الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 161 ـ 170
(161)
    قال الأميني : إن الثابت في السنة الشريفة إن الخطبة في العيدين تكون بعد الصلاة ، قال الترمذي في الصحيح 1 ، 70 : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إن صلاة العيدين قبل الخطبة ويقال : إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم.
    وإليك جملة مما ورد فيها :
    1 ـ عن ابن عباس قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه صلى يوم فطر أو أضحى قبل الخطبة ثم خطب.
    صحيح البخاري 2 : 116 ، صحيح مسلم 1 : 325 ، سنن أبي داود 1 : 178 ، 179 ، سنن ابن ماجة 1 : 385 ، سنن النسائي 3 : 184 ، سنن البيهقي 3 : 296.
    2 ـ عن عبد الله بن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر يصلون العيدين قبل الخطبة.
    وفي لفظ الشافعي : إن النبي وأبا بكر وعمر كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة ، وفي لفظ للبخاري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر ثم يخطب بعد الصلاة.
    صحيح البخاري 2 : 111 ، 112 ، صحيح مسلم 1 : 326 ، موطأ مالك 1 : 146 ، مسند أحمد 2 : 38 ، كتاب الأم للشافعي 1 : 208 ، سنن ابن ماجة 1 : 387 ، سنن البيهقي 3 : 296 ، سنن الترمذي 1 : 70 ، سنن النسائي 3 : 183 ، المحلى لابن حزم 5 : 85 ، بدايع الصنايع 1 : 276.
    3 ـ عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيدين فيصلي بالناس ركعتين ثم يسلم فيقف على رجليه. الخ.
    سنن ابن ماجة 1 : 389 ، المدونة الكبرى لمالك 1 : 155 ، سنن البيهقي 3 : 297.
    4 ـ عن عبد الله بن السائب قال : حضرت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا العيد ثم قال : قد قضينا الصلاة فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحب أن يذهب فليذهب.
    سنن ابن ماجة 1 : 386 ، سنن أبي داود 1 : 180 ، سنن النسائي 3 : 185 ،


(162)
سنن بيهقي 3 : 301 ، المحلى 5 : 86.
    5 ـ عن جابر بن عبد الله قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس.
    صحيح البخاري 2 : 111 ، صحيح مسلم 1 : 325 ، سنن أبي داود 1 : 178 ، سنن النسائي 3 : 186 ، سنن البيهقي 2 : 296 ، 698.
    6 ـ عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الخطبة.
    المدونة الكبرى 1 : 155.
    7 ـ عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة.
    صحيح البخاري 2 : 110 ، سنن النسائي 3 : 185.
    8 ـ عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع علي بن أبي طالب و عثمان محصور فجاء فصلى ثم انصرف فخطب.
    موطأ مالك 1 : 147 ، كتاب الأم للشافعي 1 : 171 ذكر من طريق مالك شطرا منه.
    هذه الأحاديث تكشف عن استمرار رسول الله صلى الله عليه وآله على هذه السنة المرتبة و لم يعز إليه غيرها قط ، وعلى ذلك مضى الشيخان ومولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وعثمان نفسه ردحا من أيامه كما جاء في رواية ابن عمر من إن النبي وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة (1) وظاهر هذا اللفظ وإن كان مطلقا إلا الجمع بينه وبين ما جاء من مخالفة عثمان للقوم وإنه أول من قدم الخطبة إنه كان أولا على وتيرتهم حتى بدا له أن يغير الترتيب ففعل ، ويؤيده سكوت ابن عمر نفسه عن عثمان فيما مر ص 161 من قوله : كان النبي ثم أبو بكر ثم عمر يصلون العيد قبل الخطبة.
    فإن كان عثمان أيضا مستمرا على سيرتهم وسنتهم لذكره ولم يفصل بينهم وبهذا يتأتى الجمع أيضا بين حديثي ابن عباس من قوله : شهدت العيد مع النبي و أبي بكر وعمر فبدؤا بالصلاة قبل الخطبة.
    ومن قوله : صلى رسول الله ثم خطب و أبو بكر وعمر وعثمان (2).
1 ـ كتاب الأم للشافعي 1 : 08 2 ، صحيح البخاري 2 : 112.
2 ـ مسند أحمد 1 : 345 ، 346 ، صحيح مسلم 1 : 324.


(163)
    وليتني أدري كيف يتقرب إلى المولى سبحانه بصلاة بدلوا فيها سنة الله التي لا تبديل لها ، قال الشوكاني في نيل الأوطار 2 : 363 : قد اختلف في صحة العيدين مع تقدم الخطبة ففي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بها وكذا قال النووي في شرح المهذب : إن ظاهر نص الشافعي إنه لا يعتد بها.
    قال : وهو الصواب.
    ثم تابع عثمان المسيطرون من الأمويين من بعده فخالفوا السنة المتبعة بتقديم الخطبة لكن الوجه في فعل عثمان غيره في من تبعه ، أما هو فكان يرتج عليه القول فلا يروق المجتمعين ما يتكلفه من تلفيقه غير المنسجم فيتفرقون عنه فقدمها ليصيخوا إليه وهم منتظرون بالصلاة ولا يسعهم التفرق قبلها.
    قال الجاحظ : صعد عثمان بن عفان رضي الله عنه المنبر فارتج عليه فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب ، وستأتيكم الخطب على وجهها وتعلمون إن شاء الله (1).
    قال البلاذري في الأنساب 5 : 24 : إن عثمان لما بويع خرج إلى الناس فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إن أول مركب صعب ، وإن بعد اليوم أياما وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها ، فما كنا خطباء وسيعلمنا الله.
    وهذا اللفظ أخرجه ابن سعد في طبقاته 3 : 43 ط ليدن ، وفي لفظ أبي الفدا في تاريخه ج 1 : 166 : لما بويع عثمان رقى المنبر وقام خطيبا فحمد الله وتشهد ثم ارتج عليه فقال : إن أول كل أمر صعب وإن أعش فستأتيكم الخطب على وجهها ثم نزل.
    وروى أبو مخنف كما في أنساب البلاذري : إن عثمان لما صعد المنبر قال : أيها الناس ! إن هذا مقام لم أزور له خطبة ولا أعددت له كلاما وسنعود ونقول إن شاء الله.
    وعن غياث بن إبراهيم : إن عثمان صعد المنبر فقال : أيها الناس إنا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله.
    وروي إن عثمان خطب فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا وسيأتي الله به.
    وذكره اليعقوبي في تاريخه 2 : 140 فقال : صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع
1 ـ البيان والتبيين 1 : 272 ، و ج 2 : 195.

(164)
الذي كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه ، جلس أبو بكر دونه بمرقاة ، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة (1) فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم : اليوم ولد الشر ، وكان عثمان رجلا حييا فارتج عليه فقام مليا لا يتكلم ثم قال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام يشقق الخطب ، وإن تعيشوا فستأتيكم الخطبة. ثم نزل.
    وفي لفظ ملك العلماء في بدايع الصنايع 1 : 262 : إن عثمان لما استخلف خطب في أول جمعة فلما قال : الحمد لله. ارتج عليه فقال : أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وإن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المكان مقالا وستأتيكم الخطب من بعد ، واستغفر الله لي ولكم.
    ونزل وصلى بهم الجمعة.
    ولعله لحراجة الموقف عليه كان يماطل الخطبة باستخبار الناس وسؤالهم عن أخبارهم وأسعارهم وهو على المنبر كما أخرجه أحمد في المسند 1 : 73 من طريق موسى بن طلحة.
    وذكره الهيثمي في المجمع 2 : 187 فقال : رجاله رجال الصحيح.
    ولا يبرر عمل الخليفة ما احتج به ابن حجر فيما مر عن فتح الباري ص 160 من إنه رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة .. الخ.
    لأن هذه المصلحة المزعومة كانت مرموقة على العهد النبوي لكنه صلى الله عليه وآله لم يرعها لما رآه من مصلحة التشريع الأقوى ، فهذا الرأي تجاه ما ثبت من السنة نظير الاجتهاد في مقابلة النص ، ولو سوغنا تغيير الأحكام ، وما قرره الشرع الأقدس بآراء الرجال ، فلا تبقى قائمة للاسلام ، فلا فرق بينه وبين ما ارتآه مروان في كونهما بدعة مستحدثة ، وإن ضم إليه شنعة أخرى من سب من لا يحل سبه.
    هذا مجمل القول في أحدوثة الخليفة ، وأما من عداه من آل أمية ، فكانوا يسبون ويلعنون مولانا أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه في خطبهم على صهوات المنابر ، فلا تجلس لهم الناس وينثالون عنهم ، فقدموا الخطبة ليضطر الناس إلى الاستماع له بالرغم من عدم استباحتهم ذلك القول الشائن ، لما وعوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الصحيح المأثور من طريق ابن عباس وأم سلمة من قوله : من سب عليا فقد سبني ، ومن
1 ـ وذكره غير واحد من مؤلفي القوم.

(165)
سبني فقد سب الله تعالى (1)
    أخرج أئمة الصحاح من طريق أبي سعيد الخدري قال : أخرج مروان المنبر يوم العيد ، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان ! خالفت السنة ، أخرجت المنبر يوم عيد ، ولم يكن يخرج به ، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة ، ولم يكن يبدأ بها.
    فقال مروان : ذاك شيء قد ترك.
    فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله يقول : من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، وذلك أضعف الأيمان.
    وفي لفظ الشافعي في كتاب الأم من طريق عياض بن عبد الله قال : إن أبا سعيد الخدري قال : أرسل إلي مروان وإلى رجل قد سماه ، فمشي بنا حتى أتى المصلى ، فذهب ليصعد فجبذته (2) إلي فقال : يا أبا سعيد ؟ ترك الذي تعلم.
    قال أبو سعيد : فهتفت ثلاث مرات ، فقلت : والله لا تأتون إلا شرا منه.
    وفي لفظ البخاري في صحيحه : خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي ، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله فقال : أبا سعيد ! قد ذهب ما تعلم.
    فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة (3) وفي لفظ قال أبو سعيد : قلت : أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال : لا يا أبا سعيد ! قد ترك ما تعلم ، قلت ، كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم. ثلاث مرات.
    قال ابن حزم في المحلي 5 : 86 : أحدث بنو أمية تقديم الخطبة قبل الصلاة واعتلوا بأن الناس كانوا إذا صلوا تركوهم ، ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فكان المسلمون يفرون وحق لهم ، فكيف
1 ـ المستدرك 3 : 121 ، وستوافيك طرقه ومصادره.
2 ـ جبذ : جذب.
3 ـ راجع صحيح البخاري 2 : 111 ، صحيح مسلم 1 : 242 ، سنن أبي داود 1 : 178 ، سنن ابن ماجة 1 : 386 ، سنن البيهقي 3 : 297 ، مسند أحمد 3 : 10 ، 20 ، 52 ، 54 ، 92 ، بدايع الصنايع 1 : 276.


(166)
وليس الجلوس واجبا ؟.
    وقال ملك العلماء في بدايع الصنايع 1 : 276 : وإنما أحدث بنو أمية الخطبة قبل الصلاة لأنهم كانوا يتكلمون في خطبتهم بما لا يحل ، وكان الناس لا يجلسون بعد الصلاة لسماعها فأحدثوها قبل الصلاة ليسمعها الناس.
    وبمثل هذا قال السرخسي في المبسوط 2 : 37.
    وقال السندي في شرح سنن ابن ماجة 1 : 386 : قيل : سبب ذلك إنهم كانوا يسبون في الخطبة من لا يحل سبه ، فتفرق الناس عند الخطبة إذا كانت متأخرة لئلا يسمعوا ذلك فقدم الخطبة ليسمعها.
    وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3 : 363 : قد ثبت في صحيح مسلم من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان وقيل : أول من فعل ذلك معاوية ، حكاه القاضي عياض.
    وأخرجه الشافعي (1) عن ابن عباس بلفظ : حتى قدم معاوية فقدم الخطبة.
    ورواه عبد الرزاق عن الزهري بلفظ : أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية.
    وقيل : أول من فعل ذلك زياد بالبصرة في خلافة معاوية ، حكاه القاضي أيضا.
    وروى ابن المنذر عن ابن سيرين : إن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة.
    قال : ولا مخالفة بين هذين الأثرين ، وأثر مروان ، لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية فيحمل على إنه ابتدأ ذلك ، وتبعه عماله. ا هـ.
    لا شك إن كلا من هؤلاء الثلاثة جاء ببدعة وتردى بالفضيحة ، لكن كل التبعة على من جرأهم على تغيير السنة فعلوا على أساسه ، ولعبوا بسنن المصطفى حتى الصلاة.
    أخرج الشافعي في كتاب الأم 1 : 208 من طريق وهب بن كبسان قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قال : كل سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غيرت حتى الصلاة.
    فإن كان ما ينقم على الخليفة من هذا الوجه أمرا واحدا فهو في بقية الأمويين
1 ـ أخرجه في كتاب الأم 1 : 208 من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي ، ولعل حديث ابن عباس مذكور في غير هذا الموضع.

(167)
أمران : مخالفة السنة. والابتداع بسب أمير المؤمنين. فهم مورد مثل السائر : أحشفا وسوء كيلة. أنا لا أعجب من هؤلاء الثلاثة إن جاءوا بالبدع ، فإن بقية أعمالهم تلائم هاتيك الخطة ، فإن الخلاعة والتهتك مزيج نفسياتهم ، والمعاصي المقترفة ملأ أرديتهم فلا عجب منهم إن غيروا السنة كلها ، ولا أعجب من مروان إن قال لأبي سعيد بكل ابتهاج : ترك الذي نعلم.
    أو قال : قد ذهب ما تعلم ، ولا عجب إن بدلوا الخطبة المجعولة للموعظة وتهذيب النفوس ، الخطبة التي قالوا فيها : وجبت لتعليم ما يجب إقامته يوم العيد والوعظ والتكبير كما في البدايع 1 : 276 بدلوها بما هو محظور شرعا أشد الحظر من الوقيعة في أمير المؤمنين ، وأول المسلمين ، وحامية الدين ، الإمام المعصوم ، المطهر بنص الكتاب العزيز ، نفس النبي الأقدس بصريح القرآن ، وعدل الثقل الأكبر في حديث الثقلين ، صلوات الله عليه ، ولعلك لا تعجب من الخليفة أيضا تغييره سنة الله و سنة رسوله بعد أن درست تاريخ حياته ، وسيرته المعربة عن نفسياته ، وهو وهم من شجرة واحدة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
    لكن العجب كله ممن يرى هؤلاء وأمثالهم من سماسرة الشهوات والميول عدولا بما أنهم من الصحابة ، والصحابة كلهم عدول عندهم ، وأعجب من هذا أن يحتج في غير واحد من أبواب الفقه بقول هؤلاء وعملهم.
    نعم : وافق شن طبقه.

ـ 12 ـ
رأي الخليفة في القصاص والدية
    أخرج البيهقي في السنن الكبرى 8 : 33 من طريق الزهري : إن ابن شاس الجذامي قتل رجلا من أنباط الشام ، فرفع إلى عثمان رضي الله عنه فأمر بقتله ، فكلمه الزبير رضي الله عنه وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، فنهوه عن قتله ، قال : فجعل ديتة ألف دينار.
    وذكره الشافعي في كتاب الأم 7 : 293.
    وأخرج البيهقي من طريق الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنه : إن رجلا مسلما قتل رجلا من أهل الذمة عمدا ، ورفع إلى عثمان رضي الله عنه فلم يقتله وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم.
    وقال أبو عاصم الضحاك في الديات ص 76 : وممن يرى قتل المسلم بالكافر عمر


(168)
ابن عبد العزيز ، وإبراهيم ، وأبان بن عثمان بن عفان ، وعبد الله ، رواه الحكم عنهم ، و ممن أوجب دية الذمي مثل دية المسلم عثمان بن عفان.
    قال الأميني : إن عجبي مقسم بين إرادة الخليفة قتل المسلم بالكافر ، وبين جعل عقل الكافر مثل دية المسلم ، فلا هذا مدعوم بحجة ، ولا ذلك مشفوع بسنة ، وأي خليفة هذا يزحزحه مثل الزبير المعروف سيرته والمكشوف سريرته عن رأيه في الدماء وينهاه عن فتياه ؟ غير إنه يفتي بما هو لدة رأيه الأول في البعد عن السنة ، ويسكت عنه الزبير وأناس نهوا الخليفة عما ارتآه أولا واكتفوا بحقن دم المسلم وما راقهم مخالفة الخليفة مرة ثانية ، وهذه النصوص النبوية صريحة في إن المسلم لا يقتل بالكافر ، و إن عقل الكتابي الذمي نصف عقل المسلم ، وإليك لفظ تلكم النصوص في المسألتين أما الأولى منهما فقد جاء :
    1 ـ عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم شيء من العلم ليس عند الناس ؟ قال : لا والله ما عندنا إلا ما عند الناس إلا أن يرزق الله رجلا فهما من القرآن أو ما في هذه الصحيفة ، فيها الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يقتل مسلم بكافر.
    وفي لفظ الشافعي : لا يقتل مؤمن بكافر.
    فقال : لا يقتل مؤمن عبد ولا حر ولا امرأة بكافر في حال أبدا ، وكل من وصف الإيمان من أعجمي وأبكم يعقل ويشير بالإيمان ويصلي فقتل كافرا فلا قود عليه ، وعليه ديته في ماله حالة ، وسواء أكثر القتل في الكفار أو لم يكثر ، وسواء قتل كافرا على مال يأخذه منه أو على غير مال ، لا يحل والله أعلم قتل مؤمن بكافر بحال في قطع طريق ولا غيره.
    راجع صحيح البخاري 10 : 78 ، سنن الدارمي 2 : 190 ، سنن ابن ماجة 2 : 145 ، سنن النسائي 8 : 23 ، سنن البيهقي 8 : 28 ، صحيح الترمذي 1 : 169 ، مسند أحمد 1 : 79 ، كتاب الأم للشافعي 6 : 33 ، 92 ، أحكام القرآن للجصاص 1 : 165 ، الاعتبار لابن حزم ص 190 ، تفسير ابن كثير 1 : 210 فقال ذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقتل مسلم بكافر.
    ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.


(169)
    قال الأميني : يعني من آية المائدة قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها إن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص الآية : 45.
    وقد خفي على المجتهد في تجاه النصوص الصحيحة الثابتة أن عموم الآية لا يأباها عن التخصيص ، وقد خصصها هو نفسه بمخصصات ، أجاب عن هذا الاستدلال الواهي كثير من الفقهاء وفي مقدمهم الإمام الشافعي قال في كتاب الأم 7 : 295 في مناظرة وقعت بينه وبين بعض أصحاب أبي حنيفة : قلنا : فلسنا نريد أن نحتج عليك بأكثر من قولك إن هذه الآية عامة ، فزعمت أن فيها خمسة أحكام مفردة وحكما سادسا جامعا فخالفت جميع الأربعة الأحكام التي بعد الحكم الأول و الحكم الخامس والسادس جماعتها في موضعين : في الحر يقتل العبد.
    والرجل يقتل المرأة.
    فزعمت أن عينه ليس بعينها ولا عين العبد ، ولا أنفه بأنفها ولا أنف العبد ، ولا أذنه بأذنها ولا أذن العبد ، ولا سنه بسنها ولا سن العبد ، ولا جروحه كلها بجروحها ولا جروح العبد ، وقد بدأت أولا بالذي زعمت أنك أخذت به فخالفته في بعض ووافقته في بعض ، فزعمت أن الرجل يقتل عبده فلا تقتله به ، ويقتل ابنه فلا تقتله به ، ويقتل المستأمن فلا تقتله به ، وكل هذه نفوس محرمة.
    قال ( يعني المدافع عن أبي حنيفة ) : اتبعت في هذا أثرا.
    قلنا : فتخالف الأثر الكتاب ؟ قال : لا قلنا : فالكتاب إذا على غير ما تأولت ؟ فلم فرقت بين أحكام الله عزوجل على ما تأولت ؟ قال بعض من حضره : دع هذا فهو يلزمه كله.
    قال : والآية الأخرى : قال الله عزوجل : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل (1) دلالة على أن من قتل مظلوما فلوليه أن يقتل قاتله.
    قيل له : فيعاد عليك ذلك الكلام بعينه في الابن يقتله أبوه ، والعبد يقتله سيده ، و المستأمن يقتله المسلم.
    قال : فلي من كل هذه مخرج.
    قلت : فاذكر مخرجك.
    قال : إن الله تبارك و تعالى لما جعل الدم إلى الولي كان الأب وليا فلم يكن له أن يقتل نفسه.
    قلنا : أفرأيت إن كان له ابن بالغ أتخرج الأب من الولاية وتجعل للابن أن يقتله ؟ قال : لا أفعل.
1 ـ سورة الاسراء ، آية : 33

(170)
قلت : فلا تخرجه بالقتل من الولاية ؟ قال : لا. قلت : فما تقول في ابن عم لرجل قتله وهو وليه ووارثه لو لم يقتله وكان له ابن عم هو أبعد منه ؟ أفتجعل للأبعد أن يقتل الأقرب ؟ قال : نعم قلنا : ومن أين وهذا وليه وهو قاتل ؟ قال : القاتل يخرج بالقتل من الولاية.
    قلنا : والقاتل يخرج بالقتل من الولاية ؟ قال نعم.
    قلنا : فلم لم تخرج الأب من الولاية وأنت تخرجه من الميراث ؟ قال : اتبعت في الأب الأثر.
    قلنا : فالأثر يدلك على خلاف ما قلت ، قال : فاتبعت فيه الإجماع.
    قلنا : فالاجماع يدلك على خلاف ما تأولت فيه القرآن ، فالعبد يكون له ابن حر فيقتله مولاه أيخرج القاتل من الولاية ويكون لابنه أن يقتل مولاه ؟ قال : لا ، بالاجماع.
    قلت : فالمستأمن يكون معه ابنه أيكون له أن يقتل المسلم الذي قتله ؟ قال ، لا ، بالاجماع.
    قلت : أفيكون الإجماع على خلاف الكتاب ؟ قال : لا.
    قلنا : فالاجماع إذا يدلك على إنك قد أخطأت في تأويل كتاب الله عزوجل ، وقلنا له : لم يجمع معك أحد على أن لا يقتل الرجل بعبده إلا من مذهبه أن لا يقتل الحر بالعبد ولا يقتل المؤمن بالكافر ، فكيف جعلت إجماعهم حجة ، وقد زعمت أنهم أخطؤا في أصل ما ذهبو إليه.
    والله أعلم.
    2 ـ عن قيس بن عباد قال : إنطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا : هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة ؟ قال : لا إلا ما في كتابي هذا.
    فأخرج كتابا فإذا فيه : لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
    أخرجه أبو عاصم في الديات ص 27 ، وأحمد في المسند 1 : 119 ، 122 ، و أبو داود في سننه 2 : 249 ، والنسائي في سننه 8 : 24 ، البيهقي في السنن الكبرى 8 : 29 ، 194 ، والجصاص في أحكام القرآن 1 : 65 ، وابن حازم في الاعتبار ص 189 ، وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 7 : 152 وقال : هو دليل على أن المسلم لا يقاد بالكافر ، أما الكافر الحربي فذلك إجماع كما حكاه البحر وأما الذمي فذهب إليه الجمهور لصدق اسم الكافر عليه ، وذهب الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى إنه يقتل المسلم بالذمي.
    ثم بسط القول في أدلتهم وذيفها بأحسن بيان. فراجع.
    3 ـ عن عائشة قالت : وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابان وفي أحدهما :
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس