الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 121 ـ 130
(121)
منها ، فاضطربوا بالنعال ، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأخرج من عدة طرق : إن طلحة والزبير أتيا عثمان فقالا له : قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من أمور المسلمين فأبيت وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله وقال له علي : اعزله وحده إذا شهد الشهود عليه في وجهه.
    فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة وأمره بإشخاص الوليد ، فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر ودار الإمامة وأشخص الوليد ، فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر و أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد : أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير المؤمنين عليك.
    فيكف.
    فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب أخذ السوط ودخل عليه ومعه ابنه الحسن فقال له الوليد مثل تلك المقالة فقال له الحسن : صدق يا أبت ، فقال علي : ما أنا إذا بمؤمن.
    وجلده بسوط له شعبتان ، وفي لفظ : فقال علي للحسن ابنه : قم يا بني فاجلده ، فقال عثمان : يكفيك ذلك بعض من ترى فأخذ علي السوط ومشى إليه فجعل يضربه والوليد يسبه ، وفي لفظ الأغاني : فقال له الوليد : نشدتك بالله وبالقرابة ، فقال له علي : اسكت أبا وهب ! فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود فضربه وقال : لتدعوني قريش بعد هذا جلادها.
    قالوا : وسئل عثمان أن يحلق ، وقيل له : إن عمر حلق مثله ، فقال : قد كان فعل ذلك ثم تركه.
    وقال أبو مخنف وغيره : خرج الوليد بن عقبة لصلاة الصبح وهو يميل فصلى ركعتين ثم التفت إلى الناس فقال : أزيدكم ؟ فقال له عتاب بن علاق أحد بني عوافة ابن سعد وكان شريفا : لا زادك الله مزيد الخير ، ثم تناول حفنة من حصى فضرب بها وجه الوليد وحصبه الناس وقالوا : والله ما العجب إلا ممن ولاك ، وكان عمر بن الخطاب فرض لعتاب هذا مع الأشراف في ألفين وخمسمائة.
    وذكر بعضهم : إن القي غلب على الوليد في مكانه ، وقال يزيد بن قيس الأرحبي ومعقل بن قيس الرياحي : لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
    وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه إن الوليد أحق بالعذر


(122)
نادى وقد نفدت (1) صلاتهم ليزيدهم خيرا ولو قبلوا فأبوا أبا وهب ! ولو فعلوا حبسوا عنانك إذ جريت ولو أأزيدكم ؟ ثملا وما يدري منه لزادهم على عشر لقرنت بين الشفع والوتر خلوا عنانك لم تزل تجري (2)
    وذكر أبو الفرج في ( الأغاني ) 4 : 178 ، وأبو عمر في ( الاستيعاب ) بعد هذه الأبيات لحطيئة أيضا قوله :
تكلم فـي الصلاة وزاد فيها ومج الخمر في سنن المصلي أزيدكم ؟ على أن تحمدوني علانية وجاهر بالنفاق ونادى والجميع إلى افتراق فمالكم وما لي من خلاق
    ثم قال أبو عمر : وخبر صلاته بهم وهو سكران وقوله : أزيدكم ؟ بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار.
    وهكذا جاء في مسند أحمد 1 : 144 ، سنن البيهقي 8 : 318 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 142 وقال : تهوع في المحراب ، كامل ابن الأثير 3 : 42 ، أسد الغابة 5 : 91 ، 92 و قال : قوله لهم : أزيدكم ؟ بعد أن صلى الصبح أربعا مشهور من رواية الثقات من أهل الحديث ، ثم ذكر حديث الطبري (3) في تعصب القوم على الوليد وقول عثمان له : يا أخي أصبر فإن الله يأجرك ويبوء القوم بإثمك.
    فقال : قال أبو عمر : والصحيح عند أهل الحديث أنه شرب الخمر وتقيأها وصلى الصبح أربعا.
    تاريخ أبي الفدا ج 176 ، الإصابة 3 : 638 وقال : قصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 104 ، السيرة الحلبية 2 : 314 وقال : صلى بأهل الكوفة أربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده : إشرب واسقني.
    ثم قاء في المحراب ثم سلم وقال : هل أزيدكم ؟ فقال له ابن مسعود
1 ـ في الأغاني 4 : 178 ، 179 : تمت. بدل نفدت.
2 ـ وفي الأغاني 4 : 179 حول هذه الأبيات رواية لا تخلو عن فائدة.
3 ـ أخرجه في تاريخه 5 : 60 ، 61 من طريق مجمع على بطلانه عن كذاب عن مجهول عن وضاع متهم بالزندقة وهم : السري عن شعيب عن سيف بن عمر وسيوافيك تفصيل القول في هذا الطريق الوعر وإنه شوه تاريخ الطبري.


(123)
رضي الله عنه : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا وأخذ فردة خفه وضرب به وجه الوليد وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح .. الخ.
    وحكى أبو الفرج في الأغاني 4 : 178 عن عبيد والكلبي والأصمعي : إن وليد بن عقبة كان زانيا شريب الخمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم وقال لهم : أزيدكم ؟ وتقيأ في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته :
علق القلب الربابا بعد ما شابت وشابا
    وذكره في ص 179 نقلا عن عمر بن شبة ، وروى من طريق المدائني في صفحة 180 عن الزهري أنه قال : خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال : أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل ؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم ، فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال : أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة.
    فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل.
    فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل : أحسنت ، ومن قائل : ما للنساء ولهذا ؟ حتى تحاصبوا و تضاربوا بالنعال ، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له : إتق الله لا تعطل الحد واعزل أخاك عنهم فعزله عنهم.
    وأخرج من طريق مطر الوراق قال : قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي الله عنه : إني صليت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال : أزيدكم ؟ إني أجد اليوم نشاطا ، وأنا أشم منه رائحة الخمر.
    فضرب عثمان الرجل ، فقال الناس : عطلت الحدود ، وضربت الشهود.
    وروى ابن عبد ربه قصة الصلاة في العقد الفريد 2 : 273 وفيه : صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران .. الخ.
    وجاء في صحيح البخاري في مناقب عثمان في حديث. قد أكثر الناس فيه.
    قال ابن حجر في فتح الباري 7 : 44 في شرح الجملة المذكورة : ووقع في رواية معمر : وكان أكثر الناس فيما فعل به ، أي من تركه إقامة الحد عليه ( على مروان )


(124)
وإنكارهم عليه عزل سعد بن أبي وقاص.
    قال الأميني : الوليد هو هذا الذي تسمع حديثه وسنوقفك في هذا الجزء و الأجزاء الآتية إن شاء الله على حقيقته حتى كأنك مطل عليه من أمم ، تراه يشرب الخمر ، ويقئ في محرابه ، ويزيد في الصلاة من سورة السكر ، وينتزع خاتمه من يده فلا يشعر به من شدة الثمل ، وقد عرفه الله تعالى قبل يومه هذا بقوله عز من قائل : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون ( سورة السجدة 18 ) (1).
    وبقوله : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (2).
    وقال ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 620 : لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عزوجل : إن جاءكم فاسق بنبأ. نزلت في الوليد. وحكاها عنه ابن الأثير في أسد الغابة 5 : 90.
    فهل من الممكن أن يجوز مثله حنكة الولاية عن إمام المسلمين ؟ فيحتنك النفوس ويستحوذ على الأموال ، ويستولي على النواميس والأعراض ، وتؤخذ منه الأحكام وتلقى إليه أزمة البسط والقبض في حاضرة المسلمين ، ويأمهم على الجمعة والجماعة ؟ هل هذا شيء يكون في الشريعة ؟ أعزب عني واسأل الخليفة الذي ولاه وزبر الشهود عليه وتوعدهم أو ضربهم بسوطه.
    وهب إن الولاية سبقت منه لكن الحد الذي ثبت موجبه وليم على تعطيله ما وجه إرجاءه إلى حين إدخال الرجل في البيت مجللا بجبة حبر وقاية له عن ألم السياط ؟ ثم من دخل عليه ليحده دافعه المحدود بغضب الخليفة وقطع رحمه ، فهل كان الخليفة يعلم بنسبة الغضب إليه على إقامة حد الله وإيثار رحمه على حكم الشريعة ؟ فيغض الطرف عنه رضا منه بما يقول ، أو لا يبلغه ؟ وهو خلاف سياق الحديث الذي ينم عن إطلاعه بكل ما هنالك ، وكان يتعلل عن إقامة الحد بكل تلكم الأحوال ، حتى إنه منع السبط المجتبى الحسن عليه السلام لما علم إنه لا يجنح إلى الباطل بالرقة عليه وأحب أن يجلده زبانيته الذين يتحرون مرضاته ، لكن غلب أمر الله ونفذ حكمه بمولانا أمير المؤمنين الذي باشر الحد بنفسه والظالم يسبه وهو سلام الله عليه لا تأخذه
1 ـ راجع الجزء الثاني صفحة 42 ط 1 و 46 ط 2.
2 ـ سورة الحجرات آية 6.


(125)
في الله لومة لائم ، أو أمر سلام الله عليه عبد الله بن جعفر فجلده وهو عليه السلام يعد كما في الصحيح لمسلم (1) والأغاني وغيرهما.
    وهل الحد يعطل بعد ثبوت ما يوجبه ، حتى يقع عليه الحجاج ، ويحتدم الحوار فيعود الجدال جلادا ، وتتحول المكالمة ملاكمة ، وتعلو النعال والأحذية ، ويشكل أول قتال بين المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وعقيرة أم المؤمنين مرتفعة : أن عثمان عطل الحدود وتوعد الشهود.
    ويوبخه على ذلك سيد العترة صلوات الله عليه بقوله : عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك ؟ وهل بعد هذه كلها يستأهل مثل هذا الفاسق المهتوك بلسان الكتاب العزيز أن يبعث على الأموال ؟ كما فعله عثمان و بعث الرجل بعد إقامة الحد عليه على صدقات كلب وبلقين (2) ، وهل آصرة الإخاء تستبيح ذلك كله ؟.
    ليست ذمتي رهينة بالجواب عن هذه الاسؤلة وإنما علي سرد القصة مشفوعة بالتعليل والتحليل ، وأما الجواب فعلى عهدة أنصار الخليفة ، أو أن المحكم فيه هو القارئ الكريم.

ـ 4 ـ
النداء الثالث بأمر الخليفة
    أخرج البخاري وغيره بالإسناد عن السائب بن يزيد : إن النداء يوم الجمعة كان أوله في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمان أبي بكر وفي زمان عمر إذا خرج الإمام ، وإذا قامت الصلاة حتى كان زمان عثمان فكثر الناس فزاد النداء الثالث على الزوراء فثبتت حتى الساعة (3).
    وفي لفظ البخاري وأبي داود : الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلما كان خلافة عثمان
1 ـ راجع الجزء الثاني من صحيح مسلم صفحة 52.
2 ـ تاريخ اليعقوبي 2 : 142.
3 ـ صحيح البخاري 2 : 95 ، 96 ، صحيح الترمذي 1 : 68 ، سنن أبي داود 1 : 171 ، سنن ابن ماجة 1 : 348 ، سنن النسائي 3 : 100 ، كتاب الأم للشافعي 1 : 173 ، سنن البيهقي 1 : 429 ، ج 3 : 192 ، 205 ، تاريخ الطبري 5 : 68 ، كامل ابن الأثير 3 : 48 ، فيض الإله المالك للبقاعي 1 : 193.


(126)
وكثر الناس ، أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ، فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذلك.
    وفي لفظ النسائي : أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء.
    وفي لفظ له أيضا : كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة فإذا نزل أقام ، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر.
    وفي لفظ الترمذي : كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إذا خرج الإمام أقيمت الصلاة ، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء.
    وفي لفظ البلاذري في الأنساب 5 : 39 عن السائب بن يزيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج للصلاة أذن المؤذن ثم يقيم ، وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر ، وفي صدر من أيام عثمان ، ثم إن عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة (1) فعاب الناس ذلك وقالوا : بدعة.
    وقال ابن حجر في فتح الباري 2 : 315 : والذي يظهر إن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر ، ولكن ذكر الفاكهاني : إن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد ، وبلغني أن أهل الغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة ، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال : الأذان الأول يوم الجمعة بدعة.
    فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الانكار ، و يحتمل أن يريد إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة.
    وحكا ما في الفتح الشوكاني في نيل الأوطار 3 : 332 ، وذكر العيني في عمدة القاري حديث ابن عمر من إن : الأذان الأول يوم الجمعة بدعة ، وروى عن الزهري قوله : إن أول من أحدث الأذان الأول عثمان يؤذن لأهل الأسواق.
    وقال : وفي لفظ : فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس إلى أن قال : وقيل : إن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد.
    قال الأميني : إن أول ما يستفهم من رواة هذه الأحاديث إن المراد من
1 ـ يعني السنة السابعة من خلافة عثمان توافق الثلاثين من الهجرة كما في تاريخ الطبري وغيره.

(127)
كثرة الناس الموجبة لتكرر الأذان هل هو كثرتهم في مركز الخلافة المدينة المنورة أو كثرتهم في العالم ؟ أما الثاني فلم يكن يجديهم فيه ألف أذان ، فإن صوت مؤذن المدينة لا يبلغ المدن والأمصار ، ولا أن أولئك مكلفون بالإصغاء إلى أذان المدينة ولا الصلاة معه.
    وأما كثرة الناس في المدينة نفسها لو تم كونها مصححا للزيادة في النداء فإنما يصحح تكثير المؤذنين في أنحاء البلد في وقت واحد لا الأذان بعد الإقامة الفاصل بينهما وبين الصلاة ، وقد ثبت في السنة خلافه في الترتيب ، وأحدوثة الخليفة إنما هي الزيادة في النداء بعد الإقامة لا إكثار المؤذنين كما نبه إليه التركماني في شرح السنن الكبرى للبيهقي 1 : 429 ، ولذلك عابه عليه الصحابة ، وحسبوه بدعة ، ولا يخص تعدد المؤذنين بأيام عثمان فحسب ، وقد كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذن بلال وابن أم مكتوم ، واتخذ عثمان أربعة للحاجة إليها حين كثر الناس كما في شرح الآبي على صحيح مسلم 2 : 136 ، ولا أجد خلافا في جواز تعدد المؤذنين ، بل رتبوا عليه أحكاما مثل قولهم هل الحكاية المستحبة أو الواجبة كما قيل تتعدد بتعدد المؤذنين أم لا ؟ وقولهم : إذا أذن المؤذن الأول ، هل للإمام أن يبطئ بالصلاة ليفرغ من بعده ؟ أو له أن يخرج ويقطع من بعده أذانه ؟ وقولهم : إذا تعدد المؤذنون لهم أن يؤذن واحد بعد واحد ، أو يؤذن كلهم في أول الوقت ؟ وقال الشافعي في كتاب الأم 1 : 72 : إن كان مسجدا كبيرا له مؤذنون عدد فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد.
    وظاهر ما مر في الصحيح من إنه زاد النداء الثالث هو إحداث الأذان بعد الأذان والإقامة لا الأذان قبلهما كما يأتي عن الطبراني ، ويومي إليه قول بعض شراح الحديث من أن النداء الثالث ثالث باعتبار الشرعية لكونه مزيدا على الأذان بين يدي الإمام وعلى الإقامة للصلاة (1) ، نعم : قال ابن حجر في فتح الباري 2 : 315 : تواردت الشراح على إن معنى قوله ( الأذان الثالث ) إن الأولين الأذان والإقامة ، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله.
    وقال العيني في عمدته 2 : 290 : إنما أطلق الأذان على الإقامة لأنها إعلام كالآذان ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : بين كل أذانين صلاة لمن
1 ـ شرح الترمذي في هامشه 2 : 68.

(128)
شاء (1) ، ويعني به بين الأذان والإقامة.
    وعلى تقدير إيجاب كثرة الناس الزيادة في النداء يلزم كما قلنا أن يكون الأذان الزايد في أطراف البلد وأقاصيه عن المسجد ليبلغ من لا يبلغه أذان المسجد الذي كان يؤذن به على باب المسجد على العهد النبوي ودور الشيخين ، كما ورد في سنن أبي داود 1 : 171 ، لا في الزوراء التي هي دار بقرب المسجد كما في القاموس ، وتاج العروس ، سواء كانت هي دار عثمان بن عفان التي ذكرها الحموي في المعجم 4 : 412 ، وقال الطبراني : فأمر عثمان بالنداء الأول على دار له يقال لها : الزوراء فكان يؤذن له عليها (2) أو موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد كما ذكره الحموي أيضا ، أو حجر كبير عند باب المسجد على ما جزم به ابن بطال كما في فتح الباري 2 : 315 ، وعمدة القاري 3 : 291.
    فالنداء في الزوراء على كل حال كالنداء في باب المسجد في مدى الصوت ومبلغ الخبر ، فأي جدوى في هذه الزيادة المخالفة للسنة ؟ ثم إن كثرة الناس على فرضها في المدينة هل حصلت فجائية في السابعة من خلافة عثمان ؟ أو أن الجمعية كانت إلى التكثر منذ عادت عاصمة الخلافة الإسلامية ؟ فما ذلك الحد الذي أوجب مخالفة السنة ؟ أو ابتداع نداء ثالث ؟ وهل هذه السنة المبتدعة يجري ملاكها في العواصم والأوساط الكبيرة التي تحتوي أضعاف ما كان بالمدينة من الناس فيكرر فيها الأذان عشرات أو مئات ؟ سل الخليفة وأنصاره المبررين لعمله.
    على أن كثرة الناس في المدينة إن كانت هي الموجبة للنداء الثالث فلماذا أخذ فعل الخليفة أهل البلاد جمعاء وعمل به ؟ ولم يكن فيها التكثر ، وكان على الخليفة أن ينهاهم عنه وينوه بأن الزيادة على الأذان المشروع تخص بالمدينة فحسب ، أو يؤخذ بحكمها في كل بلدة كثر الناس بها.
    نعم : فتح الخليفة باب الجرأة على الله فجاء بعده معاوية ومروان وزياد والحجاج ولعبوا بدين الله على حسب ميولهم وشهواتهم والبادي أظلم.
1 ـ أخرجه البخاري في صحيحه 2 : 8.
2 ـ فتح الباري لابن حجر 2 : 315 ، عمدة القاري 3 : 291.


(129)
ـ 5 ـ
توسيع الخليفة المسجد الحرام
    قال الطبري في تاريخه ج 5 : 47 في حوادث سنة 26 الهجرية : وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم وأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال فصاحوا بعثمان فأمر بهم الحبس وقال : أتدرون ما جرأكم علي ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به.
    ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد ابن أسيد فأخرجوا.
    وذكره هكذا اليعقوبي في تاريخه 2 : 142 ، وابن الأثير في الكامل 3 ص 36.
    وأخرج البلاذري في الأنساب 5 : 38 من طريق مالك عن الزهري قال : وسع عثمان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأنفق عليه من ماله عشرة آلاف درهم فقال الناس : يوسع مسجد رسول الله ويغير سنته.
    قال الأميني : كأن الخليفة لم يكن يرى لليد ناموسا مطردا في الاسلام ولا للملك والمالكية قيمة ولا كرامة في الشريعة المقدسة ، وكأنه لم يقرع سمعه قول نبي العظمة صلى الله عليه وآله : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (1) [ وفي لفظ الجصاص في أحكام القرآن 1 : 175 : إلا بطيب نفسه.
    وفي الشفاء للقاضي عياض ، و نيل الأوطار 4 : 182 : إلا بطيبة من نفسه.
    وفي صحيح ابن حبان : لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه ] (2).
    وإن من العجب العجاب إن الخليفة نفسه أدرك عهد عمر وزيادته في المسجد ، وشاهد محاكمة العباس بن عبد المطلب وإباءه عن إعطاء داره ، ورواية أبي بن كعب وأبي ذر الغفاري وغيرهما حديث بناء بيت المقدس عن داود عليه السلام ، وقد خصمه العباس بذلك ، وثبتت عند عمر السنة الشريفة فخضع لها ، كما مر تفصيله في الجزء السادس ص 262 ـ 266 ط 2 غير إن الرجل لم يكترث لذلك كله ويخالف تلك السنة الثابتة ،
1 ـ ذكره بهذا اللفظ الحافظ ابن أبي جمرة الأزدي في بهجة النفوس 2 : 134 ، و ج 4 : 111.
2 ـ البحر الزاخر 1 : 218.


(130)
ثم يحتج بفعل عمر وهيبة الناس لكنه حلم فلم يهابوه ، فهدم دور الناس من دون رضاهم وسجن من حاوره أو فاوضه في ذلك ، ووضع الأثمان في بيت المال حتى قال الناس : يوسع مسجد رسول الله ويغير سنته.

ـ 6 ـ
رأي الخليفة في متعة الحج
    أخرج البخاري في الصحيح بالإسناد عن مروان بن الحكم قال : سمعت عثمان وعلي رضي الله عنهما بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا قال : لبيك عمرة وحجة معا قال : فقال عثمان : تراني أنهى الناس عن شيء وتفعله أنت ؟ قال : لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس.
    وفي لفظ أحمد : كنا نسير مع عثمان رضي الله عنه فإذا رجل يلبي بهما جمعا قال عثمان رضي الله عنه : من هذا ؟ فقالوا : علي.
    فقال : ألم تعلم أني قد نهيت عن هذا ؟ قال بلى.
    ولكن لم أكن لأدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك.
    وأخرج الشيخان بالإسناد عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ؟ قال : دعنا منك ، قال : إني لا أستطيع أن أدعك.
    فلما رأى ذلك علي أهل بهما جمعا.
    وأخرج مسلم من طريق عبد الله بن شقيق قال : كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة وكان علي رضي الله عنه يأمر بها ، فقال عثمان لعلي كلمة ، ثم قال علي : لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجل ولكنا كنا خائفين.
    راجع صحيح البخاري 3 : 69 ، 71 ، صحيح مسلم 1 : 349 ، مسند أحمد 1 : 61 ، 95 سنن النسائي 5 : 148 ، 152 ، سنن البيهقي 4 : 352 ، ج 5 : 22 ، مستدرك الحاكم 1 : 472 ، تيسير الوصول 1 : 282.
    قال الأميني : لقد فصلنا القول في هذه المسألة في نوادر الأثر من الجزء السادس ص 198 130 و 213 220 ط 2 تفصيلا وذكرنا هنالك أحاديث جمة إن متعة الحج
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس