الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: 181 ـ 190
(181)
يسجد الأخرى كما وصفت ، ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة ، ويجلس في الرابعة ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم تسليمه يقول : السلام عليكم ، فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته وضيع حظ نفسه فيما ترك ، وإن كان يحسن أم القرآن فيحمد الله و يكبره مكان أم القرآن لا يجزئه غيره ، وإن كان يحسن غير أم القرآن قرأ بقدرها سبع آيات لا يجزئه دون ذلك ، فإن ترك من أم القرآن حرفا وهو في الركعة رجع إليه وأتمها ، وإن لم يذكر حتى خرج من الصلاة وتطاول ذلك أعاد.
    وقال في كتاب ( الأم ) 1 : 217 : إن من ترك أم القرآن في ركعة من صلاة الكسوف في القيام الأول أو القيام الثاني لم يعتد بتلك الركعة ، وصلى ركعة أخرى وسجد سجدتي السهو ، كما إذا ترك أم القرآن في ركعة واحدة من صلاة المكتوبة لم يعتد بها.
( رأي مالك )
    وقال أمام المالكية كما في المدونة الكبرى 1 : 68 : ليس العمل على قول عمر حين ترك القراءة (1) فقالوا له : إنك لم تقرأ ؟ فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا حسن. قال : فلا بأس إذن. وأرى أن يعيد من فعل هذا وإن ذهب الوقت.
    وقال في رجل ترك القراءة في ركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة : لا تجزئه الصلاة و عليه أن يعيد ، ومن ترك القراءة في جل ذلك أعاد ، وإن قرأ في بعضها وترك في بعضها أعاد أيضا ، وإذا قرأ في ركعتين وترك القراءة في ركعتين ، فإنه يعيد الصلاة من أي الصلات كانت.
    وقال : من نسي قراءة أم القرآن حتى قرأ سورة فإنه يرجع فيقرأ أم القرآن ثم يقرأ سورة أيضا بعد قراءته أم القرآن.
    وقال : لا يقضي قراءة نسيها من ركعة في ركعة أخرى.
    وقال فيمن ترك أم القرآن في الركعتين وقد قرأ بغير أم القرآن : يعيد صلاته ، وقال في رجل ترك القراءة في ركعة في الفريضة.
    يلغي تلك الركعة بسجدتيها ولا يعتد بها.
1 ـ مر حديثه في الجزء السادس صفحة 100 ط 1 و 108 ط 2.

(182)
( رأي الحنابلة )
    قال ابن حزم في المحلى 3 : 236 : وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة إماما كان أو مأموما أو منفردا ، والفرض والتطوع سواء ، والرجال والنساء سواء. ثم ذكر جملة من أدلة المسألة. وذكر في ص 243 فعل عمر وما يعزى إلى علي وحاشا من ذلك فقال : لا حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقال في ص 250 : من نسي التعوذ أو شيئا من أم القرآن حتى ركع أعاد متى ذكر فيها وسجد للسهو إن كان إماما أو فذا ، فإن كان مأموما ألغى ما قد نسي إلى أن ذكر ، وإذا أتم الإمام قام يقضي ما كان ألغى ثم سجد للسهو ، ولقد ذكرنا برهان ذلك في من نسي فرضا في صلاته فإنه يعيد ما لم يصل كما أمر ، ويعيد ما صلى كما أمر.
    قال : ومن كان لا يحفظ أم القرآن وقرأ ما أمكنه من القرآن إن كان يعلمه ، لا حد في ذلك وأجزأه ، وليسع في تعلم أم القرآن فإن عرف بعضها ولم يعرف البعض قرأ ما عرف منها فأجزأه ، وليسع في تعلم الباقي ، فإن لم يحفظ شيئا من القرآن صلى كما هو يقوم ويذكر الله كما يحسن بلغته ويركع ويسجد حتى يتم صلاته ويجزيه ، وليسع في تعلم أم القرآن.
    وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2 : 233 : إختلف القائلون بتعيين الفاتحة في كل ركعة هل تصح صلاة من نسيها ؟ فذهبت الشافعية وأحمد بن حنبل إلى عدم الصحة وروى ابن القاسم عن مالك : إنه إن نسيها في ركعة من صلى ركعتين فسدت صلاته ، وإن نسيها في ركعة من صلى ثلاثية أو رباعية فروي عنه إنه يعيدها ولا تجزئه ، وروي عنه : إنه يسجد سجدتي السهو ، وروي عنه : إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام ، ومقتضى الشرطية التي نبهناك على صلاحية الأحاديث للدلالة عليها : إن الناسي يعيد الصلاة كمن صلى بغير وضوء ناسيا. اه‍.
    وأما أبو حنيفة إمام الحنفية فإن له في مسائل الصلاة آراء ساقطة تشبه أقوال المستهزأ بها وحسبك برهنة صلاة القفال (1) ، وسنفصل القول في تلكم الآراء الشاذة
1 ـ ذكرها ابن خلكان في تاريخه في ترجمة السلطان محمود السبكتكين.

(183)
عن الكتاب والسنة ، وقد اجتهد في المسألة تجاه تلكم النصوص قال الجصاص في ( أحكام القرآن ) 1 : 18 : قال أصحابنا الحنفية جميعا رحمهم الله : يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة من الأوليين ، فإن ترك قراءة فاتحة الكتاب وقرأ غيرها فقد أساء وتجزيه صلاته.
    قال ابن حجر في فتح الباري : إن الحنفية يقولون بوجوب قراءة الفاتحة لكن بنوا على قاعدتهم إنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به فرض والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى : فاقرأوا ما تيسر منه.
    فالفرض قراءة ما تيسر ، وتعين الفاتحة إنما يثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزئ الصلاة بدونه ، وهذا تأويل على رأي فاسد ، حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة ، فكم موطن من المواطن يقول فيها الشارع : لا يجزئ كذا ، لا يقبل كذا ، لا يصح كذا ، و يقول المتمسكون بهذا الرأي يجزئ ، ويقبل ، ويصح ، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار 2 : 230.
    ونظرا إلى الأهمية الواردة في قراءة أم الكتاب في الصلوات كلها ، وأخذا بظاهر : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، ذهب من ذهب من القوم إلى وجوبها على المأموم أيضا مطلقا أو في الصلوات الجهرية ، قال الترمذي في الصحيح 1 : 42 : قد اختلف أهل العلم في القراءة خلف الإمام ، فرأى أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و التابعين من بعدهم القراءة خلف الإمام ، وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وروي عن عبد الله بن المبارك إنه قال : أنا أقرأ خلف الإمام والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين ، وأرى أن من لم يقرأ صلاته جائزة ، وشدد قوم من أهل العلم في ترك قراءة فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام فقالوا : لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وحده كان أو خلف الإمام.
    وقد جاء مع ذلك عن عبادة بن الصامت مرفوعا : إني أراكم تقرأون وراء إمامكم فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها.
    وفي لفظ أبي داود : لا تقرؤا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن.


(184)
    وفي لفظ النسائي وابن ماجة : لا يقرأن أحد منكم إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن.
    وفي لفظ الحاكم : إذا قرأ الإمام فلا تقرأوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
    وفي لفظ الطبراني : من صلى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب.
    وعن أنس بن مالك مرفوعا : أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام بقرآن والإمام يقرأ ؟ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه.
    وعن أبي قلابة مرسلا : أتقرأون خلفي وأنا أقرأ فلا تفعلوا ذلك ، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه سرا (1).
    قال ابن حزم في المحلى 3 : 239 : اختلف أصحابنا فقالت طائفة : فرض على المأموم أن يقرأ أم القرآن في كل ركعة أسر الإمام أو جهر ، وقالت طائفة : هذا فرض عليه فيما أسر فيه الإمام خاصة ولا يقرأ فيما جهر فيه الإمام ، ولم يختلفوا في وجوب قراءة أم القرآن فرضا في كل ركعة على الإمام والمنفرد.
    وأخرج البيهقي أحاديث صحاح تدل على إن القراءة تسقط مع الإمام جهر أو لم يجهر.
    وذكر قول من قال : يقرأ خلف الإمام مطلقا ثم قال : هو أصح الأقوال على السنة وأحوطها.
    راجع السنن الكبرى 2 : 159 166.
    هذا تمام القول في الناحية الأولى من ناحيتي مخالفة عمل الخليفتين في الصلاة للسنة الشريفة ، ومن ذلك كله ، يعلم حكم الناحية الثانية وإن الأمة مطبقة على إن تدارك الفائتة من قراءة ركعة في ركعة أخرى لم يرد في السنة النبوية ، وإن رأي الرجلين غير مدعوم بحجة ، لا يعمل به ، ولا يعول عليه ، ولا يستن به قط أحد من رجال الفتوى ، والحق أحق أن يتبع.
1 ـ مسند أحمد 2 : 302 ، 308 ، ج 5 : 313 ، 316 ، 322 ، سنن الترمذي 1 : 42 ، المحلى لابن حزم 3 : 236 ، مستدرك الحاكم 1 : 238 ، 239 ، سنن النسائي 2 : 141 ، سنن البيهقي 2 : 164 ، 165 ، مصابيح السنة 1 : 60.

(185)
ـ 14 ـ
رأي الخليفة في صلاة المسافر
    أخرج أبو عبيد في الغريب وعبد الرزاق والطحاوي وابن حزم عن بي المهلب قال : كتب عثمان : إنه بلغني إن قوما يخرجون إما لتجارة أو لجباية أو لحشرية (1) يقصرون الصلاة وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو ومن طريق قتادة عن عياش المخزومي : كتب عثمان إلى بعض عماله : إنه لا يصلي الركعتين المقيم ولا البادي ولا التاجر ، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد.
    وفي لفظ ابن حزم : إن عثمان كتب إلى عماله : لا يصلي الركعتين جاب ولا تاجر ولا تان (2) إنما يصلي الركعتين .. الخ.
    وفي لسان العرب : في حديث عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا يغرنكم جشركم من صلاتكم فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو يحضره عدو.
    قال أبو عبيد : الجشر القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ، ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت (3).
    وفي هامش سنن البيهقي 3 : 137 : شاخصا : يعني رسولا في حاجة ، وفي النهاية : شاخصا : أي مسافرا ومنه حديث أبي أيوب : فلم يزل شاخصا في سبيل الله.
    قال الأميني : من أين جاء عثمان بهذا القيد في السفر ؟ والأحاديث المأثورة في صلاته مطلقات كلها كما أوقفناك عليها في ص 111 ـ 115 ، وقبلها عموم قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (4) ولأبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي ثور في عموم الآية نظر واسع لم يخصوه بالمباح من السفر بل قالوا بأنه يعم سفر المعصية أيضا كقطع الطريق والبغي كما ذكره ابن حزم في المحلى 4 : 264 ، والجصاص في أحكام القرآن 2 : 312 ، وابن رشد في بداية المجتهد 1 : 163 ، وملك العلماء في البدايع 1 : 93 ، والخازن في تفسيره 1 : 413.
1 ـ كذا في النسخ بالمهملة والصحيح كما يأتي ، الجشر. بالمعجمة.
2 ـ التناية : هي الفلاحة والزراعة ( نهاية ابن الأثير ).
3 ـ سنن البيهقي 3 : 126 ، المحلى لابن حزم 5 : 1 ، نهاية ابن الأثير 2 : 325 ، لسان العرب 5 : 207 ، كنز العمال 4 : 239 ، تاج العروس : 100 و ج 4 : 401.


(186)
    وليس لحضور العدو أي دخل في القصر والاتمام وإنما الخوف وحضور العدو لهما شأن خاص في الصلوات ، وأحكام تخص بهما ، وناموس مقرر لا يعدوهما.
    فمقتضى الأدلة كما ذهبت إليه الأمة جمعاء : إن التاجر والجابي والتاني والجشرية وغيرهم إذا بلغوا مبلغ السفر فحكمهم القصر ، فهم وبقية المسافرين شرع سواء ، وإلا فهم جميعا في حكم الحضور يتمون صلاتهم من دون أي فرق بين الأصناف ، وليس تفصيل الخليفة إلا فتوى مجردة ورأيا يخص به ، وتقولا لا يؤبه له تجاه النصوص النبوية ، وإطباق الصحابة ، واتفاق الأمة ، وتساند الأئمة والعلماء ، وإنما ذكرناه هنا لإيقافك على مبلغ الرجل من الفقاهة ، أو تسرعه في الفتيا من غير فحص عن الدليل ، أو أنه عرف الدليل لكنه لم يكترث له وقال قولا أمام قول رسول الله صلى الله عليه وآله.
كناطح صخرة يوما ليقلعها فلم يضرها فأوهى قرنه الوعل
    على أن التاجر جاء فيه ما أخرجه ابن جرير الطبري وغيره من طريق علي كرم الله وجهه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (1).
    وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ! إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي بركعتين (2).

ـ 15 ـ
رأي الخليفة في صيد الحرم (3)
    أخرج إمام الحنابلة أحمد وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن الحارث بن نوفل
1 ـ تفسير ابن جرير 5 : 155 ، مقدمات المدونة الكبرى لابن رشد 1 : 136 ، تفسير ابن عطية كما في تفسير القرطبي 5 : 362 ، الدر المنثور 2 : 209 ، تفسير الشوكاني 1 : 471 تفسير الآلوسي 5 : 134.
2 ـ تفسير ابن كثير 1 : 544 ، الدر المنثور 2 : 210.
3 ـ مسند أحمد 1 : 100 ، 104 ، كتاب الأم للشافعي 7 : 157 ، سنن أبي داود 1 : 291 ، سنن البيهقي 5 : 194 ، تفسير الطبري 7 : 45 ، 46 المحلى لابن حزم 8 : 254 ، كنز العمال 3 : 53 ، نقلا عن أحمد وأبي داود وابن جرير وقال : صححه ، وعن الطحاوي و أبي يعلى والبيهقي.


(187)
قال : أقبل عثمان إلى مكة فاستقبلت بقديد فاصطاد أهل الماء حجلا فطبخناه بماء وملح فقدمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا فقال عثمان : صيد لم نصده ولم نأمر بصيده اصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس به.
    فبعث إلى علي فجاء فذكر له فغضب علي و قال : انشد رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي بقائمة حمار وحش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قوم حرم فأطعموه أهل الحل ؟ فشهد اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال علي : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي ببيض النعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل ؟ فشهد دونهم من العدة من الاثنى عشر قال : فثنى عثمان وركه من الطعام فدخل رحله وأكل الطعام أهل الماء.
    وفي لفظ آخر لأحمد عن عبد الله بن الحرث : إن أباه ولي طعام عثمان قال : فكأني أنظر إلى الحجل حوالي الجفان فجاء رجل فقال : إن عليا رضي الله عنه يكره هذا فبعث إلى علي وهو ملطخ يديه بالخبط فقال : إنك لكثير الخلاف علينا فقال علي : أذكر الله من شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعجز حمار وحش وهو محرم فقال : إنا محرمون فأطعموه أهل الحل.
    فقام رجال فشهدوا ثم قال : أذكر الله رجلا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتي بخمس بيضات بيض نعام فقال : إنا محرمون فأطعموه أهل الحل فقام رجال فشهدوا ، فقام عثمان فدخل فسطاطه وتركوا الطعام على أهل الماء.
    وفي لفظ الإمام الشافعي : إن عثمان أهديت له حجل وهو محرم فأكل القوم إلا عليا فإنه كره ذلك.
    وفي لفظ لابن جرير : حج عثمان بن عفان فحج علي معه فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكله علي فقال عثمان : والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال علي : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما. ( سورة المائدة : 96 ).
    وفي لفظ : إن عثمان بن عفان رضي الله عنه نزل قديدا فأتي بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها فأرسل إلى علي رضي الله عنه وهو يضفر (1) بعيرا له فجاء والخبط ينحات من يديه ، فأمسك علي وأمسك الناس فقال علي : من هاهنا من أشجع ؟ هل تعلمون
1 ـ ضفر الدابة يضفر ها ضفرا : ألقى اللجام في فيها. والضفر : ما شددت به البعير من الشعر المضفور. والمضفور والضفير : الحبل المفتول. الضفائر : الدوائب المضفورة.

(188)
أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء أعرابي ببيضات نعام وتتمير (1) وحش فقال : أطعمهن أهلك فإنا حرم ؟ قالوا : بلى.
    فتورك عثمان عن سريره ونزل فقال : خبثت علينا.
    وفي لفظ البيهقي : كان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف ، فصنع لعثمان رضي الله عنه طعاما وصنع فيه من الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش قال : فبعث إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاء الرسول وهو يخبط لأباعر له ، فجاءه وهو ينفض الخبط من يده فقالوا له : كل.
    فقال : اطعموه قوما حلالا فإنا قوم حرم ، ثم قال علي رضي الله عنه : أنشد الله من كان هاهنا من أشجع ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله ؟ قالوا : نعم.
    وأخرج الطبري من طريق صبيح بن عبد الله العبسي قال : بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العروض فنزل قديدا فمر به رجل من أهل الشام معه باز و سقر فاستعار منه فاصطاد به من اليعاقيب فجعلهن في حظيرة فلما مر به عثمان طبخهن ثم قدمهن إليه فقال عثمان : كلوا فقال بعضهم : حتى يجئ علي بن أبي طالب.
    فلما جاء فرأى ما بين أيديهم قال علي : إنا لا نأكل منه.
    فقال عثمان مالك لا تأكل ؟ فقال : هو صيد لا يحل أكله وأنا محرم.
    فقال عثمان : بين لنا.
    فقال علي : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ).
    فقال عثمان : أو نحن قتلناه ؟ فقرأ عليه : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما.
    وأخرج سعيد بن منصور كما ذكره ابن حزم من طريق بسر بن سعيد قال : إن عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على المنازل ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته ، ثم إن الزبير كلمه فقال : ما أدري ما هذا يصاد لنا ومن أجلنا ، لو تركناه فتركه.
    قال الأميني : هذه القصة تشف عن تقاعس فقه الخليفة عن بلوغ مدى هذه المسألة ، أو أنه راقه إتباع الخليفة الثاني في الرأي حيث كان يأمر المحرم بأكل لحم الصيد ، ويحذر أهل الفتوى عن خلافه مهددا بالدرة إن فعل وسيوافيك
1 ـ التتمير : التقديد. والتتمير : التيبيس. والتتمير : أن يقطع اللحم صغار أو يجفف. واللحم المتمر : المقطع ( لسان العرب ).

(189)
تفصيله إن شاء الله تعالى ، غير أن عثمان أفحمه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بالكتاب والسنة فلم يجد ندحة من الدخول في فسطاطه والاكتفاء بقوله : إنك لكثير الخلاف علينا.
    وهذا القول ينم عن توفر الخلاف بين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام وبين الخليفة ، ومن الواضح الجلي إن الحق كلما شجر خلاف بين مولانا علي عليه السلام وبين غيره كائنا من كان لا يعدو كفة الإمام صلوات الله عليه للنص النبوي : علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة (1) وقوله : علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض (2) وإنه باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله ، ووارث علمه ، وعيبة علمه وأقضى أمته (3) وكان سلام الله عليه منزها عن الخلاف لاتباع هوى أو احتدام بغضاء بينه وبين غيره ، فإن ذلك من الرجس الذي نفاه الله عنه عليه السلام في آية التطهير.
    وقد طأطأ كل عيلم لعلمه ، وكان من المتسالم عليه إنه أعلم الناس بالسنة ؟ ولذلك لما نهى عمر عبد الله بن جعفر عن لبس الثياب المعصفرة في الاحرام جابهه الإمام عليه السلام بقوله : ما أخال أحدا يعلمنا السنة (4) فسكت عمر إذ كان لم يجد منتدحا عن الاخبات إلى قوله ، ولو كان غيره عليه السلام لعلاه بالدرة ، ولذلك كان عمر يرجع إليه في كل أمر عصيب فإذا حله قال : لولا علي لهلك عمر (5) أو نظير هذا القول وسيوافيك عن عثمان نفسه قوله : لولا علي لهلك عثمان.
    فرأي الإمام الطاهر هو المتبع وهو المعتضد بالكتاب بقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، كما استدل به عليه السلام على عثمان ، فبعمومه كما حكاه ابن حزم في المحلى 7 : 249 عن طائفة ظاهر في أن الشئ المتصيد هو المحرم ملكه وذبحه وأكله كيف كان ، فحرموا على المحرم أكل لحم الصيد وإن صاده لنفسه حلال ، وإن ذبحه حلال ، وحرموا عليه ذبح شيء منه وإن كان قد ملكه قبل إحرامه.
1 ـ راجع ما مر في الجزء الثالث ص 155 158 ط 1 ، و 176 180 ط 2.
2 ـ راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 158 ط 1 ، و 180 ط 2.
3 ـ راجع ما فصلناه في الجزء السادس ص 54 73 ط 1 ، و 61 81 ط 2.
4 ـ كتاب الأم للإمام الشافعي 2 : 126 ، المحلى لابن حزم 7 : 260.
5 ـ راجع نوادر الأثر في علم عمر في الجزء السادس من كتابنا هذا.


(190)
وقال القرطبي في تفسيره 6 : 321 : التحريم ليس صفة للأعيان ، وإنما يتعلق بالافعال فمعنى قوله : وحرم عليكم صيد البر.
    أي فعل الصيد ، وهو المنع من الاصطياد ، أو يكون الصيد بمعنى المصيد على معنى تسمية المفعول بالفعل ، وهو الأظهر لإجماع العلماء على إنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له ، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه ، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ، ولحديث الصعب بن جثامة.
    وقال في ص 322 : وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر : إنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال ، سواء صيد من أجله أولم يصد لعموم قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما.
    قال ابن عباس : هي مبهمة.
    وبه قال طاووس ، وجابر بن زيد وأبو الشعثاء ، وروي ذلك عن الثوري ، وبه قال إسحاق ، واحتجوا بحديث ابن جثامة ه‍ ويعتضد رأي الإمام عليه السلام ومن تبعه بالسنة الشريفة الثابتة بما ورد في الصحاح والمسانيد وإليك جملة منه :
    1 ـ عن ابن عباس قال : يا زيد بن أرقم ! هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي إليه عضد صيد فلم يقبله وقال : إنا حرم ؟ قال : نعم.
    وفي لفظ : قدم زيد بن أرقم فقال له ابن عباس يستذكره : كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام ؟ قال : نعم أهدى له رجل عضوا من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكل إنا حرم.
    وفي لفظ مسلم : إن زيد بن أرقم قدم فأتاه ابن عباس رضي الله عنه فاستفتاه في لحم الصيد فقال : أتي رسول الله بلحم صيد وهو محرم فرده.
    راجع صحيح مسلم 1 : 450 ، سنن أبي داود 1 : 291 ، سنن النسائي 5 : 184 ، سنن البيهقي 5 : 194 ، المحلى لابن حزم 7 : 250 وقال : رويناه من طرق كلها صحاح.
    2 ـ عن الصعب بن جثامة قال : مربي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالأبواء أو بودان (1) وأهديت له لحم حمار وحش فرده علي فلما رأى في وجهي الكراهية قال : إنه
1 ـ ودان بفتح الواو قرية جامعة بين مكة والمدينة ، بينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال من الجحفة ، ومنها الصعب بن جثامة ( معجم البلدان )
الغدير في الكتاب والسنة والأدب ـ الجزء الثامن ::: فهرس