الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 131 ـ 140
(131)
ثابتة بالكتاب والسنة ولم تنزل آية تنسخ متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم حتى مات ، وإنما النهي عنها رأي رآه الخليفة الثاني كما أخرجه الشيخان وجمع من أئمة الحديث من طرقهم المتكثرة ، ولقد شاهد عثمان تلكم المواقف وما وقع فيها من الحوار وما أنكره الصحابة على من نهى عنها وكان كل حجته : إني لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثم راحوا بهن حجاجا.
    وأنت ترى أن هذه الحجة الداحضة لم تكن إلا رأيا تافها غير مدعوم ببرهنة ، بل منقوض بالكتاب والسنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله أعرف من صاحب هذا الرأي بهذه الدقيقة التي اكتشفها بنظارته المقربة ، والله سبحانه قبله يعلم كل ذلك ، فلم ينهيا عن متعة الحج بل أثبتاها.
ما العلم إلا كتاب الله والأثر إلا هوى وخصومات ملفقة وما سوى ذلك لا عين ولا أثر فلا يغرنك من أربابها هدر (1)
    نعم : شهد عثمان كل ذلك لكنه لم يكترث لشئ منها ، وطفق يقتص أثر من قبله ، وكان حقا عليه أن يتبع كتاب الله وسنة نبيه والحق أحق أن يتبع ، ولم يقنعه كل ذلك حتى أخذ يعاتب أمير المؤمنين عليا عليه السلام الذي هو نفس الرسول ، وباب مدينة علمه ، وأقضى أمته وأعلمها على عدم موافقته له في رأيه المجرد الشاذ عن حكم الله ، حتى وقع الحوار بينهما في عسفان وفي الجحفة وأمير المؤمنين عليه السلام متمتع بالحج ، وكاد من جراء ذلك يقتل علي سلام الله عليه كما مر حديثه في الجزء السادس ص 205 ط 1 و 219 ط 2.
    ونحن لا ندري مغزى جواب الرجل لمولانا علي عليه السلام لما قاله : لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله.
    من قوله : أجل ولكنا كنا خائفين.
    أي خوف كان في سنة حجة التمتع مع رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وهي الحجة الوداع والنبي الأقدس كان معه مائة ألف أو يزيدون ، وأنت تجد أعلام الأمة غير عارفين بهذا العذر التافه المختلق أيضا وقال إمام الحنابلة أحمد في المسند بعد ذكر الحديث : قال شعبة لقتادة : ما كان خوفهم قال : لا أدري.
1 ـ البيتان للفقيه أبي زيد على الزبيدي المتوفى 813 ذكرهما صاحب شذرات الذهب 7 : 203.

(132)
    أنا لا أدري ، هذا مبلغ علم الخليفة ؟ أو مدى عقليته ؟ أو كمية إصراره على تنفيذ ما أراد ؟ أو حد اتباعه كتاب الله وسنة نبيه ؟ أو مقدار أمانته على ودائع الدين ؟ وهو خليفة المسلمين.
    فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
    أليس من الغلو الممقوت الفاحش عندئذ ما جاء به البلاذري في الأنساب 5 : 4 من قول ابن سيرين : كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر.
    إن كان أعلم الأمة هذه سيرته وهذا حديثه ؟ فعلى الاسلام السلام.

ـ 7 ـ
تعطيل الخليفة القصاص
    أخرج الكرابيسي في أدب القضاء بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب إن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : لما قتل عمر إني مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجى فلما رأوني ثاروا فسقط من بيتهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه فانطلق عبيد الله بن عمر فأخذ سيفه حتى سمع ذلك من عبد الرحمن فأتى الهرمزان فقتله وقتل جفينة بنت أبي لؤلؤة صغيرة وأراد قتل كل سبي بالمدينة فمنعوه ، فلما استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص : إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان فذهب دم الهرمزان هدرا.
    وأخرجه الطبري في تاريخه 5 : 42 بتغيير يسير والمحب الطبري في الرياض 2.
    150 ، وذكره ابن حجر في الإصابة 3 : 619 وصححه باللفظ المذكور.
    وذكر البلاذري في الأنساب 5 : 24 عن المدائني عن غياث بن إبراهيم : إن عثمان صعد المنبر فقال : أيها الناس إنا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله ، وقد كان من قضاء الله إن عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان وكان الهرمزان من المسلمين (1) ولا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون ؟ قالوا : نعم.
    فقال علي : أقد الفاسق فإنه أتى عظيما قتل مسلما بلا ذنب.
    وقال لعبيد الله : يا فاسق ! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان.
    وقال اليعقوبي في تاريخه 2 : 141 أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان
1 ـ أسلم على يد عمر وفرض له في الفين كما في الإصابة وغيرها.

(133)
عبيد الله بن عمر فصعد عثمان المنبر فخطب الناس ثم قال : ألا إني ولي دم الهرمزان وقد وهبته لله ولعمر وتركته لدم عمر.
    فقام المقداد بن عمرو فقال : إن الهرمزان مولى لله ولرسوله وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله.
    قال : فننظر وتنظرون ، ثم أخرج عثمان عبيد الله بن عمر من المدينة إلى الكوفة وأنزل دارا له فنسب الموضع إليه ( كويفة ابن عمر ) فقال بعضهم.
أبا عمرو ! عبيد الله رهن فلا تشكك بقتل الهرمزان
    وأخرج البيهقي في السنن الكبرى 8 : 61 بإسناد عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال : لما طعن عمر رضي الله عنه وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله فقيل لعمر : إن عبيد الله بن عمر قتل الهرمزان.
    قال ولم قتله ؟ قال : إنه قتل أبي.
    قيل : وكيف ذلك ؟ قال : رأيته قبل ذلك مستخليا بأبي لؤلؤة وهو أمره بقتل أبي.
    وقال عمر : ما أدري ما هذا انظروا إذا أنا مت فاسألوا عبيد الله البينة على الهرمزان ، هو قتلني ؟ فإن أقام البينة فدمه بدمي ، وإن لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.
    فلما ولي عثمان رضي الله عنه قيل له : ألا تمضي وصية عمر رضي الله عنه في عبيد الله ؟ قال : ومن ولي الهرمزان ؟ قالوا : أنت يا أمير المؤمنين ! فقال : قد عفوت عن عبيد الله بن عمر.
    وفي طبقات ابن سعد 5 : 108 ط ليدن : انطلق عبيد الله فقتل ابنة أبي لؤلؤة وكانت تدعي الاسلام ، وأراد عبيد الله ألا يترك سبيا بالمدينة يومئذ إلا قتله فاجتمع المهاجرون الأولون فأعظموا ما صنع عبيد الله من قبل هؤلاء واشتدوا عليه وزجروه عن السبي فقال : والله لأقتلنهم وغيرهم.
    يعرض ببعض المهاجرين ، فلم يزل عمرو ابن العاص يرفق به حتى دفع إليه سيفه فأتاه سعد فأخذ كل واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان ، حتى حجز بينهما الناس ، فأقبل عثمان وذلك في الثلاثة الأيام الشورى قبل أن يبايع له ، حتى أخذ برأس عبيد الله بن عمر وأخذ عبيد الله برأسه ثم حجز بينهما وأظلمت الأرض يومئذ على الناس ، فعظم ذلك في صدور الناس وأشفقوا أن تكون عقوبة حين قتل عبيد الله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة.
    وعن أبي وجزة عن أبيه قال : رأيت عبيد الله يومئذ وإنه ليناصي عثمان وإن عثمان ليقول : قاتلك الله قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة ، وآخر من ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم


(134)
ما في الحق تركك. قال : فعجبت لعثمان حين ولي كيف تركه ؟ ولكن عرفت إن عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلفته عن رأيه.
    وعن عمران بن مناح قال جعل سعد بن أبي وقاص يناصي عبيد الله بن عمر حيث قتل الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وجعل سعد يقول وهو يناصيه :
لا أسد إلا أنت تنهت واحدا وغالت أسود الأرض عنك الغوائل (1)
    فقال عبيد الله :
تعلم أني لحم ما لا تسيغه فكل من خشـاش الأرض ما كنت آكلا
    فجاء عمرو بن العاص فلم يزل يكلم عبيد الله ، ويرفق به حتى أخذ سيفه منه ، وحبس في السجن حتى أطلقه عثمان حين ولي.
    عن محمود بن لبيد : كنت أحسب إن عثمان إن ولي سيقتل عبيد الله لما كنت أراه صنع به ، كان هو وسعد أشد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
    وعن المطلب بن عبد الله قال : قال علي لعبيد الله بن عمر : ما ذنب بنت أبي لؤلؤة حين قتلتها ؟ قال : فكان رأي علي حين استشاره عثمان ورأي الأكابر من أصحاب رسول الله على قتله ، لكن عمرو بن العاص كلم عثمان حتى تركه ، فكان علي يقول : لو قدرت على عبيد الله بن عمر ولي سلطان لاقتصصت منه.
    وعن الزهري : لما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال : أشيروا علي في قتل هذا الذي فتق في الدين ما فتق.
    فاجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله وقال : جل الناس : أبعد الله الهرمزان وجفينة يريدون يتبعون عبيد الله أباه.
    فكثر ذلك القول ، فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ! إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك سلطان على الناس فاعرض عنه ، فتفرق الناس عن كلام عمرو بن العاص.
    وعن ابن جريج : إن عثمان استشار المسلمين فاجمعوا على ديتها ، ولا يقتل بهما عبيد الله بن عمر ، وكانا قد أسلما ، وفرض لهما عمر ، وكان علي بن أبي طالب لما بويع له أراد قتل عبيد الله بن عمر ، فهرب منه إلى معاوية بن أبي سفيان ، فلم يزل معه فقتل بصفين (2).
1 ـ الشعر لكلاب بن علاط أخي الحجاج بن علاط.
2 ـ حذفنا أسانيد هذه الأحاديث روما للاختصار وهي كلها مستندة.


(135)
    وذكر الطبري في تاريخه 5 : 41 قال : جلس عثمان في جانب المسجد لما بويع ودعا عبيد الله بن عمر ، وكان محبوسا في دار سعد بن أبي وقاص ، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة ، وكان يقول : والله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي.
    يعرض بالمهاجرين والأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده ، وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار : أشيروا علي في هذا الذي فتق في الاسلام ما فتق ، فقال علي : أرى أن تقتله.
    فقال بعض المهاجرين : قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم ؟ فقال عمرو بن العاص : يا أمير المؤمنين ! إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك ، قال عثمان : أنا وليهم وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي ، قال : وكان رجل من الأنصار يقال له : زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر قال :
ألا يا عبيد الله ! ما لك مـهرب أصبت دما والله في غير حـله على غير شيء غير أن قال قائل فقال سفيه والحوادث جمة : وكان سـلاح العبد في جوف بيته ولا ملجأ من ابن أروى (1) ولا خفر حراما وقتل الهرمزان له خطر أتتهمون الهرمزان على عمر؟ نعم اتهمه قد أشار وقد أمر يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
    قال : فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه قال : فأنشأ زياد يقول في عثمان :
أبا عمرو عبيد الله رهن فإنـك إن غفرت الجرم عنه أتعفو ؟ إذ عفوت بغير حـق فلا تشكك بقتل الهرمزان وأسباب الخطا فرسا رهان فما لك بالذي تحكي بدان
    فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشذ به. وذكره ابن الأثير في الكامل 5 : 31. قال الأميني : الذي يعطيه الأخذ بمجامع هذه النقول أن الخليفة لم يقد عبيد الله قاتل الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة ، مع إصرار غير واحد من الصحابة
1 ـ أروى بنت كريز أم عثمان كما مر في 120.

(136)
على القصاص ، ووافقه على ذلك مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، لكنه قدم على رأيه الموافق للكتاب والسنة ، وهو أقضى الأمة بنص النبي الأمين وعلى آراء الصحابة إشارة عمرو ابن العاصي ابن النابغة المترجم في الجزء الثاني صفحة 120 176 ط 2 بترجمة ضافية تعلمك حسبه ونسبه وعلمه ودينه حيث قال له : إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان .. الخ.
    على حين إن من كانت له السلطة عندئذ وهو الخليفة المقتول في آخر رمق من حياته حكم بأن يقتص من ابنه إن لم يقم البينة العادلة بأن هرمزان قتل أباه ، ومن الواضح إنه لم يقمها ، فلم يزل عبيد الله رهن هذا الحكم حتى أطلق سراحه ، وكان عليه مع ذلك دم جفينة وابنة أبي لؤلؤة.
    وهل يشترط ناموس الاسلام للخليفة في إجرائه حدود الله وقوع الحوادث عند سلطانه ؟ حتى يصاخ إلى ما جاء به ابن النابغة ، وإن صحت الأحلام ؟ فاستيهاب الخليفة لماذا ؟ وهب إن خليفة الوقت له أن يهب أو يستوهب المسلمين حيث لا يوجد ولي للمقتول ، ولكن هل له إلغاء الحكم النافذ من الخليفة قبله ؟ وهل للمسلمين الذين استوهبهم فوهبوا ما لا يملكون رد ذلك الحكم البات ؟ وعلى تقدير أن يكون لهم ذلك فهل هبة أفراد منهم وافية لسقوط القصاص ، أو يجب أن يوافقهم عليها عامة المسلمين ؟ وأنت ترى إن في المسلمين من ينقم ذلك الاسقاط وينقد من فعله ، حتى إن عثمان لما رأى المسلمين إنهم قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وأقطعه بها دارا وأرضا ، وهي التي يقال لها : كويفة ابن عمر ، فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر كلامهم فيه (1).
    وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو سيد الأمة وأعلمها بالحدود والأحكام يكاشف عبيد الله ويهدده بالقتل على جريمته متى ظفر به ، ولما ولي الأمر تطلبه ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، وقتل بصفين ، كما في ( الكامل ) لابن الأثير 3 : 32 ، وفي ( الاستيعاب ) لابن عبد البر : إنه قتل الهرمزان بعد أن أسلم وعفا عنه عثمان ، فلما ولي علي خشي على نفسه فهرب إلى معاوية فقتل بصفين ، وفي مروج الذهب 2 : 24 : إن عليا ضربه فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه ، وإن
1 ـ راجع ما مر في ص 133 ، ومعجم البلدان 7 : 307.

(137)
عليا قال حين هرب فيطلبه ليقيد منه بالهرمزان : لئن فاتني في هذا اليوم ، لا يفوتني في غيره.
    هذه كلها تنم عن إن أمير المؤمنين عليه السلام كان مستمرا على عدم العفو عنه ، و إنه لم يكن هناك حكم نافذ بالعفو يتبع ، وإلا لما طلبه ولا تحرى قتله ، وقد ذكره بذلك يوم صفين لما برز عبيد الله أمام الناس فناداه علي : ويحك يا ابن عمر ! علام تقاتلني ؟ والله لو كان أبوك حيا ما قاتلني.
    قال : أطلب بدم عثمان.
    قال أنت تطلب بدم عثمان ، والله يطلبك بدم الهرمزان ، وأمر على الأشتر النخعي بالخروج إليه (1).
    إلى هنا انقطع المعاذير في إبقاء عبيد الله والعفو عنه ، لكن قاضي القضاة اطلع رأسه من ممكن التمويه ، فعزى إلى شيخه أبي علي أنه قال (2) : إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين ، لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال : قتلوا إمامهم ، و قتلوا ولده ، ولا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة.
    أولا تسائل هذا الرجل ؟ عن أي شماتة تتوجه إلى المسلمين في تنفيذهم حكم شرعهم وإجرائهم قضاء الخليفة الماضي في ابنه الفاسق قاتل الأبرياء ، وإنهم لم تأخذهم عليه رأفة في دين الله لتعديه حدوده سبحانه ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ، ولم يكترثوا لأنه في الأمس أصيب بقتل أبيه واليوم يقتل هو فتشتبك المصيبتان على أهله ، هذا هو الفخر المرموق إليه في باب الأديان لأنه منبعث عن صلابة في إيمان ، و نفوذ في البصيرة ، وتنمر في ذات الله ، وتحفظ على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله ؟ و أخذ بمجاميع الدين الحنيف ، فأي أمة هي هكذا لا تنعقد عليها جمل الثناء ولا تفد إليها ألفاظ المدح والاطراء ؟ وإنما الشماتة في التهاون بالأحكام ، وإضاعة الحدود بالتافهات ، واتباع الهوى والشهوات ، لكن الشيخ أبا علي راقه أن يكون له حظا من الدفاع فدافع.
    ثم إن ما ارتكبه الخليفة خلق لمن يحتذي مثاله مشكلة ارتبكوا في التأول في
1 ـ مروج الذهب 2 : 12.
2 ـ راجع شرح ابن أبي الحديد 1 : 242.


(138)
تبرير عمله الشاذ عن الكتاب والسنة. فمن زاعم إنه عفى عنه ولولي الأمر ذلك. و هم يقولون : إن الإمام له أن يصالح على الدية إلا إنه لا يملك العفو ، لأن القصاص حق المسلمين بدليل إن ميراثه لهم وإنما الإمام نائب عنهم في الإقامة وفي العفو إسقاط حقهم أصلا ورأسا وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يملكه الأب والجد وإن كانا يملكان استيفاء القصاص وله أن يصلح على الدية (1).
    وثان يحسب إنه استعفى المسلمين مع ذلك وأجابوه إلى طلبته وهم أولياء المقتول إذ لا ولي له.
    ونحن لا ندري أنهم هل فحصوا عن وليه في بلاد فارس ؟ والرجل فارسي هو وأهله ، أو إنهم اكتفوا بالحكم بالعدم ؟ لأنهم لم يشاهدوه بالمدينة ، وهو غريب فيها ليس له أهل ولا ذووا قرابة ، أو أنهم حكموا بذلك من تلقاء أنفسهم ؟ وما كان يضرهم لو أرجعوا الأمر إلى أولياءه في بلاده فيؤمنوهم حتى يأتوا إلى صاحب ترتهم فيقتصوا منه أو يعفوا عنه ؟.
    ثم متى أجاب المسلمون إلى طلبة عثمان ؟ وسيدهم يقول : أقد الفاسق فإنه أتى عظيما.
    وقد حكم خليفة الوقت قبله بالقصاص منه ، ولم يكن في مجتمع الاسلام من يدافع عنه ويعفو إلا ابن النابغة ، وقد مر عن ابن سعد قول الزهري من إنه أجمع رأي المهاجرين والأنصار على كلمة واحدة يشجعون عثمان على قتله.
    وثالث يتفلسف بما سمعته عن الشيخ أبي علي ، وهل يتفلسف بتلك الشماتة والوصمة والمسبة على بني أمية في قتلهم من العترة الطاهرة والدا وما ولد وذبحهم في يوم واحد منهم رضيعا ويافعا وكهلا وشيخا سيد شباب أهل الجنة ؟.
    وهناك من يصوغ لهرمزان وليا يسميه ( القماذبان ) ويحسب إنه عفى بإلحاح من المسلمين أخرج الطبري في تاريخه 5 : 43 عن السري وقد كتب إليه شعيب عن سيف بن عمر عن أبي منصور قال سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه قال : كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه و قال : ما تصنع في هذه البلاد ؟ فقال : أبس به.
    فرآه رجل فلما أصيب عمر قال : رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز ، فأقبل عبيد الله فقتله فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني
1 ـ بدايع الصنايع لملك العلماء الحنفي 7 : 245.

(139)
منه ثم قال : يا بني هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا فاذهب فاقتله. فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه فقلت لهم : ألي أقتله ؟ قالوا : نعم. وسبوا عبيد الله ، فقلت : أفلكم أن تمنعوه ؟ قالوا : لا ، وسبوه.
    فتركته لله ولهم فاحتملوني ، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم.
    ولو كان هذا الولي المزعوم موجودا عند ذاك فما معنى قول عثمان في الصحيح المذكور على صهوة المنبر : لا وارث له إلا المسلمون عامة وأنا إمامكم ؟ وما قوله الآخر في حديث الطبري نفسه : أنا وليهم وقد جعلته دية واحتملتها في مالي ؟ ولو كان يعلم بمكان هذا الوارث فلم حول القصاصا إلى الدية قبل مراجعته ؟ ثم لما حوله فلم لم يدفع الدية إليه واحتملها في ماله ؟ ثم أين صارت الدية وما فعل بها ؟ أنا لا أدري.
    ولو كان المسلمون يعترفون بوجود القماذبان وما في الأرض أحد إلا معه وهو الذي عفى عن قاتل أبيه فما معنى قول الخليفة : وقد عفوت ، أفتعفون ؟ وقوله في حديث البيهقي : قد عفوت عن عبيد الله بن عمر ؟ وما معنى استيهاب خليفة المسلمين وولي المقتول حي يرزق ؟ وما معنى مبادرة المسلمين إلى موافقته في العفو والهبة ؟ وما معنى تشديد مولانا أمير المؤمنين في النكير على من تماهل في القصاص ؟ وما معنى قوله عليه السلام لعبيد الله يا فاسق ! لئن ظفرت بك يوما لأقتلنك بالهرمزان ؟ وما معنى تطلبه لعبيد الله ليقتله أبان خلافته ؟ وما معنى هربه من المدينة إلى الشام خوفا من أمير المؤمنين ؟ وما معنى قول عمرو بن العاصي لعثمان : إن هذا الأمر كان وليس لك على الناس سلطان ؟ وما معنى قول سعيد بن المسيب : فذهب دم الهرمزان هدرا ؟ وما معنى قول لبيد بن زياد وهو يخاطب عثمان. أتعفو إذ عفوت بغير حق .. الخ ؟.
    وما معنى ما رواه ملك العلماء الحنفي في بدائع الصنائع 7 : 245 وجعله مدرك الفتوى في الشريعة ؟ قال : روي إنه لما قتل سيدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان والخنجر في يده فظن عبيد الله إن هذا هو الذي قتل سيدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال سيدنا علي رضي الله عنه لسيدنا عثمان : اقتل عبيد الله.
    فامتنع سيدنا عثمان رضي الله عنه و قال : كيف أقتل رجلا قتل أبوه أمس ؟ لا أفعل ، ولكن هذا رجل من أهل الأرض و أنا وليه أعفو عنه وأودي ديته.


(140)
    وما معنى قول الشيخ أبي علي ؟ : إنه لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه والإمام ولي من لا ولي له ، وللولي أن يعفو.
    ولبعض ما ذكر زيفه ابن الأثير في الكامل 3 : 32 فقال : الأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن عليا لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي.
    وقبل هذه كلها ما في إسناد الرواية من الغمز والعلة ، كتبها إلى الطبري السري ابن يحيى الذي لا يوجد بهذه النسبة له ذكر قط ، غير إن النسائي أورد عنه حديثا لسيف بن عمر فقال : لعل البلاء من السري (1) وابن حجر يراه السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي الذي كذبه يحيى بن سعيد وضعفه غير واحد من الحفاظ ، ونحن نراه السري بن عاصم الهمداني نزيل بغداد المتوفى 258 ، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطرا من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذبه ابن خراش ، ووهاه ابن عدي ، وقال : يسرق الحديث وزاد ابن حبان : ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به ، وقال النقاش في حديث : وضعه السري (2) فهو مشترك بين كذابين لا يهمنا تعيين أحدهما.
    والتسمية بابن يحيى محمولة على النسبة إلى أحد أجداده كما ذكره ابن حجر في تسميته بابن سهل (3) هذا إن لم تكن تدليسا ، ولا يحسب القارئ إنه السري بن يحيى الثقة لقدم زمانه وقد توفي سنة 167 (4) قبل ولادة الطبري الراوي عنه المولود سنة 224 بسبع وخمسين سنة.
    وفي الاسناد شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي : ليس بالمعروف وقال الذهبي : راوية كتب سيف عنه فيه جهالة (5).
    وفيه سيف بن عمر التميمي راوي الموضوعات ، المتروك ، الساقط ، المتسالم على
1 ـ تهذيب التهذيب 3 : 460.
2 ـ تاريخ الخطيب 9 : 193 ، ميزان الاعتدال 1 : 380 ، لسان الميزان 3 : 13 ، وما مر في ج 5 : 231 ط 2.
3 ـ لسان الميزان 3 : 13.
4 ـ تهذيب التهذيب 3 : 461.
5 ـ ميزان الاعتدال 1 : 448 ، لسان الميزان 3 : 145.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس