الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 101 ـ 110
(101)
    وفي الكنز 4 : 240 من طريق الدارقطني عن ابن جريج قال : سأل حميد الضمري ابن عباس فقال : إني أسافر فاقصر الصلاة في السفر أم أتمها ؟ فقال ابن عباس : لست تقصرها ولكن تمامها وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخاف إلا الله فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم خرج أبو بكر لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين حتى رجع ، ثم خرج عمر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثم صلاها أربعا ، ثم أخذ بها بنوا أمية.
    قال ابن جريج : فبلغني إنه أوفى أربعا بمنى فقط من أجل إن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى : يا أمير المؤمنين ! ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين.
    فخشي عثمان أن يظن جهال الناس الصلاة ركعتين وإنما كان أوفاها بمنى.
    وأخرج أحمد في المسند 4 : 94 من طريق عباد بن عبد الله قال : لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ، ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان و عمرو بن عثمان فقالا له : لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال : وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعا ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة فإذا فرغ الحج وأقام بمنى أتم الصلاة.
    وذكره ابن حجر في فتح الباري 2 : 457 ، والشوكاني في نيل الأوطار 2 : 260.
    وروى الطبري في تاريخه وغيره : حج بالناس في سنة 29 عثمان فضرب بمنى فسطاطا فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى ، وأتم الصلاة بها وبعرفة ، فذكر الواقدي ( بالإسناد ) عن ابن عباس قال : إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهرا إنه صلى بالناس بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السنة السادسة أتمها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتكلم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاء علي فيمن جاءه فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ولا عهدت نبيك صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ، ثم أبا بكر ، ثم عمر ، وأنت صدرا من ولايتك ، فما أدري ما يرجع إليه ؟ فقال : رأي رأيته.
    وعن عبد الملك بن عمر وبن أبي سفيان الثقفي عن عمه قال : صلى عثمان بالناس بمنى أربعا فأتى آت عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك ؟ قد صلى بالناس أربعا ، فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين ، ثم خرج حتى دخل على عثمان فقال له : ألم تصل


(102)
في هذا المكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ؟ قال : بلى.
    قال : ألم تصل مع أبي بكر ركعتين ؟ قال : بلى.
    قال : ألم تصل مع عمر ركعتين ؟ قال : بلى قال : ألم تصل صدرا من خلافتك ركعتين ؟ قال : بلى.
    قال : فاسمع مني يا أبا محمد إني أخبرت إن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إن الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين.
    وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلي أربعا لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال ، فربما اطلعته فأقمت فيه بعد الصدر.
    فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ، أما قولك : إتخذت أهلا.
    فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنما تسكن بسكناك.
    وأما قولك : ولي مال بالطائف.
    فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف.
    وأما قولك : يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم.
    فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الاسلام فيهم قليل ، ثم أبو بكر مثل ذلك ، ثم عمر ، فضرب الاسلام بجرانه فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين.
    فقال عثمان : هذا رأي رأيته.
    قال : فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال : أبا محمد غير ما يعلم ؟ قال : لا قال : فما أصنع ؟ قال : إعمل أنت بما تعلم.
    فقال ابن مسعود : الخلاف شر ، قد بلغني إنه صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا.
    فقال عبد الرحمن بن عوف : قد بلغني إنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين ، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول ، يعني نصلي معه أربعا.
    أنساب البلاذري 5 : 39 ، تأريخ الطبري 5 : 56 ، كامل ابن الأثير 3 : 42 ، تاريخ ابن كثير 7 : 154 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 386.

( نظرة في رأي الخليفة )
    قال الأميني : أنت ترى أن ما ارتكبه الرجل مجرد رأي غير مدعوم ببرهنة ولا معتضد بكتاب أو سنة ، ولم يكن عنده غير ما تترس به من حججه الثلاث التي دحضها عبد الرحمن بن عوف بأوفى وجه حين أدلى بها ، بعد أن أربكه النقد ، وكان


(103)
ذلك منه تشبثا كتشبث الغريق ، ومن أمعن النظر فيها لا يشك أنها مما لا يفوه به ذو مرة في الفقاهة فضلا عن إمام المسلمين ، ولو كان مجرد إن زوجته مكية من قواطع السفر ؟ فأي مهاجر من الصحابة ليس كمثله ؟ فكان إذن من واجبهم الإتمام ، لكن الشريعة فرضت التقصير على المسافر مطلقا ، والزوجة في قبضة الرجل تتبعه في ظعنه و إقامته ، فلا تخرج زوجها عن حكم المسافر لمحض إنه بمقربة من بيئتها الأصلية التي هاجر عنها وهاجرت.
    قال ابن حجر في فتح الباري 2 : 456 : أخرج أحمد والبيهقي من حديث عثمان وإنه لما صلى بمنى أربع ركعات ، أنكر الناس عليه فقال : إني تأهلت بمكة لما قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تأهل ببلدة فإنه يصلي صلاة مقيم.
    قال هذا الحديث لا يصح منقطع ، وفي رواته من لا يحتج به ، ويرده إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بزوجاته وقصر.
    وقال ابن القيم في عد أعذار الخليفة : إنه كان قد تأهل بمنى ، والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه ، أو كان له به زوجة أتم.
    ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال : يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم.
    رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده ( 1 : 62 ) ، وعبد الله بن زبير الحميدي في مسنده أيضا ، وقد أعله البيهقي بانقطاعه ، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم ، قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد وابن عباس قبله : إن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ، ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان.
    قال الأميني : لو كان عثمان لهج بهذه المزعمة في وقته على رؤس الاشهاد ، وكان من المسلم في الاسلام إن التزويج من قواطع السفر ـ وليس كذلك ـ لما بقيت كلمة مطوية تحت أستار الخفاء حتى يكتشفها هذا الأثري المتمحل ، أو يختلقها له رماة القول على عواهنه.


(104)
    ثم لأي شيء كانت والحالة هذه نقود الصحابة الموجهة إلى الرجل ؟ أولم يسمعوه لما رفع عقيرته بعذره الموجه ؟ أو سمعوه ولم يقيموا له وزنا ؟ أو أن الخطاب من ولائد أم الفرية بعد منصرم أيامه ؟ على أن النكاح لا يتم عند القوم إلا بشاهدين عدلين ، وورد عن ابن عباس : لا نكاح إلا بأربعة : ولي ، وشاهدين ، وخاطب (1) ، فأين كان أركان نكاح الخليفة يوم توجيه النقود إليه ؟ حتى يدافعون عنه تلك الجلبة واللغط.
    ومتى تأهل الرجل بهذه المرأة الموهومة قاطعة السفر له ؟ وما المسوغ له ذلك وقد دخل مكة محرما ؟ وكيف يشيع المنكر ويقول : تأهلت بمكة مذ قدمت ؟ ولم يكن متمتعا بالعمرة ـ لأنه لم يكن يبيح ذلك أخذا برأي من حرمها كما يأتي تفصيله ـ حتى يقال : إنه تأهل بين الاحرامين بعد قضاء نسك العمرة ، فهو لم يزل كان محرما من مسجد الشجرة حتى أحل بعد تمام النسك بمنى ، فيجب أن يكون إتمامه الصلاة إن صح الإتمام بالتأهل ؟ وأنى ؟ من حيث أحل وتأهل ، وقد صلاها تامة بمنى أيام منى وبعرفات أيضا محرما مع الحاج ، فهذه مشكلة أخرى قط لا تنحل لما صح من طريق عثمان نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب (2).
    وعن مولانا أمير المؤمنين قال : لا يجوز نكاح المحرم ، إن نكح نزعنا منه امرأته (3).
    قال ابن حزم في المحلي 7 : 197 : مسألة : لا يحل لرجل ولا لامرأة أن يتزوج أو تتزوج ، ولا أن يزوج الرجل غيره من وليته ، ولا أن يخطب خطبة نكاح مذ يحرمان إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر ، ويدخل وقت رمي جمرة العقبة ، ويفسخ النكاح قبل الوقت المذكور ، كان فيه دخول وطول مدة وولادة أولم يكن ، فإذا دخل الوقت
1 ـ سنن البيهقي 7 : 124 127 ، 142.
2 ـ الموطأ لمالك 1 : 321 ، وفي ط : 254 الأم للشافعي 5 : 160 ، مسند أحمد 1 : 57 ، 64 ، 65 ، 68 ، 73 ، صحيح مسلم 1 : 935 ، سنن الدارمي 2 : 38 ، سنن أبي داود 1 : 290 ، سنن أبي ماجة 1 : 606 ، سنن النسائي 5 : 192 ، سنن البيهقي 5 : 65 ، 66.
3 ـ المحلى لابن حزم 7 : 199.


(105)
المذكور حل لهما النكاح والانكاح.
    ثم ذكر دليل الحكم فقال : فإن نكح المحرم أو المحرمة فسخ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
    وكذلك إن أنكح من لا نكاح لها إلا بإنكاحه فهو نكاح مفسوخ لما ذكرنا ، ولفساد الانكاح الذي لا يصح النكاح إلا به ، ولا صحة لما لا يصح ، إلا بما يصح ، وأما الخطبة فإن خطب فهو عاص ولا يفسد النكاح لأن الخطبة لا متعلق لها بالنكاح ، وقد يخطب ولا يتم النكاح إذا رد الخطاب ، وقد يتم النكاح بلا خطبة أصلا ، لكن بأن يقول لها : أنكحيني نفسك فتقول : نعم قد فعلت.
    ويقول هو : قد رضيت ، ويأذن الولي في ذلك.
    ثم بسط القول في رد من زعم جواز نكاح المحرم بأحسن بيان. فراجع.
    وللإمام الشافعي في كتابه الأم كلمة حول نكاح المحرم ضافية لدة هذه راجع ج 5 : 160.
    وليتني أدري بأي كتاب أم بأية سنة قال أبو حنيفة ومالك ونص أحمد ـ كما زعمه ابن القي[ : على أن المسافر إذا تزوج ببلدة لزمه الإتمام بها ؟ وسنة رسول الله الثابتة عنه صلى الله عليه وآله خلافه ، وكان المهاجرون كلهم يقتصرون بمكة ، وهي قاعدة أزواجهم كما سمعت ، وليس مستند القوم إلا رواية عكرمة بن إبراهيم التي أعلها البيهقي ، وقد مر عن ابن حجر أنها لا تصح.
    وقال يحيى وأبو داود : عكرمة ليس بشيء.
    و قال النسائي : ضعيف ليس بثقة.
    وقال العقيلي : في حديثه اضطراب.
    وقال ابن حبان كان ممن يقلب الأخبار ، ويرفع المراسيل ، لا يجوز الاحتجاج به ، وقال يعقوب : منكر الحديث.
    وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي ، وذكره ابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء (1).
    نعم راق أولئك الأئمة التحفظ على كرامة الخليفة ولو بالافتاء بغير ما أنزل الله ، وكم له من نظير ؟ ونوقفك في الأجزاء الآتية على شطر مهم من الفتاوى الشاذة عن الكتاب والسنة عند البحث عنها ، والعجب كل العجب عد ابن القيم هذا العذر المفتعل أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، وهو مكتنف بكل ما ذكرناه من النقود والعلل ، هذا شأن أحسن ما اعتذر به فما ظنك بغيره ؟.
1 ـ لسان الميزان 4 : 182.

(106)
    وأما وجود مال له بالطائف فالرجل مكي قد هاجر عنها لا طائفي ، وبينه وبين الطائف عدة مراحل ، هب أن له مالا بمكة أو بنفس منى وعرفة اللتين أتم فيهما الصلاة ، فإن مجرد المال في مكان ليس يقطع السفر ما لم يجمع الرجل مكثا ، وقد قصر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله معه عام الفتح ، وفي حجة أبي بكر ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات.
    كما رواه الشافعي ، قال في كتاب الأم 1 : 165 : قد قصر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه عام الفتح ، وفي حجته ، وفي حجة أبي بكر ، ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات : منهم أبو بكر له بمكة دار وقرابة ، وعمر له بمكة دور كثيرة ، و عثمان له بمكة دار وقرابة ، فلم أعلم منهم أحدا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتمام ، ولا أتم ولا أتموا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدومهم مكة ، بل حفظ عمن حفظ عنه منهم القصر بها. وذكره البيهقي في السنن 3 : 153.
    وأما الخيفة ممن حج من أهل اليمن وجفاة الناس الذين لم يتمرنوا بالأحكام أن يقولوا : إن الصلاة لمقيم ركعتان هذا إمام المسلمين يصليها كذلك.
    فقد كانت أولى بالرعاية على العهد النبوي والناس حديثوا عهد بالاسلام ، ولم تطرق جملة من الأحكام أسماعهم ، وكذلك على العهدين قبله ، لكن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يرعها بعد بيان حكمي الحاضر والمسافر ، وكذلك من اقتص أثره من بعده ، ولقد صلى صلى الله عليه وآله بمكة ركعتين أيام إقامته بها ثم قال : أتموا الصلاة يا أهل مكة ! فإنا سفر.
    أو قال : يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر (1).
    فأزال صلى الله عليه وآله ما حاذره الخليفة في تعليله المنحوت بعد الوقوع ، فهلا كان منه اقتصاص لأثر النبي صلى الله عليه وآله ؟ فيما لم يزل دائبا عليه في أسفاره ، فهلا اقتص أثره مع ذلك البيان الأوفى ؟ ولم يكن على الأفواه أوكية ، ولا على الآذان صمم ، وهل الواجب تعليم الجاهل ؟ أو تغيير الحكم الثابت من جراء جهله ؟ : على أن الخليفة إن أراد أن ينقذ الهمج من الجهل بتشريع الصلاة أربعا فقد ألقاهم في الجهل بحكم صلاة المسافر ، فكان تعليمه العملي إغراء بالجهل ، وواجب التعليم هو الاستمرار على ما ثبت في الشريعة مع البيان ، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله في مكة كما مر
1 ـ سنن البيهقي 3 : 136 ، 157 ، سنن أبي داود 1 : 191 ، أحكام القرآن للجصاص 2 : 310.

(107)
وكان عمر إذا قدم مكة صلى لهم ركعتين ثم يقول : يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ، وروى البيهقي عن أبي بكر مثل ذلك.
     ( سنن البيهقي 3 : 126 ، 157 ، المحلى لابن حزم 5 : 18 ، موطأ مالك 1 : 126 ).
    هذه حجج الخليفة التي أدلى بها يوم ضايقه عبد الرحمن بن عوف لكنها عادت عنده مدحورة ، وقد أربكه عبد الرحمن بنقد ما جاء به فلم يبق عنده إلا أن يقول : هذا رأي رأيته ، كما أن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لما دخل عليه وخصمه بحجاجه فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد. الخ.
    وعجز الرجل عن جوابه فقال : رأي رأيته.
    هذا منقطع معاذير عثمان في تبرير أحدوثته فلم يبق له ارتحاضه إلا قوله : رأي رأيته ، لكن للرجل من بعده أنصارا اصطنعوا له أعذارا أخرى هي أو هن من بيت العنكبوت ، ولم يهتد إليها نفس الخليفة حتى يغبر بها في وجه منتقديه ، ولكن كم ترك الأول للآخر ، منها :
    1 ـ إن منى كانت قد بنيت وصارت قرية ، كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله بل كانت فضاء ولهذا قيل له : يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر ؟ فقال : لا ، منى مناخ من سبق ، فتأول عثمان إن القصر إنما في حال السفر (1).
    أنا لا أدري ما صلة كثرة المساكن وصيرورة المحل قرية بحكم القصر والاتمام ؟ وهل السفر يتحقق بالمفاوز والفلوات دون القرى والمدن حتى إذا لم ينو فيها الإقامة ؟ إن هذا الحكم عجاب ، وهذه فتوى من لا يعرف مغزى الشريعة ، ولا ملاك تحقق السفر والحضر المستتبعين للقصر والاتمام ، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى أيام إقامته بمكة قصرا وكذلك في خيبر ، وكانت مكة أم القرى ، وفي خيبر قلاع وحصون مشيدة و قرى ورساتيق ، وكذلك كان يفعل في أسفاره ، وكان يمر بها على قرية ويهبط أخرى على أن صيرورة المحل قرية لم تكن مفاجأة منها وإنما عادت كذلك بالتدريج ، ففي أي حد منها كان يلزم الخليفة تغيير الحكم ؟ وعلى أي حد غير ؟ أنا لا أدري.
    2 ـ إنه أقام بها ثلاثا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة
1 ـ ذكره ابن القيم في زاد المعاد هامش شرح المواهب للزرقاني 2 : 24 وفنده بقول موجز.

(108)
ثلاثا فسماه مقيما والمقيم غير المسافر (1) وفي لفظ مسلم : يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا.
    وفي لفظ البخاري : للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة. ا هـ (2).
    إن ملاك قطع السفر ليس صدق لفظ الإقامة ، فليست المسألة لغوية وإنما هي شرعية ، وقد أناطت السنة الشريفة الإتمام في السفر باقامة محدودة ليس في ما دونها إلا التقصير في الصلاة ، وليس لمكة حكم خاص يعدل به عما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله ، والمراد من الإقامة فيما تشبث به ناحت المعذرة هو المكث للمهاجر بمكة لما لهم بها من سوابق وعلائق وقرابات ، لا الإقامة الشرعية التي هي موضوع حكم الإتمام ، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة عشرا كما في الصحيحين (3) أو أكثر منها كما في غيرهما (4) ولم يزد على التقصير في الصلاة فقصر المكث بمكة ثلاثا على المهاجر دون غيرهما من الوافدين إلى مكة ، وعلى مكة دون غيرها كما هو صريح تلكم الألفاظ المذكورة يعرب عن إرادة المعنى المذكور ، ولا يسع لفقيه أن يرى الإقامة ثلاثا بمكة خاصة من قواطع السفر للمهاجر فحسب ، وقد أعرض عن استيطانها بالهجرة ، ولم يتم رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بمكة وقد أقام بها أكثر من ثلاثة أيام بلغ عشرا أو لم يبلغ أو زاد عليها.
    على أن الشافعي ومالكا وأصحابهما وآخرين احتجوا بالألفاظ المذكورة على استثناء مكث المهاجر بمكة ثلاثا من الإقامة المكروهة لهم بها ، قالوا : كره رسول الله للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها ، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك.
    وقال ابن حزم : إن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهة في شيء من ذلك ، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث (5) فأين هذا الحكم الخاص بمكة للمهاجر فحسب من الإقامة القاطعة للسفر ؟.
1 ـ هذا الوجه ذكره ابن القيم في زاد المعاد هامش شرح المواهب 2 : 24 ونقده بكلام وجيز.
2 ـ ألفاظ هذا الحديث مذكورة في تاريخ الخطيب 6 ، 267 ـ 270.
3 ـ صحيح البخاري 2 : 153 ، صحيح مسلم 1 : 260.
4 ـ المحلى لابن حزم 5 : 27.
5 ـ المحلى لابن حزم 5 : 24.


(109)
    ثم كان هذا عذر الرجل لكان عليه أن يتم بمكة لا بمنى وعرفة وقد أتم بهما.
    3 ـ إنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة فلهذا أتم ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة.
    كأن هذا المتأول استشف عالم الغيب من وراء ستر رقيق ولا يعلم الغيب إلا الله ، إن مثل هذه العزيمة وفسخها مما لا يعلم إلا من قبل صاحبها ، أو من يخبره بها هو ، وقد علمت إن الخليفة لما ضويق بالنقد لم يعد ذلك من معاذيره ، وإلا لكانت له فيه منتدح ، وكان خيرا له من تحشيد التافهات ، لكن كشف ذلك لصاحب المزعمة بعد لاي من عمر الدهر فحيا الله الكشف والشهود.
    وكان من المستصعب جدا والبعيد غايته تغيير العاصمة الإسلامية والتعريجة على التعرب بعد الهجرة من دون استشارة أخذ من أكابر الصحابة ، وإلغاء مقدمات تستوعب برهة طويلة من الزمن كأبسط أمر ينعقد بمحض النية ويفسخ بمثلها.
    وقال ابن حجر في الفتح 2 : 457 ، والشوكاني في نيل الأوطار 3 : 260 : روى عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عثمان : إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج وأجيب بأنه مرسل ، وفيه أيضا نظر لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام وقد صح عن عثمان إنه كان لا يودع البيت إلا على ظهر راحلته ، ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته ، وثبت أنه قال له المغيرة لما حاصروه : اركب رواحلك إلى مكة فقال : لن أفارق دار هجرتي.
    ولابن القيم في زاد المعاد 2 : 25 وجه آخر في دحض هذه الشبهة. فراجع.
    4 ـ إنه كان إماما للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته ، فكأنه وطنه قال الأميني : إن ملاك حكم الشريعة هو المقرر من قبل الدين لا الاعتبارات المنحوتة ، والإمام والسوقة شرع سواء في شمول الأحكام ، بل هو أولى بالاتباع لنواميس الدين حتى يكون قدوة للناس وتكون به أسوتهم ، وهو وإن سرت ولايته وعمله مع مسير نفوذه في البلاد أو في العالم كله إلا أن التكليف الشرعي غير منوط بهذا السير ، بل هو مرتبط بتحقق الموازين الشرعية ، فإن أقام في محل جاءه حكم الإقامة ، وإن لم ينو الإقامة فهو على حكم السفر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إمام الخلائق


(110)
على الإطلاق ، ومع ذلك كان يقصر صلاته في أسفاره ، ولا يعزى إليه إنه ربع بمكة أو في منى أو بعرفة أو بغيرها ، وإنما اتبع ما استنه للأمة جمعاء وبهذا رده ابن القيم في زاد المعاد ، وابن حجر في فتح الباري 2 : 456.
    أضف إليه هتاف النبي الأعظم وأبي بكر وعمر بن الخطاب بما مر ص 107 من قولهم : أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر.
    فإنه يعرب عن إن حكم القصر والاتمام يعم الصادع الكريم ومن أشغل منصة الخلافة بعده.
    على إنه لو كان تربيع الرجل من هذه الناحية لوجب عليه أن يهتف بين الناس بأن ذلك لمقام الإمامة فحسب ، وأما من ليس له ذلك المقام فحكمه التقصير ، وإلا لكان إغراء بالجهل بعمله ، وإبطالا لصلاتهم بترك البيان ، فإذ لم يهتف بذلك ولم يعلل عمله به جوابا لمنقديه علمنا إنه لم يرد ذلك ، وإن من تابعه من الصحابة لم يعللوا عمله بهذا التعليل ، وإنما تابعوه دفعا لشر الخلاف كما مر في صفحة 99 ، 102 وهذا ينبئ عن عدم صحة عمله عندهم.
    ويشبه هذا التشبث في السقوط ما نحتوه لأم المؤمنين عائشة في تربيعها الصلاة في السفر بأنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها كما ذكره ابن القيم في زاد معاده 2 : 26 ، فإن كان لأم المؤمنين هذا الحكم الخاص ؟ وجب أن تكون أمومتها منتزعة من أبوة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإن ثبوت الحكم في الأصل أولى من الفرع ، لكن رسول الله كان يصلي في أسفاره عامة ركعتين ، وليس من الهين تغيير حكم الله بأمثال هذه السفاسف ، ولا من السهل نحت العذر لكل من يخالف حكما من أحكام الدين لرأي ارتآه ، أو غلط وقع فيه ، أو لسياسة وقتية حدته إليه ، ولا ينقضي عجبي من العلماء الذين راقتهم أمثال هذه التافهات فدونوها في الكتب ، وتركوها أساطير من بعدهم يهزأ بها.
    5 ـ إن التقصير للمسافر رخصة لا عزيمة ، ذكره جمع ، وقال المحب الطبري في الرياض 2 : 151 : عذره في ذلك ظاهر ، فإنه ممن لم يوجب القصر في السفر.
    وتبعه في ذلك شراح صحيح البخاري ، وهذا مخالف لنصوص الشريعة ، والمأثورات النبوية ، والسنة الشريفة الثابتة عن النبي الأقدس ، وكلمات الصحابة ، وإليك نماذج منها : 1 ـ عن عمر : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان تمام غير
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس