الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: 361 ـ 370
(361)
أخص خصوصا عـبد شمس ونوفلا هما أغمرا للقوم في أخويهما هما أشركا في المجد من لا أبا له وتيم مخزوم وزهرة منهـم فوالله لا تنفك منا عداوة فقد سفهت أحلامهم وعقولهم هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر فقد أصبحا منهم أكفهما صفر من الناس إلا أن يرس له ذكر (1) وكانوا لنا مولى إذا بني النصر ولا منهم ما كان من نسلنا شفر (2) وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
    قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما. قال الأميني : حذف ابن هشام منها ثلاثة أبيات لا تخفى على أي أحد غايته الوحيدة فيه ، وإن الانسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره. ألا وهي :
وما ذاك إلا سؤدد خصنا به رجال تمالوا حاسدين وبغضة وليد أبوه كان عبدا لجدنا إله العباد واصطفانا له الفخر لأهل العلى فبينهم أبدا وتر إلى علجة زرقاء جال بها السحر
    يريد به الوليد بن المغيرة وكان من المستهزئين بالنبي الأعظم ومن الذين مشوا إلى أبي طالب عليه السلام في أمر النبي صلى الله عليه وآله وقد نزل فيه قوله تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا (3) وكان يسمى : الوحيد. في قومه.
    ثم قام أبو طالب ـ حين رأى قريش يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه و قاموا معه ، وأجابوه ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون.
    فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره ، فقال :
1 ـ يرس له ذكر : يذكر ذكرا خفيفا. رسّ الحديث : حدث به في خفاء.
2 ـ شفر. أحد. يقال : ما بالدار شفر ، أي ما بها أحد.
3 ـ الروض الأنف 1 : 173 ، تفسير البيضاوي 2 : 562 ، الكشاف 3 : 230 ، تاريخ ابن كثير 4 : 443 ، تفسير الخازن 4 : 345.


(362)
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر فإن حـصلت أشراف عبد منافها إن فخرت يوما فإن محمدا تدعت قريش غثها وسمينها وكنا قديما لا تقر ظلامة ونحمي حماها كل يوم كريهة بنا انتعش العود الذواء وإنما فعبد مناف سرها وصميمها (1) ففي هاشم أشرافها وقديمها هو المصطفى من سرها وكريمها علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (2) إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها (3) ونضـرب عن أحجارها من يرومها بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (4)
    سيرة ابن هشام 1 : 275 ـ 283 ، طبقات ابن سعد 1 : 186 ، تاريخ الطبري 2 : 218 ـ 221 ، ديوان أبي طالب ص 24 ، الروض الأنف 1 : 171 ، 172 ، شرح ابن أبي الحديد 3 ، 306 ، تاريخ ابن كثير 2 : 126 ، 258 ، و ج 3 : 42 ، 48 ، 49 ، عيون الأثر 1 : 99 ، 100 تاريخ أبي الفدا ج 1 : 117 ، السيرة الحلبية 1 : 306 ، أسنى المطالب ص 15 فقال : هذه الأبيات من غرر مدائح أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على تصديقه إياه ، طلبة الطالب ص 5 ـ 9.

ـ 12 ـ
سيد الأباطح وصحيفة قريش
    اجتمع قريش وتشاوروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب أن لا ينكحوا إليهم ، ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يتبايعوا ، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ، و لا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل ، ويخلوا بينهم وبينه ، وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة ، أو بخط بغيض بن عامر ، أو بخط النضر بن الحرث ، أو بخط هشام بن عمرو ، أو بخط طلحة ابن أبي طلحة ، أو بخط منصور بن عبد ، وعلقوا
1 ـ سرها وصميمها : خالصها وكريمها. يقال : فلان من سر قومه. أي : من خيارهم ولبابهم وأشرافهم.
2 ـ طاشت حلومها : ذهبت عقولها.
3 ـ ثنوا : عطفوا. صعر ج أصعر : المائل. يقال : صعر خده. أي أماله إلى جهة كما يفعل المتكبر.
4 ـ انتعش : ظهرت فيه الخضرة. الذواء : اليابس. الأكناف : النواحي. الأرومة : الأصل.


(363)
منها صحيفة في الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة وكان اجتماعهم بخيف بني كنانة وهو المحصب فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب ودخلوا معه في الشعب إلا أبا لهب فكان مع قريش فأقاموا على ذلك سنتين وقيل ثلاث سنين وإنهم جهدوا في الشعب حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر.
    قال ابن كثير : كان أبو طالب مدة إقامتهم بالشعب يأمره صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا وغائلة فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه أن يضطجع على فراش المصطفى صلى الله عليه وسلم ويأمر هو أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها.
    ثم إن الله تعالى أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الأرضة أكلت جميع ما في الصحيفة من القطيعة والظلم فلم تدع سوى اسم الله فقط فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بذلك فقال : يا ابن أخي ! أربك أخبرك بهذا ؟ قال نعم.
    قال : والثواقب ما كذبتني قط فانطلق في عصابة من بني هاشم والمطلب حتى أتوا المسجد فأنكر قريش ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب : يا معشر قريش جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم فأتوا بها لعل أن يكون بيننا وبينكم صلح ، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها فأتوا بها وهم لا يشكون أن أبا طالب يدفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعوها بينهم وقبل أن تفتح قالوا لأبي طالب : قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم ؟ فقال : أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني : إن الله قد بعثت على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها إلا اسم الله فقط ، فإن كان كما يقول ؟ فأفيقوا عما أنتم عليه ، فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا.
    وإن كان باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم ؟ فقالوا : رضينا.
    ففتحوها فوجدوها كما قال صلى الله عليه وسلم.
    فقالوا : هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا.
    وإن أبا طالب قال لهم بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم : علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطعية ؟ ودخل هو ومن معه بين أستار الكعبة وقال : اللهم انصرنا على من ظلمنا ، وقطع أرحامنا ، واستحل ما يحرم عليه منا.
    وعند ذلك مشت طائفة من قريش في نقض تلك الصحيفة فقال أبو طالب :


(364)
ألا هل أتى بحرينا (1) صنع ربنا فيخبرهم : أن الصحيفة مزقت تراوحها إفك وسحر مجمع تداعى لها من ليس فيها بقرقر وكانت كفاء وقعة بأثيمـة ويظعن أهل المكتين فيهربوا ويترك حراث يقلب أمره وتصعد بين الأخشبين كتيـبة فمن ينش من حـضار مكة عزه نشأنا بها والناس فيها قلائل ونطعم حتى يترك الناس فضلهم جزي الله رهطا بالحجون تتابعوا قعودا لدى خطم الحجون كأنهم أعان عليها كل صقر كأنه ألا إن خير الناس نفسا ووالد نبي الإله والكريم بأصله جرئ على جلى الخطوب كأنه على نأيهم ؟ والله بالناس أرود (2) وأن كل ما لم يرضه الله مفـسد ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد فطائرها في رأسها يتردد (3) ليقطع منها ساعد ومقلد فرائصهم من خشية الشر ترعد أيتهم فيها عند ذالك وينجد (4) لها حدج سهم وقوس ومرهد (5) فعزتنا في بطن مكة أتلد (6) فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد (7) على ملأ يهدي لحـزم ويرشد مقاولة (8) بل هم أعز وأمجد إذا ما مشى فر رفرف الدرع أخرد (9) إذا عد سادات البرية أحمد أخلاقه وهو الرشيد المؤيد شهاب بكفي قابس يتوقد (10)

1 ـ يريد به من كان هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
2 ـ أرود : أرفق.
3 ـ القرقر : اللين السهل. وقال السهيلي : من ليس فيها بقرقر : أي ليس بذليل. وطائرها : أي حظها من الشوم والشر وفي التنزيل : ألزمناه طائره في عنقه.
4 ـ الحراث : المكتسب. يتهم : يأتي تهامة. ينجد : يأتي نجدا.
5 ـ الأخشبان : جبلان بمكة. المرهد : الرمح اللين.
6 ـ ينش : أي ينشأ بحذف الهمزة على غير قياس. أتلد : أقدم.
7 ـ المفيضين : الضاربون بقداح الميسر. يريد سلام الله عليه : إنهم يطعمون إذا بخل الناس.
8 ـ المقاولة : الملوك.
9 ـ رفرف الدرع : ما فصل منها. أحرد : بطئ المشي لثقل الدرع.
10 ـ وفي رواية :
حزيم على جل الأمور كأنه شهاب بكفي قابس يتوقد

(365)
من الأكرمين من لوي بن غالب طويل النجاد (2) خارج نصف ساقه عظيم الرماد سيد وابن سيد ويبني لأبناء العشيرة صالحا ألظ (3) بهذا الصلح كل مبرأ قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا متى شرك الأقوام في جل أمرنا وكنا قديما لا نقر ظلامة فيال قصي هـل لكم في نفوسكم ؟ فإني وإياكم كما قال قائل : إذا سيم خسفا وجهه يتربد (1) على وجهه يسقى الغمام ويسعد يحض على مقرى الضيوف ويحشد إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد عظيم اللواء أمره ثم يحمد على مهل وسائر الناس رقد وسر أبو بكر بها ومحمد وكنا قديما قبلها نتودد وندرك ما شئنا ولا نتشدد وهل لكم فيما يجئ به غد ؟ لديك البيان لو تكلمت اسود (4)
    طبقات ابن سعد 1 : 173 ، 192 ، سرة ابن هشام 1 : 399 ـ 404 ، عيون الأخبار لابن قتيبة 2 : 151 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 22 ، الاستيعاب ترجمة سهل بن بيضاء 2 : 570 ، صفة الصفوة 1 : 35 ، الروض الأنف 1 : 231 ، خزانة الأدب للبغدادي 1 : 252 ، تاريخ ابن كثير 3 : 84 ، 96 ، 97 عيون الأثر 1 : 127 ، الخصايص الكبرى 1 : 151.
    ديوان أبي طالب ص 13 ، السيرة الحلبية 1 : 357 ـ 367 ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية 1 : 286 ـ 290 ، طلبة الطالب ص 9 ، 15 ، 44 ، أسنى المطالب ص 11 ـ 13 وذكر ابن الأثير قصة الصحفية في الكامل 2 : 36 فقال.
    قال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتا منها :
1 ـ سيم ـ بالبناء للمجهول ـ : كلف. الخسف : الذل. يتربد : يتغير إلى السواد.
2 ـ التجاد : حمائل السيف.
3 ـ الظ : ألح ولزم.
4 ـ أسود : جبل ، قتل فيه قتيل فلم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول : لديك البيان لو تكلمت اسود. فذهب مثلا. توجد في ديوان أبي طالب أبيات من هده القصيدة غير ما ذكر لم نجدها في غيره.


(366)
وقد كان في أمر الصحيفة عـبرة محى الله منها كفرهم وعقوقهم فأصبح ما قالوا من الأمر باطلا متى ما يخبر غائب القوم يعجب وما نقموا من ناطق الحق معرب ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

ـ 13 ـ
وصية أبي طالب عند موته
    عن الكلبي قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال : يا معشر قريش ! أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب ، فيكم السيد المطاع ، و فيكم المقدام الشجاع ، الواسع الباع ، وأعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ، ولا شرفا إلا أدركتموه ، فلكم بذلك على الناس فضيلة ، ولهم به إليكم الوسيلة ، والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب ، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية ( يعني الكعبة ) فإن فيها مرضاة للرب ، وقواما للمعاش ، وثباتا للوطأة ، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها ، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل ، وزيادة في العدد ، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكة القرون قبلكم ، أجيبوا الداعي ، وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات ، وعليكم بصدق الحديث ، وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ، ومكرمة في العام.
    وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش ، والصديق في العرب ، و هو الجامع لكل ما أوصيتكم به ، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان ، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته ، وصدقوا كلمته ، وعظموا أمره ، فخاض بهم غمرات الموت ، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنا با ، ودورها خرابا ، وضعفاؤها أربابا ، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه ، وأبعدهم منه أحظاهم عنده ، قد محضته العرب ودادها ، وأصفت له فؤادها ، وأعطته قيادها ، دونكم يا معشر قريش ! ابن أبيكم ، كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك سبيله إلا رشد ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ، ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير ، لكففت عنه الهزاهز ، ولدافعت عنه الدواهي.


(367)
    الروض الأنف 1 : 259 ، المواهب 1 : 72 ، تاريخ الخميس 1 : 339 ، ثمرات الأوراق هامش المستطرف 2 : 9 ، بلوغ الإرب 1 : 327 ، السيرة الحلبية 1 : 375.
    السيرة لزيني دحلان هامش الحلبية 1 : 93 ، أسنى المطالب ص 5.
    قال الأميني : في هذه الوصية الطافحة بالإيمان والرشاد دلالة واضحة على أنه عليه السلام إنما أرجأ تصديقه باللسان إلى هذه الآونة التي يأس فيها عن الحياة حذار شنآن قومه المستتبع لانثيالهم عنه ، المؤدي إلى ضعف المنة وتفكك القوى ، فلا يتسنى له حينئذ الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وإن كان الإيمان به مستقرا في الجنان من أول يومه ، لكنه لما شعر بأزوف الأجل وفوات الغاية المذكورة أبدى ما أجنته أضالعه فأوصى بالنبي صلى الله عليه وآله بوصيته الخالدة.

ـ 14 ـ
وصية أبي طالب لبني أبيه
    أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى : إن أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ، وما أتبعتم أمره ، فاتبعوه و أعينوه ترشدوا.
    وفي لفظ : يا معشر بني هاشم ! أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا.
    وتوجد هذه الوصية في تذكرة السبط ص 5 ، الخصائص الكبرى 1 : 87 ، السيرة الحلبية 1 : 372 ، 375 ، سيرة زيني دحلان هامش الحلبية 1 : 92 ، 293 ، أسنى المطالب ص 10 ، ورأى البرزنجي هذا الحديث دليلا على إيمان أبي طالب و نعما هو ، قال : قلت : بعيد جدا أن يعرف أن الرشاد في إتباعه ويأمر غير بذلك ثم يتركه وهو.
    قال الأميني : ليس في العقل السليم مساغ للقول بأن هذه المواقف كلها لم تنبعث عن خضوع أبي طالب للدين الحنيف وتصديقه للصادع به صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا فماذا الذي كان يحدوه إلى مخاشنة قريش ومقاساة الأذى منهم وتعكير الصفو من حياته لا سيما أيام كان هو والصفوة من فئته في الشعب ، فلا حياة هنيئة ، ولا عيش رغد ، ولا أمن يطمأن به ، ولا خطر مدروء ، يتحمل الجفاء والقطيعة والقسوة المؤلمة من قومه ؟ فماذا


(368)
الذي أقدمه على هذه كلها ؟ وماذا الذي حصره وحبسه في الشعب عدة سنين تجاه أمر لا يقول بصدقه ولا يخبت إلى حقيقته ؟ لا ها الله لم يكن كل ذلك إلا عن إيمان ثابت ، وتصديق وتسليم وإذعان بما جاء به نبي الاسلام ، ويظهر ذلك للقارئ المستشف لجزئيات كل من هذه القصص ، ولم تكن القرابة والقومية بمفردها تدعوه إلى مقاساة تلكم ، المشاق كما لم تدع أبا لهب أخاه ، وهب أن القرابة تدعوه إلى الذب عنه صلى الله عليه وآله وسلم لكنها لا تدعو إلى المصارحة بتصديقه وأن ما جاء به حق ، وأنه نبي كموسى خط في أول الكتب ، وأن من اقتص أثره فهو المهتدي ، وأن الضال من ازور عنه وتخلف ، إلى أمثال ذلك من مصارحات قالها بملأ فمه ، ودعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم فيها بأعلى هتافه.

ـ 15 ـ
حديث عن أبي طالب
    ذكر ابن حجر في الإصابة 4 : 116 من طريق إسحاق بن عيسى الهاشمي عن أبي رافع قال : سمعت أبا طالب يقول : سمعت ابن أخي محمد بن عبد الله يقول : إن ربه بعثه بصلة الأرحام ، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره ، ومحمد الصدوق الأمين.
    وذكره السيد زيني دحلان في أسنى المطالب ص 6 وقال : أخرجه الخطيب و أخرجه السيد فخار بن معد في كتاب الحجة ص 26 من طريق الحافظ أبي نعيم الاصبهاني. وبإسناد آخر من طريق أبي الفرج الاصبهاني. وروى الشيخ إبراهيم الحنبلي في نهاية الطلب عن عروة الثقفي قال : سمعت أبا طالب رضي الله عنه يقول : حدثني ابن أخي الصادق الأمين وكان والله صدوقا : إن ربه أرسله بصلة الأرحام ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة. وكان يقول : اشكر ترزق ، ولا تكفر تعذب.


(369)
ـ 3 ـ
ما يروي عنه آله وذووه من طرق العامة فحسب
    أما رجال آل هاشم ، وأبناء عبد المطلب ، وولد أبي طالب ، فلم يؤثر عنهم إلا الهتاف بإيمانه الثابت ، وإن ما كان يؤثره في نصرة النبي الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم كان منبعثا عن تدين بما صدع به صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت أدرى بما فيه ، قال ابن الأثير في جامع الأصول ما أسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت عليهم السلام.
    نعم : هتفوا بذلك في أجيالهم وأدوارهم بملأ الأفواه وبكل صراحة وجبهوا من خالفهم في ذلك.
إذا قالت حذام فصدقوها فـإن القول ما قالت حذام
ـ 1 ـ
    قال ابن أبي الحديد في شرحه 3 : 312 : روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة : إن أبا طالب ما مات حتى قال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله والخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فأصغى إليه أخوه العباس (1) وروي عن علي عليه السلام إنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله من نفسه الرضا.
    وذكر أبو الفدا والشعراني عن ابن عباس : إن أبا طالب لما اشتد مرضه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم ! قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة يعني الشهادة فقال له أبو طالب : يا ابن أخي ! لولا مخافة السبة وأن تظن قريش إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها فلما تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس بإذنه وقال :
1 ـ راجع سيرة ابن هشام 2 : 27 ، دلائل النبوة للبيهقي ، تاريخ ابن كثير 2 : 123 ، عيون الأثر لابن سيد الناس 1 : 131 ، الإصابة 116 ، المواهب اللدنية 1 : 71 ، السيرة الحلبية 1 : 372 ، السيرة الدحلانية هامش الحلبية 1 : 89 ، أسنى المطالب ص 20.

(370)
والله يا بن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها.
    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداك يا عم ! (1) وقال السيد أحمد زيني دحلان في السيرة الحلبية 1 : 94 : نقل الشيخ السحيمي في شرحه على شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الشعراني والسبكي وجماعة أن ذلك الحديث أعني حديث العباس ثبت عند بعض أهل الكشف وصح عندهم إسلامه.
    قال الأميني : ذكرنا هذا الحديث مجاراة للقوم وإلا فما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عند الموت إلى التلفظ بتينك الكلمتين اللتين كرس حياته الثمينة بالهتاف بمفادهما في شعره ونثره ، والدعوة إليهما ، والذب عمن صدع بهما ، ومعاناة الأهوال دونهما حتى يومه الأخير ؟ ما كانت حاجة أبي طالب مسيسة عندئذ إلى التفوه بهما كأمر مستجد ؟ فمتى كفر هو ؟ ومتى ضل ؟ حتى يؤمن ويهتدي بهما ، أليس من الشهادة قوله الذي أسلفناه ص 331 :
ليعلم خيار الناس أن محمدا أتانا بهدي مثل ما أتيا به وإنكم تـتلونه في كتابكم وزير لموسى والمسيح ابن مريم فكل بأمر الله يهدي ويعصم بصدق حديث لا حديث مبرجم
    وقوله في ص 332 :
أمين حبيب في العباد مسوم نبي أتاه الوحي من عند ربه بخاتم رب قاهر في الخواتم ومن قال : لا يقرع بها سن نادم
    وقوله في ص 332 :
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى خط في أول الكتب
    وقوله في ص 334 :
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش
    قيم وقوله في ص 334 :
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ودعوتـني وعلمت أنك ناصحي وابشر بذاك وقر منك عيونا ولقد دعوت وكنـت ثم أمينا

1 ـ تاريخ أبي الفدا ج 1 : 120 ، كشف الغمة للشعراني 2 : 144.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء السابع ::: فهرس