الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 141 ـ 150
(141)
ضعفه : المتهم بالزندقة ، كما مرت ترجمته في صفحة 84. وقد مر عن السيوطي إنه ذكر حديثا بهذا الطريق وقال : موضوع فيه ضعفاء أشدهم سيف بن عمر.
    وفيه أبو منصور ، مشترك بين عدة ضعفاء لا يعول عليهم ولا على روايتهم.

( عذر مفتعل )
    إن المحب الطبري أعماه الحب وأصمه فجاء بعذر مفتعل غير ما ذكر قال في رياض النضرة 2 : 150 : عنه جوابان : الأول إن الهرمزان شارك أبا لؤلؤة في ذلك وملأه ، وإن كان المباشر أبو لؤلؤة وحده لكن المعين على قتل الإمام العادل يباح قتله عند جماعة من الأئمة ، وقد أوجب كثير عن الفقهاء القود على الآمر والمأمور وبهذا اعتذر عبيد الله بن عمر وقال : إن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره إنه رأى أبا لؤلؤة و الهرمزان وجفينة يدخلون في مكان ويتشاورون وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه فقتل عمر في صبيحة تلك فاستدعى عثمان عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال : انظروا إلى السكين فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلا وقد اجتمعوا على قتله.
    فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن ، فلذلك ترك عثمان قتل عبيد الله بن عمر لرؤيته عدم وجود القود لذلك ، أو لتردده فيه فلم ير الوجوب للشك.
    والجواب الثاني : إن عثمان خاف من قتله ثوران فتنة عظيمة لأنه كان بنو تيم وبنو عدي مانعون من قتله ، ودافعون عنه ، وكان بنو أمية أيضا جانحون إليه ، حتى قال له عمرو بن العاص : قتل أمير المؤمنين عمر بالأمس ، ويقتل ابنه اليوم ؟ لا والله لا يكون هذا أبدا ، ومال في بني جمح ، فلما رأى عثمان ذلك اغتنم تسكين الفتنة وقال : أمره إلي وسأرضي أهل الهرمزان منه.
    قال الأميني : إن إثبات مشاركة هرمزان أبا لؤلؤة في قتل الخليفة على سبيل البت لمحض ما قاله عبد الرحمن بن أبو بكر من إنه رآهما متناجيين وعند أبي لؤلؤة خنجر له رأسان دونه خرط القتاد ، فإن من المحتمل إنهما كانا يتشاوران في أمر آخر بينهما ، أو أن أبا لؤلؤة استشاره فيما يريد أن يرتكب فنهاه عنه الهرمزان ، لكنه لم يصغ إلى قيله فوقع القتل غدا ، إلى أمثال هذين من المحتملات ، فكيف يلزم الهرمزان


(142)
والحدود تدرأ بالشبهات ؟ (1)
    هب إن عبد الرحمن شهد بتلك المشاركة ، وادعى إنه شاهد الوقفة بعينه ، فهل يقتل مسلم بشهادة رجل واحد في دين الله ؟ ولم تعقد البينة الشرعية مصافقة لتلك الدعوى ، ولهذا لما أنهيت القضية من اختلاء الهرمزان بأبي لؤلؤة إلى آخرها إلى عمر نفسه قال : ما أدري هذا انظروا إذا أنامت فاسألوا عبيد الله البينة على الهرمزان ، هو قتلني ؟ فإن أقام البينة فدمه بدمي ، وإذا لم يقم البينة فأقيدوا عبيد الله من الهرمزان.
    وهب أن البينة قامت عند عبيد الله على المشاركة ، فهل له أن يستقل بالقصاص ؟ أو إنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى أولياء الدم ؟ لاحتمال العفو في بقية الورثة مضافا إلى القول بأنه من وظائف السلطان أو نائبه ، وعلى هذا الأخير الفتوى المطردة بين العلماء (2).
    على إنه لو كانت لعبيد الله أو لمن عطل القصاص منه معذرة كهذه لأبدياها أمام الملأ المنتقد ، ولما قال مولانا أمير المؤمنين اقتل هذا الفاسق ، ولما تهدده بالقتل متى ظفر به ، ولما طلبه ليقتله أبان خلافته ، ولما هرب عنه عبيد الله إلى معاوية ، ولما اقتصر عثمان بالعذر بأنه ولي الدم ، وإن المسلمين كلهم أولياء المقتول ، ولما وهبه واستوهب المسلمين ، ولما كان يقع الحوار بين الصحابة الحضور في نفس المسألة ، ولما قام إليه سعد بن أبي وقاص وانتزع السيف من يده وجزه من شعره حتى أضجعه وحبسه في داره.
    وهب إنه تمت لعبيد الله هذه المعذرة فبماذا كان اعتذاره في قتل بنت أبي لؤلؤة المسكينة الصغيرة ، وتهديده الموالي كلهم بالقتل ؟ 2 أنا لا أدري من أين جاء المحب بهذا التاريخ الغريب من نهضة تيم وعدي ومنعهم من قتل عبيد الله ، وجنوح الأمويين إليهم بصورة عامة ؟ حتى يخافهم الخليفة
1 ـ سنن ابن ماجة 2 : 112 ، سنن البيهقي 8 : 238 ، سنن الترمذي 2 : 171 ، أحكام القرآن للجصاص 3 : 330 ، تيسير الوصول 2 : 20.
2 ـ كتاب الأم للشافعي 6 : 11 ، المدونة الكبرى 4 : 502 ، فيض الإله المالك للبقاعي 2 : 286.


(143)
الجديد. وأي خليفة هذا يستولي عليه الفرق من أول يومه ؟ فإذا تبينت عليه هذه الضؤلة في مفتتح خلافته ، فبأي هيبة يسوس المجتمع بعده ؟ ويقتص القاتل ، ويقيم الحدود ، ولكل مقتص منه أو محدود قبيلة تغضب له ، ولها أحلاف يكونون عند مرضاتها.
    ليس في كتب التاريخ والحديث أي أثر مما ادعاه المحب المعتذر ، وإلا لكان سعد بن أبي وقاص أولى بالخشية يوم قام إلى عبيد الله وجز شعره ، وحبسه في داره ، ولم ير أي تيمي طرق باب سعيد ، ولا عدوي أنكر عليه ، ولا أموي أظهر مقته على ذلك ، لكن المحب يريد أن يستفزهم وهم رمم بالية.
    ثم لو كان عند من ذكرهم جنوح إلى تعطيل هذا الحكم الإلهي حتى أوجب ذلك حذار الخليفة من بوادرهم ؟ فإنه معصية تنافي عدالة الصحابة ، وقد أطبق القوم على عدالتهم.
    ولو كان الخليفة يروعه إنكار المنكرين على ما يريد أن يرتكب ؟ فلما ذا لم يرعه إنكار الصحابة على الأحداث في أخرياته ؟ حتى أودت به ، أكان هيابا ثم تشجع ؟ سل عنه المحب الطبري.

ـ 8 ـ
رأي الخليفة في الجنابة
    أخرج مسلم في الصحيح بالإسناد عن عطاء بن يسار : إن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان بن عفان قال : قلت أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ولم يمن ؟ قال عثمان : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره.
    قال عثمان : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
    وأخرجه البخاري في صحيحه ، وزاد عليه ولفظه : سئل عثمان بن عفان عن الرجل يجامع فلا ينزل فقال : ليس عليه غسل ، ثم قال : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فسألت بعد ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن عوام وطلحة بن عبيد الله وأبي ابن كعب فقالوا : مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وأخرجه بطريق آخر وفيه : فأمروه بذلك بدل قوله : ( فقالوا مثل ذلك عن النبي ) (2).
1 ـ صحيح مسلم 1 : 142.
2 ـ صحيح البخاري 1 : 109.


(144)
    وأخرجه أحمد في مسنده 1 : 63 ، 64 وفيه : فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والزبير العوام وطلحة بن عبيد الله ، وأبي بن كعب فأمروه بذلك ، فليس في لفظه ( عن رسول الله ) وبالألفاظ الثلاثة ذكره البيهقي في السنن الكبرى 1 : 164 ، 165.
    قال الأميني : هذا مبلغ فقه الخليفة أبان خلافته وبين يديه قوله تعالى : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري السبيل حتى تغتسلوا ) ( النساء 43 ) قال الشافعي في كتاب الأم 1 : 31 : فأوجب الله عزوجل الغسل من الجنابة فكان معروفا في لسان العرب إن الجنابة الجماع وإن لم يكن مع الجماع ماء دافق ، وكذلك ذلك في حد الزنا وإيجاب المهر وغيره ، وكل من خوطب بأن فلانا أجنب من فلانة عقل إنه أصابها وإن لم يكن مقترفا ، قال الربيع يريد إنه لم ينزل ودلت السنة على أن الجنابة أن يفضي الرجل من المرأة حتى يغيب فرجه في فرجها إلى أن يواري حشفته ، أو أن يرى الماء الدافق ، وإن لم يكن جماع.
    وقال في اختلاف الحديث في هامش كتاب الأم 1 : 34 : فكان الذي يعرفه من خوطب بالجنابة من العرب إنها الجماع دون الانزال ، ولم تختلف العامة إن الزنا الذي يجب به الحد : الجماع دون الانزال ، وأن من غابت حشفته في فرج امرأة وجب عليه الحد ، وكان الذي يشبه إن الحد لا يجب إلا على من أجنب من حرام.
    وفي تفسير القرطبي 5 : 204 : الجنابة : مخالطة الرجل المرأة.
    والجمهور من الأمة على إن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان.
    ثم كيف عزب عن الخليفة حكم المسألة ، وقد مرنته الاسؤلة ، وعلمته الجوابات النبوية ، وبمسمع منه مذاكرات الصحابة لما وعوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وإليك جملة منها : 1 ـ عن أبي هريرة مرفوعا : إذا قعد بين شعبها الأربع والزق الختان بالختان قفد وجب الغسل.
    وفي لفظ : إذا قعد بين شعبها الأربع ، ثم أجهد نفسه ، فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.


(145)
    وفي لفظ ثالث : إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.
    وفي لفظ أحمد : إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثم جهد ، فقد وجب الغسل.
    صحيح البخاري 1 : 108 ، صحيح مسلم 1 : 142 ، سنن الدارمي 1 : 194 ، سنن البيهقي 1 : 163 ، مسند أحمد 2 : 234 ، 347 ، 393 ، المحلى لابن حزم 2 : 3 ، مصابيح السنة 1 : 30 ، الاعتبار لابن حازم ص 30 ، تفسير القرطبي 5 : 200 ، تفسير الخازن 1 : 375.
    2 ـ عن أبي موسى إنهم كانوا جلوسا فذكروا ما يوجب الغسل ، فقال من حضره من المهاجرين : إذا مس الختان الختان وجب الغسل. وقال من حضره من الأنصار : لا حتى يدفق.
    فقال أبو موسى : أنا آتي بالخبر ، فقام إلى عائشة فسلم ثم قال : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحييك ، فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك إنما أنا أمك قال قلت : ما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان بالختان وجب الغسل.
    صحيح مسلم 1 : 143 ، مسند أحمد 6 : 116 ، الموطأ لمالك 1 : 51 ، كتاب الأم للشافعي 1 : 31 ، 33 ، سنن البيهقي 1 : 164 ، المحلى لابن حزم 2 : 2 ، المصابيح للبغوي 1 : 32 ، سنن النسائي ، وصححه ابن حبان ، وابن القطان ، الاعتبار لابن حازم ص 30.
    3 ـ عن أم كلثوم عن عائشة : إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : عن الرجل يجامع أهله يكسل هل عليه من غسل ؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأفعل ذلك أنا وهذه نغتسل.
    صحيح مسلم 1 : 143 ، سنن البيهقي 1 : 164 ، المدونة الكبرى 1 : 34.
    4 ـ عن الزهري : إن رجالا من الأنصار فيهم أبو أيوب وأبو سعيد الخدري كانوا يفتون : الماء من الماء ، وإنه ليس على من أتى امرأته فلم ينزل غسل ، فلما ذكر ذلك لعمر ، وابن عمر ، وعائشة أنكروا ذلك ، وقالوا : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.


(146)
    صحيح الترمذي 1 : 16 ، وصححه فقال : وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنن البيهقي 1 : 165.
    5 ـ عن عائشة قالت : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ، فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا. وفي لفظ : إذا قعد بين الشعب الأربع ، ثم ألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل. سنن ابن ماجة 1 : 211 ، مسند أحمد 6 : 47 ، 112 ، 161.
    6 ـ عن عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن أبيه مرفوعا عن جده إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل.
    وزاد في المدونة : أنزل أولم ينزل.
    سنن ابن ماجة 1 : 212 ، المدونة الكبرى 1 : 34 ، مسند أحمد 2 : 178 ، وأخرجه ابن أبي شيبة كما في نيل الأوطار 1 : 278.
    وكأن الخليفة كان بمنتأى عن هذه الأحاديث فلم يسمعها ولم يعها ، أو أنه سمعها لكنه ارتأى فيها رأيا تجاه السنة المحققة ، أو إنه أدرك من أوليات الاسلام ظرفا لم يشرع فيه حكم الغسل وهو المراد مما زعم إنه سمعه من رسول الله فحسب إنه مستصحب إلى آخر الأبد حيث لم يتحر التعلم ، ولم يصخ إلى المحاورات الفقهية حتى يقف على تشريع الحكم إلى أن تقلد الخلافة على من يعلم الحكم وعلى من لا يعلمه ، فألهته عن الأخذ والتعلم ، ثم إذا لم يجد منتدحا عن الفتيا في مقام السؤال فأجاب بما ارتآه أو بما علق على خاطره منذ دهر طويل قبل تشريع الحكم.
    أو إنه كان سمع حكما منسوخا وعزب عنه ناسخه بزعم من يرى إن قوله صلى الله عليه وآله الماء من الماء (1) وما يشابهه في المعنى من قوله : إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك وعليك الوضوء (2) قد نسخ بتشريع الغسل إن كان الاجتزاء بالوضوء فحسب حكما لموضوع المسألة ، وكان قوله صلى الله عليه وآله : الماء من الماء واردا في الجماع.
    وأما على ما ذهب إليه ابن عباس من إنه ليس منسوخا بل المراد به نفي وجوب الغسل بالرؤية
1 ـ صحيح مسلم 1 : 141 ، 142 ، سنن ابن ماجة 1 : 211 ، سنن البيهقي 1 : 167.
2 ـ صحيح مسلم 1 : 142 ، سنن ابن ماجة 1 : 211.


(147)
في النوم إذا لم يوجد احتلام (1) كما هو صريح قوله صلى الله عليه وآله : إن رأى احتلاما ولم ير بللا فلا غسل عليه (2) فمورد سقوط الغسل أجنبي عن المسألة هذه فلا ناسخ ولا منسوخ.
    قال القسطلاني في إرشاد الساري 1 : 331 ، والنووي في شرح مسلم هامش الارشاد 2 : 426 : الجمهور من الصحابة ومن بعدهم قالوا : إنه منسوخ ويعنون بالنسخ إن الغسل من الجماع بغير إنزال كان ساقطا ثم صار واجبا ، وذهب ابن عباس وغيره إلى إنه ليس منسوخا بل المراد نفي وجوب الغسل بالرؤية في النوم إذا لم ينزل ، وهذا الحكم باق بلا شك.
    وأما ما مر في روايات أول العنوان من موافقة مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وأبي بن كعب وآخرين لعثمان في الفتيا ، فمكذوب عليهم سترا على عوار جهل الخليفة بالحكم في مسألة سمحة سهلة كهذه ، أما الإمام عليه السلام فقد مر في الجزء السادس 244 (3) رده على الخليفة الثاني في نفس المسألة وقوله : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل.
    فأرسل عمر إلى عائشة فقالت : مثل قول علي عليه السلام فأخبت إليه الخليفة فقال : لا يبلغني أن أحدا فعله ولا يغسل إلا أنهتكه عقوبة.
    وقد علم يوم ذاك حكم المسألة كل جاهل به ورفع الخلاف فيها قال القرطبي في تفسيره 5 : 205 : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وإن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    أترى عليا عليه السلام وافق عثمان وحكم خلاف ما أنزل الله تعالى بعد إفتائه به ، وسوق الناس إليه ، وإقامة الحجة عليه بشهادة من سمعه عن النبي الأعظم ؟ إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس.
    وأما أبي بن كعب فقد جاء عنه من طرق صحيحة قوله : إن الفتيا التي كانت الماء من الماء رخصة أرخصها رسول الله في أول الاسلام ثم أمر بالغسل.
1 ـ مصابيح البغوي 1 : 31 ، تفسير القرطبي 5 : 205 ، الاعتبار لابن حازم ص 31 ، فتح الباري 1 : 316.
2 ـ سنن الدارمي 1 : 196 ، سنن البيهقي 1 : 167 ، 168 ، مصابيح البغوي 1 : 31.
3 ـ ط 1 و 261 ط 2.


(148)
    وفي لفظ : إنما كانت الفتيا في الماء من الماء في أول الاسلام ثم نهي عنها.
    وفي لفظ : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الاسلام لقلة الثياب ، ثم أمر بالغسل. وفي لفظ : ثم أمر بالاغتسال بعد (1).
    فليس من الممكن إن أبيا يروي هذه كلها ، ثم يوافق عثمان على سقوط الغسل بعد ما تبين حكم المسألة وشاع وذاع في أيام الخليفة الثاني.
    وأما غيرهما ففي فتح الباري 1 : 315 عن أحمد أنه قال : ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث.
    فنسبة القول بعدم وجوب الغسل في التقاء الختانين إلى الجمع المذكور بهت و قول زور ، وقد ثبت منهم خلافه ، تقول القوم عليهم لتخفيف الوطأة على الخليفة ، و افتعلوا للغاية نفسها أحاديث منها ما في المدونة الكبرى 1 : 34 من طريق ابن المسيب قال : إن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعائشة كانوا يقولون : إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل.
    حسب المغفل إن باختلاق هذه الرواية يمحو ما خطته يد التاريخ والحديث في صحائفهما من جهل الرجلين بالحكم ، ورأيهما الشاذ عن الكتاب والسنة.
    وأعجب من هذا : عد ابن حزم في المحلى 2 : 4 عليا وابن عباس وأبيا وعثمان وعدة أخرى وجمهور الأنصار ممن رأى أن لا غسل من الايلاج إن لم يكن أنزل ثم قال : وروي الغسل في ذلك عن عائشة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس الخ.
    كل هذه آراء متضاربة ونسب مفتعلة لفقها أمثال ابن حزم لتزحزح فتوى الخليفتين عن الشذوذ.
    وأخرج أحمد في مسنده 4 : 143 من طريق رشدين بن سعد عن موسى بن أيوب الغافقي عن بعض ولد رافع بن خديج عن رافع بن خديج قال : ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت وخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته إنك دعوتني وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت فقال
1 ـ سنن الدارمي 1 : 194 ، سنن ابن ماجة 1 : 212 ، سنن البيهقي 1 : 165 ، الاعتبار لابن حازم ص 33.

(149)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا عليك ، الماء من الماء. قال رافع : ثم أمرنا رسول الله بعد ذلك بالغسل.
    هذه الرواية افتعلها واضعها لإبطال تأويل ابن عباس وإثبات النسخ ذاهلا عن أن هذا لا يبرر ساحة عثمان من لوث الجهل أيام خلافته بالحكم الناسخ.
    وهل في وسع ذي مرة تعقل حكاية ابن خديج قصته لرسول الله صلى الله عليه وآله ؟ و إنه كان على بطن امرأته لما دعاه ، وإنه قام ولم ينزل ؟ هل العادة قاضية لنقل مثل هذه لمثل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ ثم إن كان الرجل قام من فوره لدعوة نبيه ، ولم يقض من حليلته وطره فلماذا أرجأ إجابة تلك الدعوة بالاغتسال ؟ ولم يكن واجبا ، فممن أخذ ؟ ولماذا اغتسل ؟ ولما أمروا به بعد.
    والنظرة في إسناد الرواية تغنيك عن البحث عما في متنها لمكان رشدين بن سعد أبي الحجاج المصري ، ضعفه أحمد ، وقال ابن معين : لا يكتب حديثه ، ليس بشيء ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث.
    وقال أبو حاتم : منكر الحديث فيه غفلة ويحدث بالمناكر عن الثقات ، ضعيف الحديث.
    وقال الجوزقاني : عنده معاضيل ومناكير كثيرة وقال النسائي : متروك الحديث ضعيف لا يكتب حديثه.
    وقال ابن عدي : أحاديثه ما أقل من يتابعه عليها.
    وقال ابن سعد : كان ضعيفا.
    وقال ابن قانع ، والدارقطني ، وأبو داود : ضعيف الحديث.
    وقال يعقوب بن سفيان : رشدين أضعف وأضعف.
    عن : موسى بن أيوب الغافقي وهو وإن حكيت ثقته عن ابن معين ، غير إنه نقل عنه أيضا قوله فيه : منكر الحديث ، وكذا قال الساجي ، وذكره العقيلي في الضعفاء (1).
    عن : بعض ولد رافع ، مجهول لا يعرف ، فالرواية مرسلة بإسناد لا يعول عليه ، قال الشوكاني في نيل الأوطار 1 : 280 : حسنه الحازمي ، وفي تحسينه نظر ، لأن في إسناده رشدين ، وليس من رجال الحسن ، وفيه أيضا مجهول لأنه قال عن بعض ولد رافع بن خديج ، فالظاهر ضعف الحديث لا حسنه.
    وأما تبرير عثمان بتوهم كون السؤال عنه والجواب قبل تشريع الحكم ، أو قبل نسخه السابق في أول الاسلام على العهد النبوي ، كما يعرب عنه كلام القسطلاني
1 ـ تهذيب التهذيب 3 : 277. ج 10 : 336.

(150)
في إرشاد الساري 1 : 332 ، فمن المستبعد جدا ، فإن المسؤول يومئذ عن الأحكام وعن كل مشكلة هو رسول الله لا غيره ، فما كان عثمان يسأل عن حكم إذا جهله رجع السائل إلى أفراد آخرين ، فتصل النوبة إلى طلحة والزبير دون رسول الله ، وأين كان الشيخان يوم ذاك ؟ وقد رووا عن ابن عمر إنه لم يك يفتي على عهد رسول الله أحد إلا أبو بكر وعمر كما مر في ج 7 : 182 ط 2 ، فلا يسع لأي أحد الدفاع عن الخليفة بهذا التوهم.
    وإن تعجب فعجب قول البخاري : الغسل أحوط ، وذاك الأخير إنما بيناه لاختلافهم.
    قاله بعد إخراج رواية أبي هريرة الموجبة للغسل المذكورة ص 144 ط 2 ، وفتوى عثمان المذكورة وحديث أبي الموافق معه ، فجنح إلى رأي عثمان ، وضرب عما جاء به نبي الاسلام ، وأجمعت عليه الصحابة والتابعون والعلماء ، كما سمعت عن القرطبي ، وقال النووي في شرح مسلم هامش إرشاد الساري 2 : 425 : إن الأمة مجتمعة الآن على وجوب الغسل بالجماع ، وإن لم يكن معه إنزال ، وعلى وجوبه بالإنزال.
    وهذا الإجماع من عهد الصحابة وهلم جرا ، وقال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ، ثم بعده داود الاصبهاني.
    وقال القسطلاني في الارشاد 1 : 333 : قال البدر الدماميني كالسفاقسي فيه جنوح لمذهب داود ، وتعقب هذا القول البرماوي بأنه إنما يكون ميلا لمذهب داود والجمهور على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وهو الصواب.
    وقال ابن حجر في فتح الباري 1 : 316 : قال ابن العربي : إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم ، وما خالف فيه إلا داود ، ولا عبرة بخلافه ، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري وحكمه بأن الغسل مستحب ، وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين.
    فلا تعجب عن بخاري يقدم في الفتوى رأي مثل عثمان على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله بعد إجماع الأمة عليه تقديمه نظراء عمران بن حطان الخارجي على الإمام الصادق جعفر بن محمد في الرواية. ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ).
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس