقبلوا على أمرهم حتى فرغوا فانصرف أبو طالب مسرورا وأنشأ يقول :
إن عليا وجعفرا ثقـتي عند ملم الزمان والنوب
    وذكر أبياتا لم يذكرها ابن أبي الحديد ومنها :
نحن وهذا النبي ننصره نضرب عنه الأعداء كالشهب
    وأخرج أبو بكر الشيرازي في تفسيره : إن النبي صلى الله عليه وآله لما أنزل عليه الوحي أتى المسجد الحرام وقام يصلي فيه فاجتاز به علي عليه السلام وكان ابن تسع سنين فناداه : يا علي ! إلي أقبل ، فأقبل إليه ملبيا فقال له النبي : إني رسول الله إليك خاصة وإلى الخلق عامة فقف عن يميني وصل معي فقال : يا رسول الله ! حتى أمضي وأستأذن أبا طالب والدي ، فقال له : إذهب فإنه سيأذن لك ، فانطلق إليه يستأذنه في إتباعه ، فقال : يا ولدي : نعلم أن محمدا أمين الله منذ كان ، إمض إليه واتبعه ترشد وتفلح.
    فأتى علي عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي في المسجد فقام عن يمينه يصلي معه فاجتاز أبو طالب بهما وهما يصليان.
    فقال : يا محمد ما تصنع ؟ قال : أعبد إله السماوات والأرض ومعي أخي علي يعبد ما أعبد وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد القهار فضحك أبو طالب حتى بدت نواجذه وأنشأ يقول :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أغيب في التراب دفينا


(357)
    إلى آخر الأبيات التي أسلفناها ص 334.

ـ 8 ـ
قول أبي طالب : صل جناح ابن عمك
    أخرج ابن الأثير : إن أبا طالب رأي النبي صلى الله عليه وسلم وعليا يصليان وعلي على يمينه فقال لجعفر رضي الله تعالى عنه : صل جناح ابن عمك ، وصل عن يساره ، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل.
    وقال أبو طالب :
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد وحط من أتى بالحق من عند ربه فقد سرني إذ قلت : إنك مؤمن وباد قريشا بالذي قد أتيته وكن مظهرا للدين وفقت صابرا بصدق عزم لا تكن حمـز كافرا فكن لـرسول الله في الله ناصرا جـهارا وقل : ما كان أحمد ساحرا
    أسد الغابة : 1 : 287 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 315 ، الإصابة 4 : 116 ، السيرة الحلبية 1 : 286 ، أسنى المطالب ص 6 وقال : قال البرزنجي : تواترت الأخبار أن أبا طالب كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويحوطه وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويصدقه ، فيما يقوله ويأمر أولاده كجعفر وعلي باتباعه ونصرته وقال في ص 10 : قال البرزنجي : هذه الأخبار كلها صريحة في أن قلبه طافح وممتلئ بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ـ 9 ـ
أبو طالب وحنوه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
    قال أبو جعفر محمد بن حبيب رحمه الله في أماليه : كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله أحيانا يبكي ويقول : إذا رأيته ذكرت أخي ، وكان عبد الله أخاه لأبويه وكان شديد الحب والحنو عليه ، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحب له ، وكان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيات إذا عرف مضجعه فكان يقيمه ليلا من منامه ويضجع ابنه عليا مكانه ، فقال له : علي ليلة : يا أبت إني مقتول. فقال له :
أصبرن يا بني فالصبر أحجى قد بذلناك والبلاء شديد كل حي مصيره لشعوب لفداء الحبيب وابن الحبيب


(358)
لفداء الأغر ذي الحسب الثاقب إن تصبك المنون فالنبل تبرى (1) كل حي وإن تملي بعمر (2) والباع والكريم النجيب فمصيب منها وغير مصيب آخذ من مذاقها بنصيب
    فأجاب علي بقوله :
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد ؟ ولكنني أحببت أن تر نصرتي سأسعى لوجه الله في نصر أحمد ووالله ما قلت الذي قلت جازعا وتعلم أني لم أزل لك طائعا نبي الهدى المحمود طفلا ويافعا
    وذكره ابن أبي الحديد نقلا عن الأمالي 3 : 310 وهناك تصحيف في البيت الثاني والثالث من أبيات أبي طالب صححناه من طبقات السيد علي خان الناقل عن شرح ابن أبي الحديد المخطوط ، وذكر القصة أبو علي الموضح العمري العلوي كما في كتابه ( الحجة ) ص 69.
    قال الأميني : إن القرابة والرحم تبعثان إلى المحاماة إلى حد محدود ، لكنه إذا بلغت حد التضحية بولد كأمير المؤمنين هو أحب العالمين إلى والده فهناك يقف التفاني على موقفه ، فلا يستسهل الوالد أن يعرض ابنه على القتل كل ليلة فينيمه على فراش المفدى ، ويستعوض منه ابن أخيه ، إلا أن يكون مندفعا إلى ذلك بدافع ديني وهو معنى اعتناق أبي طالب بالدين الحنيف ، وهو الذي تعطيه المحاورة الشعرية بين الوالد والولد فترى الولد يسارح بالنبوة فلا ينكر عليه الوالد بأن هذا التهالك ليس إلا بدافع قومي غير فاتر عن حض ابنه على ما يبتغيه من النصرة ولا متثبط عن النهوض بها ( فسلام الله على والد وما ولد ).

ـ 10 ـ
أبو طالب وابن الزبعرى
    قال القرطبي في تفسيره 406 : روى أهل السير قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي ، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل ـ لعنه
1 ـ في بعض المصادر : تترى.
2 ـ في مصادر مخطوطة عتيقة : كل حي وإن تطاول عمرا.


(359)
الله ـ : من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته ؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما.
    فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ، ثم أتى أبا طالب عمه فقال : يا عم ! ألا ترى إلى ما فعل بي ؟ فقال أبو طالب : من فعل هذا بك ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن الزبعرى.
    فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون ، فقال أبو طالب : والله لئن قام رجل لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم ، فقال : يا بني من الفاعل بك هذا ؟ فقال : عبد الله ابن الزبعرى ، فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم ، وأساء لهم القول.
    حديث موقف أبي طالب هذا يوجد في غير واحد من كتب القوم وقد لعبت به أيدي الهوى وسنوقفك إنشاء الله على حق القول فيه تحت عنوان [ أبو طالب في الذكر الحكيم ].

ـ 11 ـ
سيدنا أبو طالب وقريش
    قال ابن إسحاق : لما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالاسلام ، وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه فيما بلغني حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه عداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالاسلام وهم قليل مستخفون ، وحدب (1) على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء وقال : إن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا ابن أخي ! إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا ، فابق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ، قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.
    قال : ثم استعبر رسول الله
1 ـ حدب : عطف عليه ومنع له.

(360)
صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام ، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي ! قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
    ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك ، هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل ، قال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟! هذا والله ما لا يكون أبدا.
    قال : فقال المطعم بن عدي بن نوفل : والله يا أبا طالب ! لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا ، فقال أبو طالب للمطعم : والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال.
    قال : فحقب الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا ، فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي ويعم من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم :
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم من الخور حبحاب كثيرة رغاؤه تخلف خلف الورد ليس بلا حق أرى أخوينا من أبينا وأمنا بلى لهما أمر ولكن تجرجما ألا ليت حظي من حياطتكم بكر (1) يرش على الساقين من بوله قطر (2) إذا ما علا الفيـفاء قيل له : وبر (3) إذا سئلا قالا : إلى غيرنا الأمر كما جرجمت من رأس ذي علق صخر (4)

1 ـ البكر : القتى من الإبل.
2 ـ الخور ج أخور : الضعيف حبحاب بالمهملتين : القصير. ويروى بالجيمين المعجمتين : الكثير الكلام. ويروى بالخاء المعجمة ومعناه : الضعيف.
3 ـ الفيفاء الأرض القفر. وبر : دويبة على قدر الهرة.
4 ـ تجرجما : سقطا وانحدرا ، يقال : تجرجم الشئ إذا سقط. ذو علق : جبل في ديار بني أسد.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس